إيطاليا والعودة إلى حالة عدم الاستقرار

د. توفيق أكليمندوس

 

في توقيت حرج أجبرت ثلاثة أحزاب إيطالية كانت منخرطة في التحالف الحكومي رئيس الوزارة ماريو دراغي على الاستقالة هو وحكومته. ونتيجة لهذه الخطوة ستعقد انتخابات في توقيت يجري تحديده، ولكنه غالبًا سيكون في نهاية سبتمبر أو أول أكتوبر، وسيستمر دراغي رئيسًا للوزارة إلى حين إجرائها لتسيير الأعمال، واستقبلت العواصم الغربية والمفوضية الأوروبية الأنباء الآتية من روما بمزيج من الذهول، والاستهجان، والقلق، والترقب، فالمفاجأة من العيار الثقيل، حيث إن رئيس الوزارة الملقب بمنقذ اليورو من كبار رجال البنوك والنخبة المالية الغربية، وشخصية معروفة عالميًا ومحل إعجاب وتقدير، ووجوده على رأس الحكومة أحد أسباب قبول الاتحاد الأوروبي فكرة ضخ أموال ضخمة في الاقتصاد الإيطالي (٢٠٩ مليارات يورو).

دراغي يقود عملية إصلاح بدت ضرورية، وكانت صيغة الائتلاف تعني في الوقت نفسه أن الكل مشارك في مسئولية كلفتها، وبالتالي تعني أيضًا أن لا أحد يتحمل هذه المسئولية سوى رئيس الوزارة وهو غير حزبي، وتحدث مراقبون عن ديكتاتورية من نوع خاص هي ديكتاتورية البنك المركزي، وأغضب ميل دراغي القوي إلى الانفراد بالقرار –في كل المجالات بما فيها السياسة الخارجية- الكثيرين رغم رشادة أغلب هذه القرارات وضرورتها.

بداية الأزمة

كان معروفًا أن رئيس حركة خمس نجوم جيوزبي كونتي الذي ترأس الحكومة ما بين ١٩ سبتمبر ٢١ وفبراير شديد الحنق على دراغي لأنه -أي كونتي- رأى أن أداءه الشخصي على رأس الحكومة كان معقولًا جدًا، وأن سبب تعيين دراغي هو اتصالاته الدولية، ولذلك لم يتوقف أبدًا عن إثارة مشكلات كبيرة أو صغيرة، ولكن شعبية حركة خمس نجوم كانت في تراجع ولا سيما بعد ترك وزير الخارجية لويجي دي مايو و٦٠ من النواب الحركة بعد انقسامات حادة.

وبدأت الأزمة التي أطاحت بالحكومة عندما رفضت حركة خمس نجوم الموافقة على القرار الحكومي الخاص بالمساعدات الحكومية لفئات الشعب المختلفة، لعدم اهتمام رئيس الوزراء بمقترحات الحزب في هذا المضمار، واعتبارها نوعًا من المزايدة، ثم فوجئ الكل بمطالبة أحزاب اليمين –تحديدًا حزبي الرابطة وإلى الأمام- بإعادة تشكيل الوزارة دون حزب خمس نجوم المثير دائمًا لمشكلات كما أسلفنا، ورفض ماريو دراغي الفكرة، هو تكنوقراطي لم ينتخب ويريد تأييد أكبر قدر ممكن من المُنتخبين، وبلغت الأزمة ذروتها عندما رفضت الأحزاب الثلاثة (حركة خمس نجوم، إلى الأمام إيطاليا، الرابطة) إعطاء الثقة لرئيس الوزراء في مفاجأة كبيرة، لأنه وإلى آخر يوم تصور المراقبون أن الحزبين اليمينيين يناوران وأن الأمر ليس جادًا. وقوى هذا التحليل مطالبة آلاف من أعضاء المجالس المحلية باستمرار حكومة دراغي، ولكن اتضح أن إجبار الحكومة على الاستقالة قرار يسمح لكل من الأحزاب التي تآمرت عليها بإدارة الخلافات الداخلية العميقة.

وضع هش وقلق أوروبي

مدى بساطة الأزمة التي أودت بالحكومة تثبت هشاشة الأسس التي قامت عليها، دراغي عُين ليتعامل مع أزمة كوفيد-١٩ وليحث الاتحاد الأوروبي على تقديم حزمة ضخمة من المساعدات، وأدار الرجل أزمة الجائحة بحزم بدا سلطويًا، وأشرف على إصلاحات ونفذها بنفس الأسلوب، وهذا النهج السلطوي وخطورة الأوضاع يفسران إصراره على الحصول على أكبر تأييد حزبي، تأييد حزبي يرقى إلى مستوى التفويض وإن لم يكيف هكذا.

لم يُعطِ دراغي رقم تليفونه المحمول إلا لبعض أعضاء حكومته، وكثيرًا ما اكتشف بعضهم مضمون الإصلاحات بعد أن صدر قرار بها. امتعضت حركة خمس نجوم من إصلاحه للهيئة القضائية، واستاءت الرابطة من إصلاحاته الضريبية، ولكنهم التزموا بالتضامن الحكومي إلى حين.

وفي أول الأمر لم يعترض أحد على انفراده بالحكم، فللرجل كفاءة وشرعية لا تناقشان في مجال المال والاقتصاد، وفي حوزته مال أوروبي وفير، ولكن الأمور تغيرت قبل شهرين أو ثلاثة من غزو روسيا لأوكرانيا عندما أعلن دراغي أنه يفكر في ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، ومدة الولاية في إيطاليا سبع سنوات، فأثار هذا التصريح مخاوف الجميع في نخبة تخشى شبح موسوليني، وبدا وكأن طموحًا شخصيًا يحركه، فتحالف الكثيرون لإفساد مسعاه ولإقناع الرئيس ماتريلا بقبول الاستمرار في منصبه، ثم جاء غزو روسيا لأوكرانيا ليزيد الطين بلة. فمن ناحية، دراغي لا يتمتع بنفس الشرعية في السياسة الخارجية. ومن ناحية أخرى، فإن الشعب الإيطالي من أكثر الشعوب الأوروبية المتعاطفة مع روسيا وترتبط كل أحزاب اليمين الإيطالي (إخوة إيطاليون غير المشترك في حكومة دراغي، وإلى الأمام إيطاليا، والرابطة) بعلاقات وثيقة بالكرملين شأنهم شأن حركة خمس نجوم ذات التوجه الشعبوي المائل إلى اليسار. باختصار بدت السياسة التي اتّبعها دراغي في الملف الروسي والمتبنية بتحفظ خط الناتو، نقول بدت وكأنها لا تعبر عن رأي وتوجهات البلاد، وتناقض مصالحها ولا سيما في مجال الطاقة.

وهذه النقطة أحد أسباب قلق العواصم الغربية، النقطة المشتركة في القوى التي أسقطت دراغي هي قربها الشديد من الكرملين. من ناحية أخرى فإن استطلاعات الرأي في إيطاليا (وتقيس اتجاهات الجمهور اليوم دون أي تنبؤ بكيفية تطورها) تشير إلى تصدر حزب إخوة إيطاليون الانتخابات وحصوله على ربع الأصوات تقريبًا، وهو حزب لم يشترك في حكومة دراغي بل عارضها من أول يوم، وهو شديد اليمينية وكان في وقت ما مقربًا من موسكو، ولكن زعيمته حرصت على إدانة غزو أوكرانيا إدانة واضحة وعلى تأييد العقوبات، ولكنّ هناك شكوكًا في صدق هذا الموقف، وإضافة إلى ذلك لن تستطيع الحكم منفردة، بل ستتحالف مع حزبي الرابطة وإلى الأمام إيطاليا وهما حزبان لهما علاقات قوية مع الرئيس بوتين. هناك خبراء يقللون من شأن هذا قائلين إن قوة حزب الرابطة في تأييد رجال الصناعة والتجارة الصغار والمتوسطين، وهؤلاء نجحوا في الماضي في التخفيف من حدة توجه حزبهم المعادي للاتحاد الأوروبي، ولا يشكك هؤلاء الخبراء في قدرة هذه الفئة على إقناع قيادات الحزب بالابتعاد عن موسكو، ولكن من الواضح أننا بصدد القفز إلى المجهول، ولا سيما في ضوء استسهال حزب الرابطة وحزب الخمس نجوم وحزب إلى الأمام إيطاليا إلقاء التهم ونسبة كل تطور سلبي يصيب إيطاليا إلى بيروقراطية الاتحاد الأوروبي.

كل الدوائر الأوروبية تعرف كيف تعقد المجر عملية اتخاذ القرار في الاتحاد، وتهاب هذه الدوائر وجود حكومة إيطالية تلعب الدور نفسه (إيطاليا ثالث اقتصاد في الاتحاد) وتعطل القرارات الخاصة بالمساعدات إلى أوكرانيا أو غيرها كتلك المتعلقة بالغاز الروسي، أو بترشيد استخدام الغاز الروسي أو بالعقوبات، كما تخشى تبني إيطاليا سياسات اقتصادية غير رشيدة تزيد من حدة أزمة اليورو وتعقد إدارة الديون الأوروبية وتؤثر على خطط تنشيط الاقتصاديات، وقد يكون استمرار التعاون بين فرنسا وإيطاليا صعبًا أو مستحيلًا نظرًا للعلاقات السيئة جدًا بين الرئيس ماكرون وأقطاب اليمين الإيطالي.

قد تكون هذه المخاوف غير مبررة، فإلى الآن إيطاليا لم تحصل إلا على ربع المبالغ التي خصصها الاتحاد لها، وتقديم هذه المبالغ مشروط بقيام روما بإصلاحات عميقة، وقد تحث هذه المبالغ الحكومة المقبلة على السير على خطى دراغي فيما يتعلق بالتعامل مع الاتحاد وبإدارة الاقتصاد، ولكن يبقى أن إيطاليا ستكون مشلولة إلى إجراء الانتخابات في نهاية سبتمبر في أحسن الأحوال، وقد يكون هذا الشلل مضرًا جدًا إن ارتفعت الأسعار فجأة مثلًا.

الانتخابات المقبلة

من المتوقع أن تشهد الانتخابات المقبلة منافسة شديدة. استطلاعات الرأي تبرز تنافسًا على المركز الأول بين إخوة إيطاليون والحزب الديمقراطي (وهو حزب تأسس سنة ٢٠٠٧ ويضم شيوعيين ومسيحيين ديمقراطيين سابقين في توليفة لا تسهل التنسيق الداخلي) وتتأخر الرابطة (أقل من ١٥٪) وحركة خمس نجوم (أكثر قليلًا من ١٢٪) وإلى الأمام إيطاليا (٨٪).

زعيمة حزب إخوة إيطاليون لها خبرة في العمل الوزاري إذ كانت وزيرة الشباب في آخر وزارة لبرلوسكوني، وهي خطيبة مفوهة ولكن خطابها شديد العداء للمهاجرين، ويتبنى سياسات حمائية جلبت شعبية ولكنها تثير شكوك الدوائر المالية والاقتصادية، يستطيع الحزب الديمقراطي أن يتباهى بكونه الحزب الوحيد الذي أيد دراغي بإخلاص ودون حسابات حزبية ضيقة ودون سعي إلى تسجيل مواقف، ولكن حزبه منعزل نسبيًا عاجز عن تخطي حاجز ٢٢٪ ويعاني من كونه حزب النخب والأحياء الراقية في المدن الكبيرة، ومن عدم وجود حليف “طبيعي” له فهو شديد النقد واللوم لحركة خمس نجوم ذات الميول اليسارية، ويرى أنها حركة غير مسئولة شديدة التقلب ولا خط واضح لها ولا هوية. صحيح أن إيطاليا عرفت في الماضي القريب تحالفات بدت عجيبة وغير طبيعية، ولكنني أعتقد أن غياب حليف طبيعي قد يترتب عليه خسارة أصوات. يجمع المراقبون على التقليل من فرص حزب إلى الأمام إيطاليا، قياداته شاخت ولم تثبت كفاءة عندما تولت الحكم، حزب الرابطة -وقد يكون الحزب الوحيد الذي له بنية تنظيمية صلبة- يعاني من انقسامات بين الشعبويين وصغار ومتوسطي رجال الصناعة والتجارة الذي يفضلون سياسة اقتصادية “رشيدة” وذات توجهات أوروبية.

قد يكون من المبكر الحديث عن أزمة حكم في الدول الكبيرة بالاتحاد، ولكن حكومة ألمانيا تعاني من انقسامات حادة والحزب الرئيسي في التحالف الحاكم لم يحصل على نتيجة مرضية في الانتخابات التي أوصلته إلى الحكم، واضطر إلى التحالف مع حزبين لا مع حزب واحد. وعلى أية حال فإن عملية صنع القرار في ألمانيا أمر دائمًا صعب، وحكومة فرنسا لا تتمتع بأغلبية مطلقة في البرلمان ولا تقيم تحالفًا يضمن لها هذا، ومضطرة إلى التفاوض اليومي مع قوى معارضة أغلبها متطرف، والمشاهد الأولى لم تكن مطمئنة، ويبدو أن إيطاليا تعود إلى عدم الاستقرار السياسي. كل هذا في ظل وضع دولي نعلم كم هو متأزم.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20338/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M