حالة الاستثناء وتأثيرها في الإعلام العمومي وحرية الصحافة بتونس (25 يوليو/تموز 2021- 17 مارس/آذار 2022)

تتقصَّى الدراسة موقع الإعلام العمومي، في سياق حالة الاستثناء الناشئة عن إجراءات 25 يوليو/تموز 2021، والمجال الذي يُمثِّله في علاقته بالحقول الأخرى السياسية والقانونية والاجتماعية، وترصد محددات النظام الإيكولوجي للإعلام وحرية الصحافة، وتأثير حالة الاستثناء في بيئة العمل الصحفي المهني. وتنطلق الدراسة في عملية الاستقصاء من سؤال إشكالي مركب: هل كان الإعلام العمومي جزءًا من حالة الاستثناء أم حقلًا قائمًا بذاته يتميز برأسماله الخاص؟ وما الإستراتيجيات التي اعتمدتها السلطة في التعامل مع الإعلام العمومي وتأطير الحالة الإعلامية؟ وما نمط البيئة الصحفية التي خلقتها حالة الاستثناء؟

مقدمة

انعطفت مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس باتجاه حالة الاستثناء إثر الإجراءات التي أقرَّها الرئيس قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز 2021، في سياق أزمة سياسية بين مكونات نظام الحكم (الرئاسة، والبرلمان والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية). وأفرزت هذه الحالة التي استمرت زهاء سنتين* نظامًا سياسيًّا على أنقاض النظام البرلماني الذي خرج من رحم ثورة 2011. ظلت نواة السلطة الناشئة عن حالة الاستثناء -سنُبرِز هويتها لاحقًا- ترى أن جميع إجراءاتها السياسية والقانونية والإعلامية “ضرورية لإنقاذ الدولة من انهيار شامل”، وأيضًا لإنقاذ المجتمع وحماية مصالح الشعب الذي يُعبِّر الرئيس عن إرادته. بينما ترى جهات مختلفة تداعيات مسار حالة الاستثناء “انقلابًا مُدبَّرًا” على الدستور(1) والثورة، وكذلك على المنهجية الديمقراطية، ونكوصًا عن تجربة بناء الانتقال الديمقراطي.

لذلك، أنشأت إجراءات حالة الاستثناء سياقًا سياسيًّا وحقوقيًّا واجتماعيًّا وإعلاميًّا يكتنفه التوتر والصراع بين الفاعلين في المشهد السياسي(2). فتشكَّلت قوى وجبهات معارضة لتلك الإجراءات، وركزت نشاطها السياسي والحقوقي فيما تعتبره “إعادةَ إرساء المسار الديمقراطي والدستوري”، وهو ما جعل رموزها يواجهون اتهامات بالتآمر على أمن الدولة والزَّج بهم في السجن. وشملت حملة الاعتقالات أيضًا القضاة والمحامين ورجال الأعمال والفاعلين في المجتمع المدني والمدونين، كما زُجَّ بعدد من الصحفيين في السجن باتهامات مختلفة. ووثَّقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ما أسمته بـحالات انتهاك لحقوق الإنسان ضد الصحفيين بما في ذلك الملاحقات القضائية أمام المحاكم العسكرية من أجل التصدي للانتقادات العلنية التي تُوجَّه لرئيس الجمهورية والسلطات(3).

وفي هذا السياق العام، بدأ انحسار المجال العمومي التقليدي والرقمي؛ إذ سارعت السلطة -منذ الوهلة الأولى لتثبيت دعائم مسار حالة الاستثناء- إلى التضييق على الرأي الآخر المعارض أو المخالف لسياستها عبر أساليب متعددة أمنية وقانونية وإدارية. فقد كانت هناك قوة عسكرية تُحيط بمدخل التليفزيون الرسمي (القناة الوطنية الأولى)؛ تمنع الأصوات المعارضة للإجراءات الاستثنائية من ولوج المؤسسة والمشاركة في البرامج الحوارية بالقناة والتعبير عن آرائها بشأن التداعيات السياسية والقانونية لحالة الاستثناء. وفي محيط المؤسسة التشريعية (مجلس نواب الشعب) كانت تُعَسْكِر أيضًا قوة من الجيش، وتمنع النواب من عقد الجلسات التشريعية. وتُنْبِئُ مظاهر العَسْكَرَة لمحيط التليفزيون الرسمي عن مؤشرات معيارية دالة على منظور السلطة لحقل الإعلام، ودور وسائل الإعلام ووظيفتها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. كما تُشير إلى منظورها لموقع الإعلام وخصوصية حالته في سياق تجاذبات حالة الاستثناء والصراع بين نواة السلطة والمعارضين لإجراءاتها. ويكشف هذا السياق العام أيضًا طبيعة السلوك السياسي/الإعلامي للسلطة في التعامل مع القضايا التي ترتبط بحرية الصحافة، وحرية وسائل الإعلام، وأولويتهما في السياسة الإعلامية لحالة الاستثناء، وإجراءاتها لتعزيز بيئة صديقة للحريات، ويُبرز حدود دور السلطة في تمكين الصحفيين من النفاذ إلى المعلومات، ويُبيِّن سياستها في الاتصال السياسي الحكومي، وإجراءاتها لحماية الصحفيين أثناء ممارسة عملهم المهني، وإصلاح وتطوير المنظومة التشريعية للعمل الإعلامي المهني…إلخ.

في ضوء ذلك، تستقصي الدراسة تأثير سياق حالة الاستثناء في موقع الإعلام العمومي، ووظيفته كراوٍ للثقافة السياسية وأداة للخطاب العام والاتصال السياسي وبناء الهوية. وهو ما يجعل هذا الدور مرهونًا بحرية الصحافة وبيئتها السياسية والقضائية والتنظيمية/التشريعية والاجتماعية والاقتصادية. وتركز الدراسة أيضًا على شروط الممارسة الإعلامية المهنية وسياقاتها، والتحديات التي تواجه الصحفيين في العمل الميداني، أي البحث في النظام الإيكولوجي لحرية الصحافة؛ إذ إن هناك علاقة ترابط قوية بين حرية وسائل الإعلام وحرية الصحفيين في نشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة دون أي تهديدات لسلامتهم الجسدية والعقلية.

1. اعتبارات منهجية ونظرية

مشكلة الدراسة

فرضت سلطة حالة الاستثناء إجراءاتها عبر رموز القوة الصلبة والناعمة لإنشاء واقع سياسي يستصحب نظامًا جديدًا يُحدث قطيعة (فكرية وسياسية) مع سيرورة بناء الانتقال الديمقراطي، ويدفع مكونات المشهد السياسي والفاعلين الاجتماعيين باتجاه هذا النظام، ويُجبرهم من خلال أدوات وآليات مختلفة (الإكراه، التهديد، المحاكمات…) على الاستجابة لمقتضيات المرحلة. ويُشير هذا التحول إلى مدى تأثير حالة الاستثناء في بناء واقع سياسي جديد يكتسب شرعيته من أجهزة ومؤسسات سياسية وقضائية واجتماعية تُمثِّل “غرف الصدى” للسلطة الناشئة. وهنا، تحاول الدراسة الإجابة عن السؤال الإشكالي المركب: كيف برز موقع الإعلام العمومي في سياق حالة الاستثناء: هل كان جزءًا من حالة سياسية جعلته إعلامًا مواليًّا أم حقلًا قائمًا بذاته يتميز برأسماله الخاص؟ وما الإستراتيجيات التي اعتمدتها السلطة في التعامل مع الإعلام العمومي وتأطير الحالة الإعلامية؟ ولماذا؟ وما نمط البيئة الصحفية التي خلقتها حالة الاستثناء؟

إن تحديد موقع الإعلام العمومي، والنظر فيما إذا كان جزءًا من حالة الاستثناء وداعمًا لها أم حقلًا قائمًا بذاته بعد تعطيل (والقطيعة مع) مرحلة بناء الانتقال الديمقراطي، يتطلب أيضًا البحث في عدد من القضايا المرتبطة بالنظام الإيكولوجي للإعلام على مستوى هوية وبنية نظام الحكم ورؤيته للإعلام؛ لأن العلاقة المرآوية بينهما تعكس تجاور نسق النظامين (الحكم والإعلام). وهناك أيضًا البيئة التنظيمية/التشريعية لعمل المؤسسات الإعلامية، والبيئة المهنية للعمل الصحفي، وحرية الصحافة وحرية وسائل الإعلام… ويمثِّل ذلك مصفوفة المتغيرات والعناصر التي تتفاعل في تشكيل موقع الإعلام العمومي وضبط دينامياته إما باتجاه أن يكون جزءًا من حالة سياسية تجعله أداة لأجندة الفاعل التنفيذي والدعاية لمشروعه السياسي، أو حقلًا قائمًا بذاته مستقلًّا عن تأثير باقي الحقول والسلطات (السياسية والاقتصادية والمالية) ومراكز النفوذ واللوبيات.

الإستراتيجية البحثية

تنطلق الدراسة في مقاربة المشكلة البحثية، كما تُظهِر صياغة السؤال المركَّب أعلاه، من الاستفهامين: كيف؟ ولماذا؟، وهما السؤالان المعياريان اللذان يُحدِّدان دراسة الحالة التفسيرية؛ ما يعني أن البحث يركز على ظاهرة (قضية) معاصرة(4)؛ يستقصي متغيراتها وأشكال التفاعل بين عناصرها. ويتطلب هذا البحث الإمبريقي استخدام مصادر متعددة من المعلومات لرصد الظاهرة داخل سياقها الطبيعي؛ حيث لا يمكن الفصل بينها والسياق المحيط بها، ثم دراسة العلاقات بين الظواهر المختلفة وتحليلها بهدف معرفة الارتباطات الداخلية والخارجية(5). وهنا، يعتمد الباحث أساسًا على آراء عينة قصدية من المبحوثين* ممن يتتبَّعون المشكلة البحثية وأبعادها في سياق عملهم الصحفي المهني والنقابي والحقوقي والأكاديمي. وقد وضع الباحث دليلًا للمقابلات المقننة والتشخيصية التي أجراها مع أفراد العينة، خلال الفترة الممتدة بين 24 و29 أكتوبر/تشرين الأول 2022؛ إذ تُركز على أبعاد النظام الإيكولوجي للإعلام في تونس خلال حالة الاستثناء. وهو ما يعني البحث في البيئات المختلفة التي يتفاعل معها هذا الإعلام ويتشكَّل فيها موقعه ومجاله ومستوى حرية الصحافة، انطلاقًا من رؤى وتصورات المبحوثين، والمراجع الثانوية لبعض الكتَّاب والباحثين. وحرص الباحث على تصنيف هذه الرؤى بحسب أطروحاتها ومنطلقاتها، وتحديد منظورها للقضايا التي عالجتها، ومراعاة سياقاتها المختلفة خلال تحليل ومناقشة محاور الدراسة.

ولأهمية مؤشر حرية الصحافة في النظام الإيكولوجي للإعلام، تستعين الدراسة في قياسه باعتماد المنطلقات المنهجية والمعايير التي تستند إليها منظمات دولية في تقييم مستوى حرية الصحافة بما يساعد على فهمها بكل تجلياتها وأبعادها، مثل منظمة “مراسلون بلا حدود” و”فريدوم هاوس” و”مجلس الأبحاث والتبادل الدولي” و”مركز التعددية الإعلامية وحرية الإعلام” وغيرها من المؤسسات التي تُعنى بمؤشر حرية الصحافة في العالم. وتعتمد هذه المنظمات مداخل متعددة في قياس مستوى وحالة حرية الصحافة؛ تشمل متغيرات بيئة العمل الصحفي القانونية، والسياسية، والاقتصادية(6)، وتُركز أيضًا على ما تُسمِّيه “المؤشرات السياقية” لهذه الحرية، وتضم المتغيرات الثلاثة المذكورة آنفًا، ثم السياق الاجتماعي والثقافي، والسياق الأمني الذي يُعنى بالسلامة الجسدية والعقلية للصحفيين(7).

وتهدف هذه الإستراتيجية البحثية إلى تحديد موقع الإعلام العمومي في سياق حالة الاستثناء، والنظر فيما إذا كان هذا الإعلام جزءًا من حالة سياسية تجعله خاضعًا للفاعل التنفيذي وجهازًا أيديولوجيًّا مواليًّا للسلطة، أو حقلًا قائمًا بذاته يتميز برأسماله الخاص. وتسعى الدراسة أيضًا إلى تحديد الإستراتيجيات التي اعتمدتها السلطة في التعامل مع الإعلام العمومي وتأطير الحالة الإعلامية، ومعرفة حجم تأثير حالة الاستثناء في حرية الصحافة ونمط البيئة الصحفية التي خلقتها.

مفاهيم الدراسة

1. حالة الاستثناء

ثمة مداخل متعددة لتعريف حالة الاستثناء، بحسب المنظور القانوني والسياسي والأيديولوجي، لكن استُخدِم المصطلح في السنوات الأخيرة بمعنيين مختلفين: أولهما كلاسيكي، ويشير إلى اللحظة التي يجري فيها تعليق قواعد القانون المنصوص عليها لفترات الهدوء من أجل مواجهة خطر معين، وتشهد تركيزًا للسلطة بشكل عام لصالح السلطة التنفيذية، وتقليصًا أو تعليقًا للحقوق التي تُعتبر أساسية خلال فترات الهدوء. وتُعد حالة الاستثناء لحظة عابرة بحكم تعريفها، ومؤقتة لمواجهة خطر معين. والمعنى الثاني، ويتمثَّل في تعديل عميق لبعض الأنظمة القانونية لمواجهة بعض الأخطار الدائمة، مثل الإرهاب، لأن القواعد السارية لمواجهة هذا الخطر كاشفة للنظام السياسي والقانوني الذي تعمل فيه(8).

وتعتمد الدراسة مفهوم حالة الاستثناء الذي حرَّره الفيلسوف الإيطالي، جيورجيو أغامبين (Giorgio Agamben)، في سياق دراسته التأصيلية لشبكة من المفاهيم (حالة الحصار، حالة الطوارئ، حالة الضرورة، الأحكام العرفية، الأحكام العسكرية، نظام الإيوستيتيوم) التي تحيل على التعليق الكامل للنظام القانوني. ويرى أن حالة الاستثناء فضاء ذو فراغ قانوني، أي حيز من عدم المعيارية تتعطَّل فيه كل التمايزات القانونية، وعلى رأسها التمايز نفسه بين العام والخاص(9)، وكذلك حيز من عدم التمايز المطلق بين عدم المعيارية والقانون، وفيه تُحاصَر فئة المخلوقات والنظام القانوني داخل كارثة واحدة(10). ويعتبر أغامبين أن جميع النظريات التي تحاول أن تُلحِق حالة الاستثناء بالقانون بشكل مباشر خاطئة، كما هي حال النظرية التي تعتبر الاستثناء مصدرًا قانونيًّا أصليًّا، أو تلك التي ترى في حالة الاستثناء ممارسة لحق الدولة في الدفاع عن نفسها، أو استعادة لحالة أصلية من القانون المطلق (السلطات الكاملة). ويؤكد أغامبين أن حالة الاستثناء ليست حالة للقانون، بل إنها فضاء بلا قانون وليست أيضًا حالة الطبيعة(11).

2. موقع الإعلام

الموقع لغة هو موضع لكل واقع، تقول: إن هذا الشيء ليقع في قلبي موقعًا، يكون ذلك في المسرة والمساءة(12)، وله موقع عند فلان، أي حظٌّ ومنزلة، ومواقع الغيث: منازلها، ومواقع القتال: مواضعه، “فلا أقسم بمواقع النجوم”: منازلها ومساقطها للغروب. وموقع الرجل: المكان الذي يشغله في العمل أو المجتمع، وتوجد المدينة في موقع: في مكان، موضع، محل، الجهة التي تقع فيها(13). والموقع أيضًا هو المجال أو الحيز أو الفضاء الذي يحدث فيه التبادل المادي والتفاعل الرمزي بين الأفراد والكيانات المختلفة.

ويُساعد هذا التعريف اللغوي في ضبط دلالة مفهوم موقع الإعلام من منظور المجال الذي يشغله أو يُمثِّله الإعلام بما يمتلك من الموارد الرمزية والمادية، والعلاقات والشبكات الاجتماعية، والوصول إلى مصادر المعلومات، والتأثير في الرأي العام، وذلك في سياق أداء دوره ووظيفته. وتُشكِّل هذه الأبعاد الرأسمال الخاص بهذا المجال أو الحقل في علاقته بباقي الحقول الأخرى (السياسية والقانونية والفلسفية والعلمية والأدبية والدينية…) التي تمتلك أيضًا رأسمالها الخاص واهتماماتها وسماتها وخصائصها وتحدياتها.

ويمتلك كل حقل رأسمالًا خاصًّا غير قابل للتحول إلى نوع آخر من رأس المال إلا تحت شروط معينة، كما يرى بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، ويحتفظ هذا الحقل ببنية توزيع الرأسمال الخاص أو يهدمها، وهو التحدي الذي يَسِم الصراعات التي تحدث في الحقل(14). ومن أجل أن تسير الأمور في حقل ما، يجب أن تكون هناك تحديات وأشخاص مستعدون لممارسة اللعبة ويملكون المتصل الوراثي (صنعة ورأسمالًا تقنيًّا ومرجعيًّا) الذي يستوجب المعرفة بالقوانين الخاصة باللعبة وبالتحديات والإقرار بها(15).

ويعتمد موقع الإعلام، والمجال الذي يشغله في بنية النظام السياسي، على متغيرات متعددة أهمها قوة الرأسمال الخاص الذي يمتلكه مجال الإعلام نفسه، ثم طبيعة نظام الحكم ومنظومة التشريعات التي تُؤطِّر هذا المجال، ثم الثقافة السياسية والمجتمعية تجاه دور الإعلام والصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية. ولذلك، فإن موقع الإعلام يعكس هوية نظام الحكم والنظام السياسي معًا وقيمهما ومبادئهما، كما يعكس مدى ملاءمة البيئة السياسية للحقوق السياسية والمدنية وإمكانية تطورها وتقدمها. من جهة أخرى، يُؤثر موقع الإعلام في الحالة السياسية عبر تعزيز المراقبة والمساءلة وتوسيع المجال العام، كما يُؤثر في نمط الممارسة الإعلامية عبر تعزيز العمل المهني وحرية الصحافة… وقد يؤدي هذا الموقع -عندما يكون الإعلام في الغالب أداة لأجندة للسلطة- إلى تراجع حرية الإعلام، والتضييق على النشاط الصحفي المهني والنفاذ إلى المعلومات، وانسداد الحياة السياسية.

3. حرية الصحافة

تربط منظمة اليونسكو حرية الصحافة بالاستعمال الخاص لحرية التعبير على المنابر الإعلامية العامة، وتشمل حرية جميع الأفراد أو المؤسسات في استخدام منابر وسائل الإعلام حتى يصل تعبيرهم إلى الجمهور. وتحتاج حرية الصحافة الفعالة أن تكون مدعومة، وأن تتحقق عبر بيئة إعلامية ليست حرة من الناحية القانونية فحسب، بل تتيح أيضًا تعددية وسائل الإعلام واستقلالها. ومن ثم، تشمل حرية الصحافة التحرر من القيود غير المشروعة، فضلًا عن حرية الاختيار من بين وسائل إعلام متعددة، وحرية التعبير عن النفس دون تدخل سياسي أو تجاري (ممارسة عامة لحرية التعبير). ويشير هذا التصور متعدد الأبعاد إلى الترابط بين أربعة مكونات لحرية الصحافة، وهي: الحرية، والتعددية، والاستقلال، والسلامة(16). كما يشمل التعريف منتجي المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمساهمين في صحافة المواطن، وغيرهم من الأشخاص الذين قد يستخدمون وسائط الإعلام الجديد وسيلة للوصول إلى جمهورهم. ويظل هذا المفهوم واسعًا لا يتواءم مع أهداف هذه الدراسة التي تربط حرية الصحافة بالصحفيين المهنيين.

لذلك يعتمد الباحث التعريف الإجرائي الذي بلورته منظمة “مراسلون بلا حدود” في منهجية التصنيف العالمي لحرية الصحافة، وحدَّدته في “الإمكانية الفعلية للصحفيين، بشكل فردي وجماعي، وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية”(17). وينطلق هذا التعريف من ثلاثة محددات تُساعد الباحث في رصد مؤشر حرية الصحافة في المشهد الإعلامي التونسي خلال حالة الاستثناء: أولًا: القدرة على إنتاج المادة الصحفية والتغطية الإخبارية والنفاذ إلى المعلومات. ثانيًا: استقلال المادة الصحفية والتغطية الإخبارية عن التجاذبات السياسية والتأثير الاقتصادي… ثالثًا: الحفاظ على السلامة الجسدية والعقلية للصحفيين.

مدخل نظري

يُعد السياق -مفهومًا وإطارًا نظريًّا- مدخلًا أساسيًّا لمقاربة النظام الإيكولوجي للإعلام في تونس، باعتبار خصوصية حالة الاستثناء التي أبطلت مرحلة الانتقال السياسي، وأنشأت واقعًا سياسيًّا جديدًا وحالة إعلامية خاصة -تعكس هوية النظام الجديد- لا يمكن فهم وتحليل متغيراتهما إلا بالنظر في العلاقة الترابطية بين الأنساق المختلفة لهذا الواقع. وهنا، تستعين الدراسة بمفهوم السياق الذي يكتسب أهمية كبيرة ليس فقط في تحديد معاني الكلمات والجمل والخطاب، بل معاني الأحداث والوقائع وفهم الحقائق. ولذلك يكون السياق أحيانًا أهم من المعنى ذاته، لماذا؟ لأنه مُنْتِج لهذا المعنى، أي إن “المعنى يعيش في السياق”(18)، كما تشير الأكاديمية شياو هوي شو (Xiaohui Xu). ومن ثم، فإن فهم موقع الإعلام والمجال الذي يشغله في سياق حالة الاستثناء يحتاج إلى ربطه بالسياق العام للواقع السياسي الجديد، فهو الذي يُعيِّن إطار هذا الموقع، ويحدد سمات الإعلام ويكشف دوره ووظيفته.

وتُقدِّم نظرية السياق للعالِم في دراسات الخطاب، توين فان ديك (Teun van Dijk)، إطارًا إجرائيًّا يساعد في فهم الأفعال والأحداث التواصلية وتعميق التحليل لخطاب الفاعل التنفيذي في حالة الاستثناء بتونس؛ باعتبار “سيطرة النماذج السياقية على عملية إنتاج الخطاب”؛ إذ يركز تحليل الخطاب المعاصر على الدور الأساسي للسياق لفهم وظيفة النص والحديث في المجتمع، بل إن الخطابات المهيمنة لا تمارس نفوذها خارج نطاق السياق. كما أن تعريف الخطاب نفسه بوصفه حدثًا تواصليًّا يجب أن يأخذ بالحسبان المجالات الاجتماعية التي وُظِّف فيها (كالسياسة والإعلام)، والأفعال الاجتماعية العالمية التي أُنجزت فيه (التشريع والتعليم)، والأفعال المحلية التي ينفذها، وإعداد الزمان والمكان والظروف الراهنة، والمشتركين، فضلًا عن أدوارهم الاجتماعية والتواصلية. وهنا، يتكيَّف الخطاب مع سياقات الإنتاج المختلفة: أي معرفة من تحدَّث؟ وعَمَّ تحدَّث؟ ومتى؟ وعن أية أهداف تحدَّث؟(19).

ومن هذا المنظور، يُعد السياق بنية اجتماعية ذاتية تتشكَّل بناء على وجهة نظر المشاركين تجاه الخصائص المتعلقة بحالة اجتماعية معينة، ويُمثِّل ذلك نموذجًا ذهنيًّا(20). ويُحدِّد فان ديك النماذج الذهنية بـ”التمثيلات المعرفية لتجاربنا. وبمعنى من المعاني، فهي تجاربنا إذا افترضنا أن التجارب تفسيرات شخصية لما يحدث لنا… كما أن “سيرتنا الذاتية” المعرفية، أي تراكم تجارب حياتنا الشخصية، تُمثِّل مجموعة من النماذج الذهنية”(21). وهذا يجعل نماذج السياق تتمركز حول الذات بشكل حاسم، والتي تُشكِّل الفئة المركزية المُوجِّهة لنماذج السياق، وتُنظِّم العلاقة بينها وبين المشاركين الآخرين(22). ويُبيِّن نموذج السياق كيف تُمثِّل هذه الذات محيطها، والوضع الذي تُفكِّر فيه الآن، وكيف تتصرف أو تتحدث أو تكتب أو تسمع أو تقرأ…(23).

ويسمح النموذج الذهني للسلطة (تمثُّلاتها المعرفية/السياسية في إدارة الحكم)، في إطار تحليل موقع الإعلام في حالة الاستثناء بتونس، بإدراك السياقات التي تحدد موقع الإعلام العمومي في ظل نظام الحكم الذي تشكَّل بعد تعطيل مرحلة بناء الانتقال السياسي. وتتمثَّل نماذج السياق في عدد من العناصر التي تُشكِّل خواصه، مثل الزمان والمكان والأحداث التواصلية والأدوار الاجتماعية والمهنية لمختلف الفاعلين، مثل الأهداف والمعارف والآراء والمشاعر وغير ذلك. وعلى المستوى العام، قد تحتوي نماذج السياق على تعريف شامل للموقف، وهذا بدوره يمكن اعتباره جزءًا من مجال أو وضع اجتماعي محدد(24). ويُعد المكون المعرفي ضروريًّا لوصف الكيفية التي يتمكَّن من خلالها المتحدث أو الكاتب من تكييف حديثه أو كتابته مع مستوى معرفة المتلقين له (المفترضة)(25). وهذا ما يجعل النماذج السياقية حيوية وفعالة في إنتاج عدد كبير من بنى الخطاب وفهمه، وهي تُثبت مدى أهمية الوضع الاجتماعي وتفسيره بالنسبة إلى الخطاب والتواصل(26).

إذن، يتطلب تحديد وفهم النموذج الذهني للسلطة -والسياق الذي تبلور فيه نمط تجربتها في الحكم وتأثير ذلك في تعاملها مع وسائل الإعلام ومنظورها لدور الإعلام في المجتمع- أن نحدد أولًا هوية السلطة نفسها ونمط نظام الحكم الذي تشكَّل خلال مرحلة حالة الاستثناء، باعتبار ذلك مكونًا مهمًّا لنموذج السياق في الحالة التونسية. كما أن وسائل الإعلام لا توجد مستقلة عن البيئة المحيطة بها، بل “تأخذ شكل ولون البنيات الاجتماعية والسياسية التي تعمل من خلالها”(27)؛ إذ إن هناك علاقة عضوية بين المؤسسات الإعلامية والمجتمع في الطريقة التي يتم بها تنظيم هذه المؤسسات ومراقبتها. ولا يمكن فهم المؤسسة ولا المجتمع الذي تعمل فيه فهمًا صحيحًا، من دون الرجوع إلى دراستهما معًا؛ لأن وسائل الإعلام في أي بلد تعكس البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية الخاصة بها(28). لذلك فإن تحديد هوية السلطة الناشئة ونمط نظام الحكم في سياق حالة الاستثناء يساعدنا في فهم موقع الإعلام العمومي ودوره خلال هذه المرحلة.

2. هوية نظام الحكم في سياق حالة الاستثناء

منذ إعلان الرئيس، قيس سعيد، الإجراءات الاستثنائية، في 25 يوليو/تموز 20121، وتعطيل سيرورة بناء الانتقال الديمقراطي وتعليق الأنظمة القانونية والدستورية، وُصِفت هذه اللحظة بـ”الانقلاب”، وسُمِّيت السلطةُ الناشئة عن حالة الاستثناء بـ”سلطة الانقلاب”(29). لكن هذا الوصف لا يساعد في تحديد نموذج السياق/الذهني للسلطة وتجربتها في الحكم وتمثُّلاتها لفلسفته؛ إذ لا يتجاوز إطار اللحظة التي جرى فيها “الانقلاب على الدستور”. لذلك سنجد تسميات ومفاهيم مختلفة تحاول تحديد هوية نظام الحكم عبر التركيز على متغيرات متعددة سياسية واجتماعية واتصالية وإعلامية؛ تأخذ بعين الاعتبار سلوكه السياسي ومواقفه وآراءه وتفاعله مع تطورات الأحداث الجارية، أي النموذج الذهني للسلطة انطلاقًا من التجربة الذاتية لنواتها. ويعكس هذا التشخيص أساسًا منظور أفراد العينة، الذين استطلع الباحث آراءهم، لبنية نظام الحكم الذي تشكَّل عقب حالة الاستثناء.

2.1. الانتقال نحو الاستبداد

انطلاقًا من الواقع السياسي الجديد الذي أنشأته حالة الاستثناء؛ حيث أصبح الرئيس قيس سعيد ممسكًا بمفاصل السلطة ومتحكمًا في مراكزها (التنفيذية والتشريعية والقضائية) ومستأثرًا بإدارة شؤون الدولة والمجتمع، ظهرت بعض المحددات التي تُعيِّن خصوصية هذا الواقع الذي تتشكَّل أنساقه على أنقاض مرحلة الانتقال الديمقراطي التي استمرت عشرة أعوام بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011. ويُؤسِّس هذا المسار (حالة الاستثناء) لمرحلة سياسية انتقالية مغايرة ومناقضة لما قبلها؛ حيث تعيش تونس في ظل ما يُسمِّيه وزير حقوق الإنسان السابق، العياشي الهمامي، “مرحلة الانتقال إلى الاستبداد”(30). وهي لحظة سياسية تتسم فيها طبيعة الحكم (أي من يتقلَّد السلطة؟) ومبدؤه (كيف يمارسها؟) بالنزوع (حالة شعورية وسلوكية واعية تسوق الفاعل لتحقيق رغبة ما) نحو احتكار السلطة والاستحواذ على المؤسسات السياسية والدستورية والاجتماعية والثقافية عبر الانفراد بإدارة الشأن العام، والتصرف في شؤون المواطنين بمقتضى المشيئة الخاصة ودون الخضوع لقانون أو رقابة أو مساءلة أو محاسبة. وتُعبِّر بعض الدراسات عن هذا المفهوم بـ”التحول نحو الاستبداد”(31)؛ إذ تقوم النخب، التي جرى انتخابها باختيار شعبي نزيه، بتغيير قواعد التنافس على السلطة، ما يحرم جماعات المعارضة من المنافسة بفعالية. كما أن هذا التغير يستبدل نظامًا مستبدًّا بالديمقراطية، ولكن تحت سيطرة الجماعة الحاكمة نفسها.

وفي هذه المرحلة الانتقالية التي تسير فيها تونس بـ”اتجاه الاستبداد” تعمل السلطة على استكمال بنياته، “فهو (الاستبداد) بصدد التمركز وإرساء مؤسساته التشريعية والقضائية والدستورية؛ إذ بعد تجميد عمل البرلمان وحلِّه لاحقًا، يقوم الرئيس قيس سعيد بصياغة دستور جديد على مقاسه، وإجراء انتخابات مجلس النواب، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022. وفي كل خطوة يخطوها يشتد عود الاستبداد”(32).

هذا الاتجاه الذي اختارته السلطة في صياغة الوثيقة الدستورية وهَنْدَسَتها على مقاس الرئيس قيس سعيد، يُكرِّس منظور ومفهوم “الانتقال نحو الاستبداد” كما صاغه الهمامي، ويجعل الدستور الجديد، بحسب الخبير القانوني والعميد السابق لكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، عياض بن عاشور، “دستور المستبد وهو دستور رئاسوي يمهد للاستبداد”؛ إذ “تعود جميع السلط تقريبًا لرئيس الجمهورية، فهو المهيمن على دواليب الدولة، وهذا مخالف للمبادئ الدستورية المبدئية”(33).

ويُقدِّم العياشي مؤشرًا آخر يندرج في إطار المتغيرات الاتصالية الدالة على اتجاه السلطة “وانتقالها نحو مرحلة الاستبداد” عبر احتكارها للإعلام العمومي والسيطرة على وسائله، وتغييب الرأي الآخر والأصوات المخالفة لها، والمحاكمات العسكرية للصحفيين، والاعتداء عليهم وتخويفهم من مكتسبات الحرية على مستوى الكتابة، وهو ما يدفعهم للرقابة الذاتية. فليس هناك مجال لاحترام الرأي المختلف والوجود المتنوع؛ إذ يرى الرئيس كل مخالف في الرأي خائنًا، “وهذا يعيدنا إلى تجربة ابن علي… ويُسهِم في وضع اللبنات الأولى لبناء الديكتاتورية”(34).

ويُعضِّد هذا المنظورُ تشخيصَه لهوية السلطة، التي تسير بـ”اتجاه الاستبداد”، بالآثار القانونية والسياسية والاجتماعية للمرسوم (54)، الذي يخصُّ مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال؛ إذ تقوم روحه القانونية وفلسفته التشريعية على العقوبة السجنية والغرامات المالية، لاسيما الفصل (24) الذي يتعلق بـ”الإشاعة والأخبار الزائفة”. فقد تصل العقوبة إلى عشرة أعوام سجنًا لنشر أخبار أو بيانات تعتبرها السلطة كاذبة أو تضر بالأمن العام والدفاع الوطني(35). وهو ما يفتح الباب واسعًا لقمع الأصوات والمخالفين بعد تكييف فصوله الفضفاضة واستعمالها سيفًا مسلطًا على الجميع(36). ويحاول الرئيس قيس سعيد من خلال المرسوم، كما يرى العياشي، أن “يقضِم الحريات شيئًا فشيئًا… ويستخدمه لضرب حرية التعبير وضرب خصومه وإدخال الرعب وتعزيز سلطته”(37). ويمثِّل هذا البعد القانوني (المرسوم 54) مرآة عاكسة لفلسفة الحكم في التعامل مع ما يسميها الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ويكرس أيضًا سياقًا اتصاليًّا وسياسيًّا معاديًّا للرأي المخالف.

وتتعدد التعبيرات التي يستخدمها هذا المنظور في تحديد هوية السلطة ونظام الحكم، لكنها لا تخرج عن الحقل الدلالي لفكرة أو تسمية “الانتقال نحو الاستبداد”؛ إذ يرى الصحفي صالح عطية، رئيس تحرير موقع الرأي الجديد، أن السلوك السياسي للسلطة وإدارتها لهذه المرحلة تنحو باتجاه الاستبداد؛ “فهناك عودة إلى مربع الاستبداد القديم، واستعادة آلياته وأدواته من خلال الإعلام وخنق الحريات. لذلك نرى المدرعات العسكرية أمام مبنى التليفزيون والبرلمان”. وهذا ما يُفسر “العمل على محو فترة الثورة وما بعدها، واستعادة الخطاب الاستبدادي الذي كان يعتبر المؤسسات ملكية خاصة وكأنها مؤسساته”(38).

وفي ظل هذه السلطة التي تُؤسس لمرحلة انتقالية نحو الاستبداد -بحسب بعض المبحوثين- “يحتكر الرئيس جميع السلطات، ويتحكَّم في السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية كما شرَّع ذلك في دستوره. وتتوحد هذه السلطات في شخص الرئيس الذي يُنزِّه نفسه عن الأخطاء أو أي مراقبة أو محاسبة في حال أخطأ، وهو أيضًا يَسْأَل ولا يُسْأَل”(39).

إذن، تؤشر هذه المظاهر إلى طبيعة السلطة واتجاه نظام الحكم نحو تركيز جميع السلطات، وتكشف مبدأها في بث الخوف الذي يحرم المواطنين والصحفيين والفاعلين السياسيين من “الحرية الخلاقة المبدعة للتباين والتمايز” عبر المحاكمات العسكرية والتشريعات المقيدة لحرية الرأي والتعبير. لكن يبرُز مبدأ آخر يَسِم طبيعة هذه السلطة ويُشكِّل العلامة التي تَدْمَغ هويتها، وهو مبدأ “العداء” لجميع مظاهر الحياة الديمقراطية ومبادئها من خلال إلغاء المؤسسات التمثيلية والدستورية. لذلك تُؤسِّس حالة الاستثناء لما يُسمِّيه الأكاديمي أمين بن مسعود “مرحلة الانتقال نحو الديكتاتورية” بعد أن كانت البلاد تعيش في بيئة شبه ديمقراطية خلال الأعوام العشرة الماضية(40). ويصف الكاتب الصحفي، محمد كريشان، أيضًا نظام الحكم في هذه المرحلة بـ”الديكتاتورية الصاعدة”(41). والسؤال هنا: ما مظاهر هذا الانتقال بـ”اتجاه الديكتاتورية” (الصاعدة) والعداء لمبادئ الحياة الديمقراطية؟

2.2. الانتقال نحو الديكتاتورية

تبدو السمة البارزة لمرحلة “الانتقال نحو الديكتاتورية” التي تترَّسخ حلقاتها -كما يُشخِّصها ابن مسعود- في معاداة السلطة للإعلام، “وهو ملمح يوجد في أي نظام ديكتاتوري يُعادي الإعلام، أو يسعى إلى توظيفه وتفريغه من مضمونه”. كما أن من مظاهر هذا الانتقال معاداة الصحفيين وجميع القوى الرمزية (الأحزاب والإعلام والنقابات والمفكرين والمثقفين…) التي تصنع الفاصل بين المجتمع والدولة، أي المجال العمومي. ولذلك تسعى السلطة إلى إفراغ هذا المجال من عمقه وحقيقته؛ “فلا يوجد في تمثُّل الإنسان الشعبوي والديكتاتوري شيء مستقل؛ إذ ليس هناك مجال عمومي أو قوى رمزية وحتى كلمة السلطة والدولة، كما لا توجد أجسام وسطية، بل هناك هو والشعب، فما يُفكِّر فيه هو الشعب ينجزه”(42).

يُشير هذا الواقع الناشئ إلى ما يعتبره كريشان “الحكم المطلق الذي لم يفعل شيئًا سوى إحكام طوق الاستبداد على رقاب الجميع” بعد التفكُّك التدريجي لهيبة الدولة ومؤسساتها وتنصيب أخرى معينة ومطواعة، وحلِّ كل الهيئات الدستورية المنتخبة، واحتكار كل السلطات بلا حسيب ولا رقيب كما لم يحدث من قبل في تاريخ تونس المستقلة. بينما يجري التضييق على كل رأي معارض وفبركة القضايا عبر تطويع غير مسبوق للقضاء بعد ترهيبه، وخنق حرية الصحافة والتعبير، وتقسيم الشعب وبث الكراهية بين أبنائه، وغياب الحد الأدنى مما يُسمَّى “عقل الدولة” حتى لدى مؤسساتها العسكرية والأمنية(43).

وهذا يخلق سياقًا مناسبًا لانبثاق السلطة المطلقة التي تسيطر على جميع الفضاءات والمجالات، ويشير إلى ملامح تمثُّلاتها لدور الإعلام. وهنا، تظهر فكرة “الاستدماج” (استدماج الأفراد والمجتمع وجميع المجالات)، أو الهيمنة الكلية، التي تجعل كل شيء متعلقًا وملحقًا بنواة السلطة؛ إذ لا يمكن التمييز بين المجال العام والمجال الخاص، وهو ما يترتب عليه إلغاء المسافة بين الحاكم والمحكومين (التماهي بينهم)، بل إلغاء الآخرين وإزالة المعارضين. وفي هذا السياق، يشير محمد الجلاصي، رئيس نقابة الوطنية للصحفيين التونسيين (السابق)، إلى أن “السلطة تذهب بالمجتمع التونسي نحو مربعات خطيرة من الديكتاتورية، فهناك اتجاه واضح نحو السيطرة على جميع الفضاءات، والذي بدأ منذ سنة قبل الآن. وتتمثَّل مؤشراته في السيطرة على الفضاء العام، والتضييق على وسائل الإعلام، ومنع الصحفيين من العمل، ومحاكمة الآراء الناقدة والمخالفة…”(44). ويرى وجيه الوافي، عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، أن السلطة تعتمد إستراتيجيات مختلفة في الانتقال أو الاتجاه نحو الديكتاتورية تشبه ما كان سائدًا إبان حكم الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي (7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987- 14 يناير/كانون الثاني 2011). وهنا، يعتبر انغلاق مؤسسة الرئاسة على نفسها أكبر المؤشرات على هذا التحول نحو الديكتاتورية؛ إذ لا تتواصل الرئاسة مع الهياكل النقابية ولا مع منظمات المجتمع المدني(45).

ويمثِّل هذا الاتجاه نحو الصمت لرئيس لا يتحدث ولا يتواصل مع الصحافة ولا مع وسائل الإعلام -وكذلك رئيسة الحكومة (السابقة)، نجلاء بودن، لا تتحدث مع الصحفيين إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي- محاولة لتكريس نظام ديكتاتوري، بحسب مولدي الزواري، رئيس لجنة الحريات بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. بينما كان جميع رؤساء الجمهورية منذ العام 2011 يعقدون لقاءات صحفية ويدلون بتصريحات، وكان لهم أيضًا ناطق رسمي باسم الجمهورية. وهذا يشير إلى مَنْ يحكم باتجاه تكريس نظام ديمقراطي، ومَنْ يتجه بهذا الصمت إلى محاولة تكريس نظام ديكتاتوري، فتكون أولى إنجازاته أن يُغلق الأفواه(46). لذلك، تبدو مؤسسة الرئاسة خرساء منكفئة على ذاتها، وسلوكها أشبه بالمؤسسة العسكرية التي تميل تقليديًّا إلى الصمت، ولا تتواصل مع محيطها السياسي والاجتماعي إلا عبر البيانات والبلاغات في مناسبات بعينها.

ويُحاجج هذا الرأي(47) لإبراز مظاهر “الانتقال نحو الديكتاتورية” بما يعتبره “تحوُّل مقر التلفزة الوطنية إلى ثكنة عسكرية” تحيط به قوات الجيش، منذ إعلان الرئيس الإجراءات الاستثنائية، في 25 يوليو/تموز 2021، وتقوم بمنع الأحزاب السياسية من ولوج المؤسسة والمشاركة في البرامج الحوارية على شاشة التلفزة الوطنية، وهو مؤشر آخر -بحسب الوافي- على “التوجه نحو الديكتاتورية”؛ لأن “التلفزة التونسية تلفزة عمومية لجميع التونسيين وليست تلفزة قيس سعيد أو تلفزة النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أو تلفزة الاتحاد العام التونسي للشغل”.

2.3. نظام شعبوي سلطوي

بإعلان الرئيس قيس سعيد الإجراءات الاستثنائية، التي كان خلفها قانون القوة لا قوة القانون، انتقلت تونس من دائرة قائد شعبوي، أو أسلوب شعبوي، أو حالة شعبوية أولى، إلى نظام شعبوي(48). ويضيف بعض الباحثين صفة أخرى تربط هذا النظام الشعبوي بالاستبداد السياسي ليصبح “شعبوية استبدادية” بعدما كانت تونس تمثُّل مختبر الربيع العربي(49)؛ إذ تُقوِّض السلطة مبادئ سيادة القانون كما تُجسِّدها الشفافية والمساءلة والكفاءة، وتُضعِف القيم الديمقراطية، ولاسيما حقوق الإنسان والتداول على السلطة والفصل بين السلطات(50).

ويقوم هذا النظام الشعبوي أيضًا على إرضاء المؤسسات الأمنية والبيروقراطية واسترضائها وتحييد المؤسسات -منها المجلس الأعلى للقضاء وهيئة الانتخابات- وتجاوز الأحزاب، أو تقزيمها في استشارات محدودة، فضلًا عن تحييد الحكومة. ويعمل على شَيْطَنَة المعارضين، وثلب النخبة من خلال الإعلام، أو بلاغات، أو مضايقات، أو تحريك النيابة العامة مع إصدار أحكام قضائية على مَنْ يُعتبرون الأعداء الألداء(51). كما يعمل النظام على تغيير قواعد اللعبة فعليًّا من خلال الاستفراد بالسلطة، وأخيرًا عبر وضع دستور جديد ذي طابع رئاسي، ثم من خلال القانون الانتخابي. ويوظف الرئيس الأدوات المتاحة له من أجهزة أمنية ونيابة عامة وتأويل للقانون وامتحال النصوص. ويظل هو المحور بأنا متضخمة(52)، أو “الرجل الأمة”، ما يجعل العلاقة بين الشعب والزعيم عمودية، فهو “يتكلم باسمه ويُفضل نمط القيادة ذات التواصل المباشر مع الجمهور؛ الأمر الذي تُيَسِّره وسائل التواصل الحديثة. ويسهُل على الخطاب الشعبوي تقبُّل فكرة الزعيم الكاريزمي الذي يتواصل مباشرة مع الناس”(53)، وقد كان ذلك هو الأسلوب الاتصالي للرئيس قيس سعيد الذي لا يؤمن بالوسائط الإعلامية أو الحزبية أو الجمعياتية؛ إذ تعتقد السلطة الشعبوية بوجود اتصال دائم ومباشر مع الجمهور(54). وأسهم بذلك في تقسيم المجتمع التونسي إلى “نحن” (الشعب النقي والطاهر) و”هم” (أعداء الشعب والخونة والمتآمرين).

وهنا، يمكن أن نفهم إستراتيجية السلطة في الهجوم على السياسات الحزبية، وضرب النظام المؤسسي بوصفه بنية من القواعد والإجراءات الإدارية التي يُفترض أن تعمل باستقلالية عن الأغلبية، وتوفر استمرارية مستقرة للنظام القانوني والبيروقراطي. وكما يشير الأكاديمي أندرياس شيدلر (Andreas Schedler)(55)، فإن النظام الشعبوي يُنشِئ فضاء رمزيًّا مثلث الشكل حول ثلاثة فاعلين وعلاقاتهم: الشعب، والطبقة السياسية، وهم أنفسهم. يمثِّل أول هؤلاء الفاعلين “الضحية البريئة”، والثاني “المارق الخبيث”، والثالث “البطل المُخَلِّص”.

ولذلك يعتبر البعض أن الرئيس قيس سعيد ليس شعبويًّا، وإنما هو “دليل الشعبوية”(56) الذي يُجسد مبادئها وأُسُسَها ومنطلقاتها السياسية، أي “يمسك بكتالوغ الشعبوية ويُطبقه بدقة”(57) كما ظهر من خلال إجراءات الحالة الاستثنائية ومظاهرها السياسية والقانونية والإعلامية.

2.4. نظام هجين

يبدو نظام الحكم الذي تشكَّل في سياق حالة الاستثناء -بحسب وجهة نظر بعض المبحوثين- نظامًا هجينًا مختلطًا يتشكَّل من تقاليد ومبادئ متعددة لأنظمة سياسية مختلفة، ما يجعل هويته غامضة(58). لذلك يختلف هذا “النظام الهجين” عن المفهوم الذي حدَّده الأكاديميان، ستيفن ليفيتسكي (Steven Levitsky)، ولوكان واي (Lucan Way)، في نظريتهما عن السلطوية التنافسية التي تعتبر النظام الهجين واقعًا بين الديمقراطية والاستبداد الشامل، أي نظام يجمع بين أدوات الدَّمَقْرَطة ومبادئ الاستبداد. ويُقدِّم الباحثان أنماطًا متعددة للأنظمة الهجينة، مثل الأوليغارشية الدستورية أو الجمهوريات الحصرية، التي تمتلك السمات الأساسية للديمقراطية، لكنها تحرم شريحة كبيرة من البالغين من حق التصويت، ثم هناك نظام الوصاية الذي تجري فيه انتخابات تنافسية بينما تكون سلطة الحكومات المنتخبة مقيدة بأنظمة دينية أو عسكرية أو ملكية غير منتخبة، ثم نظام الديمقراطيات المقيدة أو شبه التنافسية؛ حيث تُجرى انتخابات حرة، لكن الحزب السياسي الكبير يكون ممنوعًا من النشاط السياسي(59).

ويُبيِّن هذا المفهوم أن نظام الحكم الناشئ عن حالة الاستثناء بتونس لا يندرج ضمن أي نمط من الأنماط الثلاثة المذكورة، أو غيرها من الأنظمة الهجينة التي رصدها ليفيتسكي وواي؛ لأن المعنى الذي يقصده مولدي الزواري بـ”النظام الهجين” هو الجمع بين أساليب وممارسات مختلفة تميز أنظمة متعددة في إدارة شؤون الدولة التونسية؛ حيث ينهل “الرئيس قيس سعيد من تقاليد الأنظمة الملكية ومن الإمبراطوريات ومن مبادئ الأنظمة التي تستند إلى مؤسسة الأمير ومؤسسة السلطان، وهو الأمر الذي يبدو واضحًا من خلال خطاباته السياسية وقراراته وسلوكه السياسي”(60). وبذلك تتشكَّل هوية هلامية لنظام حكم مختلط، وقد يمثِّل هذا النظام المختلط ويُجسِّد تجربة قيس سعيد نفسه في الحكم، ويعكس النموذج الذهني للسلطة (المعرفة والأفكار والسلوك). وهنا نستعير مصطلح الباحث حاتم نفطي الذي يوظفه في سياق مختلف، وهو “النظام السعيدي”(61) للدلالة على هذا النمط الهجين.

شكل (1): هوية نظام الحكم وسماته في سياق حالة الاستثناء بتونس

1

انطلاقًا من المظاهر السابقة التي تُعيِّن نمط نظام الحكم الناشئ عن حالة الاستثناء، والمحددات التي تؤشر إلى نموذج السلطوية الشعبوية -حيث تستحوذ على جميع المؤسسات وتتوحد نواة السلطة مع الشعب الذي تُعبِّر عن إرادته وآماله دون أية وسائط وهيئات، سواء كانت حزبية أو مدنية أو إعلامية- تظهر ملامح منظور السلطة للإعلام ومعالم سلوكها في التعامل مع مؤسساته. وهنا، يبرز السؤال عن موقع الإعلام، لاسيما الإعلام العمومي، وطبيعة المجال الذي يشغله في سياق حالة الاستثناء، ودوره ووظيفته كراوٍ للثقافة السياسية وأداة للخطاب العام.

3. موقع الإعلام العمومي في حالة الاستثناء

لا يمكن النظر إلى موقع الإعلام العمومي، في سياق حالة الاستثناء ونظام الحكم الشعبوي السلطوي، معزولًا عن بقية المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية وجميع البنى التي تُشكِّل هوية هذا النظام. لذلك يُعد منظور أو تصور الفاعل التنفيذي لموقع الإعلام مرآة عاكسة للنموذج الذهني للسلطة وتجربتها في الحكم. وهنا، سيركز هذا المحور على رصد تمثُّلات السلطة للإعلام العمومي، ثم دوره ووظيفته في حالة الاستثناء، والمجال الذي تشغله وسائل الإعلام في النظام السياسي والعلاقة التي تربطهما، وطبيعة النموذج الذي يُمثِّله الإعلام في هذا النظام.

3.1. تمثلات السلطة للإعلام

لا تختلف رؤية السلطة الناشئة عن حالة الاستثناء للإعلام ودوره في المجتمع عن المنظور التقليدي التاريخي لعلاقة السلطة بالإعلام التونسي، والذي ظل يعتبر الإعلام أداة ووسيلة للفاعل السياسي أو التنفيذي، منذ صدور صحيفة “الرائد التونسي”، في 22 يوليو/تموز 1860. فقد كان الإعلام دائمًا جزءًا من حالة سياسية ومصاحبًا لفاعل أو مجموعة من الفاعلين السياسيين، ولم يكن حالة مستقلة. وهو ما يجعل الإعلام اليوم جزءًا من السياسة لصناعة هذا الفاعل والترويج له لدى الجمهور؛ إذ لا يقبل الفاعل التنفيذي ولا يرضى أن يكون الإعلام خارج السلطة(62). هذا المنظور الأداتي يُجرِّده من الطابع المُؤَسَّسِي، فيصبح الإعلام جهازًا فاقدًا لاستقلاليته لا يستطيع هيكلة نفسه(63).

إذن، يصبح الإعلام أداة دعائية ومنتجًا للخطاب الدعائي تتحكَّم فيه السلطة وتهيمن على وسائله، مثلما تتحكَّم في المؤسسة التشريعية وتحاول أن تجعل من القضاء وظيفة وليس سلطة، “ويصبح دور التليفزيون الرسمي، الذي يُفترض أن يُقدِّم خدمة عمومية للمواطن، هو تمجيد الرئيس”(64). لذلك “عاد إلى خطاب الطاعة وأجندة المحاباة والموالاة. كما عاد إلى سيرته الأولى على نهج تليفزيون 7 نوفمبر يُلقي الأضواء على الرئيس وكأنه الرئيس المُلْهَم”(65) متأثرًا بالفاعل السياسي والفاعل التنفيذي الذي يسيطر على الإعلام؛ إذ أصبح حكوميًّا يُهيمن عليه الصوت الواحد(66) ويُراد له أن “ينخرط في عملية تحرير الوطن”(67)، وهو ما يُشير إلى جهود السلطة في تعبئة وسائل الإعلام الرسمية لمشروعها السياسي؛ الأمر الذي يُفسر تدخل الرئيس قيس سعيد في الأجندة الإخبارية للتلفزة الوطنية والتأثير في سياستها الإخبارية في تناول المضامين الإعلامية.

وقد عبَّرت الصحفية، نجلاء بن صالح، عن هذا التدخل بـ”ظلال الرئيس في غرف أخبار وسائل الإعلام الحكومي”(68)، ورأت في ذلك محاولة لوضع اليد على وسائل الإعلام والوجود الدائم في غرف تحريرها والسيطرة على ضمائر الصحفيين فيها؛ وهو ما يمثِّل إحياء للإرث التسلطي والرأي الواحد، وكأن الرئيس يريد أن يترأس اجتماعات التحرير بنفسه، أو فرض توجيهات الرئيس المصورة كما كان يفعل الرئيس الحبيب بورقية.

إذن، يعكس هذا المنظور التقليدي لعلاقة السلطة بالإعلام جزءًا من تجربة السلطة في التعامل مع الإعلام وتعيين دوره ووظيفته في المجتمع، وهو ما يُحولِّ رئيس الدولة إلى رئيس تحرير للتليفزيون الرسمي واضعًا لأجندته وراسمًا هوامش حريته، ومَنْ يتحدث عبر شاشته ومن يُمنع من ولوج بوابة المؤسسة التليفزيونية. وتُبيِّن هذه المؤشرات طبيعة النموذج الإعلامي وخصوصيته في سياق حالة الاستثناء ونظام الحكم الناشئ عنها.

3.2. نموذج الموالاة

باستلهام الإعلام الحكومي، لاسيما القناة الوطنية الأولى، لتجربة الفضائية “تونس 7” التي كانت تمثِّل بوقًا إعلاميًّا لنظام زين العابدين بن علي، و”الاشتغال بالدعاية للسلطة والترويج لها وتمجيد الرئيس قيس سعيد”، يصبح هذا الإعلام مواليًا للسلطة، ومنافحًا عن اختياراتها السياسية، في ظل حالة الاستثناء مثلما كان الإعلام الرسمي في عهد حكم ابن علي. فهو “يخضع أساسًا إلى سلطة النظام الذي يُوجِّهه كيفما شاء. كما أن الخط التحريري لهذه المؤسسات الإعلامية مبني أساسًا على دورها في تلميع صورة النظام داخليًّا من خلال إبراز نجاحاته المفترضة”(69). ولأن الإعلام السمعي البصري يمثِّل في مخيال النخبة السياسية “سلطة”، كما يشير الأكاديمي الصادق الهمامي(70)، فإنها تستحوذ عليه وتتحكَّم في إدارته وهيكلته لممارسة سلطتها الرمزية (الأيديولوجية والثقافية…)؛ إذ تعتبره مجالًا تابعًا لنفوذها، وجهازًا من “الأجهزة الأيديولوجية للدولة” بتعبير الفيلسوف الفرنسي، لويس آلتوسير (Louis Althusser)(71).

وتبدو هذه الحالة، التي يصبح فيها الإعلام الرسمي منبرًا داعمًا للسلطة، طبيعية في نظر الأكاديمي جمال زرن؛ إذ إن الثقافة السائدة في الإعلام الحكومي تتمثَّل في الموالاة بشكل مباشر لمن يحكم مهما كانت طبيعته وهويته السياسية. وهو تقليد وثقافة، لأن الذي يحكم يُموِّل هذا الإعلام(72)، فتصبح الموالاة متطلبًا سياسيًّا ضروريًّا لاستمرار السلطة نفسها، وأيضًا تكون الموالاة جزءًا من الحالة السياسية الناشئة عن حالة الاستثناء؛ لأن الإعلام لا يمكن تصوره في هذا السياق حقلًا مستقلًّا عن السلطة يتميز برأسماله الخاص عن المجالات والحقول الأخرى.

وهنا، يبرُز تأثير هوية نظام الحكم في النموذج الإعلامي الذي يتشكَّل في كنف السلطة، ويظهر أيضًا دور السياق السياسي الناشئ عن حالة الاستثناء في تحديد وظيفة الإعلام. لذلك، يتجنَّب هذا النمط من الإعلام الذي يصفه الباحث الأميركي، وليم روو (William Rugh)، بإعلام الموالاة، كما ورد في تصنيفه الرباعي لوسائل الإعلام، مهاجمةَ المبادئ الأساسية لسياسة النظام، ويتحاشى أيضًا انتقاد الشخصيات والرموز السياسية في هرم السلطة الحكومية. ولا يُظهِر هذا النموذج الإعلامي سوى القليل من التنوع الحقيقي في التعامل مع وجهات النظر حول القضايا المهمة. كما أن آراء الصحفيين وتعليقاتهم تدعم الخط الرسمي للسلطة، وتُساند رئيس الحكومة في جميع القضايا الأساسية. لذلك تميل صحافة الموالاة إلى أن تكون أكثر سلبية، وتتحاشى القضايا المهمة كما تتجنَّب استخدام لغة الصحافة الثورية(73). وفي المقابل، “يعمل هذا الإعلام الموالي -بحسب الصحفي صالح عطية- على محو فترة الثورة وما بعدها”(74)، ويصرف اهتمامه عن قضايا الشأن العام التي تمس الحياة اليومية للمواطنين.

وهنا، تحاول السلطة إحداث القطيعة مع الحالة الإعلامية والسياسية التي خلقت مجالًا عموميًّا خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي التي أعقبت ثورة 14 يناير/كانون الثاني، وتعمل في اتجاه يُكرس هيمنة الشعبوية السلطوية على تأسيس حالة إعلامية جديدة يكون فيها الانفصال التام مع المنظور الإعلامي المتنوع والتعددي وقيمه ومبادئه. وهو ما يؤدي إلى قطيعة إعلامية (مهنية ومعرفية) تؤسس لنموذج إعلامي أحادي يستلهم روح حالة الاستثناء.

شكل (2): خصائص الإعلام الرسمي في سياق حالة الاستثناء

2

3.3. آليات التحكم في الإعلام العمومي

بعد تعطيل مسار بناء الانتقال الديمقراطي في سياق الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد، كشفت السلطة عن طبيعة سلوكها السياسي/الإعلامي في التعامل مع الإعلام العمومي التونسي، وكذلك الإعلام الدولي، مثل قناة الجزيرة و”نيويورك تايمز” وغيرهما. فقد لجأت السلطة إلى نشر قوة عسكرية في محيط مدخل القناة الوطنية الأولى؛ إذ استعانت بما يُسمِّيه لويس ألتوسير “الجهاز القمعي للدولة” لحماية المؤسسة التليفزيونية التي ستحوِّلها إلى جهاز الدولة الأيديولوجي، مثلما هي الحال مع المؤسسة التشريعية؛ حيث كان ثمة “عسكريون يمنعون أعضاء مجلس النواب من دخول مقر المجلس… لديهم تعليمات تقضي بإغلاق البرلمان”(75).

وتُشير هذه الخطوة الأمنية في التعامل مع وسائل الإعلام إلى القواعد البروتوكولية المألوفة في حالات الانقلاب العسكري، أو “الانقلاب الذاتي” على الدستور والمنهجية الديمقراطية؛ إذ تُسارع السلطة الناشئة عن الانقلاب إلى السيطرة والتحكُّم في المؤسسات الإعلامية الحكومية(76)، ومنعها من ممارسة نشاطها وأداء رسالتها الإعلامية المهنية، خاصة أن هذه السلطة تتحرك بمنطق الاستحواذ على المؤسسات. ولن تكون هناك أدوات فاعلة وحاسمة أكثر من الأدوات الأمنية في الوصول إلى أهداف السلطة.

ولإحكام السلطة سيطرتها على الإعلام الرسمي، لجأ الرئيس قيس سعيد إلى منطق التعيينات خلافًا للصيغة القانونية -بحسب محمد الجلاصي- وتسمية شخصيات موالية للسلطة على رأس التلفزة والإذاعة ووكالة تونس إفريقيا للأنباء(77). وهو ما لاحظه أيضًا الصحفي لطفي حجي الذي اعتبر أن هذه الوجوه تنتمي لمرحلة 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، والتي تُذكِّر بالعهد القديم والدولة العميقة، حيث كان بعضها يعمل في صحافة الحزب الحاكم سابقًا(78). وكانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين رفضت تلك التعيينات لأسماء معروفة بانتمائها لمنظومة البروباغندا النوفمبرية وإعلام الرأي الواحد الموجه بهدف السيطرة على مؤسسات الإعلام العمومي وبناء مشهد إعلامي يقوم على البروباغندا على حساب الموضوعية والمهنية. واستنكرت الخطاب المتناقض للسلطة التي تتحدث من جهة عن الثورية والمحاسبة ونظافة اليد، وفي نفس الوقت تستعين بمن مارس التعتيم وأسهم في حرمان الشعب التونسي من حقه في الإعلام قبل الثورة وتكافئهم بالمناصب المهمة في المؤسسات الإعلامية(79).

ويبدو واضحًا هدف هذه التعيينات لرموز المرحلة السابقة على الثورة؛ إذ تساعد في خلق حالة إدارية ومهنية سلطوية تقوم بضبط الأداء التليفزيوني عبر تأطير النشاط الإخباري والبرامج الحوارية لتتناول الأحداث الجارية والقضايا التي تحظى بأولوية السلطة من المنظور الذي يخدم أجندتها. ويُبرز ذلك أهمية هذه البيئة الجديدة التي تراهن عليها السلطة في تغيير الحالة الإعلامية التي نشأت خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي.

وإذا كان هذا النهج في تعيين الوجوه التي عُرفت بولائها لنظام ابن علي على رأس مؤسسات الإعلام الرسمي يمثِّل إعادة إنتاج للممارسات والسياسيات الإعلامية التي سادت قبل الثورة، فهو يُظهر أيضًا موقع الإعلام في سياق حالة الاستثناء؛ إذ يُعد جزءًا من الحالة السياسية الناشئة، وسلطة يحتكرها الفاعل التنفيذي مع بقية السلطات الأخرى؛ فالسلطة الناشئة “لا يمكن أن تحكم بدون إعلام -بحسب صالح عطية- ويجب أن يكون إعلامًا أحاديًّا، لذلك تحاول الاستحواذ عليه للسيطرة على السلطة”(80). وهو ما أشار إليه أيضًا لويس ألتوسير في دراسته للأجهزة الأيديولوجية للدولة، فقد اعتبر أن الطبقة السائدة التي تتولى الحكم تكون هي الفاعلة في الأجهزة الأيديولوجية للدولة. وليس هناك طبقة يمكنها أن تستولي على السلطة بشكل ثابت دون أن تمارس في نفس الوقت هيمنتها على/وفي الأجهزة الأيديولوجية(81). ولذلك، فإن الأجهزة الأيديولوجية للدولة يمكن أن تكون ليس فقط رهانًا للصراع، بل أيضًا موقعه، وفي كثير من الأحيان موقع أشكال محتدمة من الصراع(82). وهذا ما يفسر استخدام السلطة للجهاز القمعي للدولة (قوات الجيش) -بحسب تعبير ألتوسير- لضمان الشروط والبيئة السياسية لممارسات الجهاز الأيديولوجي/التليفزيون.

وبعد أن حسمت السلطة موقع الإعلام الرسمي جهازًا أيديولوجيًّا للدولة، أصبحت “التلفزة اليوم ناطقة باسم رئاسة الجمهورية، وبات الإعلام إعلام الدولة الذي عرفته تونس خلال فترة الاستبداد؛ إذ تستحوذ عليه السلطة من أجل أن يسير في اتجاه واحد ويتحدث لغة واحدة. ولذلك ترغب السلطة في القضاء على التنوع والتعدد في الممارسة المهنية الإعلامية… كما أن المعارض والناقد للسلطة لا حضور له في القنوات العمومية وليست لديه الفرصة كي يُدافع عن أفكاره بل ليدفع عن نفسه الاتهامات”(83).

وفي ظل هذه السيطرة والتحكُّم في الإعلام ليكون أداة وجزءًا من الحالة السياسية الناشئة، لا تبدي السلطة أي رغبة في إصلاحه؛ إذ إن “من مصلحة النظام الحالي أن تبقى التلفزة التونسية على حالها وأن تغلق الصحافة الورقية”(84). ويشكِّل ذلك في نظر بعض الباحثين والأكاديميين سياسة ممنهجة تتعمد ترك الإعلام لحاله؛ إذ تستغل السلطة هذا الوضع حتى يكون الإعلام خادمًا لأجندتها السياسية ومواليًّا للنظام.

وهنا، يكون موقع هذا الإعلام تابعًا للسلطة خادمًا لها، أي جهازًا أيديولوجيًّا، كما ذُكِر آنفًا، ممثلًا لـ”إعلام الدولة”، مثلما أشار صالح عطية. لذلك لا يمت الإعلام الرسمي بأي صلة إلى المرفق العمومي الإعلامي الذي يتطلب أن يكون مستقلَّا ومحايدًا أمام كل سلطة مهما كانت مشاربها الفكرية أو السياسية، وأن تكون له هياكل تنظيمية تراعي خصوصيته باعتباره مؤسسات منتجة للمضامين وليس مؤسسات ذات صبغة إدارية. ويتطلب أيضًا أن تكون علاقته الإدارية بهذه السلطة واضحة، فضلًا عن تسيير هذه المؤسسات من خلال عقد برامج يتم مراجعتها ومتابعتها بشكل دوري لتحقيق النجاعة المطلوبة في تسييرها(85)؛ وهو ما لم يتحقق حتى اليوم بسبب هيمنة السلطة على الإعلام الرسمي مثلما تمكنت من الهيمنة على جميع المؤسسات (التشريعية والقضائية) وهندسة الدستور والقوانين عقب حالة الاستثناء.

وفي ظل هذا الوضع الذي يتحوَّل فيه الإعلام إلى جهاز أيديولوجي “يتجه المجال العمومي إلى الانغلاق والذوبان في شخص الحاكم”، تقول خولة بوكريم، رئيسة تحرير موقع “كشف ميديا”، “بل ليس هناك مجال عمومي، لأن وسائل الإعلام محتكرة”(86). ويرى العياشي أيضًا أن “المجال العمومي ينحسر وقد أُغلِق على مستوى التليفزيون”(87). بل لا تعترف السلطة بوجود مجال عمومي كما يوضح الأكاديمي ابن مسعود، إذ “يظل هذا المجال مرتبطًا بمعنى معين للدولة وأدوارها وفهم معين للشعب باعتباره صاحب إرادات حية مستقلة بذاتها وليس كتلة واحدة”(88). وهنا، يصبح التليفزيون أشبه بمنبر لرجع الصدى لا يُقدِّم سوى ما يريد الفاعل التنفيذي أن يشاهده ويسمعه، ولا يمثِّل مجالًا للآراء المختلفة والمتنوعة التي قد لا تؤيد أطروحات السلطة وأجندتها. وبذلك يُرسِّخ هذا المنظور سمات الشعبوية السلطوية التي تجعل رأس السلطة محورًا لكل المؤسسات، ويعكس طبيعة النموذج الذهني للسلطة (التحكم والسيطرة) في إدارتها لقطاع الإعلام.

شكل (3): أدوات وإستراتيجيات التحكم في الإعلام العمومي

4

4. حرية الصحافة في سياق حالة الاستثناء

كان للثورة تأثير جذري في المشهد الإعلامي التونسي؛ إذ حدثت تغييرات استثنائية على الساحة الإعلامية منذ يناير/كانون الثاني 2011، وشهدت البلاد تحولًا شاملًا؛ حيث انتقل المجال الإعلامي من السيطرة المطلقة للحكومة والرقابة الكاملة على حرية التعبير إلى حرية إعلامية وتعددية لم يسبق لها مثيل(89). وسادت خلال السنوات الماضية قناعة في المجتمع التونسي بأن حرية الرأي والتعبير هي المكسب الأهم بعد الثورة(90). وهو ما لاحظه أيضًا لطفي حجي، مدير مكتب الجزيرة في تونس؛ إذ “أصبح المجتمع التونسي يعيش حرية التعبير بلا سقف تقريبًا. ويُجمع الصحفيون والسياسيون والمواطنون -وإن اختلفوا في تقييم العشرية الماضية- على أن المكسب الرئيسي هو حرية التعبير. وقد أبدت السلطة مرونة ولم تلجأ في بعض الأحيان إلى القضاء، مثل الرئيس منصف المرزوقي الذي تعرض لحملات منظمة تتضمن الكثير من المعلومات الخاطئة والمُضَلِّلَة ورغم ذلك استنكف عن اللجوء إلى القضاء، بل اعتبر ذلك من مفاخر العشرية بعد الثورة”(91). ورغم الكوابح التي عرقلت تطور إصلاح القطاع الإعلامي فيما يخص المنظومة التشريعية والهياكل التعديلية -بحسب الأكاديمي جمال زرن- فإن أكبر مكسب في العشرية التي عاشتها تونس خلال الثورة يتمثَّل في حرية الإعلام(92). وهنا، يبرز سؤال الدعم واحترام استقلالية وسائل الإعلام في مواجهة الضغوط السياسية التي فرضتها حالة الاستثناء، وكذلك الدعم الذي تحظى به وسائل الإعلام للقيام بدورها في مساءلة الفاعل التنفيذي ومؤسسة الرئاسة بما يشبع احتياجات الأفراد إلى المعرفة ومتابعة القضايا التي تمس حياتهم اليومية.

تمثِّل هوية النظام الشعبوي السلطوي، الذي “ينتقل بالبلاد نحو الاستبداد” -بحسب الحقوقي العياشي- أو “باتجاه الديكتاتورية” -كما يرى الأكاديمي ابن مسعود- عائقًا ذاتيًّا لتعزيز حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير؛ إذ “لا يمكن أن يكون هذا النظام صديقًا للصحافة الحرة، بل يعمل كل ما يستطيع للسيطرة على الإعلام عبر التخويف والقمع… وهو ما يُسهِم في ظهور مناخ معاد لحرية الصحافة”(93). لذلك يعرف الحقل الصحفي نوعًا من الاستعداء؛ إذ تُقدَّم الصحافة باعتبارها أداة من أدوات الهدم وليست أداة من أدوات البناء. كما أن خطاب الرئيس قيس سعيد يحرض على ارتكاب الاعتداءات ضد الصحفيين بطريقة غير مباشرة، والصمت على إحالتهم للمحاكم بتهمة ارتكاب “أمر موحش ضد رئيس الجمهورية”، وهو ما يعني نوعًا من الموافقة على هذه الإحالات(94).

وقد وردت تهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية في الفصل 67 من المجلة الجزائية، التي صدرت في العام 1913، ويندرج ذلك ضمن الاعتداء على النظام العام. وكان هذا القانون يهدف إلى حماية العائلة الحاكمة في زمن البايات، وأبقى الرئيس، الحبيب بورقيبة، عليه بعد تنقيح كلمة باي لتتحول إلى رئيس. وكانت السلطات التونسية أدانت عددًا من النشطاء والفاعلين السياسيين والإعلاميين بتهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية، منهم الصحفي، زياد الهاني، والمدون، عمارة بن منصور، والمذيع، عامر عياد، والنائب المستقل، عصام البرقوقي، والنائب، ياسين العياري(95). ويهدف هذا التخويف إلى خلق حالة إعلامية تتعامل مع الرئيس بنوع من “القداسة” فيما يتعلق بالقضايا التي ترتبط بشؤون الرئاسة وموقعها في النظام السياسي الجديد. ويُعد ذلك مظهرًا آخر لطبيعة النموذج الذهني للسلطة التي ترى نفسها فوق النقد (ذات منزهة عن النقد)، وهو ما يخلق مجالات واسعة من المحرمات والمقدسات (أفرادًا وجماعات ومؤسسات)، ويُفرغ حرية الصحافة من مضمونها. ويعكس ذلك مرة أخرى مشكلة التصورات والتمثُّلات التي تحملها نواة السلطة عن دور الإعلام ووظيفته.

ويُعد انكفاء رئاسة الجمهورية على ذاتها، وغياب تواصلها مع الصحفيين والهياكل النقابية، مؤشرًا آخر على ما يعتبره الصحفي الزواري نظامًا سياسيًّا مغلقًا لا يفتح أجهزته ومؤسساته ولا نوافذ للتواصل مع الصحفيين، وهو مَنْ يحدد من يَسْأل ومن لا يَسْأل، ومن يحق له أن يتولى تلك المهمة ومن لا يحق له ذلك. وفي الوقت الذي لا يتحدث فيه الرئيس قيس سعيد مع الصحافة ولا تتحدث رئيسة الحكومة (السابقة)، نجلاء بودن، مع الإعلام، يُقدِّم هؤلاء تصريحاتهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي(96). وهذا يَحرِم الصحفيين من حقهم في مساءلة المسؤولين السياسيين خلافًا لما عرفته تجربة الانتقال الديمقراطي؛ إذ كان رؤساء الجمهورية منذ العام 2011 يعقدون لقاءات صحفية ويُقدِّمون تصريحات للإعلام أو يكون هناك ناطق باسم الجمهورية. ويُشير ذلك إلى طبيعة نظام الحكم الذي يتجه اليوم بهذا الصمت إلى محاولة تكريس نظام ديكتاتوري(97).

ويُفسِّر الأكاديمي، الصادق الحمامي، استثناء الصحفيين من الاتصال الحكومي بـ”إستراتيجية السلطة التي تستنكف عن الخضوع لمساءلة الصحافة والرأي العام”؛ إذ يرى الرئيس قيس سعيد نفسه في علاقة مباشرة مع الشعب ولا يحتاج إلى من يتواصل باسمه. لذلك فهو يتصرف باعتباره بديلًا عن النخب السياسية المتواطئة والمتحالفة فيما بينها؛ إذ إن أعداء الأمس أصبحوا أصدقاء، وهو يريد أن يتميز عنهم بكل الطرق(98).

وتمثِّل تجربة السلطة في الاتصال الحكومي منظورَ العلاقة العمودية في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين، فلا يرى الرئيس قيس سعيد ضرورة للتواصل السياسي مع مكونات المجتمع السياسي والرأي العام عبر وسائل الإعلام، أو القوى الرمزية مُمثَّلة في الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني. كما لا يرى نفسه مطالبًا بتقديم إجابات لأسئلة الصحفيين والرأي العام المحلي حول الشأن العام التونسي. لذلك اختار الاتصال الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي لإبراز أجندته السياسية ومعالجاته للقضايا التي تمس الحياة اليومية للموطنين، وهو ما يكرس طبيعة النظام الشعبوي الذي لا يؤمن بوجود وسائط بين القيادة والشعب الذي يتحدث باسمه، فهو (الرئيس) يمثِّل “الرجل الأمة”.

4.1. السياق القانوني 

تواجه وسائل الإعلام، والصحفيون العاملون في المؤسسات الإعلامية، والمدونون أيضًا، تحديات كبيرة ومختلفة في أداء نشاطهم الصحفي وعملهم الإعلامي المهني. ولعل أكبر هذه التحديات -بحسب الفاعلين المهنيين والحقوقيين والأكاديميين- يتمثَّل في المحاكمات العسكرية التي يتعرض لها أفراد الجسم الصحفي وفقًا لمجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، بدلًا من المرسوم (115) لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.

ويرى صالح عطية -أحد الصحفيين الذين قضت المحكمة العسكرية الدائمة في تونس بحبسه ثلاثة أشهر بعد اتهامه بنشر أخبار كاذبة تمس بالنظام العام وبحياد المؤسسة العسكرية وبكرامة الجيش(99)- أن “المحاكمات العسكرية تؤشر إلى رفض الرئيس قيس سعيد للقضاء المدني؛ لأن لديه مشكلة مع القضاء. لذلك يسعى إلى استعادة المؤسسة العسكرية في المجال السياسي والصحفي من أجل تخويف وإرهاب الصحفيين والإعلام الحر، وكذلك لإرهاب المثقفين والمواطنين الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي. كما يُحاكَم النواب البرلمانيون أمام المحاكم العسكرية”(100). ويمثِّل هذا المنظور اتجاهًا سائدًا في المجتمع الصحفي الذي يعتبر المحاكمات العسكرية أداة من أدوات السلطة لإشاعة الخوف والرعب، حيث لا يتمتع الصحفيون بأي ضمانات لمحاكمات عادلة(101).

ومن بين الصحفيين الذين تمت إحالتهم إلى القضاء العسكري في نهاية العام 2021 كان هناك الإعلامي، عامر عياد، بسبب قراءته قصيدة للشاعر أحمد مطر، كما تمَّ الحكم بسجن المدون، سليم الجبالي، لمدة ثلاثة أشهر من طرف المحكمة الابتدائية العسكرية بسبب نشره تدوينة اعتبرتها مسيئة لرئيس الجمهورية بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة(102).

وتهدف السلطة من خلال المحاكمات العسكرية إلى “خلق نوع من الصمت لدى الصحفيين غير المعنيين بالاعتقال”، وهو ما يُسمِّيه الصحفي لطفي حجي بـ”سيكولوجيا القمع” التي تجعل الصحفيين لا يتناولون تلقائيًّا بعض الموضوعات، مثل رئاسة الجمهورية أو المؤسسة العسكرية، التي تصبح من المحرمات؛ “وذلك ما عشناه في مرحلة ابن علي، وهو ما يُعرف بالرقابة الذاتية، التي تتسع اليوم”(103). وقد باتت هذه الرقابة أكثر حدة، خاصة لأولئك الصحفيين الذين يتعرضون لتهديدات خطيرة تتعلق بسلامتهم الجسدية، لاسيما في المناطق الداخلية التي يكون فيها المحيط الاجتماعي محدودًا وتكون فيها المخاطر أعلى(104). وتُعد الرقابة الذاتية عاملًا مهددًا للعمل الصحفي المهني، ومقوضًا لحرية الصحافة؛ إذ يصبح النشاط الإعلامي شبيهًا بالسير فوق حقل من الألغام؛ لأن الصحفي يحاول أن يتجنَّب القضايا والموضوعات التي تعدها السلطة من المحرمات، كما يخشى من مقصلة العقوبات التي قد تؤدي إلى الزجِّ به في السجن وربما إنهاء مسيرته المهنية ووضع حدٍّ لمصدر رزقه.

وتُعزِّز المنظومة التشريعية أيضًا “سيكولوجية القمع” ليس فقط في المجتمع الصحفي، بل في الحقل السياسي وبين المواطنين والجمهور العام. وفي هذا السياق، “تتجه التشريعات نحو التضييق والتجريم لحق المواطن في التعبير، مثل المرسوم (54) الذي يحدُّ وبشكل كبير من الحرية، فلم يعد الفضاء الرقمي آمنًا للتعبير؛ حيث يجد الصحفيون أنفسهم ضحايا الملاحقات والعقوبات السجنية نتيجة التعبير عن آرائهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي”(105). وقد جمع هذا المرسوم كل التهديدات المترتبة عن أعمال المجلة الجزائية أو مجلة الاتصالات أو غيرها من القوانين التي تضيق على حرية التعبير لتتبع الأفراد بسبب ممارستهم حقهم في التعبير(106). ومن ضمن الملاحقات التي حصلت على خلفية الفصل 24 من المرسوم (54)، الذي جمع أغلب جرائم التعبير الموجودة في القانون التونسي مع التشديد في العقوبة بصورة تتعارض مع مقتضيات الدستور والالتزامات الدولية لتونس، هناك الصحفية، منية العرفاوي، بسبب نقدها لوزير الشؤون الدينية(107)، والصحفي، محمد بوغلاب، بسبب نقده لوزير الشؤون الدينية، والصحفي، نزار بهلول، بسبب نشره لمقال رأي ينتقد فيه رئيسة الحكومة، والمحامي والسياسي، غازي الشواشي، بسبب نقده لوزيرة العدل، والمحامي والسياسي، العياشي الهمامي، بسبب نقده لوزيرة العدل، والطالب، أحمد بهاء الدين حماده، بسبب نشره معلومات حول احتجاجات بأحد الأحياء الشعبية.

ولذلك، اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين المرسوم (54) سيفًا بيد الدولة للقمع والترهيب(108)، وفصلًا جديدًا من فصول التضييق على حرية التعبير التي تعتبر من أبرز مكاسب الثورة، وحذرت من خطره في تهديد حرية الصحافة، وحق النفاذ إلى المعلومة، والحق في احترام الخصوصية وحماية المعطيات الشخصية. وانتقدت النقابة المرسوم الذي يتعارض في نظرها مع كل المعايير الدولية المتصلة بالحق في حرية التعبير؛ إذ من خلاله انضمت تونس للدول المعادية لحرية التعبير تحت غطاء مكافحة الجريمة الإلكترونية.

ويُلاحظ هنا أن المُشَرِّع القانوني يتجاوز من خلال المرسوم (54) ما تكفله الوثيقة الدستورية التي نشأت في سياق حالة الاستثناء؛ إذ يعتبر المُشَرِّع الدستوري الحرية مضمونة، كما في الفصلين 26 و37، “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”(109). وهو ما يبطل دستورية هذا المرسوم الذي يُقيِّد حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم ويجعل من الفاعل التنفيذي رمزًا مقدسًا فوق النقد.

بالموازاة مع سياسة التضييق على حرية التعبير، يُلاحظ الفاعلون المهنيون أن “هناك سياسة أخرى ممنهجة ترتبط باللوائح والمذكرات الإدارية التي تضع عوائق تحول دون الوصول إلى المعلومات في المصالح الحكومية؛ حيث تحجب تلك المعلومات من قِبَل الجهات الرسمية، إضافة إلى سياسة التمييز إزاء وسائل الإعلام من طرف الحكومة ورئاسة الجمهورية، خاصة فيما يتعلق بالتغطية الإعلامية داخل قصر قرطاج”(110). فقد كان الإعلام قبل 25 يوليو/تموز 2021 منفتحًا على جميع الأحزاب والتيارات السياسية. لكن بعد ذلك أصدرت الحكومة المنشور رقم (19) في ديسمبر/كانون الأول 2021، الذي منعت بموجبه النفاذ إلى المعلومة في المصالح والإدارات الحكومية(111). وأصبحت هناك صعوبة في الوصول إلى المعلومة بعد 25 يوليو/تموز 2021، بل ثمة تعتيم تام وتزامنَ ذلك مع تفكيك بعض المؤسسات والهيئات، مثل هيئة مكافحة الفساد والمجلس الأعلى للقضاء، وبات الاتصال الحكومي يقتصر على فيديو تنشره رئاسة الجمهورية عبر صفحتها على فيسبوك، ولا يستطيع الصحفي أن يسأل رئيس الجمهورية ولا أن يحاوره ولا أن يحضر ندوة صحفية ينظمها(112).

وقد لاحظ بعض المنظمات والهيئات، مثل البوصلة التي تقوم بنشاط رقابي في المجال السياسي والحقوقي، أن تونس دفنت مكسب النفاذ إلى المعلومة في سياق الإجراءات الاستثنائية “وتعيش مزيدًا من التضييق والحجب على المعلومات، وانتهاك حق المواطنين والمجتمع المدني والسياسي في النفاذ إلى المعلومة في سياق انعزالي غيَّب فيه رئيس الجمهورية كل مبادئ الشفافية والتشاركية”(113). وتتناقض هذه السياسة حتى مع مبادئ الدستور الذي أشرف الرئيس قيس سعيد على هندسته(114)، والذي ينص في الفصل 38 على أن “الدولة تضمن الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة”، وهو ما يجعل اللوائح والمنشورات الإدارية التي تُصدِرها المصالح الحكومية لتقييد النفاذ إلى المعلومة غير دستورية، بل تمثِّل انتهاكًا للدستور.

وقد أنتجت هذه السياقات المختلفة، والتي تعكس السلوك السياسي للسلطة ومنظورها للتعامل مع الإعلام، “مناخًا معاديًّا لحرية الصحافة، وتحوَّلت البيئة الإعلامية شيئًا فشيئًا إلى مناخ يعوق العمل الصحفي”(115). وبحسب رأي عدد من الصحفيين والحقوقيين، فإن “البيئة المعادية لحرية الصحافة”، التي كانت موجودة قبل 25 يوليو/تموز 2021 مع الأحزاب السياسية التي حكمت تونس خلال الأعوام العشرة الماضية، خاصة حركة النهضة التي كانت سبَّاقة في استعمال الميليشيات الإلكترونية واستعمال صفحات من أجل التشويه والتخويف، تعززت اليوم في ظل الشعبوية مع الرئيس قيس سعيد(116). وهذا ما يُفسر تراجع تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة بعد إقرار الإجراءات الاستثنائية؛ إذ تُبيِّن معطيات التصنيف العالمي لحرية الصحافة -كما هي الحال في المؤشر السنوي لـ”مراسلون بلا حدود”- تذبذبًا ملحوظًا في الترتيب بين عامي 2021 و2022؛ فقد تراجع تصنيف تونس بمعدل 21 نقطة. وتضاعف هذا التراجع بمعدل 48 درجة بين عامي 2021 و2023، (انظر الجدول رقم 1). كما انتقلت تونس من حالة “حرة” إلى حالة “حرة جزئيًّا”.

جدول (1): ترتيب تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة وفقًا لمؤشر “مراسلون بلا حدود” و”فريدوم هاوس” (2011-2023)

السنة

مراسلون بلا حدود

فريدوم هاوس

التصنيف

المجموع النهائي*

حالة الحرية

مجموع المتغيرات

2010

164

72.5

ليست حرة

23

2011

134

60.25

ليست حرة

23

2012

134

60.25

حرة جزئيًّا

58

2013

138

60.07

حرة جزئيًّا

59

2014

133

61.31

حرة جزئيًّا

63

2015

126

61.32

حرة

79

2016

96

68.4

حرة

79

2017

97

67.78

حرة

78

2018

97

69.09

حرة

70

2019

72

70.39

حرة

69

2020

72

70.55

حرة

70

2021

73

70.47

حرة

71

2022

94

58.49

حرة جزئيًّا

64

2023

121

50.11

حرة جزئيًّا

56

المصدر:جدول تجميعي أعده الباحث استنادًا لتقارير “مراسلون بلا حدود”(https://rsf.org/en/index)،و”فريدوم هاوس” (https://freedomhouse.org/).

ويُبيِّن الشكل رقم (4) صعوبة التحوُّل باتجاه توسيع مجال حرية الصحافة وحرية الإعلام في المشهد الإعلامي التونسي، خلال الأعوام الخمسة الأولى من تجربة الانتقال الديمقراطي (2011-2015) على الرغم من أهمية المرسوم (115)، الذي يضمن “الحق في حرية التعبير وحرية تداول ونشر وتلقي الأخبار والآراء والأفكار مهما كان نوعها”، والمرسوم (116) الذي “يدعم حرية التعبير وحمايتها”، لكن تطوَّرَ مجال حرية الصحافة واتسع نطاق حرية الرأي والتعبير، خلال العامين 2019 و2020، ثم تراجع مستواهما في ظل حالة الاستثناء.

شكل (4): سيرورة حرية الصحافة في تونس (2011-2023)

 

4
المصدر: إعداد الباحث استنادًا لتقارير منظمة “مراسلون بلا حدود”.

 

4.2. سياق السلامة والأمن

شكَّلت حالة الاستثناء، بعد 25 يوليو/تموز 2021، عاملًا أساسيًّا في تواتر حالات الاعتداء الجسدي الذي استهدف الصحفيين -بحسب معظم المبحوثين- حيث ارتفع عدد الاعتداءات، خلال شهر يوليو/تموز 2022، والذي بلغ 50 حالة، وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، بلغ عدد الحالات 38. كما شهدت هذه الفترة حالات عنف شديد من قِبَل الأمن ضد الصحفيين والمواطنين خلال المسيرات والاحتجاجات(117). ويُبيِّن تقرير للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أن حالات الاعتداءات التي استهدفت الصحفيين والمصورين، بين 1 مايو/أيار 2022 و30 أبريل/نيسان 2023، بلغت 257 اعتداء. واعتبر التقرير أن “سنة 2022-2023 تمثِّل السنة الأقسى على الصحفيين والمصورين، رغم التأكيد المتواصل لكل المسؤولين في الدولة على احترامهم لحرية الإعلام وحقوق الصحفيين؛ إذ ظلت تلك الوعود مجرد شعارات للدعاية السياسية”(118).

ولاحظ بعض المبحوثين، مثل الصحفية بوكريم، أن الاعتداء على الصحافة أو ما تُسمِّيه “الاعتداءات البوليسية” ضد الصحفيين تحصل فقط عندما يغطي هؤلاء الصحفيون المظاهرات ضد الانقلاب، أو أنشطة حركة النهضة، أو حزب العمال؛ حيث يقوم الأمن بتفريق الصحفيين ويعتدي على الصحافة(119). ويرى بعض الصحفيين، مثل لطفي حجي، أن الاعتداءات الميدانية التي يتعرض لها الصحفيون تُعد مؤشرًا على أن السلطة فسحت في المجال أو أعطت اليد الطولى للأمنيين ليتصرفوا تجاه الصحفيين، غير أن وزارة الداخلية تتواصل مع النقابة الوطنية للصحفيين وتخبرها أن الاعتداءات فردية ولا تمثِّل حالة عامة، وقد يكون هناك اعتذار شفهي لكن لا تتم ملاحقة الجناة(120).

لذلك يعتبر الصحفي، صالح عطية، هذه الاعتداءات التي لا يُحاسَب عليها الأمنيون “سياسة ممنهجة”، بل أصبحت “السلطة الصلبة” تثأر لنفسها من مرحلة الثورة، فهناك نوع من الارتداد من قِبَل المؤسسة الأمنية لاستعادة موقعها، وللثأر ممن يسمَّوْن: الثوار، ومن الخطاب السياسي الذي يُجرِّم المؤسسة الأمنية وبعض ممارساتها وأفعالها. كما أن الاعتداءات على الصحفيين جزء من هذا الثأر(121).

وتُبيِّن هذه السياسة الطبيعة الأمنية للنموذج الذهني للسلطة في التعامل مع الإعلام والصحفيين، وأيضًا مقاربتها وتصوراتها لأي مجال أو نشاط اجتماعي وسياسي، لاسيما إذا كان معارضًا أو مخالفًا لسياسة السلطة؛ إذ تراه تهديدًا للأمن الوطني وخطرًا على كيان الدولة يتطلب إجراءات استثنائية قد تنتهك الحقوق الدستورية والقانونية. وذلك ما يجعل العمل الصحفي المهني، والتغطية الإعلامية للأحداث الجارية وقضايا الشأن العام، مشكلة أمنية تهدد كيان المجتمع والسلطة. ويحيل هذا المنظور الأمني للقضايا على مفهوم الأَمْنَنَة، كما صاغه الأكاديمي المتخصص في الدراسات الأمنية، باري بوزان (Barry Buzan)، والذي يُؤطِّر التعامل مع القضايا والمشاكل باعتبارها نوعًا خاصًّا من السياسة أو فوق العملية السياسة المعتادة، ما يُحوِّلها إلى قضايا أمنية تتطلب إجراءات استثنائية(122). وبذلك يصبح النشاط الصحفي، وتغطية المظاهرات المناهضة لنظام الرئيس قيس سعيد أو الاحتجاجات القطاعية، تهديدًا أمنيًّا للمجتمع وكيان الدولة. وهذا ما يفسر “السياسة الأمنية الممنهجة” للسلطة في التضييق على نشاط وحركة الصحفيين وحرية الصحافة أيضًا، ويشير إلى البنية الفكرية الأمنية التي تؤسس لتجربة الحكم في سياق حالة الاستثناء. وهو بعد سياقي آخر لفهم تمثُّلات السلطة للإعلام.

4.3. السياق الاجتماعي والثقافي

خلقت السياسة التي انتهجتها السلطة في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين بيئة اجتماعية معادية للعمل الصحفي والصحفيين الذين يتعرضون لحملات التشويه عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي شكَّلت فضاء واسعًا للتهديدات والتحريض والتشهير والتخوين -بحسب خولة شبح، منسقة وحدة رصد الانتهاكات بمركز السلامة المهنية بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين- وكان الباعث على هذه الحملات سياسيًّا؛ إذ يدفع هؤلاء الصحفيون ثمنًا باهظًا بسبب آرائهم ومواقفهم. وتقوم هذه الحملات على النوع الاجتماعي كما حصل للصحفية، زينة زيدي، والصحفية، وصال الكسرواي. إذ استهدفت الصحفيتان عبر فيديوهات مركبة تُشوه مسيرتهن المهنية عبر اتهامهن بالعمل لجهات في السلطة أو لفائدة جهات أجنبية. فقد كانت هناك صفحات معينة عبر منصة فيسبوك موالية للرئيس قيس سعيد، وأخرى معارضة له، تستهدف الصحفيين، بالإضافة إلى تهديدات بالعنف، وأحيانًا بالقتل، التي كان يتلقاها هؤلاء الصحفيون عبر رسائل خاصة كما حصل للصحفي، وليد عبد الله(123).

وتعتمد هذه الحملات على صفحات مُمَوَّلَة من خارج تونس -كما لاحظ الصحفي لطفي حجي- خاصة من قِبَل الأطراف والدول التي ساندت إجراءات 25 يوليو/تموز 2021، فضلًا عن الحملات التي تُشَنُّ عبر روبوتات الذكاء الاصطناعي وتُروِّج لرسائل متشابهة المحتوى ردًّا على انتقاد الرئيس قيس سعيد، أو مواجهة المواقف التي تعتبر الإجراءات الاستثنائية انقلابًا. وتُخوِّن هذه الرسائل المخالفين للرئيس وتتهجم عليهم، وتمس الأعراض بشكل لا أخلاقي وغير مسبوق ويشمل ذلك الرجال والنساء(124). ففي الليلة الأولى لإجراءات 25 يوليو/تموز كانت هناك إحصائية لحوالي 800 ألف تدوينة على موقع “إكس” (تويتر سابقًا) تُشوِّه الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسيين، فكان ضمنها 200 ألف تدوينة من داخل تونس، و600 ألف تدوينة من خارج البلاد(125).

شكَّلت هذه الصفحات ما يُسمِّيه لطفي حجي بـ”الحشد الشعبي الفيسبوكي” الذي يتكوَّن من التنسيقيات التي تدعم مشروع الرئيس قيس سعيد، وقد رفعت سقف الشتم والتهجم والتهديد لأمن وسلامة الأفراد والصحفيين والسياسيين. وقد خلقت أجواء من الخوف وكانت تدفع بالبلاد نحو مسارات غير آمنة(126).

وترى الصحفية، خولة بوكريم، أن التحريض ضد الصحفيين كان ممنهجًا وليس معزولًا عما تعرضت له مؤسسات أخرى، مثل البرلمان والقضاء ثم الإعلام(127). ويُعد هذا التحريض محصلة لما أسماه الصحفي صالح عطية بـ”ترذيل الصحفيين”، وتعرضهم للتهديد والقمع وتقديمهم بوصفهم مجرمين يرتبطون بلوبيات ومصالح مالية. وتتحمل السلطة مسؤولية هذا الوضع؛ إذ يُغذِّي الرئيس قيس سعيد الحملات التحريضية التي يتعرض لها الصحفيون عبر خطابه الذي يتضمن الكثير من الكراهية وتقسيم المجتمع التونسي بين “نحن وهم، وأنتم ونحن، وأنا وأنتم”، فهذا المعجم اللغوي غير الطبيعي والذي ينتمي لمنظومة التقسيم كرَّس الكراهية(128).

وكانت هذه الحملات تهدف إلى تكميم الأفواه وتشويه الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسيين(129)، وإشاعة مناخ من الترهيب والتخويف حتى لا يُعبِّر الصحفيون عن آرائهم، ويفرضون الرقابة الذاتية على أنفسهم خلال ممارسة عملهم المهني(130). ولا يخلو هذا البعد، الذي يمثل سياقًا اجتماعيًّا مؤثرًا في المشهد الإعلامي، من أخطار تهدد ليس فقط المجتمع الصحفي، وإنما تماسك النسيج الاجتماعي.

خلاصة

تُبيِّن دراسة حالة الإعلام الحكومي، لاسيما القناة الوطنية الأولى، وموقعه في سياق حالة الاستثناء ونظام الحكم الناشئ عنها (الشعبوية السلطوية)، أن الإعلام جزء من الحالة السياسية التي حوَّلته عبر القوة الصلبة (الجيش) إلى أداة من أدوات السلطة الرمزية وجهاز من أجهزتها الأيديولوجية، لا يختلف دوره عن باقي المؤسسات الأخرى التعليمية والثقافية والاجتماعية. ولأن السلطة تعتمد منظورًا تقليديًّا في التعامل مع الإعلام -باعتباره وسيلة للفاعل التنفيذي يتحكَّم فيها كما يتحكَّم في المؤسسة التشريعية والسلطة التنفيذية والقضائية- فهي لا ترى موقعه خارج مجال السلطة، ولا يشكِّل حقلًا مستقلًّا عنها يتميز برأسماله الخاص الذي يجعله مرفقًا إعلاميًّا عموميًّا لخدمة الصالح العام من خلال وظيفته الإخبارية وروايته للثقافة السياسية والخطاب العام والمساهمة في تشكيل الهوية الوطنية. لذلك، يقوم هذا الإعلام بتشكيل صورة المُخَلِّص للفاعل التنفيذي والترويج له بين الجمهور، ومن ثم يأخذ شكل ولون البنيات السياسية والاجتماعية التي يعمل من خلالها، فيصبح إعلامًا مواليًّا للسلطة مُمَثِّلًا لنموذج إعلام الموالاة. وهو ما يجعل حالة التليفزيون العمومي أشبه بما كان عليه الوضع في قناة “7 نوفمبر” في عهد نظام زين العابدين بن علي؛ فلا يُفسَح فيه المجال للرأي المعارض والمخالف، كما تُمنَع الأحزاب السياسية المعارضة والهيئات الحقوقية من ولوج التلفزة الوطنية والتعبير عن آرائها في قضايا الشأن العام، والتواصل مع الجمهور والرأي العام.

وتكشف الدراسة إستراتيجيات مختلفة لتكريس هيمنة السلطة على الإعلام العمومي، والمشهد الإعلامي عمومًا، من خلال التعيينات وتسمية شخصيات موالية لها على رأس التلفزة والإذاعة ووكالة تونس إفريقيا للأنباء، بل تنتمي هذه الشخصيات لمرحلة 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، والتي تُذكِّر بالعهد القديم والدولة العميقة. وتوظف السلطة أيضًا القضاء العسكري لمحاكمة الصحفيين الذين يخالفونها الرأي وليس القضاء العادي (الطبيعي) للسيطرة على المشهد الإعلامي والسياسي، ويشمل ذلك فئات مختلفة مثل السياسيين والمحامين ورجال الأعمال والمدونين… إلخ، الذين يواجهون أيضًا محاكمات عسكرية. ولتكريس هذه الهيمنة تستخدم السلطة التشريع القانوني، لاسيما المرسوم (54)، وسيلة أخرى للضبط الإعلامي والسياسي والاجتماعي، فضلًا عن المذكرات والمنشورات الإدارية التي تصدرها المؤسسات والأجهزة الحكومية وتمنع الصحفيين والأفراد والهيئات من النفاذ إلى المعلومات. ويمثِّل هذا التشريع القانوني والمنشورات الإدارية مخالفة صريحة لمبادئ الدستور الذي يضمن حرية الرأي والتعبير وحرية النفاذ إلى المعلومة.

وتُبيِّن نتائج الدراسة أن هذه السياسات انعكست سلبًا على حرية الصحافة، وخلقت بيئة معادية للعمل الصحفي المهني؛ ما جعل تونس تتراجع في التصنيف العالمي لحرية الصحافة مثلما يُظهر مؤشر منظمتي “مراسلون بلا حدود و”هيومن رايتس ووتش”. فقد تصاعدت الاعتداءات الأمنية الميدانية على الصحفيين خلال تغطية المظاهرات المعارضة للرئيس قيس سعيد أو احتجاجات أحزاب المعارضة. وتُبرِز هذه السياسة الطبيعة الأمنية للنموذج الذهني للسلطة في التعامل مع الإعلام والصحفيين، وأيضًا مقاربتها وتصوراتها لأي مجال أو نشاط اجتماعي وسياسي، لاسيما إذا كان معارضًا أو مخالفًا لسياسة السلطة؛ إذ تراه تهديدًا للأمن الوطني وخطرًا على كيان الدولة يتطلب إجراءات استثنائية قد تنتهك الحقوق الدستورية والقانونية. وهذا ما يجعل العمل الصحفي مشكلة أمنية تتعامل معه السلطة بإجراءات استثنائية، وهو ما يحول دون قيام الإعلام بدوره ووظيفته في الإخبار وإشباع احتياجات الجمهور السياسية والمعرفية والثقافية.

نشرت هذه الدراسة في العدد الثالث من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5853

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M