رسالة بن لادن.. لماذا أعاد الأمريكيون تداول رسالة عمرها 22 عامًا؟

تفترض كلاسيكيات النظريات الإعلامية أن هناك علاقة سببية بين الرسائل الإعلامية والسلوك الفردي والمجتمعي، بحيث المحتوى الإعلامي الذي تتم صياغته بشكل مدروس قادر على التأثير على سلوكيات الفرد والتحكم في مجريات تطور المجتمعات، وإن كان تأثيرها يختلف من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر باعتبارها عاملًا من العوامل التي يتعرض لها الفرد وتؤثر على سلوكه، إلى جانب العديد من العوامل الأخرى على رأسها الجماعات المرجعية التي ينتمي إليها الفرد، بالإضافة للعوامل النفسية التي تكون الفرد والظروف السياسية والاجتماعية والثقافية المحيطة به، وهو ما يجعل الاستجابات لنفس الرسالة الإعلامية تمتد لتؤثر في سلوك بعض المجتمعات وتقتصر على التأثير المعرفي في بعض المجتمعات الأخرى.

ولعل من الأهمية الإشارة إلى أن التأثير السلوكي للمحتوى الإعلامي هو آخر المراحل المرجوة من صياغة المحتوى الإعلامي، وأنه من الصعب أن يمتد تأثير الرسالة الإعلامية لتغيير السلوك إلا إذا تضافرت مجموعة من العوامل، وكان من أكثر الأمور التي لفتت انتباه الإعلام الأمريكي في الأيام الأخيرة قيام المواطنين الأمريكيين الذين ينتمي أغلبهم إلى ما يعرف بجيل  Zوكذلك من البالغين، بإعادة تداول رسالة أسامة بن لادن التي عنونها بـ”رسالة إلى أمريكا” على نطاق واسع مع اتجاه بالتعاطف نحو الأسباب التي ساقها بن لادن وبرر بها هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأمريكية. حتى أن جزءًا من الجنود الذين كانوا في الخدمة في الجيش الأمريكي واحتفلوا بمقتل أسامة بن لادن أعربوا عن ندمهم واستيائهم الآن بعد قراءة “رسالة إلى أمريكا”.

وهو ما شكل نوعًا من الصدمة للأوساط الأمريكية السياسية والإعلامية -لأن الأمر لم يقتصر على الجانب المعرفي وإنما امتد للتأثير في السلوك- وذلك إلى الحد الذي دفع المتحدث باسم البيت الأبيض لانتقاد هذا التداول الواسع لما كتبه أسامة بن لادن، ووصفه بأنه يقلل من احترام حوالي ثلاثة آلاف أسرة أمريكية راح منها ضحايا في هذه الهجمات، كما استدعى تداول الرسالة رد فعل ليس من المستغرب أنه كان منحازًا من الإعلام الغربي حول أن المواطنين الأمريكيين يعانون من تشوش في الرؤية وعدم وجود توعية من الأسر التي تركت أبناءها دون وعي حول خطورة هذا الحدث في التاريخ الأمريكي المعاصر ومدى عنف الأيدولوجية التي أدت إليه.

وقبل الوصول إلى الدوافع التي جعلت هذه الرسالة متداولة على هذا النطاق، فإنه من المهم الإشارة بشكل مختصر لمحتوى الرسالة التي حذفتها صحيفة الجارديان البريطانية من على موقعها بعد إعادة مشاركتها مرات عديدة في الأيام الأخيرة، وبررت موقفها بأن الرسالة تتم إعادة تداولها في غير سياقها، وهي سقطة جديدة تدلل على انحياز الإعلام الغربي وزيف ما يقومون بالترويج له من حرية الرأي والتعبير وبالطبع حرية تداول المعلومات، وهو ما يعد من مقدمة الأسباب التي جعلت المواطن الأمريكي والغربي بشكل عام يلجأ لمصادر أخرى للمعلومات، وهو ما ستتم الإشارة له تفصيلًا في هذه الورقة.

وبالعودة إلى محتوى “رسالة إلى أمريكا”، فقد طرح فيها بن لادن تساؤلين رئيسين وإن اهتمت موجة التداول الأخيرة بإجابة بن لادن على التساؤل الأول المتعلق بالأسباب التي دعت تنظيم القاعدة لشن هذه الهجمات على الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر خلال عام 2001، وللإجابة عن هذا التساؤل سرد بن لادن كيف عمدت الولايات المتحدة إلى عداء كل ما هو “إسلامي” من وجهة نظره، وكيف أنفقت مليارات الدولارات في حروب بدعوى الديمقراطية في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها مخلفة ملايين الضحايا بشكل مباشر وغير مباشر، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أعداد الذين قتلوا في العالم كرد من الولايات المتحدة على  أحداث 11 سبتمبر يتراوح بين حوالي 4,4 إلى 5 ملايين نسمة، منهم وفيات غير مباشرة بسبب نقص إمدادات الغذاء والتأثير سلبًا على المناخ حيث بلغت الوفيات غير المباشرة حوالي  3.7  ملايين وفاة، مما يعني أن الوفيات المباشرة لاعتداءات واشنطن جاوزت المليون إنسانًا، وحول هذه الوفيات “المباشرة” للأطفال في العراق، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية في وقتها إن هناك ثمنًا يجب دفعه وأن العائد في النهاية يستحق! وهو نفس المنطق الذي يتم التعامل به الآن مع غزة.

وطرح المؤثرون عبر منصة تيك توك تساؤلًا حول لماذا يعتبر العقاب الجماعي مبررًا ضد المدنيين في غزة بسبب إبقائهم على حكومة حماس، ولكن الأمريكيين لم يكن  يجب أن يعاقبوا في 11 سبتمبر لنفس السبب، على الرغم من أن الفلسطينيين لم يتسنى لهم أن يرفضوا حماس في الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة دولة ديمقراطية يذهب فيها الناخبون كل أربع سنوات للاقتراع على الرئيس، وفي الوقت الذي تبرر فيه أمريكا الهجوم على أفغانستان بأنها دولة هاجمتها في الحادي عشر من سبتمبر، فإن سوريا على سبيل المثال لم تشن هجومًا على الولايات المتحدة  فما هو مبرر الاحتلال الأمريكي لها، وهو ما أجاب عليه المؤثرون أنفسهم بأنه لا يجب أن تكون هناك معايير مزدوجة، فإما أن تكون الولايات المتحدة ضد الهجوم على المدنيين في الولايات المتحدة وغزة وفي أي مكان، أو أن تتقبل شرعنة أحداث الحادي عشر من سبتمبر بنفس المنطق.

ونأتي للنقطة الأكثر أهمية فيما كتبه بن لادن مع اختلافنا الكامل مع أيدولوجية العنف، وهو أن كل هذه الحروب تم تمويلها من الضرائب التي يدفعها المواطن الأمريكي، وهو ما مثل نقطة تحول بالنسبة لمن أعادوا تداول الرسالة وكأنهم يفتحون أعينهم على حقيقة طمستها سنوات من التضليل الإعلامي الغربي.

دوافع تداول رسالة بن لادن

يتمحور التساؤل الرئيس الآن في الأوساط الأمريكية حول الدافع وراء تداول رسالة بن لادن بعد مرور عقدين من الزمان، وفي هذا السياق فإن الأمر لا يحتاج للكثير من الجهد للربط المباشر بين عملية طوفان الأقصى وبين إعادة تداول الرسالة:

– فالأيام الأخيرة جعلت المواطن الأمريكي يلتفت إلى حجم التضليل الإعلامي الذي تمارسه عليه وسائل الإعلام الغربية بتنوعها التقليدية منها والتفاعلية، حيث لم يسلم من الخوارزميات التي تعارض كل من يدعم القضية الفلسطينية سوى منصة تيك توك الصينية التي يستخدمها الشباب الأمريكي بشكل كبير، وقد مثلت العنصر الأساسي في كشف مدى التناقض بين الرواية الحقيقية والرواية الغربية، ولكن مرة أخرى تصر الجهات الرسمية في أمريكا وحتى القنوات التلفزيونية بتفسير الأمر بأنه إمعان في معاداة الصين للولايات المتحدة وليس في سياقه الحقيقي، وهو أن المواطن الأمريكي لو لم يجد في منصة التيك توك من المنطق ما يفوق الإعلام الأمريكي لما اعتبر المنصة مصدرًا للمعلومة.

– من جانب آخر، فإن رسالة أسامة بن لادن وإن اختلفت مع العديد مما جاء فيها لا ينفي أنها كتبت بشكل منطقي يعكس تسلسل وتدفق وتداع في الأفكار بشكل يصعب الاختلاف معه أو تفنيده خصوصًا بالنسبة لجيل لا يعرف عن العالم إلا ما تقوله واشنطن عن العالم، وهو ما جعل من السهولة أن يتم تداول الرسالة وقراءة محتواها عشرات الآلاف من المرات. خصوصًا أن بن لادن استهل رسالته بقضية احتلال فلسطين وكيف أن دعم الولايات المتحدة المنقطع لإسرائيل يمثل العامل الأساسي في استمرار الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية العربية حتى الآن عن طريق تمويل تل أبيب بالمال والعتاد، ولذلك كان الربط المباشر بين الحرب الآن على غزة وبين الرسالة وكأنها احتوت على شرح للمواطن الأمريكي الذي شعر بأنه قد تم تضليله، بل أنه شعر كذلك بأنه يسهم بشكل مباشر في قتل المدنيين العزل في غزة. وهذا التغيير في المواقف الأمريكية حدث أيضًا على مستويات سياسية عندما استقال مسؤول بوزارة الخارجية في المكتب المختص بالإشراف على عمليات نقل الأسلحة احتجاجًا على قرار إدارة بايدن بمواصلة إرسال الأسلحة والذخيرة إلى إسرائيل بينما تفرض حصارًا على غزة في حربها مع حماس. وفي خطاب استقالته، قال جوش بول، الذي كان مديرًا للشؤون العامة والكونجرس في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية لأكثر من 11 عامًا، إن “الدعم الأعمى لجانب واحد” من إدارة بايدن كان يؤدي إلى قرارات سياسية كانت “قصيرة النظر، ومدمرة، وغير عادلة، ومتناقضة مع القيم ذاتها التي نعتنقها علناً” وهو ما يمثل جوهر رسالة بن لادن لمن قرأها ويؤكد مرة أخرى على أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة جعلت من اللوبي اليهودي الأمريكي متحكمًا في سياستها، وهو ما تم التأكد منه عندما حذفت منصة تيك توك المقاطع حول رسالة بن لادن بعد الضغط الذي مارسه عدد من المؤثرين اليهود. ومن جديد مثّل حذف الجارديان للرسالة من على موقعها وقوعًا في فخ التلاعب بالحقيقة وتطويعها بما يتماشى مع مزاج السياسات الغربية، وكأن حذف الرسالة ينهي المسألة وهي أعمق من ذلك بكثير، ويمكن لمس ذلك في دلالات إعادة تداول هذه الرسالة على نطاقات واسعة.

دلالات تداول رسالة بن لادن

– الدلالة البديهية الأولى، تنعكس في أن المواطن الأمريكي أصبح يمتلك رواية مغايرة عن الأحداث الجسام ولكنها مقنعة، فليس من السهل أن يتقبل المواطن الأمريكي رسالة تبرر لقتل ثلاثة آلاف مواطن بل والتعاطف معها، وهو ما يشير إلى أن الرواية التي روجتها الولايات المتحدة في وقتها عن كراهية الحرية الأمريكية لم تعد مقنعة لجيل الشباب هناك الذي ربما وجد أسباب أخرى تبرر النفور تجاه الولايات المتحدة وسياساتها.

– ومن الدلالات المهمة الأخرى، أن تداول الرسالة على نطاق واسع أيضًا يشير إلى الاقتناع بفكرة شرعية المقاومة ضد الاحتلال، وهو ما يدحض حجة الولايات المتحدة في أن ما تتعرض له إسرائيل هو إرهاب اتساقًا مع القوانين الاستعمارية الغربية التي نجحت في الترويج لفكرة أن أي عمل مقاومة ضد الاستعمار أو الاحتلال أو الاستيطان هو عمل إرهابي. كما أنه يشير إلى قناعة باتت تتوسع حول أن كل الأراضي الفلسطينية محتلة لأنها أرض عربية بالأساس، وهو ما يعني أن الدولة الإسرائيلية ليس لها الحق القانوني في التواجد على أراضٍ عربية محتلة، وهو ما يطعن في كل القرارات التي أسست لوجود دولة إسرائيل منذ قرار الأمم المتحدة الذي منح لإسرائيل 55% من الأراضي الفلسطينية. وهو ما يؤشر على أن المواطن الأمريكي من الممكن أيضًا أن يعيد البحث في مسألة الحرب على أفغانستان وعلى العراق، والتعرف على كم الفظائع التي ارتكبتها واشنطن، وعلى معتقل جوانتنامو، وسجن أبو غريب، وأكذوبة حقوق الإنسان التي يتم إصدار تقرير سنوي بشأنها لرصد الانتهاكات التي تجري في دول العالم.

– من ناحية أخرى، فإن قصر الفاصل الزمني بين حادث 11 سبتمبر وبين تبني الجيل الجديد لرواية أسامة بن لادن مؤشر خطير لأنه حدث لم يمر عليه خمسون أو سبعون عامًا حتى تختلف حوله الروايات، ويشير إلى أن المجتمع الأمريكي ربما يعاني من الهشاشة وأحادية الرؤية. وهو ما يفسر حالة الغضب والاضطراب التي أصابت العديد من الإعلاميين الأمريكيين على قنوات مختلفة مثل سي إن إن، وقنوات غربية أخرى مثل سكاي نيوز وإن بي سي، حيث أعادوا إذاعة أجزاء من استغاثات المواطنين الأمريكيين الضحايا في تفجيرات سبتمبر، مع انتشار دعوات حول أن هناك محاولات لسرقة الأجيال الشابة في الغرب وأن الحضارة الغربية أصبحت مهددة. وهو الأمر الذي إن أكد على شيء فربما يؤكد على العنصرية التي يتعامل بها الغرب مع الضحايا من العرب والمسلمين، وهو ما ظهر بشدة أيضًا خلال الحرب الروسية – الأوكرانية كما أنه يشير إلى أن حالة العداء مع الصين ستكون في تصاعد.

– كذلك فإن الأمر مثير للقلق حتى على مستوى الاستخبارات الأمريكية التي تحاول تحليل هذه الموجة وتفسير أصولها وما هو السبب وراء تضخم كرة الثلج، كما أن هناك محاولة للربط بين تشابه محتويات المقاطع المتداولة على المنصة وكأن صناعها يحاولون القراءة من سيناريو معد مسبقًا، وهو ما يشير إلى أن الإعلام الأمريكي والسياسيين الأمريكيين غير قادرين على تصديق أن هذا توجه حقيقي للشباب الأمريكي. ويتناسى السياسيون الأمريكيون هنا أن 68% ممن يطلق عليهم جيل Z  قد صوتوا في الانتخابات الماضية لجو بايدن وكاميلا هاريس وأنتوني بلينكن، وأن تغير توجهاتهم ونظرتهم ناحية أمريكا نفسها قد يؤثر في مسار الانتخابات القادمة.

وتبقى الإشارة هنا، إلى أن محاولات وقف ومنع منصة تيك توك الآن لن تجدي نفعًا، كما أنه من الصعب أن يتم قلب الطاولة فيما يتعلق بلجوء المواطن الأمريكي لمنصة تيك توك للحصول على أخبار حول الحرب في غزة، عدا عن التي يتم عرضها في الإعلام الغربي والأمر لم يبدأ برسالة بن لادن وإنما بالأيام الأولى للحرب، لذلك يصعب تفسير هذا الانتشار الواسع لرسالة بن لادن بأنه جزء من الخوارزميات الخاصة بتيك توك لأنه متعلق أكثر برؤية المواطن الأمريكي لشرعية الحرب الإسرائيلية على غزة والتي تمثل رسالة بن لادن جزءًا من كل منها. وكذلك يعني أن منصة تيك توك كوسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الحديث أصبحت قادرة ليس فقط على التأثير في المعرفة وإنما في السلوك، ولا تداول تلك الرسالة إلا أحد التأثيرات التي استطاعت المنصة الصينية إحداثها، حيث لا يمكن تجاهل عشرات الآلاف الذين خرجوا في دول غربية للتعبير عن تضامنهم مع الحق الفلسطيني وهو سلوك يُشاهد للمرة الأولى بهذه الضخامة.

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/79918/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M