تحولات الرأي العام الغربي في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة

تتناول هذه الورقة تفاعلات وتحولات الرأي العام الغربي مع الحرب على غزة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، وتبحث في خلفياته وتأثيراته ومآلاته. كما تنظر في انعكاسات هذا التفاعل على السمعة العامة للقيم الغربية في ضوء الموقف السياسي للدول الغربية وأداء وسائل الإعلام الكبرى فيها.

مقدمة

حظيت إسرائيل بفرصة دعم دولية نادرة في مختلف المستويات السياسية، والشعبية إلى حدٍّ ما، في الغرب خلال الأيام الأولى لحربها التي شنَّتها ضد قطاع غزة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي نفَّذتها كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، صبيحة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. هيمنت سردية تعرض إسرائيل لـ “اعتداء إرهابي” ضد “مدنييها” بشكل منفرد في وسائل الإعلام الغربية الكبرى. مع ذلك، سرعان ما تحول المشهد إلى حملة شعبية مضادة، تصاعدت بعد انكشافٍ فاضحٍ للخطاب السياسي والإعلامي الغربي المنحاز لصالح إسرائيل.

تقدم هذه الورقة تقديرًا حول تفاعل الرأي العام الغربي في سياق هذه الحرب، خلفياته وتأثيراته ومآلاته، حيث يتفق عدد كبير من المراقبين على أنها محطة مفصلية بغضِّ النظر عن نتائجها. كما تنظر الورقة في انعكاس هذا التفاعل على السمعة العامة للقيم الغربية في ضوء الموقف السياسي وأداء وسائل الإعلام الكبرى.

الموقف السياسي الغربي تجاه الصراع

تقدم السردية الغربية عمومًا نظرة تركِّز المسألة الفلسطينية في دائرة الأزمة الإنسانية، وتقلِّل من أهمية مناقشتها في إطار سياسي يؤدي لبلورتها كقضية لشعب ذي حقوقٍ وطنية(1). وقد تراجع استخدام جملة “حل الدولتين” في الخطاب السياسي الغربي منذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وتعمَّقت هذه الرؤية بعد سيطرة الحركة على قطاع غزة في 2007. وبدت المقاربة الغربية تعمل وفق إستراتيجية نزع السياق الوطني التحرري عن تطورات الوضع في فلسطين مع صعود حركة حماس للمشهد السياسي وتراجع دور السلطة الفلسطينية. هذه الرؤية ذاتها تأتي في سياق تطور خطاب غربي يعترف بعدم شرعية الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه يرفض تناول استحقاقات مثل هذا الإقرار، كحق الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال في أن تدافع عن نفسها أو تقرير مصيرها، أو تحميل إسرائيل أكثر من الإدانات السياسية التي لا تصل حدَّ إلزامها بتطبيق قوانين النزاع الدولي والقيام بالتزامات القوة القائمة بالاحتلال.

مفارقات من هذا النوع تطورت في سياق “أنسنة” القضية الفلسطينية، أي تغليب البعد الإنساني فيها ونزع التعريف الوطني السياسي عنها. لذلك، يزايد المسؤولون الغربيون دومًا عند مجابهتهم بالأسئلة الحرجة حول دعمهم للاحتلال بالإشارة إلى الدعم الإنساني الذي يقدمونه للفلسطينيين. وهنا يشار دومًا للمنح المالية للسلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا ومشاريع الإغاثة الإنسانية؛ ففي رده على سؤال حول الدعم الغربي وانحيازه لإسرائيل خلال منتدى الدوحة 2018، ردَّ نائب المستشار الألماني ووزير الخارجية السابق، زيغمر غابرييل، بسرد حجم المساعدات المالية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين، وألمح إلى أنها تفوق ما تقدمه دول الخليج النفطية(2). وخلال فترة حصار غزة منذ 2007، أتاحت الهوامش الديمقراطية الغربية مجالًا لحراكات إنسانية لدعم غزة، مثل سفن كسر الحصار على سبيل المثال. وضمن هذه المقاربة، أُتيح انخراط أوسع للأمم المتحدة مباشرةً مع حركة حماس في غزة منذ 2014(3)؛ حيث تتركز مبادرات الأمم المتحدة في غزة على أمرين: الأول: المبادرات الإنسانية من قبل وكالات الأمم المتحدة المختلفة، والثاني: التوسط لتثبيت التهدئة في فترات التصعيد العسكري(4). لقد غابت خلال هذه الفترة أي مبادرات سياسية غربية جادة من أجل حلول شاملة أو جزئية في إطار عملية السلام.

يمكن اعتبار هذه “الأنسنة” الغربية بوجه آخر، جزءًا من إطار يصلح لتفسير الموقف السياسي الغربي غير المتوازن في دعم آلة الحرب الإسرائيلية، وترديد الهدف الإسرائيلي للحرب حول القضاء على حماس، التي يطرح وجودها واستمرارها الأسئلة الأخرى، غير المتعلقة بالجانب الإنساني. لقد نشأت هذه الحرب، على خلفية مبادرة عسكرية غير مسبوقة للفصائل الفلسطينية المسلحة، أي عملية “طوفان الأقصى”. وهو ما يجعل من تعامل الحكومات الغربية المتشدد مع “التفاعل التضامني مع غزة” أمرًا “مفهومًا”، وذلك بالنظر لطبيعة الموقف الغربي المعادي أساسًا لهذه الفصائل. ولذلك لا تتساهل هذه الحكومات في نقاش سياق حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا تريد ربطه بممارسات الاحتلال المزمنة أو القول إنه جاء نتيجة لها، لأن من شأن ذلك أن يفضي إلى تبرير “العمليات المسلحة” للشعب الفلسطيني، بل قد يؤدي إلى تطبيع مفهوم المقاومة ومشروعيتها في الوعي العام المؤيد لفلسطين، وبالتالي سيهدد بتحولات في خطاب الرأي العام الغربي واتجاهاته، لينقله من كونه إنساني التفاعل فحسب إلى اتجاه تضامني ذي طبيعة سياسية مناهض للاحتلال. وهذه التحولات في خطاب التأييد الشعبي المؤيد لفلسطين في الغرب تبقى أمرًا محتملًا، فهي تستند إلى فكرة أن التضامن مع الضحايا الفاعلين، أو الضحايا الذين يقاومون، ينطوي على قدر أكبر من التعاطف منه مع الضحايا الساكنين الذين لا يقاومون(5). ففي عام 2003، وفي أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تنصل الاتحاد الأوروبي(6) من استطلاعٍ للرأي أجراه في 15 دولة أوروبية أظهر أن نسبة 60٪ من الآراء تعتبر إسرائيل الخطر الأكبر على الأمن الدولي(7). وهي نسبة لم تكن لولا أحداث الانتفاضة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الذي ميَّز الانتفاضة الثانية في الخطاب الغربي هو الجدل الذي قام حول عدم مشروعية العمليات الانتحارية، واعتبارها شكلًا من أشكال الإرهاب. لقد تصاعد اتجاه مماثل في الرأي العام البريطاني بعد أقل من 10 أيام على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول؛ حيث أجرت مؤسسة يوغوف YouGov استطلاعًا للرأي أظهر أن نسبة 39٪ من الجيل الشاب (18-24 عامًا) تتعاطف مع الفلسطينيين مقابل 11٪ من الفئة فقط ذاتها تتعاطف مع الإسرائيليين(8).

السرديات مسرحًا لنقاش الجمهور الغربي

يمكن اعتبار السرديات المسرح الأساسي للنقاش في الرأي العام الغربي خلال هذه الجولة. وقد حظيت الرواية الإسرائيلية بدعم غير مسبوق من مختلف المستويات السياسية والحزبية الغربية، إضافةً لغطاء سميك من وسائل الإعلام الغربية التقليدية والكبرى. في هذا السياق، يمكن تقسيم الرأي العام الغربي تجاه ما حدث إلى مرحلتين واتجاهين.

الأول: كان ملحوظًا في الأيام الأولى للحرب؛ حيث طغت فيها رواية الاحتلال في الغرب. فقد انشغل الرأي العام المتضامن مع فلسطين على تأكيده للسياق الطويل والممتد للانتهاكات الإسرائيلية التي أدت لما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أكثر من تركيزه على حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول نفسه، وفي أحيان كثيرة مع إدانته. في هذه الفترة كان الرأي العام الغربي المتضامن مع فلسطين محاصرًا في رواية إسرائيلية طاغية، مع خطاب غربي إعلامي وسياسي صارم في نزع سياق الحدث عما سبقه. وقد اعترف أندرو مار، الصحفي البريطاني الشهير الذي عمل المحرر السياسي لقناة بي بي سي لأكثر من عشرين عامًا، بقوله: إن الإعلاميين كانوا “مطالَبين بعدم ربط هجوم 7 أكتوبر بتاريخ الاحتلال الإسرائيلي”(9). في هذه المرحلة، كان التحدي الأكبر أمام الرأي العام الغربي المناهض للحرب يكمن في غياب رواية تفصيلية لما حدث صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول من قبل الجانب الفلسطيني، وحركة حماس على وجه التحديد. أدى ذلك إلى صياغة رواية متضامنة مع الفلسطينيين تبدأ بإدانة هجوم 7 أكتوبر قبل انتقالها لمناقشة السياق. لذلك ركزت معظم وسائل الإعلام الغربية على سؤال جوهري لكل متحدث متعاطف مع فلسطين: “هل تدين حماس؟”.

الاتجاه الثاني في الرأي العام الغربي بدأ يتشكل مع تزايد القناعة بتجاوز الانتقام الإسرائيلي حدوده المعقولة، وهو ما أدى لفقدان الراوية الإسرائيلية حول هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول زخمها. لقد وفرت آلة القتل الإسرائيلية الفظيعة بحق المدنيين في غزة رواية بديلة للرأي العام المتضامن مع فلسطين تتجاوز حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتقوم أساسًا على وجود جريمة موثقة لا يمكن إنكارها بحق المدنيين. إن التحول الذي حدث لاحقًا ضد الرواية الإسرائيلية كان مرتبطًا بشكل جوهري بدموية الرد الإسرائيلي، الذي كان كافيًا لتوفير سردية إنسانية قوية للتضامن مع ضحايا الحرب الرهيبة ضد المدنيين العزل في الرأي العام الغربي.

لقد دفع الرأي العام الشعبي في الغرب المستوى السياسي إلى اضطراب واضح، سواء في الحكومات أو داخل الأحزاب السياسية، التي حاولت بلورة موقف لا يحقق تعديلات جوهرية في دعمها لإسرائيل، لكنه يلامس مبادرات إنسانية بمستوى ما، مثل التبرعات للمؤسسات الدولية العاملة في غزة، أو المطالبة بهدن إنسانية دون المطالبة بوقف إطلاق النار.

الرأي العام الغربي والإعلام التقليدي

يتشكل الرأي العام للجمهور حول القضايا السياسية الخارجية تحت تأثير ثلاثة عناصر: الحقائق، والقيم، والهوية(10). ويلعب كل عنصر دوره بشكل متباين وفقًا لظروف كل قضية. وهذه بمجموعها تشكل العوامل الموضوعية والدوافع الذاتية لتكوين الموقف الفردي تجاه أي قضية صراعية(11). في تحليل هذه العناصر الثلاث، فإن تأثير الحقائق في الرأي العام يبدو ذا تأثير بالغ في تشكل المواقف العامة للجمهور. فالرواية التي سادت في الأيام الأولى، ونقلتها وسائل الإعلام كحقائق حول تعرض مدنيين وأطفال ونساء وحفل موسيقي للقتل بدون تمييز، أوجد مساحة من التعاطف الغربي العام مع إسرائيل. إلا أن الحقائق التي لا يمكن دحضها حول تعرض المدنيين في غزة لقتل جماعي وممنهج كانت كفيلة بنقل الرأي العام إلى جانب مختلف من التأييد والتعاطف. وزاد من غضب الرأي العام الانكشاف الواضح لوسائل الإعلام التي حاولت تغييب الحقائق في الجانب الفلسطيني. يجيب هذا، في جانبٍ ما، على سؤال: لماذا احتشدت أولى مظاهرات لندن للتضامن مع غزة أمام مبنى البي بي سي وليس في أي مكان آخر؟(12). أسهم انحياز وسائل الإعلام في انكفاء أوسع عنها كمصادر موثوقة للمعلومات. وفي هذا السياق، نجد على سبيل المثال أن الجيل الشاب من أعمار طلبة الجامعات في بريطانيا كانت نسبة تعاطفهم مع الفلسطينيين حوالي 4 أضعاف المتعاطفين مع إسرائيل بعد أقل من 10 أيام فقط على عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول وبدء الحرب الإسرائيلية على غزة(13). لقد كانت الانحيازات الصارخة في الموقف السياسي للحكومات الغربية تجاه أكبر حملة قتل جماعي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، وانعكاسها على خطاب وسائل الإعلام التقليدية من صحف وشاشات كبيرة، أهم محفزات تشكل الرأي العام الغربي للتضامن مع غزة.

أتاحت الشاشات الصغيرة لشرائح واسعة من الجمهور تنوعًا في مصادر المعلومات؛ حيث واجهت وسائل الإعلام التقليدية، في أوروبا والولايات المتحدة خاصة، مأزقًا أخلاقيًّا لم يسبق أن تعرضت له(14). فقد تناولت وسائل الإعلام الغربي الكبرى هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وفقًا للرواية الإسرائيلية بشكل مطلق في الأيام الأولى للحدث(15). وسمحت هذه التغطيات بأن تحظى إسرائيل بفرصة دعم فريدة مثَّلت إجماعًا في مختلف التيارات السياسية، بما فيها اليسارية والتقدمية. وفشلت وسائل إعلام عالمية مستقلة، مثل بي بي سي، في تحقيق توازن في التغطية مع بدء الحرب الإسرائيلية واستهداف المدنيين الفلسطينيين في غزة بدون تمييز من خلال عمليات قصف جوي مكثف وغير مسبوقة. وفيما بدا أنه تركيز للرواية الإسرائيلية في وعي المشاهد، فقد تم تثبيت خبر “مقتل 1400 إسرائيلي في هجوم شنته حماس” لمدة 23 يومًا متواصلًا في الشريط الإخباري لقناة بي بي سي، أي إن الخبر ذاته تكرر على الشاشة لأكثر من 552 ساعة متواصلة. وبقي كذلك إلى وقتٍ تجاوزت فيه أعداد ضحايا القتل الإسرائيلي 7000 مدني في غزة(16). كما نشرت البي بي سي خبرًا على حسابها في منصة إكس، استخدمت في النص ذاته، توصيف “موت فلسطينيين” و”مقتل إسرائيليين”(17)؛ الأمر الذي أثار موجة انتقادات واسعة واتهامات بتعمُّد القناة صناعة رواية باتجاه محدد، ونزع الصفة التراجيدية عن مأساة طرف بعينه، أي الفلسطيني. حظي هذا المنشور بأكثر من 25 مليون مشاهدة، وهي أكثر بعشرين ضعفًا من معدل مشاهدات منشورات مشابهة على ذات الحساب؛ حيث كانت الغالبية الساحقة للتعليقات تنتقد هذه الازدواجية. وقد بدت معايير التحرير في هذه الوسائل تتبع شروطًا صارمة من شأنها تغييب الحقائق(18)، وهو ما كشف عن اضطراب التغطيات الإعلامية، وأسهم في صناعة استقطابٍ حفَّز تمرد الرأي العام ضدها، خاصة من الأجيال الشابة.

التداعيات وإمكانية التأثير

بالرغم من المواقف الصارمة في دعمها للحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أن المواقف الغربية الرسمية شهدت تحولاتٍ ما تحت تأثير الضغط الشعبي. فقد صوَّتت فرنسا إلى جانب إسبانيا لاحقًا بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار(19)، وتحول خطاب الرئيس الفرنسي بعدها باتجاه المطالبة المباشرة بوقف قتل إسرائيل للنساء والأطفال(20). يمكن فهم أسباب تحول الموقف الفرنسي عندما نعلم أن نسبة التعاطف العام في أوروبا مع الفلسطينيين هي الأعلى بين الجمهور الفرنسي، بنسبة صاعدة لا تقل عن 47٪ منذ 2007، وهي نسبة لا تزال تتفوق على نسبة المتعاطفين مع إسرائيل#a21(21).

في الولايات المتحدة، كان ملاحظًا انخراط شرائح أكبر من اليهود في الحركة التضامنية مع فلسطين خلال هذه الحرب. وهو ناتج عن تنامي التيارات التقدمية داخل الجالية اليهودية، إضافة لموقف التيار الديني الأرثوذكسي المناهض للصهيونية(22)؛ حيث يُظهر استطلاع لمركز بيو للأبحاث Pew Research Center، أجراه منتصف 2021، أنه فقط ثلث أو أقل من يهود الولايات المتحدة يعارضون حركة المقاطعة BDS، أو يرون أن إسرائيل تبذل جهدًا حقيقيًّا للسلام، أو يؤيدون فكرة “أن الله قد منح أرض فلسطين لليهود”(23). تقدم مثل هذه البيانات وغيرها في معظم الدول الغربية مؤشرات حول تعاظم الوعي العام لدى الشارع بعدالة القضية الفلسطينية. وتعكس تقدمًا جوهريًّا باعتبار القيم ثاني محرك أساسي في تشكيل الرأي العام تجاه قضية ما في الغرب إلى جانب الحقائق(24).

بالرغم من كل هذا التعاطف الشعبي وتصاعده في الغرب لصالح الحقوق الفلسطينية، يبدو سؤال: “لماذا لا يتحول هذا التفاعل إلى تأثير سياسي؟” أمرًا ليس سهلًا الإجابة عليه.

لابد من التأكيد أولًا على أن القضية الفلسطينية ليست قضية محلية في كل المجتمعات الديمقراطية الغربية، التي غالبًا ما يسيطر على نقاشها الانتخابي العام قضايا الاقتصاد والحقوق العامة. وبما أن الحركة التضامنية الغربية مع فلسطين تقدمية سياسيًّا، فهي في غالبها تميل لليسار، واعتادت هذه الحركة تأييد الأحزاب المقابلة للمحافظين واليمين في مجتمعات تخضع في معظمها لديمقراطية الثنائية الحزبية. عادةً ما تقدم أحزاب اليسار ويسار الوسط مستوىً معينًا من الدعم لصالح الحقوق الفلسطينية أفضل من نظرائها، وإذا ما تمَّ البناء على افتراض هيمنة الخطاب السياسي الذي يقدم البُعد الإنساني في القضية الفلسطينية على حساب البعد السياسي فيها، فإن تقديم مواقف تقليدية مثل دعم مسار سلمي فلسطيني يقوم على أساس حل الدولتين، والتنديد بالاستيطان والاحتلال في الأراضي الفلسطينية، مع دعم إنساني للفلسطينيين سيبدو حدًّا مقنعًا للرأي العام المتضامن مع فلسطين. لذلك، فإن معظم الحكومات الغربية خلال هذه الحرب كانت قد بادرت إلى الإعلان عن مساعدات إنسانية لغزة مع احتفاظها بموقفها الداعم للحرب، وهي بذلك تخاطب الرأي العام في شوارعها قبل كل شيء. وهنا مسألة مهمة، هي أن الرأي العام الغربي المؤيد لفلسطين لا يطرح خطابًا تحرريًّا، ولا يبتعد سقفه السياسي عن مواقف الأحزاب السياسية، وحتى اللحظة يتطور الرأي التضامني مع فلسطين ضمن خطاب حقوقي إنساني.

مع ذلك، فإن هذه الجولة قد تطرح مستجدات في جانب التأثير السياسي لسببين رئيسيين:

  • الأول: أن معظم الأحزاب السياسية، الحاكمة والمعارضة، قد تجاوز دعمها للحرب الإسرائيلية خطابها السياسي التقليدي. إن رفض تأييد وقف إطلاق النار الذي يطالب به المتظاهرون ينقض جوهر الموقف السياسي للحكومات الغربية تجاه الصراع الذي يقوم على أساس التسوية السلمية.
  • الثاني: هو أن أحزاب اليسار -التي اعتادت تقديم موقف متوازن تجاه القضايا الخارجية أقرب للالتزامات القانونية الدولية واحترام الحقوق العامة- قد انخرطت في دعم “المذبحة” الإسرائيلية وانفصلت عن شارعها، بمقابل التماهي مع اليمين السياسي. وهي نقطة تستحق التوسع حولها في نموذج أزمة اليسار الأوروبي.

أزمات الغرب

تبدو أزمة اليسار في أوروبا هي الأوضح في ظل تصاعد الرأي العام المناهض للموقف الرسمي الغربي الداعم للحرب الإسرائيلية. فقد أحدث المحتجون الغاضبون الذين ينتمي معظمهم انتخابيًّا للتيارات اليسارية والتقدمية، انقسامًا داخل هذه الأحزاب. هذه التيارات -ومعظمها في صفوف المعارضة حاليًّا- وجدت نفسها في تناقض صارخ مع مبادئها، وبدت في أكثر مواقفها حرجًا؛ إذ إنها انعزلت عن قواعدها الشعبية والتقى جُلُّها مع موقف الأحزاب الحاكمة التي تعارضها. وتظهر أعمق أزمات اليسار في فرنسا، وبريطانيا وإسبانيا(25)، فيما لا تبدو مثل هذه الأزمات في ألمانيا التي يحكمها يسار الوسط بسبب العقيدة السياسية الألمانية ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تشكلت في ضوء المسؤولية التاريخية عن الجرائم المرتكبة بحق اليهود خلال “الهولوكوست”.

في ضوء هذا، فإن الرأي العام المتضامن مع فلسطين مرشح لصناعة فارق سياسي ما في جولات الانتخابات القادمة بناءً على الانقسام الحاصل بين النخبة السياسية الحزبية من جهة، وبين قواعدها الشعبية من جهة أخرى. وهناك نموذجان يعكسان ذلك؛ ففي بريطانيا؛ حيث يشهد حزب العمال انقسامًا حادًّا أدى لاستقالة 8 وزراء من حكومة الظل بسبب تعنت قيادته برفض التصويت لصالح المطالبة بوقف إطلاق النار في البرلمان (26). وفي الولايات المتحدة، حيث الحديث عن تراجع التأييد الانتخابي العربي لبايدن من 59٪ إلى 17٪(27)، وهو ما يمكن أن يكلفه خسارة ولاية رئيسية مثل ميتشغن Michigan الأميركية ذات الفارق الضئيل بين الجمهوريين والديمقراطيين(28). كل ذلك يأتي قبيل سنة واحدة تقريبًا من الانتخابات في البلدين.

إن الفارق الممكن هذه المرة يكمن في حقيقة أن الأحزاب التقليدية كسرت التزامها بموقفها السياسي التقليدي، ورفضت الالتزام بخطابها الإنساني حتى. ولهذا تبدو الحركة التضامنية مكشوفة الظهر حزبيًّا هذه المرة بخلاف الجولات السابقة؛ وهو ما قد يعزز من احتمال أن يلجأ بعض المعارضين لسلوك الحزبين غير الأخلاقي إلى الامتناع عن التصويت، أو دعم الأحزاب الثالثة بشكل عقابي، وإن كانت هذه الأخيرة لا تستبدل الثنائية التقليدية، لكنها تضعفها. وقد لوحظ تطور الخطاب السياسي الغربي، خاصة الاتحاد الأوروبي، بعد تصاعد الرأي العام ضد الحرب؛ حيث يُعاد التأكيد على حل الدولتين وإدانة الاستيطان وعنف المستوطنين، فيما يبدو محاولةً لاستعادة توازن الموقف السياسي الأساسي تجاه الصراع. مع ذلك، فهذا الخطاب لم يترك آثارًا ذات قيمة؛ إذ إنه لم يُفْضِ إلى دعوة واضحة وفاعلة لوقف إطلاق النار.

خاتمة

ترزح الرواية الفلسطينية تحت ضغط كبير يهدد أبعادًا جوهرية فيها، أهمها كونها حركة تحرر وطني. فالإجراءات القانونية المتخذة في عدد من الدول لتجريم بعض مظاهر التضامن تحت سطوة “قوانين الإرهاب” بصورة غير مسبوقة. وقد تعرض عدد كبير من النشطاء للمساءلة القانونية، يقدرون بالعشرات، على خلفية هتاف أو رفع إشارة أو استخدام تعبيرات محددة يمكن تفسيرها في سياق “دعم الإرهاب”، أو “معاداة السامية”، أو التحريض على العنف وخطاب الكراهية. تبدو مثل هذه الإجراءات واضحة في ألمانيا مثلًا، التي أصدرت تعليمات قانونية للشرطة تعتبر حرق العلم الإسرائيلي جناية يعاقب عليها القانون(29). فيما يثير هتاف “من البحر إلى النهر، فلسطين ستكون حرة”، الذي ينتشر بشكل واسع في المظاهرات في الغرب، جدلًا غير مسبوق، وتجري محاولات قانونية محمومة من أجل تجريمه، على اعتبار أنه يدعو لإزالة إسرائيل، أو ينكر حق إسرائيل في الوجود(30). وهناك أمثلة كثيرة حول اعتبار لبس الكوفية أو رفع العلم الفلسطيني في أماكن محددة وسياقات ما على أنها غير مقبولة قانونيًّا(31).

كل هذا لا يعني أن الرواية الفلسطينية غير صاعدة، بل إنها تبدو مدعومة بالعوامل الذاتية المرتبطة بعدالتها الواضحة أكثر من الجولات السابقة التي أثار فيها الحدث الفلسطيني تضامنًا دوليًّا كبيرًا. وقد يصح تفسير الإجراءات القانونية القاسية في الغرب على بعض مظاهر التضامن مع القضية الفلسطينية في إطار محاولات احتواء تصاعد الرواية الفلسطينية، وعدم تحولها إلى سياقات أكثر من إنسانية. وهنا، فإن الملاحظ أن التضييق القانوني يستهدف تحديدًا التعبيرات التي تعكس الفلسطينيين كمكافحين من أجل الحرية والاستقلال، بينما تتيح الديمقراطية الغربية التعامل معهم كضحايا مجردين من الخلفيات النضالية.

لا شك أن صدعًا كبيرًا ضرب سمعة الدول الغربية “الديمقراطية” بسبب انحيازها إلى إسرائيل في حربها على غزة؛ الأمر الذي ألهب النقاش لدى الرأي العام الغربي والعالمي فيما يتعلق بالمعيار المزدوج الذي اعتمده الغرب وميز فيه بين الحرب الأوكرانية والحرب على غزة. الحرب الروسية-الأوكرانية التي بدت من أكثر قضايا الرأي العام الغربي تأثرًا بالحرب على غزة، ليس فقط من ناحية تراجع الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، وإنما من ناحية احتمال تراجع التأييد الشعبي الغربي لها، وهي التي كان دعمها محل إجماع عند بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. وهي واحدة من تداعيات لا يبدو أنها ستتوقف، ولا تبدو النخبة السياسية الغربية جادة في العمل لتدارك الخسائر. فوفقًا لقانون مورفي: أي شيء يمكن أن يسير بالاتجاه الخاطئ، سوف يسير بالاتجاه الخاطئ.

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5794

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M