طموحات متبادلة: جدل الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال

أثار الاتفاق المعلن بين إثيوبيا و”أرض الصومال” حول حصول الأولى على حق الوصول للبحر الأحمر عبر ميناء بربرة مقابل الاعتراف منحها حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية والوعد بالاعتراف بها كدولة مستقلة؛ أزمة دبلوماسية بين إثيوبيا والصومال التي لا تعترف باستقلال أرض الصومال؛ والتي ألقت بظلالها إقليميًا، مع دخول الدول والمنظمات على خط الأزمة، مؤيدة حق الصومال المشروع في الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها.

وتثير هذه الأزمة الدبلوماسية بدورها العديد من التساؤلات حول طبيعة ومستقبل التحالفات في منطقة القرن الأفريقي، وما ستقود إليه بالتبعية من توازنات في منطقة البحر الأحمر؛ في ضوء التنافس وعدم الاستقرار الإقليمي والاستقطاب الدولي المتصاعد في المنطقة.

كسر العزلة الإثيوبية

في إطار مساعي إثيوبيا لكسر العزلة وتحقيق حلمها بالوصل للبحر، وقّعت مع أرض الصومال اتفاقًا في الأول من يناير الجاري، يقضي بموافقة الأخيرة على منح البحرية الإثيوبية حق الوصول 12 ميلًا للبحر عبر ميناء بربرة لمدة 50 عامًا، مقابل الاعتراف رسميًا بأرض الصومال كدولة مستقلة وحصولها على حصة من الخطوط الجوية الإثيوبية.

وأبرم هذا الاتفاق بعد شهرين من مخاطبة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد برلمان بلاده في 10 أكتوبر 2023؛ بضرورة وصول دولته الحبيسة للبحر، عبر أيّ دولة كانت؛ سواء الصومال أو إريتريا أو جيبوتي؛ كمطلب حاسم في ظل أولويات التنمية وتزايد عدد السكان.

ولا تنفصل الأولويات التنموية عن التهديدات الإقليمي، التي تتحسب لها إثيوبيا ولتبعاتها على عملية التجارة واستقرار سلاسل الإمداد، ولانعكاساتها على مكانة إثيوبيا الإقليمية، التي تسعى منذ تفكيك بحريتها عقب استقلال إريتريا عام 1991، إلى الوصول للبحر.

ويدعم هذا الطموح الخيارات الاستراتيجية أمام نفاذ إثيوبيا للبحر، في ضوء الاعتماد الكلي على جيبوتي، مما يقيد من تحركاتها في ظل تصاعد التنافس الإقليمي وتبدل التحالفات في المنطقة، وقد تأكد ذلك الهدف أثناء الصراع في إقليم التيجراي؛ حينما أغلق الطريق الرابط بين أديس أبابا وحيبوتي والمار عبر إقليم العفر الإثيوبي، مما عكس الضغوط الاستراتيجية على أديس أبابا من وراء العزلة الجغرافية.

ومنذ مجيئه للسلطة، طرح آبي ذلك الطموح معززًا بالتشارك والتكامل الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، مما يدعم طموحاته للهيمنة الإقليمية في مناطق البحر الأحمر وحوض النيل والبحيرات الكبرى. إذ يعتمد في ذلك على ربط الاقتصاد الإثيوبي باقتصادات المنطقة، في إطار مشروعه الأكبر للتعاون والتكامل الإقليمي وجعل إثيوبيا مركزًا اقتصاديًا متقدمًا في شرق إفريقيا، والذي انعكس في قيادته لإعادة صياغة تحالفاته.

وقد وقعت أديس أبابا مع باريس في عام 2019، اتفاقًا يقضي بإعادة تأسيس البحرية الإثيوبية، بالتوازي مع محاولات الوصول للبحر، منها الاتفاقية التي ألغيت مع أرض الصومال في 2018. وقد طرح خطاب أبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي في أكتوبر 2023، قضية الوصول للبحر باعتبارها مسألة وجودية لبلاده شأنها شأن نهر النهر، ودعا إلى طرح الخيارات للوصول للبحر عبر الحوار، مع عدم نفي إمكانية الدخول في مواجهة محتملة إذ لم يفض الحوار إلى مبتغاه؛ وهو أمر ينذر بتصاعد التوترات مع جيرانه الإقليميين، الذين يخشون من مساعيه للهيمنة الإقليمية.

انتهاك السيادة الصومالية

يعد الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وأرض الصومال، أحد تجليات التهديد الذي تمثله طموحات إثيوبيا بشأن الوصول للبحر، وسعيها الحثيث للبحث في البدائل المتاحة في هذا الصدد، مما يثير من تأهب دول الجوار التي تخشى تهديد مصالحها وسيادتها الإقليمية.

وردًا على التحرك الأخير؛ تحفظت الصومال على الخطوات التي من شأنها انتهاك سيادتها، إذ اجتمعت حكومة الصومال برئاسة حمزة عبدي بري في اليوم التالي على إعلان الاتفاق، الذي اعتبرته باطلًا، كما استدعت سفيرها لدى إثيوبيا للتشاور، فضلًا عن مطالبة الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن بعقد اجتماع بشأن هذه القضية، وإدانة التحركات الإثيوبية. هذا فضلًا عن توقيع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، قانونيًا يقضي بإلغاء الاتفاقية المبرمة بين إثيوبيا وأرض الصومال، عاقدًا العزم على التصدي لأية تحركات إثيوبية من شأنها انتهاك سيادة بلاده.

وليست هذه أول سابقة في محاولات أديس أبابا الدؤوبة للوصول للبحر، إذ وقعت اتفاقية مماثلة للاستحواذ على 19% من ميناء بربرة عام 2018، ألغيت لاحقًا لاعتراضات الصومال آنذاك، التي ترى في ميناء بربرة مصدرًا هامًا للموارد.

 وجاء الإعلان عن ذلك الاتفاق تاليًا على اتفاق الصومال وأرض الصومال باستئناف الحوار بينهما في القضايا الأمنية خلال الفترة القادمة، وذلك أثناء محادثات استضافتها جيبوتي في 28 ديسمبر الماضي بين وفدين الطرفين برئاسة كل من الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس أرض الصومال “غير المعترف بها” موسى بيهي عبدي.

وقد جاءت تلك الخطوة بعد تعليق أرض الصومال للمحادثات عام 2022، وبعد آخر محادثات استضافتها جيبوتي بينهما عام 2020، مما يعيد تحريك المياه الراكدة بين الطرفين، خصوصًا بعد اندلاع أزمة لاس عانود، بين أرض الصومال وإقليم بونتلاند الصومالي.

ويزيد التقارب الإثيوبي مع أرض الصومال من تأجيج الموقف بين الأخيرة والصومال، خصوصًا مع تمسكها بسيناريو الانفصال، وهو ما تجلى في موقف الرئيس موسى عبدي من مبادرة أوغندا لقيادة الوساطة بينهم وبين الصومال في سبتمبر الماضي؛ إذ أكد على الموقف الرافض للحديث عن الوحدة، محددًا بنود إدارة العلاقات فقط بين الطرفين كمجال للحديث.

لذا، تشكل أية تحركات أحادية مع أرض الصومال انتهاكًا للسيادة الصومالية بموجب دستورها الذي لا يعترف باستقلال أرض الصومال؛ ويعيد طرح المسألة المثارة بين الطرفين بشأن إعادة التواصل والحوار؛ فمع انتظار إعادة فتح حوار موسع لإدارة القضايا الخلافية بين الطرفين، تؤجج التحركات الإثيوبية الموقف، لما يعكسها تقاربها مع أرض الصومال من تهديد مباشر للأمن القومي الصومالي.

تصاعد الاستقطاب الإقليمي 

لا يبدو أن التوتر الجاري تتوقف حدوده عند الصومال، التي تستاء من التحركات الإثيوبية المعززة لعدم الاستقرار الإقليمي، بل تتنامى تلك المخاوف لدى دول الجوار الإقليمي والدول المشاطئة للبحر الأحمر، التي ترى في التحركات الإثيوبية تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية وللسلام والاستقرار في المنطقة.

وسبق أن عبرت دول المنطقة عن تلك المخاوف في أعقاب خطاب أبي أحمد في أكتوبر الماضي، الذي حمل في طياته مواجهات محتملة مع دول الجوار؛ فقد عبرت جيبوتي في هذا الشأن عن مخاوفها، نظرًا لاعتماد إثيوبيا عليها في 95% من تجارتها بعوائد تصل إلى 1.5 مليار دولار منذ أن استقلت عنها إريتريا، وعلى الرغم من ذلك تنظر إلى الطموح الإثيوبي باعتباره رغبة ليس في الانتفاع بالموانئ ولكنه سعي إلى الهيمنة، مما دفع أحد مستشاري الرئيس إسماعيل عمر جيلة للتأكيد على سلامة وسيادة أراضي بلاده في ردًا على التصريحات الإثيوبية.

والأمر نفسه بالنسبة للصومال التي كانت تنسق عبر رئيسها السابق، محمد عبد الله فرماجو، صيغة جديدة لإعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة، لكن هذا الأمر لم يثنيها عن إبداء مخاوفها وتأكيد حرصها على سيادة واستقرار أراضيها، وفق ما عبر عنه وزير الدولة للشؤون الخارجية على عمر.

أما إريتريا، فتعد من أكثر الدول تخوفًا بشأن الطموحات الإثيوبية، خاصة وأنها الأقرب لسيناريو المواجهة في محاولة لإعادة التوحيد مرة أخرى للوصول إلى موانئ عصب ومصوع، مما يعزز الإرث التاريخي المحمل بالصراع، فرغم التحالف المؤقت بين أبي أحمد وأسياس أفورقي لمواجهة التيجراي، إلا أنه تحالف لن ينفي احتمالية نشوب مواجهة مستقبلية قد تدعمها التناقضات الاستراتيجية في المنطقة، مما دفع الحكومة الإرترية للحديث عن عدم انجرارها للحوار فيما أثير مؤخرًا من دعوات الوصول إلى البحر.

وربما المخاوف السابقة هي جزء من كل، مما قد تثيره إثيوبيا في المنطقة من توترات، حال أقدمت على أي عمل مهدد للاستقرار الإقليمي، وهو ما دفع دول الجوار للتعبير عن تضامنها مع وحدة وسيادة الصومال. فمن منطلق الأمن الإقليمي وتهدئة حدة التوترات والاستقطاب في البحر الأحمر، أعلنت مصر في الثالث من يناير دعمها لسيادة الصومال ووحدة أراضيه، وهو موقف مدعوم بعضوية مصر في مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس عام 2020، وسعت إثيوبيا للانضمام له منذ ذلك الحين.

ولا يمكن النظر إلى الطموح الإثيوبي بأنه داعمًا فقط لأهداف التنمية والتجارة، بل يهيئ لها إمكانية إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وفق ما عكسه تعليق رضوان حسين مستشار الأمن القومي الإثيوبي، على مذكرة التفاهم الجديدة، وهو طموح إن تحقق سيفاقم من عسكرة منطقة البحر الأحمر، التي عادت إليها صور مختلفة من التهديدات الأمنية بما في ذلك القرصنة والإرهاب.

في الأخير، يبدو أن التحركات الإثيوبية الأخيرة تأتي في سياق من عدم الاستقرار الداخلي والإقليمي على السواء، على نحوٍ يعيد توجيه أنظار الداخل الإثيوبي إلى الخارج، ويعزز في الوقت ذاته من حدة الاستقطاب الإقليمي، ويزيد من التهديدات الأمنية المتصاعدة في المنطقة، خاصة مع عودة القرصنة إلى البحر الأحمر، وتهديدات الحوثيين لحركة الملاحة، فضلًا عن تهديدات حركة الشباب لإثيوبيا وتحركاتها، مما قد ينذر بتمدد عملياتها للخارج، في ضوء الضغط الذي تمارسه عليها حكومة شيخ محمود في الداخل.

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80462/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M