حدود التأثير والتأثر: الأكراد في إقليم الشرق الأوسط

ألقت الأحداث الأخيرة في الإقليم بظلالها على المشهد الكردي مجددًا خاصة بعد مقتل الفتاة الإيرانية ذات الأصول الكردية “مهسا أميني”، وتوجيه ضربات من قبل إيران للأكراد في شمال العراق، وقصف تركيا كذلك بين حين وآخر لهم، ولكونهم رقمًا هامًا في تفاعلات القوى الإقليمية والدولية في الدول التي تضم مكونات كردية، وطرفًا يؤثر ويتأثر بمجريات الأحداث والتطورات في الإقليم. إذ إنهم أداة في يد القوى الإقليمية والدولية تؤثر بشكل أو بآخر داخل المنطقة وقضاياها، واتضح ذلك في تأثيرهم داخل الأزمة السياسية العراقية الممتدة منذ انتخابات أكتوبر 2021، فضلًا عن علاقتهم المتشابكة والمتداخلة مع الأكراد في بعض دول الإقليم، الأمر الذي يثير مخاوف هذه الدول بين حين وآخر. وربما يتم توظيفهم الفترة القادمة من قبل أردوغان للفوز في الانتخابات الرئاسية التركية 2023. ضمن هذا السياق، تتناول هذه الدراسة الحضور الكردي في الإقليم، وتفاعلاتهم مع أقرانهم في دول الجوار، وعلاقاتهم بالقوى الإقليمية والدولية.

الحضور الكردي في الإقليم

يعد الأكراد أحد السكان الأصليين لسهول بلاد ما بين النهرين، والمرتفعات بجنوب شرق تركيا وشمال شرق سوريا، وشمال العراق، وشمال غرب إيران، وجنوب غرب أرمينيا. يشتركون في العرق والثقافة واللغة، لكن ينتموا إلى مذاهب وأديان مختلفة. ويشكلون حوالي 20% من سكان العراق وتركيا، و10 % من إيران وسوريا، ويقدر عددهم في تركيا بنحو 16 مليونًا، و7 ملايين في العراق، و8 ملايين في إيران و2 مليون في سوريا.

يتواجدون بالعراق في محافظات (دهوك، أربيل، السليمانية، بغداد، كركوك، نينوى، ديالى). ويتركزون في إيران بالركن الشمالي الغربي في محافظات (كردستان، إيلام، كرمانشاه، أذربيجان الغربية على طول الحدود بين إيران والعراق وتركيا)، وتوجد مجموعة في شمال شرق إيران في منطقة خراسان التاريخية. وفي سوريا يتركز الأكراد في المناطق الشمالية الشرقية والغربية (منبج، كوباني، عفرين، القامشلي، وفي دمشق).

وفيما يتعلق بمناطق تواجدهم في تركيا، فإنهم يتركزون في المناطق الجنوبية الشرقية منها (أديامان، أغرى، باتمان، بينجول، بدليس، ديار بكر، هكاري، ماردين، موش، سيرت، شرناق، شانلي أورفا، تونجلي وفان). ويوجد البعض منهم في (إيلازيغ، أرضروم، غازي عنتاب، كهرمان مرعش، ملاتيا). كما أن هناك عددًا من الأكراد وسط الأناضول في (سيفاس، قيصري، قونية، قرشهير، أنقرة). وبعد عمليات تهجير قسري لـ4 ملايين كردي في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، يعيش عدد كبير منهم في غرب تركيا (إسطنبول، إزمير، مرسين، أضنة، بورصة، كوجالي).

فيما يتعلق بالوزن السياسي للأكراد، فعلى مدار السنوات الماضية مثّل الملف الكردي تهديدًا للدول التي تقيم بها، ومنذ أواخر الخمسينيات قاد الحزب الديمقراطي الكردستاني المقاومة الكردية في العراق، وتأسس كحزب سياسي في 1946 بقيادة مصطفى البارزاني، وكان للثورة الكردية العراقية تشعبات كبيرة في جميع أنحاء المنطقة بما أثر على السياسة الكردية، وأضعف الطابع المحافظ للقومية الكردية المتمثلة في قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البارزاني، وأسفر عن ذلك إنشاء الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني في دمشق عام 1975، وهو ما قاد إلى صراع طوال السبعينيات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، زاد من تفتيت الحركة الكردية العراقية.

في منتصف التسعينيات بدأ حزب العمال الكردستاني في الابتعاد عن فكرة دولة كردية مستقلة في الشرق الأوسط، ووضع إطار لمطالبه السياسية حول استيعاب الحقوق الكردية داخل هذه الدول. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تم تطوير فكرة الحكم الذاتي الديمقراطي كإطار عمل إداري لاستيعاب الحقوق الكردية داخل حدود الدولة القائمة من خلال اللا مركزية وتطوير الحكومات الذاتية الكردية. وبدأ توطيد الحكم الذاتي الكردي في العراق في 2005.

أما في سوريا، فقد تأسس الحزب السياسي الكردي الأول في 1957، وبدأ الحديث عن إنشاء منطقة حكم ذاتي للأكراد في سوريا في 2012. ودعم أكراد العراق آنذاك إخوانهم في سوريا وسعوا لإنجاح تجربتهم الانتخابية عبر مراقبة الانتخابات بوفد من برلمان إقليم كردستان العراق ضم ممثلين عن الكتل الرئيسية: الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، والتغيير، وحزب الشعوب الديمقراطي التركي.

أسس عبد الله أوجلان “حزب العمال الكردستاني” في تركيا في 1978 كقوة سياسية كردية، ودعا إلى إقامة دولة كردية مستقلة داخل تركيا مما أدى إلى صراع طويل قتل فيه أكثر من 40 ألف شخص وتشريد الآلاف، ولم يتحقق حلم إقامة الدولة، وكانت معاهدة لوزان بينت حدود تركيا، ولم تنص على إقامة دولة كردية. وظل الأكراد أقلية وكانت أي محاولات للاستقلال تواجه بالقمع، لذلك انتقل البعض منهم إلى سوريا ولبنان منذ 1979.

لحزب العمال الكردستاني التركي علاقات وطيدة مع الأكراد في سوريا، الذين شكلوا نحو ثلث قوات الحزب واتخذت من جبال قنديل في شمال العراق ملاذًا لها. يتبنى حزب العمال أيديولوجيا “البلدية التحررية” اعتناقًا لأفكار المنظر الأمريكي موراي بوكتشين (حيث يعيش الأفراد على نطاق أصغر، وينتجون طعامهم محليًا، ويستخدمون الطاقة المتجددة، ويديرون شئونهم الخاصة عبر اللامركزية) ويعد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي أنشئ في 2003 الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.

فيما يتعلق بالحضور العسكري للأكراد داخل سوريا، تتواجد قوات سوريا الديمقراطية وهو تحالف متعدد الأعراق والديانات يهيمن عليه الأكراد من وحدات حماية الشعب، واستطاعت في ديسمبر 2017 تحرير مناطق الضفة الشرقية لنهر الفرات من داعش وذلك عبر دعم أمريكي، بالإضافة إلى عفرين شمال حلب ومساحات شاسعة مما يطلق عليه سوريا المفيدة الاقتصادية، والتي تضم آبار النفط والغاز، ومصادر المياه وثلاثة سدود، ليصبح ما يسيطر عليه الأكراد 23 بالمائة أو نحو ربع مساحة سوريا.

بالنسبة لإيران، كانت الحركة الكردية نشطة للغاية وبعد إزاحة نظام الشاه حشد الأكراد حول مطلب الحكم الذاتي الإقليمي، ثم تعرضوا لتهديد من النظام الذي سيطر على الحكم بعد الثورة الإيرانية، لذلك استمرت المقاومة الكردية ضد النظام هناك. وطوال القرن العشرين كانت جبال زاغروس عند تقاطع العراق وإيران وتركيا ملاذًا للحركات الكردية تشن هجمات ضد هذه الدول. وكانت “منظمة خبات” القومية الكردية في إيران ترفع شعار الحكم الذاتي لأكراد إيران، وحق تقرير المصير، واستخدام اللغة الكردية كلغة رسمية في مناطق وجودهم وعدم استخدام الدين في التمييز في المعاملة بين الإيرانيين.

ومن الأحزاب الكردية هناك حزب “بيجاك أو الحياة الحرة” وله قوة عسكرية فاعلة منذ 2004 وهو متقارب فكريًا مع حزب العمال الكردستاني المعارض لتركيا. وينشط في مناطق حدودية عراقية مجاورة لإيران وتركيا)، وتعد مناطق جبال وقرى جومان، وسيدكان، وسوران، وسيد صادق، وخليفان، وبالكايتي وقنديل وكويسنجق وحلبجة ورانيا العراقية ضمن إقليم كردستان شمالي أربيل وشرقي السليمانية، وعلى شريط حدودي طوله أكثر من 110 كيلومترات بين إيران والعراق).

يشترك أكراد العراق وإيران بروابط اجتماعية، لتحدرهم من الأغلبية السورانية (نسبة لإمارة سوران) التي يختلف المؤرخين على فترة تشكيلها، لكنهم يتفقون على أن العثمانيين أنهوا وجودها في المرة الأولى في عام 1514، ثم ثانية بعد إحيائها مجددًا بين عامي 1816 و1836، وكانت قائمة جغرافيًا في معظم مناطق كردستان العراق وبعض المناطق المجاورة في إيران وتركيا). في المقابل، يُعتبر أكراد تركيا وسوريا من “الكرمانجية” (التي تعني اللهجة الكردية الشمالية).

تتمثل فكرة الدولة الكردية في “أن تقوم دولة كردية أو تمتد على جميع الأراضي المأهولة بالسكان الأكراد في الشرق الأوسط”، وتم طرحها من قبل “خويبون” (Xoybun) خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهي منظمة قومية كردية تأسست في لبنان عام 1927 من قبل مفكرين قوميين أكراد، تم نفيهم من تركيا إلى سوريا ولبنان بعد إنشاء الجمهورية التركية.

الأكراد وتفاعلات القوى في الإقليم

على مدار القرن العشرين قاومت الحركات الكردية في العراق وإيران وتركيا وسوريا الدول ومحاولاتها للسيطرة على الأراضي التي يسكنها الأكراد ومثلوا تهديدًا لهذه الدول، لكن أضحت الورقة الكردية ورقة توظفها القوى الإقليمية والدولية لخدمة أهدافها.

• إيران والأكراد: وجهت إيران في 28 سبتمبر 2022 هجمات صاروخية على أربيل، نتج عنها مقتل نحو 13 فرد وإصابة العشرات، يرجع هذا الاستهداف إلى عدة اعتبارات منها، أهمية الإقليم في الاستراتيجية الإيرانية بالمنطقة. حيث وجهت هذه الضربات للجماعات الكردية اليسارية الإيرانية (حزب كومالا الكردستاني الإيراني وتأسس عام 1967، والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني “حدكا”، الحزب الديمقراطي الكردستاني وكان منشق عن حدكا، وحزب الحرية الكردستاني).

لهذه الأحزاب مقرات على بعد أقل من 10 أميال من مدينة السليمانية العراقية، وتصنفها إيران بأنها إرهابية. حيث توجه الهجمات الإيرانية للأكراد في شمال العراق بين حين وآخر، بما يمثل الاستراتيجية الإيرانية في التعاطي مع الإقليم منذ 2017، نتيجة منح الأكراد في العراق آنذاك الاستقلال الذاتي، بما يعد تهديدًا لنفوذها في العراق، إذ مثل استقلال الإقليم تحديًا لإيران على مستوى إدارة المناطق الحدودية التي تربط إيران بحدود مع الإقليم بحوالي 400 كم، بما قد يرتب تداعيات جوهرية على وضع الأكراد داخلها، في ظل إحياء النزعة القومية للأكراد في باقي دول المنطقة (إيران- تركيا- سوريا).

عادةً ما تستهدف الهجمات الإيرانية على الإقليم، المناطق الحدودية المجاورة لإيران “جومان وسيدكان”، التي توجد فيها الأحزاب الكردية المعارضة لطهران. لذلك تهدف إيران تطويق الإقليم ومحاصرته، بما يضمن تحجيم خطر الأكراد الذي يؤثر على مصالحها في العراق. وجاء الاستهداف الأخير للأكراد باعتبارهم جزءًا في تأجيج الاحتجاجات داخلها المستمرة منذ 17 سبتمبر الماضي، ولمساهمة الأحزاب الكردية في تهريب أسلحة إلى المدن الحدودية الإيرانية، لإثارة الشغب وإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية. كما تتهم إيران سلطات إقليم كردستان العراق بإيواء عناصر منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة، والتي تقوم بالتنسيق مع القوى المناهضة لإيران من أجل تهديد مصالح الأخيرة وتحجيم نفوذها.

على إثر هذا التشابك في العلاقات بين إيران والأكراد، تظاهر عشرات الإيرانيين والأكراد في إقليم كردستان، العراق تنديدًا بمقتل “مهسا أميني” على يد السلطات الإيرانية، واعتراضًا على سياسات النظام، وانتهاكه للحريات وانتهاج القتل والترويع ضد الشعب، مطالبين المؤسسات الدولية بالتدخل لوقف مثل هذه الانتهاكات، رافعين شعارات “الموت لخامنئي” “الحرية للمرأة”.

وقد أعلن كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني -اللذان يتخذان من إقليم كردستان العراق مقرًا لهما- اندماجهما بمسمى جديد هو “الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وجاء في بيان صادر عن الحزب ” أن هذا الإعلان يعبر عن رحلة جديدة في نضال ضد نظام جمهورية إيران، وضد أية عقلية وسطية، تنكر التعددية القومية الإيرانية والحقوق الوطنية للمجتمعات المختلفة”. لذلك تعد هذه المتغيرات الكردية أحد الدوافع وراء الضربات الإيرانية الأخيرة لهم.

يضاف إلى ذلك، التخوفات الإيرانية من علاقة إقليم كردستان بإسرائيل، ولكون الموساد الإسرائيلي فاعلًا نشطًا هناك، خاصة أن هناك بعض الأنباء المتداولة عن ست طائرات مسيرة إسرائيلية انطلقت في فبراير الماضي من إقليم كردستان العراق واستهدفت معسكرًا في منطقة كرمانشاه الإيرانية.

كما تشير بعض التقديرات إلى أن الهجمات الأخيرة على الإقليم، نتيجة الحديث عن مفاوضات كردية-أوروبية برعاية إسرائيلية، لتصدير غاز الإقليم إلى أوروبا عبر تركيا، خاصة أنه يمتلك احتياطات كبيرة من الغاز تقدر بنحو 25 تريليون قدم مكعب. وقد سبق وأن استهدفت إيران قصر رجل الأعمال “باز رئوف البرزنجي” ومصافي شركته “كار”، وهي الشركة الراعية لهذه المفاوضات، نظرًا لأن هذا الاتفاق يعزز من قدرات العراق والتي تعتمد بشكل رئيسي على الغاز الإيراني لتشغيل المحطات الكهربائية، وهو ما يمثل تهديدًا لمصالح إيران الاقتصادية.

من ناحية أخرى، تنظر إيران إلى خطورة تماهي سلطات كردستان العراق مع القوى السياسية المناوئة لاتجاهات طهران خاصة التيار الصدري، لذلك عملت من خلال القوى الموالية لها على عرقلة تشكيل حكومة أغلبية وطنية، والدفع بحكومة توافقية ترأسها شخصية موالية للتوجهات الإيرانية. وقد مارست ضغوطًا كثيرة على مدار الأشهر الماضية على الأكراد من أجل تبني توجهات تتفق والرؤية الإيرانية. لذلك اتبعت قوى الإطار التنسيقي المقربة من طهران مناورات سياسية منذ انتخابات أكتوبر 2021، وعرقلوا المشهد السياسي عبر آلية الثلث المعطل، بما عطل جلسة اختيار رئيس الجمهورية لعدة مرات، وعرقلة تشكيل الحكومة. وسبق ذلك توجيه ضربات لمقرات القوى الموالية لتحالف الصدر آنذاك، حتى تفكك هذا التحالف وانسحب أعضاء الكتلة الصدرية من البرلمان العراقي في أغسطس 2022، واتجه تحالف السيادة والأكراد إلى قوى الإطار، وبدأ الإعلان عن تحالف إدارة الدولة، ثم تم اختيار عبد اللطيف رشيد رئيسًا للجمهورية العراقية في 13 أكتوبر الجاري وهو مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني، ثم تم تكليف محمد شياع السوداني برئاسة الحكومة في العراق.

• الأكراد والتفاعلات في سوريا: انجذب الأكراد لبعض القوى في محاولة لتأمين بقائهم خاصة الأكراد في سوريا وعلاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية. بدأ التعاون بين القوات الكردية في سوريا والولايات المتحدة في مواجهة داعش في 2014. وقدمت دعم لهم من خلال التدريب والأسلحة، لمنع سيطرة داعش على مدينة منبج السورية. وكان هذا الدعم عاملًا هامًا لسيطرة الأكراد في سوريا، وكانت تركيا تعارض هذا التعاون الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبرها قوات إرهابية.

على نحو آخر، توافقت روسيا والولايات المتحدة على أهمية الأكراد في المعادلة السورية. وكما قدمت الولايات المتحدة لهم السلاح والتدريب، حرصت روسيا على إعطائهم دورًا مركزيًا في مسودة دستور لسورية تحمل بموجبه اسم “الجمهورية السورية” وليس “الجمهورية العربية السورية”. ورأت موسكو وواشنطن في الأكراد ورقة يمكن توظيفها في القضية السورية. فبالنسبة للأولى اعتبرتها حليفًا علمانيًا يمكن الاعتماد عليه في قتال تنظيم الدولة، وبالنسبة الثانية اعتبرتها ورقة ضغط سواء لاحتواء وتطويق تركيا أو ضد نظام الرئيس بشار الأسد حليفها يمكن اللجوء إليها عند الحاجة. كما تسعى روسيا إلى إظهار أكراد سورية كبديل للمعارضة السورية، بديل علماني على استعداد للتفاوض والتعاون مع العالم الأوسع ضد تنظيم الدولة وغيره من المتطرفين. وإذا ما تم ذلك فسيساعد على نزع الشرعية – ليس عن الجماعات المعارضة السنية فقط ولكن عن قوى المعارضة المعتدلة داخل الجيش السوري الحر المتحالفة ضد الرئيس بشار الأسد.

من ناحية أخرى، وظّفت كل من تركيا وإيران الأكراد في سوريا، ونجحا في التوصل إلى نقطة لتلاقي المصالح وصيغة للتفاهم تحديدًا وقت استفتاء كردستان العراق والتخوف من مخاطر قيام دولة كردية مستقلة على حدودهما، كما ألقى هذا الاستفتاء على وضع الأكراد في سوريا وطموحاتهم في حكم ذاتي في “روج آفا” السورية.

فقد وجه حزب الحياة الحرة الكردستاني هجمات ضد إيران في 2004، من قواعد تمركز حزب العمال بجبال شمال العراق، وقد قاد ذلك إلى انضمام إيران، إلى اتفاق أضنة الموقع بين تركيا وسوريا في مواجهة حزب العمال الكردستاني، وكانت أنقرة ترى ضرورة أن يكون الاتفاق جزء من استراتيجية إقليمية أوسع لتحجيم أنشطة حزب العمال.

لذلك دائمًا ما كان الخطر الكردي يقود إلى تحول في التحالفات الإقليمية للتخوف من الطموحات الكردية في الإقليم. وقد ساهم الوضع في العراق بالنسبة للأكراد ،في ظهور مجموعة من التوازنات والتفاعلات الجديدة التي أضحى على أكراد سوريا أخذها في الاعتبار إذا ما أرادوا لهم دورًا في سوريا، إذ نجح الأكراد في الدخول كطرف في الصراع والسيطرة على أراضٍ ذات أغلبية كردية في النصف الثاني من 2012، ثم طالبوا على إثر هذا التأثير بالفدرالية والحكم الذاتي والاعتراف دستوريًا بالأكراد كقومية ذاتية ثانية بعد العرب، وإلغاء صفة العربية من اسم الدولة لتصبح الجمهورية السورية، وتم إعلان الحكم الذاتي في مارس 2016 عبر نظام فدرالي في روج آفا (كردستان سورية) التي تضم ثلاث مقاطعات كردية هي كوباني (ريف حلب الشمالي) وعفرين (ريف حلب الغربي) والجزيرة (الحسكة).

تأسس “حزب الاتحاد الديمقراطي” في 2003 (وهو الفرع السوري لحزب العمال) وذراعه العسكرية “وحدات حماية الشعب ” هما القوة المسيطرة على شمال سوريا، لذلك تنظر تركيا إلى تلك المناطق على أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني الإرهابي على الجانب السوري من الحدود، ومن ثم تشن تركيا من حين لآخر عمليات عسكرية ضد الأكراد هناك بذريعة مواجهة الإرهاب، ومن هذه العمليات غصن الزيتون بعفرين في سوريا عام 2018، حيث تحظى عفرين بأهمية كبرى سواء للأكراد أو تركيا، لموقعها الاستراتيجي في شمال غرب سورية. فبالنسبة للأكراد هي إحدى المقاطعات الكردية الثلاث في سورية، والمحافظة عليها والدفاع عنها رغبةً في وصلها بالمناطق الكردية الأخرى بالبلاد. أما بالنسبة لأنقرة فيمر عبر المنطقة خط سكك حديد قادم من تركيا أنشأته قبيل الحرب العالمية الأولى ليصل إلى مدينة حلب، ويحقق السيطرة على عفرين التواصل الجغرافي بين جميع المناطق الحدودية الواقعة بين مدينة جرابلس غرب الفرات والبحر المتوسط، وبالتالي منع الأكراد من وصل مناطقهم بعضها ببعض.

كما شنت تركيا عملية أخرى “نبع السلام” في 2019، ودائما ما تحظى العمليات عبر الحدود التركية بدعم محلي قوي، إذ تحرص تركيا على منع قيام دولة كردية مستقلة بشمال سوريا، ترتبط بحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه بجماعة إرهابية غير عادية. وتتخوف تركيا من تنامي دور قوات حماية الشعب الكردية قرب الحدود. وخلال صراعها المستمر مع حزب العمال، دائمًا ما يكون إقليم كردستان العراق أحد المتضررين من العمليات التركية.

•  تركيا والأكراد: خلال محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني في 2013، كان حزب العدالة والتنمية أول من اقترح حل القضية الكردية من خلال الوسائل السياسية وفقا لبراجماتية انتخابية، وبعد خسارة الحزب في انتخابات يونيو 2015 بدأ يتبنى نهجًا عسكريًا. وعليه تمثل الورقة الكردية أحد الاعتبارات الهامة في الانتخابات الرئاسية التركية القادمة، إذ يرغب أردوغان في الحصول على الأصوات الكردية في المنطقة الجنوبية الشرقية، والتي تصوت عادة لحزب الشعوب الديمقراطي الذي فاز بـ80 مقعدًا في انتخابات يونيو 2015 في مقابل تراجع حزب العدالة والتنمية.

وقد تبنى أردوغان -آنذاك- نهجًا قوميًا وأمنيًا وتحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف، وتم القبض على رؤساء حزب الشعوب” صلاح الدين دميرطاش وفيجن يوكسكداغ” وسبعة نواب آخرين في نوفمبر 2016. وأقالت الحكومة 48 من رؤساء البلديات من حزب الشعوب الديمقراطي وعينت أمناءً لحكم بلدياتهم بدلًا من ذلك.

وعليه تشير بعض التقديرات إلى أن إحدى المناورات التي قد يتبعها أردوغان فيما يخص التصويت الكردي في انتخابات يونيو2023 هي محاولة جذب الناخبين الأكراد، ومحاولة تقسيم جبهة المعارضة من خلال تبني خطاب قومي وتجريمهم. أو أنه يلجأ إلى خيار آخر من خلال حل الخلافات بين الحكومة والمعارضة فيما يخص المسألة الكردية وهو ما يتطلب منه التعاون مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، ومن ثم فك الارتباط بين الأحزاب المعارضة والناخبين الأكراد.

لكن يوفر عدم التوافق الكردي بين عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي برئاسة صلاح الدين دميرطاش، فرصة لأردوغان للتفاوض مع أوجلان (خاصة أنه يتمتع بشخصية براجماتية يمكنه تجاهل استبداد أردوغان وغياب سيادة القانون وانتهاكات حقوق الإنسان طالما تم الاعتراف به كممثل للأكراد وحصوله على درجة من الحكم الذاتي). في حين أن دميرطاش (يهدف إلى تحويل حزب الشعوب الديمقراطي من حزب عرقي إلى حزب يساري شعبوي يجذب الأقليات داخل المجتمع التركي، مثل العلويين والأرمن، إضافة إلى الطلاب والعمال) خاصة أن معارضة دميرطاش لمركزية أردوغان للسلطة لعبت دورًا رئيسيًا في قدرة الحزب على توسيع قاعدته لتشمل غير الأكراد، ويرى دميرطاش أن دمقرطة تركيا شرط مسبق لحل المسألة الكردية).

في الفترة التي سبقت الانتخابات المحلية لعام 2019، اتجهت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى أوجلان نظرًا لدعم حزب الشعوب الديمقراطي لمرشح المعارضة، مما دفع أوجلان إلى كتابة خطاب يدعو الناخبين الأكراد إلى عدم مساندته. مما ممكن زعيم حزب العمال الكردستاني من تحويل دعم أحزاب المعارضة إلى المزيد من المكاسب لأردوغان. لكن بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الحالي، قد يكون لدعوة أوجلان المحتملة لمقاطعة الانتخابات تأثير محدود لأن الأكراد هم شريحة المجتمع الأكثر تضررًا من الأزمة الاقتصادية، ولا يستطيع جذب كل الناخبين الأكراد حيث يعانون في المدن الكبرى من ظروف اقتصادية قاسية عن تلك الموجودة في المناطق الريفية.

لذلك، يمكن أن تنجذب الأجيال الكردية الشبابية إلى دميرطاش، وتقدم الدعم لمرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية القادمة. وبالرغم من وجوده في السجن، لا يزال دميرطاش قادرًا على التأثير على البيئة السياسية من خلال رسائله وقد أشار في أحد كتاباته إلى ضرورة وجود جبهة معارضة موحدة، ودعي الناخبين الأكراد إلى البقاء متضامنين مع أحزاب المعارضة الأخرى ضد أردوغان.

ختامًا، يبقى الأكراد عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا في دول المنطقة، وإحدى الأدوات التي توظفها القوى الإقليمية والدولية في قضايا وملفات الإقليم هذا من ناحية، ويتأثر أقرانهم بتشابكات وتداخل المصالح في الدول المجاورة من ناحية أخرى، ومن ثم تضفي تطورات الأحداث الأخيرة في المنطقة انعكاسات على أوضاع الأكراد ومصالحهم.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21349/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M