لماذا يحتاج الشرق الأوسط لترتيب أمني إقليمي جديد؟

يثير سعي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإنشاء منظومة للأمن الإقليمي في منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” الكثير من الجدل في دوائر صنع القرار العربية والأمريكية على حد سواء، وجزء كبير من هذا الجدل مرتبط بعدم نجاح الولايات المتحدة في تنفيذ العديد من المقترحات المشابهة على مدار العقود الماضية لأسباب متعددة، وربما أقرب هذه المقترحات هو مشروع “التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط- MESA ” الذي طرحته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في 2017 والذي عرف حينها باسم “الناتو العربي”.

ومقارنة بمشروع MESA، فإن المشروع الذي تقترحه إدارة الرئيس بايدن هذه المرة ذو طبيعة جزئية ويقتصر حسب ماهو معلن منذ قمة النقب التي عقدت في مارس 2022 على انشاء نظام مشترك للدفاع الجوي بين دول المنطقة لمواجهة سياسات إيران القائمة على تطوير واستخدام الصواريخ الباليستية وطائرات بدون طيار في العراق واليمن وسوريا ولبنان. ووفق ما هو مقترح، يضم هذا المشروع الجديد كل من السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعمان والكويت ومصر والأردن والعراق وإسرائيل.

وتمهيدًا للإعلان عن هذا المشروع، قامت الإدارة الأمريكية بنقل تبعية إسرائيل من القيادة الأوروبية إلى القيادة المركزية  منذ 2021، وتم تعيين ضابط اتصال إسرائيلي في قيادة الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، وتعقد عدة تدريبات عسكرية مشتركة ولقاءات أمنية تضم إسرائيل ودول عربية تحت مظلة القيادة المركزية الأمريكية. كما تقدم عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي في يونيو 2022 بمقترح خاص بهذا المشروع  من أجل توفير الغطاء التشريعي لتحرك الإدارة الأمريكية في هذا الخصوص.

الدوافع الأمريكية لطرح المشروع:

أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن في مقاله المنشور في الواشنطن بوست قبيل زيارته للسعودية أنه يرى أن المنطقة أصبحت “أكثر استقرارًا وأمنًا” مقارنة بالسنوات الثماني عشر الماضية وذلك بفضل “التدخلات الدبلوماسية العاجلة والمكثفة” التي قامت بها إدارته طوال الأشهر الماضية، وأنه يسعى “للانتقال بالمنطقة إلى مستوى آخر من الاستقرار” من خلال قيادة بلاده لجهود “تعزيز التكامل بين دولها وتطبيع العلاقات مع إسرائيل والتصدي لإيران”.

ويمكن  القول أن أحد الأسباب الرئيسية وراء طرح هذا المشروع خلال المرحلة الراهنة هو البحث عن إطار جديد لعلاقات واشنطن الأمنية مع منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” يضمن تحييد المنطقة في الصراع على النفوذ الدائر بين واشنطن وبكين وموسكو والذي تكشفت الكثير من أبعاده مع استمرار التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.

بعبارة أخرى، فإن هذا المشروع مرتبط برؤية إدارة بايدن لكيفية احتواء الآثار السلبية للحرب في أوكرانيا على نفوذ واشنطن في المنطقة في ظل تصاعد النفوذ الروسي والصيني فيها، لاسيما مع اتجاه السعودية وغيرها من دول المنطقة لتوطيد علاقاتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع الصين وروسيا، فعلى سبيل المثال رصدت الاستخبارات الأمريكية سعي الصين لإنشاء قاعدة عسكرية لها في الإمارات كما تسعى للحصول على تكنولوجيا اسرائيلية متقدمة. وبالتالي ترغب إدارة بايدن من خلال هذا المشروع في أن تعلن لدول المنطقة تجديد التزامها بضمان الأمن والاستقرار في المنطقة حتى وإن لم ير المشروع النور.

وهذا يفسر حرص الرئيس بايدن في محادثاته مع الأمير محمد بن سلمان إلى جانب حديثه عن مشروع نظام الدفاع الجوي المشترك، على حث السعودية على زيادة انتاج النفط من أجل خفض الأسعار العالمية بهدف اتاحة الفرصة لتغليظ العقوبات على روسيا وضخ الاستثمارات في البنية التحتية من أجل تسهيل اتاحة مصادر الطاقة غير الروسية للأسواق الأوروبية، وهي ذات المحاور التي ذكرها الرئيس بايدن في كلمته التي ألقاها في “قمة جدة للأمن والتنمية”  كإطار لعلاقات واشنطن مع المنطقة خلال الفترة المقبلة.

هل تحتاج المنطقة إلى مثل هذه الترتيبات الأمنية؟

من بين العوائق الرئيسية التي حالت دون تشكل منظومة للأمن الإقليمي في منطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” طوال العقود الماضية هو غياب المتطلبات الأساسية لإنشاء تلك المنظومة وعلى رأسها وجود تصورات أمنية مشتركة بين دول المنطقة حول مصادر التهديد التي يتعين التصدي لها بشكل جماعي ووجود دولة قائد تستطيع أن تقود صياغة وتنفيذ السياسات الأمنية المشتركة. فمنذ حرب تحرير الكويت 1991 مرت المنطقة بعدة أزمات أمنية كشفت من ناحية عن تعارض التصورات الأمنية السائدة في دولها حول مصادر التهديد التي يتعين التصدي لها بشكل جماعي وعن اختلاف أولوية كل من تلك التهديدات بالنسبة لكل من تلك الدول، ومن ناحية أخرى عن غياب دولة قائد تستطيع أن تبني تصور مشترك متوافق عليه بين دول المنطقة ومن ثم سياسة أمنية مشتركة.

وكانت التطورات التي مرت بها المنطقة طوال السنوات الماضية كفيلة بمعالجة تلك العوائق بشكل أو بآخر، على نحو يجعل المنطقة حاليًا مهيأة بشكل أفضل للعمل بشكل جماعي في مواجهة تهديدات بعينها. وذلك للأسباب الآتية:

1- تعدد التهديدات العابرة للحدود والتي لم تعد أي دولة قادرة على مواجهتها بمفردها وأصبحت بحاجة لمواجهتها من خلال التعاون مع الدول الأخرى التي كانت تصنف كدولة “عدو” خلال الفترة الماضية، ومن ذلك التهديدات الناتجة عن أزمات الغذاء والطاقة وتغير المناخ، وتلك الناتجة عن الأزمات الصحية بسبب كوفيد-19 وغيرها من الأوبئة، والتطرف والارهاب، فضلا عن تنامي الحاجة للتعاون الاقتصادي إقليميًا من أجل تحقيق التنمية المستدامة. وفي هذا الصدد، أوضحت كل من الإمارات والسعودية أنهما يفضلان الانخراط في محادثات مع إيران والتعاون معها بدلاً من إعلان العداء لها وتكوين تحالف عسكري ضدها، كما صرح أنور قرقاش مستشار رئيس دولة الإمارات توضيحا لموقف بلاده من المشروع الأمريكي ضد إيران بأنه “نحن منفتحون على التعاون لكن ليس التعاون الذي يستهدف أي دولة أخرى في المنطقة وأذكر على وجه الخصوص إيران “.

2- استعداد دول المنطقة للدخول في تحالفات دولية جزئية ذات طابع فني تختص بأهداف محددة غير موجهة ضد دول بعينها، وثبت خلال السنوات الماضية استعداد دول المنطقة لتغيير تصوراتها الأمنية من أجل تفعيل وتشغيل تلك التحالفات الجزئية، ومن ذلك التحالفات العسكرية لتأمين حرية الملاحة البحرية في مضيقي هرمز وباب المندب والتي أعلن عنها بعد تكرار الهجمات التي تعرضت لها ناقلات النفط والسفن العابرة في مضيق هرمز منذ مايو 2019 ، ونذكر على سبيل المثال “التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية” الذي أعلنت واشنطن عن تشكيله في  7 نوفمبر 2019  ويضم في عضويته إلى جانب الولايات المتحدة، كل من السعودية والإمارات والبحرين وبريطانيا وألبانيا وليتوانيا وإستونيا. كما تقود الولايات المتحدة تحالف “القوات البحرية المشتركة” التي تضم عدد 34 دولة منها الولايات المتحدة والبحرين ومصر والعراق والأردن والكويت وقطر والسعودية والإمارات وإسرائيل.

3- تبلور ثقافة أمنية جماعية جديدة بين عدد محدود من دول المنطقة ترتكز على وجود مصالح وتصورات مشتركة حول ما يهدد أمنها، وهو ما تحقق من خلال الآلية الثلاثية  بين كل من مصر والأردن والعراق، والآلية السداسية التي تعبر عنها قمة النقب، كذا آلية التشاور بين دول الخليج وكل من مصر والأردن والعراق والولايات المتحدة  والتي تعرف بآلية 6+3+1 والتي أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، والتي هدفت حينها للتنسيق بين هذه الدول مجتمعة لاحتواء تأثير تنامي نفوذ ايران على الأمن الاقليمي.

في ضوء الأسباب السابقة، يمكن القول أن دول المنطقة أصبحت تدرك اليوم الحاجة المتزايدة لوجود منظومة للأمن الإقليمي تكون قادرة على تنفيذ سياسات عملية لمواجهة التهديدات التي تؤثر بالسلب على الأمن والاستقرار في الإقليم ومن ثم على الأمن القومي لدول المنطقة، وأصبحت تصوراتها الأمنية عملية وتتخطى التعامل مع إيران كدولة عدو يتعين التصدي لها عسكريًا وتدرك في الوقت ذاته امكانية الاعتماد على الحوار والتفاوض والمحادثات من أجل احتواء السياسات الخارجية لإيران التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.

إلى جانب ذلك، أصبح هناك توافق جماعي محدود حول أن التهديدات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية العابرة للحدود تحتاج إلى تحرك جماعي غير تقليدي يقوم على توظيف التكنولوجيا الحديثة وتوظيف قدرات الشباب والمرأة من أجل ضمان الاستقرار والأمن الإقليمي بشكل مستدام، وعند مقارنة تطور التصورات الأمنية في دول المنطقة على هذا النحو مع المشروع الأمريكي المطروح حاليًا، يتضح عدم قدرة الإدارة الأمريكية الحالية على استيعاب التطور في التصورات السائدة في المنطقة والتي انعكست خلال الفترة الحالية في سياسات جماعية تنفذ تجاه قضايا عدة وثبتت فعاليتها في تعزيز الأمن والاستقرار. وبالتالي فإن استمرار تجاهل الإدارة الأمريكية لهذا التطور كفيل بأن يضيف هذا المشروع إلى قائمة المقترحات التي فشلت الولايات المتحدة في تنفيذها في المنطقة خلال العقود الماضية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20068/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M