صراع الروايات: التغطية الإعلامية الغربية لحرب غزة (٢)

أريد أن أنطلق في هذا الجزء من بعض الملاحظات التي وردت في الورقة السابقة (المنشورة بتاريخ ٢٢ نوفمبر على موقع المركز) لأطورها وألفت النظر إلى تبعاتها، وهي أن التغطية الإخبارية للقنوات التلفزيونية التي أتابعها (أغلبها فرنسي) تتعامل مع إسرائيل على أنها جزء من العائلة الغربية، ومع العرب على أنهم أغيار، وأنّ هناك حرصًا على إتاحة قدر من المجال يختلف من قناة إلى أخرى ومن فريق إلى آخر لروايات وتحليلات مختلفة، مع تفضيل واضح لروايات وتحليلات اليسار الإسرائيلي ومن هو متعاطف معه. وأذكر أيضًا أن هناك افتراضًا مستمرًا يؤثر على التغطية، أن الجانب الغزاوي كاذب وأن الجانب الإسرائيلي يقول الحقيقة. من ناحية فساد هذا الرأي واضح لأن الطرفين في حالة حرب، ولأن أول ضحية الحروب الحقيقة، فالكل فيها يغفل حقائق ويقول ما يروم له. ومن ناحية أخرى لا يتمادى الإعلام الغربي في الدفاع عن رواية إسرائيلية إن اتضح كذبها، ويسهل من هذا عدم ثقة الغربيين في الحكومة الإسرائيلية الحالية ورئيسها. ولكنه يبقى أن تصحيح الأخبار يتأخر، ولا يكفي لإصلاح الضرر الذي تسبب فيه الكذب.

وقبل أن أتناول القضايا التي تهمني ألفت النظر إلى بعض التطورات الإيجابية، منها أن الإعلام انتبه في الأسابيع الماضية أخيرًا إلى أهمية الدور المصري ولا سيما في المفاوضات المتعلقة بتحرير المحتجزين لدى حماس، وأنه أكثر من الإشارات الإيجابية إليه، بعد أن كانت تقتصر الإشارات الإيجابية على دور قطر. هناك طبعًا خبراء يحاولون التقليل من أهمية هذا الدور المصري ولكنهم أقلية.

ما يهمني أولًا هو عدم الفهم أو التشويه المستمر والدائم، المتعمد أحيانًا وغير المتعمد أحيانًا أخرى، لمواقف الدول العربية من الأزمة. تسود نغمة فاسدة مفادها أن الأنظمة العربية تتمنى نجاح إسرائيل في غزوها لغزة، وتؤيد أهدافها العسكرية والسياسية، ولكنها لا تجرؤ على البوح بهذا خوفًا من شارع عربي يصفه البعض بأنه متشنج وغبي. وما هو دليل هؤلاء الخبراء؟ الدليل الرئيس الذي يساق أن ثمة أزمات عميقة اعترت تاريخ العلاقات بين الأنظمة العربية والفصائل الفلسطينية الغزاوية. لفهم فساد هذا الموقف قد يكون من المفيد الإشارة إلى تاريخ علاقات الدول الغربية ولا سيما الأوروبية مع أوكرانيا، كانت دائمة الشكوى من فساد نظامها السياسي رافضة لدخولها الناتو وانضمامها للاتحاد الأوروبي. هل يعني هذا التاريخ أن الدول الغربية تتمنى اليوم في قرارة نفسها احتلال أوكرانيا وذبح شعبها وسقوط نظامها السياسي؟ طبعًا لا، ويفترض هؤلاء الخبراء أن إقامة علاقات مع إسرائيل يعني التخلي التام عن القضية الفلسطينية، ولا يخطر على بالهم أن إقامة هذه العلاقات قد تكون تطويرًا –يمكن أن يناقش وينتقد طبعًا- لأساليب الدفاع عنها، تطويرًا يتيح وسائل للضغط على إسرائيل. وحجتهم الثالثة أن الدول العربية مستاءة من تحالف بعض الفصائل وإيران، ولكن الاستياء من تحالفات على فرض حقيقته لا يعني الموافقة أو حتى الرغبة في قتل شعب بالكامل، بل يعني الرغبة في إقناع هذه الفصائل بالتخلي عن هذا التحالف أو بعدم حصر أنفسها فيه.

وما يهمني ثانيًا هو سيادة سرد اليسار الإسرائيلي –المنتمي إلى المشروع الصهيوني- ومؤيديه لتاريخ القضية وخلفيات الوضع، ومنهم الفيلسوف آلان فنكلكروت وكارولين فورست. مع فروق بين راوٍ وآخر يمكن إجمال هذه الرواية فيما يلي: إسرائيل ظاهرة استعمارية في الأراضي التي احتلتها بعد ٦٧، وظاهرة يتحمل مسئولية جرائمها الحكومات اليمينية والسيد نتنياهو واليمين الديني المتطرف (اليسار ليس بريئًا ولكن هذا ليس هامًا في حديثنا)، ومقاومة الاستيطان مشروعة ومنصوص عليها في القانون الدولي لا سيما وأن المستوطنين مسلحين ويلجئون إلى العنف البالغ، وينددون باستغلال هذا الفريق (والحكومة الحالية) لأحداث غزة للتوحش ضد الفلسطينيين (في الضفة أساسًا، فيما يتعلق بغزة فهناك خلاف بينهم)، ولكن القول بأن إسرائيل مشروع استيطاني استعماري منذ بداية تنفيذ المشروع الصهيوني قول فاسد في رأي هذا اليسار، ووفقًا له من يقول بهذا –الشارع العربي واتجاهات غالبة في اليسار الراديكالي الغربي- يريد تدمير إسرائيل، ويبيد شعبها، ويكره اليهود، ووجد ذرائع لمعاداة السامية ولإحياء مشروع هتلر.

وما هي حجج هذا الفريق التي تبرر تحليله هذا؟ يقول البعض إن إسرائيل دولة معترف بها دوليًا وأنشأها قرار دولي وهي عضو في الأمم المتحدة، وانضمت إليها قبل الصين أو قبل إسبانيا. ويقول البعض الآخر إن فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود منذ أيام الأنبياء، وإن العودة إلى هذا الوطن لا يمكن اعتبارها استعمارًا واستيطانًا.

 وفي الواقع، في جوانب كثيرة من هذا الكلام عوار منطقي، وعوار سياسي، وعوار أخلاقي، وعوار علمي.

نلاحظ أولًا أن هذه الحجج تتبنى وجهة نظر مفادها “طالما هناك استعمار فمن حق ضحيته طرده بل قتل المستعمر وإبادته، وبما أن إسرائيل دولة معترف بها دوليًا فيعني هذا أن المجتمع الدولي أقر أنها ليست استعمارًا، ولكن احتلالها للضفة استعمار فهو غير معترف به دوليًا”. ويعني هذا فيما يعني أن المجتمع الدولي من حقه أن يكتب التاريخ ويصف الواقع كما يشاء. وأن لفظي “الاستعمار” و”الاستيطان” لا يصفان وقائع محددة، بل هي شتيمة يستخدمها من يشاء كيفما يشاء، وهذا المنطق أعوج.

ولبيان المقصود نعقد مقارنة مع حالة الولايات المتحدة، فمن الواضح أنها نشأت كمشروع استعماري واستيطاني، وأنه لا يمكن تغيير التاريخ ولا إنكار هذا الوصف، هل الاعتراف بها كدولة أو كشعب يعني قرارًا بإنكار ومحو تاريخ نشأتها؟ هل يفهم من الحديث عن الظلم الذي لحق بالسكان الأصليين الدعوة إلى إبادة الولايات المتحدة؟ طبعًا لا، لا يقول أحد هذا ولا يفكر أحد فيه. الإشارة إلى تاريخ نشأة الولايات المتحدة لا يكشف عن رغبة في إبادة شعبها أو إجبار كل أفراده على العودة إلى موطن أجداد أجداده. أي وصف إسرائيل بأنها أصلًا مشروع استعماري لا يعني بالضرورة رفض شرعيتها الدولية، أو الرغبة في إبادة شعبها أو إزالة كيانها.

من الواضح طبعًا أن الكثير من المركزين على كون إسرائيل مشروعًا استعماريًا يتمسكون بهذا للترويج لأن مشروع تحرير فلسطين يقوم على إبادة الإسرائيليين وعلى إزالة دولتها. ولكن الحل هو في رفض فكرة أن إقرار الطابع الاستعماري يترتب عليه حتمًا إزالة الدولة وإبادة شعبها، وليس الحل في إنكار تاريخ أو تزييف الوقائع. ما حدث من طرد مئات الآلاف بل الملايين من السكان الأصليين باستخدام كافة الوسائل العنيفة لا يمكن إنكاره ولا تكييفه بأنه عمل بسيط وضروري.

قد يبدو هذا الكلام سفسطة، ولكنه -في رأينا- ليس كذلك، لا يمكن تمرير عملية سلام ودفع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية إلى قبولها إن اقتضى الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات سياسية معها إنكار الماضي وتزييفه وإنكار الظلم الفادح الذي تعرض له الشعب الفلسطيني وهو ظلم استثنائي في عنفه وطول أمده.

أما منطق الأقدمية التاريخية ففساده واضح، نشير أولًا إلى أن قبوله يعني أن الإسرائيليين لهم حق في استيطان الضفة كما يقول اليمين الاسرائيلي، وإن عدم استيطانه تنازل كريم ومؤلم من قبلهم، وفي هذا قلب تام للحقائق. وهذا القلب من أسباب كتابة هذا المقال، فالحق الفلسطيني حق وليس منة لا يستحقها، ومن ناحية أخرى يدخل “منطق السكان الأصليين” العالم إلى متاهات لا نهاية لها، فالجغرافيا السكانية العالمية الحالية لا تمت بصلة لما كانت عليه في مطلع القرن العشرين، ناهيك عن شكلها في العهود الماضية. نفهم طبعًا أن هذا الكلام يمكن أن يرد لصاحبه، أي للفلسطينيين، فالكل باستثناء بعض الشعوب له أجداد نزحوا واغتربوا. ومن ناحية ثالثة تبقى الحقيقة أن الفلسطينيين في فلسطين منذ مئات السنوات وأكثر، وأن النازحين إلى فلسطين هم يهود القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

وفي هذا الصدد، نشير إلى حجة لم نسمعها في القنوات إلا مرة أو مرتين، على عكس ما سبق، ولكنها كثيرة التردد في دوائر المثقفين الفرنسيين، وهي أن القرن العشرين شاهد في أوروبا (بما فيها تركيا) عمليات ترحيل لمئات الآلاف بل الملايين من الأفراد، وكان هذا ضروريًا، أو على الأقل أقل الأضرار لإنهاء الحروب والحروب الأهلية والفتن، تم ترحيل مئات الآلاف من الأتراك من اليونان، ومئات آلاف اليونانيين من تركيا، وملايين من الألمان من أوروبا الشرقية، ومئات الآلاف من التتار كانوا في القرم، كما يقال إن حدود الدول الأوروبية سنة ١٩٠٠ ليست حدودها اليوم، وأن كل هذا أصبح واقعًا مقبولًا لا يشكك فيه أحد، ويقال صراحة إن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية هي الشعوب الوحيدة التي ترفض هذا، وتفضل مواصلة النضال والصراع، والرد على هذا الكلام واضح.. عموم الخطأ لا يحوله إلى سنة مقبولة، وفي أوروبا كان يمكن القول إن عمليات التهجير والترحيل كانت ضرورية –رغم عدم اقتناعنا بهذا- بعد حروب بشعة كلفت عشرات الملايين من الأرواح، وأن هذه العمليات هي التي أعادت السلام، ومنطقة الشرق الأوسط لم تعرف معارك بهذه الشراسة ومذابح بهذه الجسامة تبرر تهجير شعب وتحول هذه العملية إلى شر لا بد منه يحقق مصالح الكل، وهناك أوجه نقد أخرى لا يتسع المجال لنقاشها.

ولا بأس من الاعتراف بأن الأطراف العربية ومؤيديها يستخفون بتهمة معاداة السامية ومعاداة اليهود، فهي -في وجهة نظرهم- تهمة تافهة يستخدمها الإسرائيليون وأنصارهم لإسكات أي صوت يعترض على السياسات الإسرائيلية، وقطعا يسيء اليمين الإسرائيلي استخدامها ويساهم هذا في التقليل من فاعليتها، ولكن يبقى أن خطاب بعضنا وبعض أنصارنا يعطي للتهمة وجاهة، وأن هذا يضر بقضيتنا والقضية الفلسطينية، ولا يتسع المجال للتفصيل، على أهميته، ولكننا نكتفي بمثال. دافع رئيس وزارة أوروبي سابق عن الحق الفلسطيني دفاعًا وجيهًا، ولكنه أفسد كل كلامه وتأثيره باتهامه لأصحاب المال والقنوات بإرهاب وإسكات كل من يريد الدفاع عن الفلسطينيين، وكان من الواضح أنه يقصد أن هناك إرهابًا فكريًا يهوديًا، وكان الرد عليه سهلًا. الرجل ضيف دائم على القنوات رغم دفاعه عن الفلسطينيين، فكيف يتكلم عن اضطهاد للأصوات؟ لا نقول إنه لا يوجد انحياز للقنوات لصالح إسرائيل، ونعترف بأن الأعراف السائدة في الديمقراطيات الغربية ترفض أنواعًا من الحديث ومن الكلام رفضًا باتًا، وأن هذا الرفض أحيانًا مبرر وأحيانًا غير مبرر، وهو رفض يفيدنا في أحوال ويضر بنا في أحوال أخرى، ولكنه يبقى أن احترام هذه الأعراف ضروري إن أردنا توصيل رسالتنا، وأعتقد أن عدالة القضية الفلسطينية صارخة، وإفسادها بكلام غير مقبول أمر محزن وخطأ استراتيجي كارثي.

وفي الإطار نفسه، نرى أنه من الطبيعي –بمعنى أننا معذورون- أن الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون يعمي العرب عن الظلم الذي تعرض له اليهود عبر القرون في أوروبا، وهو ظلم وصل إلى حد محاولة الإبادة وقتل الملايين منهم في جريمة لا تغتفر، ويمكن طبعًا القول والتنديد بعجز قطاعات كبيرة من الإسرائيليين عن رؤية وإدانة الظلم والجرائم التي تعرض لها الفلسطينيون، ولكننا نرى أنه من الضروري تجاوز خطابنا هذا العجز -عجزنا وعجزهم- والتركيز على حقيقة وهي أن الفلسطينيين كشعب لم يشتركوا في هذه الجرائم. ولكن الحديث الذي يقول إن اليهود يستحقون ما جرى لهم في أوروبا والذي يمجد هتلر حديث غير أخلاقي ويرفضه الدين.

وفي ورقة لاحقة سنبحث تبعات اعتبار إسرائيل من العائلة الغربية، ومنها الميل إلى الربط بين الحرب في غزة والحرب في أوكرانيا، وتبعات هذا الربط، وتبعات الهوة التي تفصل رؤيتنا ورؤيتهم. نرى أن المقاومة حق مقدس ضد أي محتل، وهم يرون أن إسرائيل دولة معترف بها دوليًا، وتنتمي إلى العائلة الغربية، وتدافع عن نفسها ضد أعمال إرهابية تمارسها مليشيا.

المصدر : https://ecss.com.eg/38771/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M