مقاربة واقعية: رؤية مصرية شاملة لمعالجة أزمات الإقليم

نوران عوضين

 

انعقدت اليوم السادس عشر من يوليو 2022 أعمال قمة جدة للأمن والتنمية بمشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، وكل من مصر والأردن والعراق، وتأتي هذه القمة في سياق عالمي وإقليمي متأجج بالأزمات الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي استدعى ضرورة الحوار والتباحث حول سبل الحل وكيفية المضي قدمًا نحو استقرار المنطقة.

لقد ألقت الأزمات العالمية كتفشي جائحة كورونا وتغير المناخ والحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على المنطقة العربية، ليُثقل ذلك من كاهل دول المنطقة التي تواجه بالفعل العديد من التحديات السياسية والتنموية والأمنية، الأمر الذي أصبح معه من الضروري التساؤل عما لدي دول المنطقة من أدوات وما ينبغي القيام به من إجراءات لحل تلك الأزمات التي لا تهدأ وتيرتها. وفي هذا الصدد، طرح الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” في كلمته التي ألقاها خلال أعمال القمة رؤية مصر لمواجهة التحديات الراهنة، وذلك في إطار خمسة محاور رئيسية يمكن من خلالها المساهمة في وضع المنطقة العربية على طريق الاستقرار الشامل والمستدام.

المقاربة المصرية الشاملة لحل القضايا ذات الأولوية

تنبع المقاربة المصرية من رؤية مفادها أنه من المهم أن يكون لدول المنطقة إسهامات ملموسة في صياغة حلول دائمة غير مرحلية لما تواجهه من تحديات معاصرة على أسس علمية وواقعية، انطلاقًا من الإيمان بأن للجميع هوية واحدة وهي الانتماء للإنسانية، حيث لم يعد مقبولًا أن يكون من بين أبناء الأمة العربية، من هو لاجئ أو نازح أو متضرر من ويلات الحروب والكوارث، أو فاقد للأمل في غد أفضل. ومن هنا، يصبح من المهم تضافر الجهود المشتركة لوضع نهاية لجميع الصراعات المزمنة والحروب الأهلية طويلة الأمد، والتي أتاحت المجال لبعض القوى للتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، والاعتداء العسكري غير المشروع على أراضيها، والعبث بمقدراتها ومصير أجيالها، بما أدى لانهيار أسس الدولة الوطنية الحديثة وسمح ببروز ظاهرة الإرهاب ونشر فكره الظلامي والمتطرف.

وبناءً عليه، قدمت مصر مقاربتها الشاملة للتحرك في القضايا ذات الأولوية خلال المرحلة القادمة، عبر خمسة محاور رئيسية:

أولًا، يتوقف الانطلاق نحو المستقبل على كيفية التعامل مع أزمات الماضي الممتدة. ومن ثم فإن الجهود المشتركة لحل أزمات المنطقة لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلا من خلال التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة ونهائية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين المستند إلى مرجعيات الشرعية الدولية ذات الصلة وبما يكفل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وتعيش في أمن وسلام جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل على نحو يحقق أمن الشعبين، ويوفر واقعًا جديدًا لشعوب المنطقة يمكن قبوله والتعايش معه. ومن هنا، فلابد من تكثيف الجهود المشتركة، ليس فقط لإحياء مسار عملية السلام، بل للوصول به هذه المرة إلى حل نهائي لا رجعة فيه، ليكون بذلك قوة الدفع التي تستند عليها مساعي السلام في المنطقة.

ثانيًا، إن بناء المجتمعات من الداخل على أسس الديمقراطية والمواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان ونبذ الأيديولوجيات الطائفية والمتطرفة وإعلاء مفهوم المصلحة الوطنية، هو الضامن لاستدامة الاستقرار بمفهومه الشامل، والحفاظ على مقدرات الشعوب، والحيلولة دون السطو عليها أو سوء توظيفها. ويتطلب ذلك تعزيز دور الدولة الوطنية ذات الهوية الجامعة ودعم ركائز مؤسساتها الدستورية، وتطوير ما لديها من قدرات وكوادر وإمكانات ذاتية، لتضطلع بمهامها في إرساء دعائم الحكم الرشيد، وتحقيق الأمن، وإنفاذ القانون، ومواجهة القوى الخارجة عنه، وتوفير المناخ الداعم للحقوق والحريات الأساسية، وتمكين المرأة والشباب، وتدعيم دور المجتمع المدني كشريك في عملية التنمية وكذلك دور المؤسسات والقيادات الدينية لنشر ثقافة الاعتدال والتسامح بما يضمن التمتع بالحق في حرية الدين والمعتقد، فضلًا عن تكريس مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي ودفع عجلة الاستثمار وتوفير فرص العمل وصولًا إلى التنمية المستدامة، تلبيةً لتطلعات شعوبنا نحو مستقبل أفضل يشاركون في بنائه ويتمتعون بثمار إنجازاته دون تمييز.

ثالثًا: الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ، وما يتوافر لدى الدول العربية من قدرات ذاتية بالتعاون مع شركائها، كفيل بتوفير الإطار المناسب للتصدي لأي مخاطر تحيق بالعالم العربي. وعليه، فإن مبادئ احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شئونها الداخلية، والإخاء، والمساواة، هي التي تحكم العلاقات العربية البينية، وهي ذاتها التي ينص عليها روح ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده، ويتعين كذلك أن تكون هي ذاتها الحاكمة لعلاقات الدول العربية مع دول جوارها الإقليمي، وعلى الصعيد الدولي. وفي إطار تناول مفهوم الأمن الإقليمي المتكامل، ينبغي التأكيد على ضرورة اتخاذ خطوات عملية تفضي لنتائج ملموسة باتجاه إنشاء المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، مع تعزيز دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الصدد، والحفاظ على منظومة عدم الانتشار، وبما يمثل حجر الأساس لمنظومة متكاملة للأمن الاقليمي في المنطقة.

رابعًا: يظل الإرهاب تحديًا رئيسًا عانت منه الدول العربية على مدار عدة عقود، ولذا لا بد من تجديد الالتزام بمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف بكافة أشكاله وصوره بهدف القضاء على جميع تنظيماته والميليشيات المسلحة المنتشرة في عدة بقاع من العالم العربي، والتي تحظى برعاية بعض القوى الخارجية لخدمة أجندتها الهدامة، وترفع السلاح لتحقيق مكاسب سياسية ومادية، وتعيق تطبيق التسويات والمصالحات الوطنية، وتحول دون إنفاذ إرادة الشعوب في بعض الأقطار، بل وتطورت قدراتها لتنفذ عمليات عابرة للحدود. وفي هذا السياق، فإنه لا مكان لمفهوم الميليشيات والمرتزقة وعصابات السلاح في المنطقة، وأن على داعميها ممن وفروا لهم المأوى والمال والسلاح والتدريب وسمحوا بنقل العناصر الإرهابية من موقع إلى آخر، أن يراجعوا حساباتهم وتقديراتهم الخاطئة، وأن يدركوا بشكل لا لبس فيه أنه لا تهاون في حماية الأمن القومي العربي وما يرتبط به من خطوط حمراء.

خامسًا: ضرورة تعزيز التعاون والتضامن الدوليين لرفع قدرات دول المنطقة في التصدي للأزمات العالمية الكبرى والناشئة، كقضايا نقص إمدادات الغذاء، والاضطرابات في أسواق الطاقة، والأمن المائي، وتغير المناخ، بهدف احتواء تبعات هذه الأزمات والتعافي من آثارها، وزيادة الاستثمارات في تطوير البنية التحتية في مختلف المجالات، وبما يسهم في توطين الصناعات المختلفة، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، ووفرة السلع.

قراءة في الرؤية المصرية 

بناء على ما تقدم، يمكن القول بأن المقاربة المصرية الشاملة لحل أزمات المنطقة قد تأسست على المبادئ التي تستند إليها السياسة الخارجية المصرية سواء في تحركاتها الإقليمية أو العالمية.

أولًا، جاء التأكيد على محورية القضية الفلسطينية –قضية العرب الأولى- والتي يعني حلها دفع في اتجاه معالجة العديد من الأزمات الأخرى بالمنطقة بما ينتج عنه في النهاية انخفاض وتيرة النزاعات بالمنطقة، الأمر الذي سيسمح بإعادة بناء الدول التي عانت من ويلات الصراع، ومن ثم بناء الجهود نحو تنمية واستقرار المنطقة.

تعتبر الرؤية المصرية المطروحة في المقاربة امتدادًا لدورها التاريخي في تبني القضية الفلسطينية ورعاية وحماية حقوق الشعب الفلسطيني. فلطالما أكدت مصر -ولاتزال تؤكد- في كافة المحافل الدولية على أن المنطقة لن يتحقق بها الاستقرار دون إيجاد حل مرضي وفاعل للقضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد، تتبع مصر أكثر من مسار بغية الوصول إلى حل مستدام للقضية. فمن ناحية، تنخرط مصر في جهود حل الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، والذي يتوازى مع دور الوسيط ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تلك الوساطة التي كان لها دور فاعل وحاسم في إنهاء الحرب على غزة مايو 2021. وبجانب الدور السياسي، تشارك مصر إنسانيًا في جهود تخفيف الوطأة الاقتصادية والإنسانية على الشعب الفلسطيني، ويعد المثال الأقرب لهذا هو تخصيص مصر نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزة.

ثانيًا، واتصالًا بالقضية الفلسطينية، تبرز أهمية الأمن القومي العربي، الذي يعني توفير القدرة على التصدي لأي خطر من شأنه تهديد دول العالم العربي. فعلى الرغم من كون القضية الفلسطينية في قلب التفاعلات العربية، يبرز البرنامج النووي الإيراني باعتباره عامل مقوض لاستقرار المنطقة، لاسيما في ظل تراجع احتمالات عودة العمل بالاتفاق النووي الذي من شأنه ضمان أن يكون البرنامج النووي الإيراني برنامج سلمي، وكذا في ظل استمرار التصعيد الإسرائيلي الإيراني الذي يهدد بتقويض جهود السلام بالمنطقة.

تشتمل التهديدات الموجهة ضد الأمن القومي العربي على الفاعلين من غير الدول، وهنا تتحدث المقاربة المصرية عن إطار يضم التنظيمات الإرهابية والميليشيات والمرتزقة وعصابات السلاح ينبغي مواجهته نظرًا لما يشكله هذا الإطار من تقويض لجهود السلام والحوار بالمنطقة. فهذا الإطار لا يعمل بشكل منفرد وإنما توجهه مصالح قوى أخرى تتناقض مع مصالح الدول العربية، وهو ما يمكن مشاهدته بالفعل في سوريا وليبيا واليمن والعراق، حيث وجود أشكال متعددة من التنظيمات مختلفة التوجهات والأيديولوجيات والتي تنحصر مهمتها في خدمة ما هو ضد وحدة وسيادة تلك الدول. وعليه، تنبع أهمية التوافق حول محددات الأمن القومي العربي بما يمكّن الدول العربية من حمايته والتصدي لما هو ضده.

ثالثًا، لا تنفصل ضرورة مواجهة مهددات الأمن القومي العربي عن تأسيس الجهود اللازمة لبناء المجتمعات العربية من الداخل. أكدت مصر في مقاربتها المقدمة على ضرورة إعلاء مفهوم المصلحة الوطنية وقيم الديمقراطية والمواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، بما يصب في جهود التنمية السياسية العربية ويسهم في ضمان الاستقرار الداخلي المتسق مع الجهود الهادفة لتحقيق الاستقرار الإقليمي. يتصل هذا مع الرؤية المصرية لحل الأزمات العربية –وتحديدًا في سوريا وليبيا واليمن- والقائم على وحدة الأراضي وسيادتها وأن حلول أزمات تلك الدول لا ينبغي أن يفرض عليها من الخارج وإنما ينبغي أن ينبع الحل من إرادة وقرار شعوب تلك الدول.

لقد قطعت مصر بالفعل خلال الفترة الماضية شوطًا في طريق الإصلاح السياسي الداخلي، حيث إلغاء حالة الطوارئ، وإطلاق الاستراتيجية الشاملة لحقوق الإنسان، وإعادة تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان، بجانب إعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي. يضاف إلى ما تقدم إعلان الرئيس المصري في أبريل 2022 عن إطلاق “حوار سياسي” مع كل القوى بدون استثناء ولا تمييز بغرض تبادل الرؤى والتوافق بشأن سبل معالجة التحديات الراهنة.

رابعًا، لم تتغاضى المقاربة المصرية عن التحديات العالمية التي فرضتها كلًا من تفشي جائحة كورونا وتغير المناخ وكذا التداعيات الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، لاسيما في ظل ما تحمله تلك القضايا من تداعيات سلبية على مسار التنمية والاستقرار بالمنطقة.

وفي هذا الإطار، تؤكد مصر عبر مقاربتها دعم كل جهد من شأنه تطوير التعاون وتنويع الشراكات لمواجهة أزمتي الغذاء والطاقة الراهنتين. فضلًا عن التأكيد على ضرورة تجديد الالتزام بقواعد القانون الدولي الخاصة بالأنهار الدولية بما يتيح لجميع الشعوب الاستفادة من هذه الموارد الطبيعية بشكل عادل، وضرورة صون متطلبات الأمن المائي لدول المنطقة والحيلولة دون السماح لدول منابع الأنهار، التي تمثل شرايين الحياة للشعوب كلها، بالجور على حقوق دول المصب.

وفيما يتعلق بقضية تغير المناخ، تؤكد مصر أنه من الأهمية بمكان استمرار العمل الجماعي المشترك في الأطر الدولية متعددة الأطراف ذات الصلة بهذه القضية المهمة، وفي مقدمتها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ واتفاق باريس، وذلك لضمان تحقيق الأهداف التي تم الاتفاق عليها. ومع الأخذ في الاعتبار أن كلًا من المنطقتين العربية والأفريقية تعدان إحدى أكثر مناطق العالم تضررًا من الآثار السلبية لتغير المناخ، وما يترتب على ذلك من انعكاسات على الأمن الغذائي، وأمن الطاقة والمياه، والسلم المجتمعي والاستقرار السياسي، يصبح من الضروري التوافق حول رؤية شاملة لدعم الدول العربية والأفريقية، وتمكينهما من الوفاء بالتزاماتهما الدولية ذات الصلة، ورفع قدرتهما على التكيف مع الآثار السلبية لتغير المناخ، بحيث تساهم تلك الرؤية في معالجة أزمة السيولة المالية وتكثيف تمويل المناخ الموجه إلى هذه الدول، فضلًا عن دعم وتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة.

وختامًا، يمكن القول إن المقاربة المصرية الشاملة لحل القضايا ذات الأولوية إنما هي مقاربة متكاملة لما تتضمنه من أبعاد داخلية وإقليمية وعالمية تستهدف تكامل جهود البناء بما يسهم في تحقيق مستقبل ينشده مواطني المنطقة العربية، مستقبل يعني مزيدًا من الاستقرار والأمان لأبنائهم، بدلًا من حقبة عدم الاستقرار والخطر الذي عاش فيه الآباء، وعانوا ولا يزالوا يعانون من ويلاته.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19992/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M