كيف تنشئ عبقريًّا؟

توم كلاينس

 

في أحد أيام صيف عام 1968، التقى البروفيسور جوليان ستانلي بمراهق عبقري، عمره 12 عامًا، واسمه جوزيف بيتس، إلا أن علامات الملل كانت واضحة عليه. كان ابن مدينة بالتيمور متميزًا بشكل ملحوظ عن زملائه في الرياضيات، الأمر الذي حفّز والديه للترتيب له؛ للالتحاق بدورة لعلم الحاسبات في جامعة جونز هوبكنز، حيث يُدرِّس ستانلي. لم يكن ذلك كافيًا؛ فبعد أن تفوّق على بقية زملائه الأكبر منه سنًّا، ظل الطفل منشغلًا بتعليم لغة البرمجة «فورتران» FORTRAN لطلاب الدراسات العليا.

وبعد أن غلبت الحيرة مدرِّس الحاسب الآلي بشأن ما يجب فعله مع بيتس، هداه عقله إلى أنْ يذهب به إلى ستانلي، وهو باحث له باع طويل في مبحث القياس النفسي؛ أو دراسة الأداء الإدراكي. ولاكتشاف المزيد عن موهبة المعجزة الصغير، أعطى ستانلي بيتس مجموعةً من الاختبارات، شملت اختبار الكفاءة الدراسية (SAT)؛ ذلك الاختبار الذي عادةً ما يخوضه الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 16، و18 عامًا، قبل الالتحاق بجامعات الولايات المتحدة.

حقَّق بيتس في الاختبار درجة فاقت بكثير الحد الأدنى للقبول في جامعة جونز هوبكنز، مما دفع ستانلي إلى البحث عن مدرسة ثانوية محلية تسمح للطفل بالالتحاق بفصول متقدمة في الرياضيات والعلوم. وبعد أن باءت محاولته بالفشل، أقنع ستانلي أحد العمداء في جامعة جونز هوبكنز بأن يسمح لبيتس ـ البالغ من العمر 13 عامًا آنذاك ـ بالالتحاق بالجامعة.

نظر ستانلي إلى بيتس بحماس على أنه «أول طالب» في دراسته المعنية بالشباب النابغين في الرياضيات (SMPY)، التي من شأنها أن تُحْدِث طفرة في طريقة اكتشاف الأطفال الموهوبين ودعمهم في نظام التعليم الأمريكي. وفي أطول مسح طوليّ حالِيّ للأطفال الموهوبين فكريًّا، تتبعت دراسة SMPY لمدة 45 عامًا الإنجازات والحياة المهنية الخاصة بما يقرب من خمسة آلاف فرد، منهم مَن أصبح من العلماء المرموقين. وقد أسفرت بيانات الدراسة المتدفقة عن أكثر من 400 ورقة بحثية، بجانب العديد من الكتب، وقدّمَتْ أفكارًا رئيسة لسبل اكتشاف المواهب وتطويرها في مجال العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات (STEM) وغيرها من المجالات.

صرّحت كاميلا بينبو ـ معاوِنة ستانلي، التي تشغل الآن منصب عميد كلية التربية والتنمية البشرية بجامعة فاندربيلت في ناشفيل بولاية تينيسي ـ قائلة: “رغب جوليان في معرفة كيفية اكتشاف الأطفال أصحاب القدرات التي تؤهلهم للتميز فيما يُطلق عليه مجال العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات (STEM)، وكيف يمكن تعزيز فرصة تحقيقهم لأكبر استفادة من هذه الإمكانات”، لكن ستانلي لم ينشغل فقط بدراسة الأطفال الموهوبين؛ بل رغب في تنميتهم فكريًّا، وتعزيز احتمالات تغييرهم للعالم. لقد كان شعاره الذي طالما أخبر به طلاب الدراسات العليا: “لقد عفا الزمن على المنهجيات الغابرة”.

وحيث إن أوائل المشاركين في دراسة SMPY هم الآن في أوج حياتهم المهنية1، فقد بات واضحًا مدى تفوُّق الموهوبين على بقية المجتمع من حيث التأثير. فالكثير من المبدعين الذين يحملون لواء التقدم في مجالات العلوم والتقنية والثقافة قد اكتُشفت قدراتهم المعرفية الفريدة، وحظيت بالدعم في سنوات مبكرة من حياتهم، من خلال البرامج الإثرائية، مثل مركز جامعة جونز هوبكنز للشباب الموهوبين، الذي بدأه ستانلي في الثمانينات، حين ساعد في دراسة SMPY. في البداية، كانت الدراسة والمركز يَقْبلان الشباب الصغار الذين صُنِّفوا في أعلى 1% في امتحانات القبول بالجامعة. كان عالِمَا الرياضيات الرائدان تيرينس تاو، ولينهارد إن جي من بين الواحد في المئة، وكذلك مؤسِّس «فيسبوك» مارك زوكربيرج، ومؤسِّس «جوجل» سيرجي برين، والمغنية ستيفاني جيرمانوتا (ليدي جاجا)، قد تخرجوا جميعًا في مركز هوبكنز.

من جانبه صرَّح جوناثان واي ـ المتخصص في علم النفس في برنامج اكتشاف المواهب بجامعة ديوك في دورهام بولاية نورث كارولينا، التي تتعاون مع مركز هوبكنز ـ قائلًا: “سواء اتفقنا، أم اختلفنا، فهؤلاء الأشخاص يتحكَّمون بالفعل في مجتمعنا”. جمع واي بيانات من 11 دراسة طولية استشرافية واستعادية2، بما في ذلك دراسة SMPY؛ لتوضيح العلاقة بين القدرة المعرفية المبكرة، والإنجازات في مرحلة ما بعد البلوغ. وأردف: “الأطفال الذين يحققون في الاختبار درجة في أعلى قائمة الـ1% عادةً ما يصبحون علماء وأكاديميين بارزين، ومديرين تنفيذيين لشركات مدرَجة على قائمة «فورتشن 500»، وقضاة فيدراليين، وأعضاء في مجلس الشيوخ، ومليارديرات”، بيد أن هذه النتائج تتناقض مع الأفكار الراسخة التي تشير إلى أن الأداء الفائق يعتمد في الأساس على الممارسة، أي أنّ أيّ شخص يستطيع أن يصل إلى القمة، من خلال بذل جهد مركَّز كاف ومدروس. وعلى النقيض، تشير دراسة SMPY إلى أن القدرة الإدراكية المبكرة لها تأثير أكبر على الإنجاز من الممارسة المتعمَّدة، أو العوامل البيئية، مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وتؤكد الدراسة على أهمية تعزيز قدرات الأطفال المتميزين، في وقت انصبّ فيه التركيز في الولايات المتحدة وبلدان أخرى على تحسين أداء الطلاب المتعثرين (انظر: «تنشئة الأطفال الموهوبين»). في الوقت نفسه، أثار العمل على اكتشاف ودعم الطلاب الموهوبين أكاديميًّا تساؤلات مقلقة حول مخاطر تصنيف الأطفال، وضعف عمليات البحث عن المواهب، والاختبارات الموحدة، كوسيلة لاكتشاف الطلاب ذوي الإمكانات العالية، وخاصة في المناطق الفقيرة والريفية.

صرّحت دونا ماثيوز ـ أخصائية علم النفس النمائي في تورنتو، كندا، التي شاركت في تأسيس مركز تعليم ودراسات الموهوبين في كلية هنتر في مدينة نيويورك ـ قائلة: “إن التركيز المفرط على التنبؤ بالنوابغ الذين سيَصِلون إلى القمة يُوقِعنا في فخ الاستهانة بالعديد من الأطفال الذين لم يخضعوا لهذه الاختبارات، أمّا مَن يخضعون لها، فإنّ إطلاق لفظ «موهوبين» أو «غير موهوبين» عليهم لا يعود عليهم بأي فائدة؛ ففي كلتا الحالتين قد يقوِّض ذلك من دافع التعلم لدى الطفل”.

بداية الدراسة

في أحد الأيام الحارة في شهر أغسطس، وصفت بينبو، وزوجها ديفيد لوبنسكي ـ اختصاصي علم النفس ـ أصول دراسة الشباب النابغين في الرياضيات أثناء سيرهما في باحة جامعة فاندربيلت. كانت بينبو طالبة دراسات عليا في جامعة جونز هوبكنز عندما قابلت ستانلي في فصل كان يدرسه في عام 1976. قام بينبو ولوبنسكي ـ اللذان شاركا في الإشراف على الدراسة منذ تقاعد ستانلي ـ بنقل الدراسة إلى فاندربيلت في عام 1998.

وتقول بينبو وهي تقترب من مختبر علم النفس في الجامعة، وهو أول منشأة في الولايات المتحدة تهتم بدراسة هذا المجال: “يمكن القول إن ذلك عاد بأبحاث جوليان إلى مقرها الأصلي، فهذا هو المكان الذي بدأ فيه حياته المهنية كبروفيسور”. يضم المختبر ـ الذي تأسس في عام 1915 ـ مجموعة صغيرة من الآلات الحاسبة العتيقة التي كانت تُستخدم كأدوات لعلم النفس الكمي في أوائل خمسينات القرن العشرين، عندما بدأ ستانلي عمله الأكاديمي في القياس النفسي والإحصاء.

وقد زاد اهتمامه بتطوير المواهب العلمية بفضل إحدى أشهر الدراسات الطولية في علم النفس، وهي دارسات لويس تيرمان الوراثية للعباقرة4،3. وابتداءً من عام 1921، اختار تيرمان المراهقين المشاركين في دراسته على أساس معدلات الذكاء العالية، ثم تابعهم وشجعهم في حياتهم المهنية، ولكن ما أثار استياء تيرمان هو أن مجموعته لم تفرز سوى عدد قليل من العلماء المرموقين، وكان مِن بين مَن استبعدهم لأن معدل ذكائهم ـ البالغ 129 ـ كان أقل من اللازم للدخول في المجموعة، كل من: ويليام شوكلي، الفائز بجائزة «نوبل» كمشارك في اختراع الترانزستور، والفيزيائي لويس ألفاريز، الحائز أيضًا على جائزة «نوبل».

شكّ ستانلي في أن تيرمان لم يكن ليستبعد شوكلي وألفاريز، لو اتبع وسيلة موثوقة لاختبارهما، خاصة فيما يتعلق بالقدرة على التفكير الكمي. وبناءً عليه، قرر ستانلي تجربة اختبار الكفاءة الدراسية (SAT). ورغم أن الاختبار يستهدف الطلاب الأكبر سنًّا، فإن ستانلي افترض أنه مناسب تمامًا لقياس قدرات التفكير التحليلي لدى النوابغ من الأطفال الأصغر سنًّا.

وفي مارس 1972، جمع ستانلي قرابة 450 نابغة، تتراوح أعمارهم بين 12، و14 عامًا من منطقة بالتيمور، وأعطاهم جزء الرياضيات من اختبار SAT. يُعَدّ ذلك أول “بحث عن المواهب” موحد وأكاديمي، فقد استعان الباحثون لاحقًا (بالجزء اللفظي والتقييمات الأخرى). ويقول المتخصص في علم النفس التنموي دانيال كيتنج، الذي كان آنذاك طالبًا للدكتوراة في جامعة جونز هوبكنز: “كانت المفاجأة الكبيرة الأولى هي عدد المراهقين الذين تمكنوا من حل مسائل الرياضيات التي لم يسبق أن تعاملوا معها في منهجهم الدراسي، أما المفاجأة الثانية، فقد تمثلت في عدد الأطفال الصغار الذين حصلوا على درجات أعلى بكثير من الحد الأدنى للقبول المعمول به في العديد من الجامعات المرموقة”.

لم يتصور ستانلي أن تأخذ دراسة الشباب النابغين في الرياضيات (SMPY) شكل دراسة طولية تمتد إلى عقود، ولكن بعد أول مسح للمتابعة أُجري بعد خمس سنوات، اقترحت بينبو تمديد الدراسة؛ لتتبُّع الموهوبين خلال حياتهم، حيث أُضيفت مجموعات جديدة، كما أُدرج في الدراسة تقييم للاهتمامات، والتفضيلات، والإنجازات المهنية، وغيرها من إنجازات الحياة. تضم الأربع مجموعات الأولى في الدراسة مَن حققوا درجات تتراوح بين أعلى 3% إلى أعلى 0.01 % في درجات اختبار الكفاءة الدراسية. كما أضاف فريق دراسة SMPY مجموعة خامسة من أبرز طلاب الدراسات العليا المتخصصين في الرياضيات والعلوم في عام 1992؛ من أجل اختبار إمكانية تعميم نموذج البحث عن المواهب؛ لاكتشاف القدرات العلمية لدى الأفراد.

وفي تعليقه على الدراسة، يقول كريستوف بيرليث، اختصاصي علم النفس في جامعة روستوك في ألمانيا، الذي يدرس تنمية الذكاء والمواهب: “لا أعرف أي دراسة أخرى في العالم أعطتنا نظرة شاملة ودقيقة كهذه حول كيفية تطور المواهب في مجال العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات، وأسباب ذلك التطور”.

المهارات المكانية

في ظل تدفق البيانات، سرعان ما اتضح أن اتباع منهج واحد يلائم الجميع في تعليم الموهوبين، أو التعليم بوجه عام، أصبح غير كاف. وفي هذا السياق، صرحت رينا سابوتنيك، المسؤولة عن إدارة مركز سياسة تعليم الموهوبين، التابع لجمعية علم النفس الأمريكية في واشنطن العاصمة، قائلة: “لقد منحتنا دراسة الشباب النابغين في الرياضيات أول قاعدة عيِّنات كبيرة في هذا المجال، ساعدتنا بدورها على التخلي عن فكرة الذكاء العام، والانتقال إلى تقييمات لقدرات واهتمامات إدراكية معينة، فضلًا عن عوامل أخرى”.

بدأ ستانلي في عام 1976 اختبار مجموعته الثانية (عينة تتألف من 563 مراهقًا في عمر الثالثة عشرة، كانوا من بين أفضل 0.5% في اختبار الكفاءة المدرسية) فيما يتعلق بالقدرة المكانية؛ أي القدرة على فهْم العلاقات المكانية بين الأشياء، وتذكّرها5. وتنطوي اختبارات القدرة المكانية على نشاط مطابقة أشياء يُنظر إليها من مناظير مختلفة، أو تحديد المقطع العرضي الذي سينشأ عند قطع شيء بطرق معينة، أو تقدير مستويات المياه في زجاجات مائلة ذات أشكال متنوعة. انتاب ستانلي الفضول بشأن ما إذا كانت القدرة المكانية قد تتنبأ بالنتائج التعليمية والمهنية بشكل أفضل من مقاييس الاستدلال الكمي واللفظي وحدها.

وأيّدت دراسات المتابعة التي أُجريت على الأشخاص في أعمار 18، و23، و33، و48 عامًا حدسه. وقد اكتشف تحليل5 أُجري في عام 2013 وجود علاقة بين عدد براءات الاختراع، والأبحاث المُحَكَّمة التي نشرها أولئك الأشخاص، وبين نتائجهم الأولية في اختبارات الكفاءة المدرسية والقدرات المكانية. مَثَّلَت اختبارات الكفاءة المدرسية مجتمعةً حوالي 11% من نسبة التباين، بينما مَثَّلَت اختبارات القدرة نسبة 7.6% إضافية.

وتشير النتائج ـ التي تتفق مع نتائج الدراسات التي أُجريت مؤخرًا ـ إلى أن القدرة المكانية تلعب دورًا رئيسًا في الإبداع والابتكار التقني. وفي هذا السياق، يقول لوبنسكي: “أعتقد أن هذا هو أكبر ما يُعرف من مصادر الإمكانات البشرية غير المستغلة”، مبينًا أن الطلاب المتميزين إلى حد ما في الرياضيات أو القدرات اللفظية، لكنهم يملكون قدرات مكانية عالية، غالبًا ما يصبحون مهندسين، أو معماريين، أو جَرّاحين بارعين، مضيفًا: “حتى الآن، ليس هناك مِن بين مَن أعرفهم من مديري أقسام القبول بالجامعات مَن يبحث عن هذه القدرات، ناهيك عن أنه يتم التغاضي عنها بوجه عام في التقييمات المدرسية”.

ورغم أن دراسات مثل دراسة SMPY قد سلّحت المُعلِّمين بالقدرة على اكتشاف الأطفال الموهوبين ودعمهم، فإنّ الاهتمام بهذه الشريحة حول العالم غير متكافئ. ففي الشرق الأوسط وشرق آسيا، حظي طلاب العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات المتميزون باهتمام كبير خلال العقد المنصرم؛ إذ عملت دول معينة ـ مثل كوريا الجنوبية، وهونج كونج، وسنغافورة ـ على التنقيب عن الأطفال الموهوبين، وتشجيع المتميزين على الالتحاق ببرامج إبداعية. وفي عام 2010، أطلقت الصين خطة وطنية لتطوير المواهب، مدتها عشر سنوات؛ تهدف إلى دعم الطلاب المتميزين؛ وتوجيههم إلى دراسة العلوم، والتقنية، وغيرها من المجالات المطلوبة بشدة. أما في أوروبا، فقد تراجع الدعم المقدَّم للبرامج البحثية والتعليمية الخاصة بالأطفال الموهوبين، حيث اتجه التركيز أكثر نحو الإدماج. وقررت إنجلترا في عام 2010 إلغاء الأكاديمية الوطنية للمتفوقين والموهوبين الشباب، وتوجيه الأموال نحو الجهود الرامية إلى إلحاق المزيد من الطلاب الفقراء بالجامعات الرائدة.

على المسار السريع

حين بدأ ستانلي عمله، كانت الخيارات المتاحة للأطفال النابغين في الولايات المتحدة محدودة، ومن ثم سعى إلى توفير بيئات، يتسنَّى فيها للمواهب المكتشَفة مبكرًا أن تزدهر. وفي هذا الصدد، تقول ليندا برودي، التي درست مع ستانلي، وتدير في الوقت الحالي برنامجًا في جامعة جونز هوبكنز، يهتم بتوجيه الأطفال النابغين: “اتّضح لجوليان أن اكتشاف الإمكانات لا يكفي، إذ يتعين تطويرها بطرق ملائمة، إذا كنت ترغب في الحفاظ على توهُّجها”.

في البداية، اعتمدت هذه الجهود على منهج التعامل مع كل حالة على حدة، حيث بدأ آباء الأطفال المتميزين في التواصل مع ستانلي، بعد عِلْمهم بما قام به مع بيتس، الذي ازدهر بعد الالتحاق بالجامعة. فببلوغه سن 17 عامًا، حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في علم الحاسبات، وبدأ رحلة الحصول على الدكتوراة من جامعة كورنيل في إيثاكا، نيويورك. وبعد ذلك، وبصفته أستاذًا في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرج، بنسلفانيا، أصبح رائدًا في مجال الذكاء الاصطناعي.

يقول بيتس، الذي يبلغ الآن من العمر 60 عامًا: “كنت خجولًا، ولم تكن الضغوط الاجتماعية المتعلقة بالمدرسة الثانوية لتجعلها ملائمة لي، لكن الجامعة وفَّرَت ـ برفقة عباقرة العلوم والرياضيات ـ البيئة المناسبة لي تمامًا، حتى وإن كنت أصغر من زملائي بكثير. تمكنتُ من تحقيق التقدم في الجانب الاجتماعي، وفق الوتيرة التي تناسبني، وهو الأمر الذي ينطبق على الجانب الفكري، لأنّ الإيقاع السريع للدراسة أبقاني مهتمًّا بمحتوى ما أدرسه”. «سواء اتفقنا، أَم اختلفنا.. فهؤلاء الأشخاص يتحكَّمون بالفعل في مجتمعنا».

لقد دعَّمَت بيانات دراسة الشباب النابغين في الرياضيات فكرة التسريع الأكاديمي للمتعلمين المتميزين، وذلك بالسماح لهم بتخطِّي الصفوف الدراسية. وفي مقارنة عُقدت بين الأطفال الذين تخطُّوا أحد الصفوف، وبين مجموعة مرجعية من أطفال يتمتعون بمستوى ذكاء مشابه، لكنهم لم يتخطوا أي صفوف، أشارت النتائج إلى أن متخطِّي الصفوف كان يزيد احتمال حصولهم على الدكتوراة، أو أن يكون لهم براءات اختراع بنسبة 60%، فضلًا عن إمكانية حصولهم على الدكتوراة في مجال العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات، بنسبة تزيد على ضعف الإمكانية المتاحة لغيرهم من الطلاب.6 إن التسريع الأكاديمي شائع في مجموعة النخبة (1 من 10,000) في دراسة SMPY، وهم مَن يتسمون بتنوع فكري، وسرعة في التحصيل العلمي، تجعل من تدريسهم عملية معقدة. ويشير لوبنسكي إلى أن تكلفة النهوض بهؤلاء الطلاب قليلة، أو معدومة، وفي بعض الحالات يوفر المال للمدارس. ويضيف: “لا يحتاج هؤلاء الأطفال في الغالب أي شيء جديد أو مبتكر، بل يحتاجون فقط إلى الوصول المبكر للمواد المتاحة للأطفال الأكبر سنًّا”.

لا يزال العديد من المعلمين والآباء يعتقدون أن التسريع الأكاديمي سيئ في حق الأطفال؛ إذ يرون أنه قد يسبِّب لهم ضررًا اجتماعيًّا، أو يجعلهم لا يعيشون طفولتهم، أو يخلق فجوات معرفية بينهم وبين أقرانهم، غير أن الباحثين في مجال التعليم يتفقون ـ بوجه عام ـ على أن التسريع الأكاديمي يعود بالنفع على الغالبية العظمى من الطلاب الموهوبين في النواحي الاجتماعية، والنفسية، والأكاديمية، والمهنية أيضًا. 7

إنّ تخطِّي الصفوف الدراسية ليس هو الخيار الوحيد، إذ يشير الباحثون في دراسة الشباب النابغين في الرياضيات إلى أن أبسط الإجراءات ـ على سبيل المثال، الوصول إلى مواد أكثر صعوبة، مثل مواد الدراسات المتقدمة للمرحلة الجامعية ـ قد يكون له أثر ملحوظ. ويبرز من بين الطلاب الذين يتمتعون بقدرات عالية طلاب حصلوا على تجربة أكثر إثراءً، انطوت على فرص تعليمية متقدمة في العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات، قبل الالتحاق بالجامعة، الأمر الذي ساعدهم على نشر عدد أكبر من الأبحاث الأكاديمية، والحصول على عدد أكبر من براءات الاختراع، ومن ثم الحصول على وظائف أعلى من نظرائهم الذين يتمتعون بمستوى مماثل من الذكاء، لكنهم لم تُتَح لهم تلك الفرص8.

ورغم تمخض دراسة الشباب النابغين في الرياضيات عن الكثير من الرؤى، فإن صورة الموهبة والإنجاز لا تزال غير مكتملة لدى الباحثين. يقول دوجلاس ديترمان، وهو اختصاصي في علم النفس، يدرس القدرة الإدراكية في جامعة كيس ويسترن ريزيرف في كليفلاند بولاية أوهايو: “نحن لا نعرف السبب، فحتى في أوساط النابغين، هناك من يبلي بلاءً حسنًا، وهناك من يؤدي أداءً سيئًا”. ويضيف: “إن الذكاء ليس هو السبب دائمًا وراء كافة الفروق بين الأشخاص؛ إذ إن هناك عوامل أخرى مهمة، منها الدوافع، وجوانب الشخصية، ومدى الجدية في العمل، وغير ذلك”.

نشأ بعض الرؤى عن دراسات ألمانية9-10-11 اتبعَتْ منهجية مماثلة لتلك المتَّبَعة في دراسة الشباب النابغين في الرياضيات. وتوصَّلَت دراسة ميونخ الطولية للمواهب ـ التي بدأت في تعقُّب 26,000 طالب موهوب في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ـ إلى أن العوامل الإدراكية كانت هي الأكثر دلالة، غير أن بعض السمات الشخصية، مثل الدافع، والفضول، والقدرة على التغلب على الضغوط، كان لها تأثير محدود على الأداء، وكان للعوامل البيئية ـ مثل الأسرة، والمدرسة، والأقران ـ تأثير أيضًا. وإضافة إلى ذلك.. تسهم البيانات المستمدة من عمليات البحث عن المواهب الفكرية في التعرّف على كيفية اكتساب الأشخاص للخبرات في مجالات معينة.

وقد رَوَّج بعض الباحثين والكتّاب ـ لا سيما أندرس إريكسون، عالِم النفس في جامعة ولاية فلوريدا في تالاهاسي، والكاتب مالكوم جلادويل ـ لفكرة “الحد الأدنى للقدرات”، التي بدورها تشير إلى أنه بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتخطُّون معدّل ذكاء معين (غالبًا 120)، فإن مدة الممارَسة المركزة تُعَدّ أكثر أهمية من القدرات الفكرية الإضافية، من أجل اكتساب الخبرات، بيد أن البيانات المستمَدَّة من دراسة الشباب النابغين في الرياضيات، وبرنامج ديوك للمواهب، تخالِف هذه الفرضية (انظر: ‹قمة جداول الترتيب›). وعَقدت دراسة نُشرت هذا العام12 مقارنةً بين نتائج الطلاب الموجودين ضمن أفضل 1%، من حيث القدرة الفكرية في مرحلة الطفولة، وبين نتائج الطلاب الموجودين ضمن نسبة أفضل 0.01.% وبينما حصلت المجموعة الأولى على درجات متقدمة بمعدل يبلغ 25 ضِعْف عموم الطلاب، حصل الطلاب الأكثر نبوغًا على الدكتوراة بمعدل بلغ 50 ضِعْف الطلاب العاديين.

وهناك علامات استفهام على بعض هذه الدراسات. ففي أمريكا الشمالية وأوروبا، يشعر بعض خبراء تنمية الأطفال بالحسرة، لأن معظم الأبحاث المتعلقة بتنمية المواهب مدفوعة بالحاجة إلى توقُّع مَن سيعتلي القمة، بيد أن التربويين قد عَبَّروا عن قلقهم البالغ إزاء فكرة تعريف وتمييز مجموعة من التلاميذ على أنهم متفوقون، أو موهوبون13.

تقول ماثيوز في هذا الصدد: “إن تحقيق درجة عالية في الاختبار يفيد بأن الشخص يملك قدرات عالية تلائم هذا الاختبار في هذه المرحلة الزمنية، بينما لا يخبرك الحصول على درجات منخفضة أي شيء من الناحية العملية”، لأن هناك عوامل كثيرة قد تؤثر بالسلب على أداء الطالب، من بينها الخلفيات الثقافية، ومدى ارتياحهم لخوض اختبارات تنطوي على أهمية بالغة. وتؤكد ماثيوز أنه حين يشعر الأطفال القريبون من درجات الإنجاز المبكر القصوى العليا أو الدنيا بأنهم يخضعون للتقييم بخصوص النجاح المستقبلي، فقد يتراجع حافز التعلُّم لديهم، وقد يتمخض عن ذلك ما أطلقَتْ عليه عالمة النفس في جامعة ستانفورد كارول دويك: “العقلية الثابتة”، إذ تقول دويك إنه من الأفضل بكثير التشجيع على التحلي بعقلية النمو التي يشعر فيها الأطفال بأنّ الذكاء والموهبة ما هما إلا نقطة بداية، وأن القدرات يمكن تطويرها بالعمل الجاد، والمجازفة الفكرية المستمرة.

وتضيف دويك: “يركِّز الطلاب على تطوير أنفسهم، بدلًا من الانشغال بمستوى ذكائهم، والسعي النَّهِم لنَيْل استحسان الآخرين، فهم يعملون بجد لتعلُّم المزيد، واكتساب المزيد من الذكاء”. ويُظْهِر البحث الذي أجرته دويك وزملاؤها أن الطلاب الذين يتمتعون بهذه العقلية لديهم حافز أكبر في الدراسة، ويحصلون على علامات أفضل، ودرجات أعلى في الاختبارات14.

وتتفق بينبو مع أنّ الاختبارات المعيارية يجب ألّا تُستخدم لتقييد خيارات الطلاب، بل لاكتساب استراتيجيات للتعلُّم والتدريس، ملائِمة لقدرات الأطفال؛ مما يتيح للطلاب في كافة المستويات استكشاف إمكاناتهم الكاملة.

وتخطِّط بينبو، ولوبنسكي لإجراء مَسْح لمنتصف العمر لمجموعة النخبة (1 من 10,000) في العام القادم، حيث سيركِّز هذا المسح على الإنجازات المهنية، ومستوى الرضا عن الحياة، وإعادة مسْح عيِّنة 1992، التي أجرياها على طلاب الدراسات العليا في عدد من الجامعات الرائدة بالولايات المتحدة. يمكن أن تُسهِم الدراسات التالية في تقويض الفهم القديم الخاطئ، القائل إنّ الطلاب الموهوبين يتسمون بالذكاء الذي يكفيهم لتحقيق النجاح بمفردهم، دون الكثير من المساعَدة. يقول ديفيد جيري، المتخصص في علم النفس التنموي الإدراكي في جامعة ميزوري في كولومبيا، والمتخصص تحديدًا في تعليم الرياضيات: “إن المجتمع التعليمي لا يزال يقاوم هذه الرسالة، فهناك اعتقاد عام بأن الأطفال الذين يتمتعون بمزايا إدراكية أو غيرها لا يحتاجون إلى المزيد من التشجيع، وأن علينا التركيز أكثر على الأطفال الأقل أداءً”.

وعلى الرغم من أن المتخصصين في مجال تعليم الموهوبين يرحبون بزيادة خيارات تنمية المواهب في الولايات المتحدة، إلا أن المزايا لا تزال تقتصر ـ في الغالب ـ على الطلاب الذين يحتلون صدارة المواهب والمستويات الاجتماعية والاقتصادية الأعلى.

يقول لوبنسكي: “نحن نعرف كيفية اكتشاف هؤلاء الأطفال، ونعرف كيفية مساعدتهم، لكننا في الوقت ذاته نهمل عددًا كبيرًا من أذكى الأطفال في بلادنا”.

وبينما يسير لوبنسكي وبينبو في الفناء، دقّت الساعة؛ مشيرةً إلى الثانية عشرة ظهرًا، لينطلق عدد من المراهقين المتحمسين مسرعين إلى غرفة تناوُل الطعام. يشارك العديد من هؤلاء في برامج «فاندربيلت» للشباب الموهوبين، فضلًا عن دورات الإثراء الصيفية، التي يقضي خلالها الطلاب الموهوبون ثلاثة أسابيع في إثراء أنفسهم في محتوى يعادل عامًا كاملًا، في مواد الرياضيات، والعلوم، والآداب، وفي الوقت ذاته يشارك آخرين في مخيمات فاندربيلت الرياضية. وفي هذا الصدد يقول لوبنسكي، الذي مارَس لعبة المصارعة في سنوات المدرسة الثانوية والجامعة: “إنهم يعملون على تطوير المواهب المختلفة على حد سواء، بيد أن مجتمعنا يشجع المواهب الرياضية أكثر من المواهب الفكرية”.

إنّ هؤلاء الطلاب الموهوبين “أبطال العالم في الرياضيات” قادرون على رسم ملامح المستقبل. وهنا يقول لوبنسكي: “عندما تنظر إلى المشكلات التي تواجه المجتمع في الوقت الراهن، سواء أكانت متعلقة بالصحة، أم بتغيُّر المناخ، أم بالإرهاب، أم بالطاقة، فإنّ هؤلاء الأطفال يملكون أفضل القدرات لحل هذه المشكلات. هؤلاء هم مَن يجدر بنا أن نراهن عليهم”.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/variety/36477

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M