ما بعد «كسْر الجليد»: آفاق العلاقات المصرية-التركية إثر زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة

  • مع أن زيارة الرئيس التركي أردوغان للقاهرة في 14 فبراير شكلت خطوةً مهمة على طريق التقارب بين البلدين بعد أكثر من عشرة أعوام من القطيعة، إلا أنه من المبكر الانتقال من مرحلة “كسر الجليد” هذه إلى ترسيخ التعاون الثنائي وتوسيع أطره، إذ يحتاج ذلك آليات بناء للثقة تُمكِّن من تجاوز العقبات. 
  • تمثَّلت النتيجة العملية الوحيدة لزيارة الرئيس أردوغان إلى القاهرة في تفعيل مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، الذي من المقرر أن يعقد أولى اجتماعاته خلال زيارة الرئيس السيسي لأنقرة في أبريل المقبل.
  • تأمل أنقرة أن يؤدي التقارب التركي-المصري إلى حصر النفوذ اليوناني القبرصي في شرق المتوسط، ولكن مع بقاء موقف القاهرة الرافض لإعادة ترسيم الحدود البحرية مع اليونان بالشكل الذي تقترحه أنقرة، ومع إصرار تركيا على بقاء قواتها العسكرية في ليبيا، فإن التقارب بين البلدين بحاجة إلى جهود أكبر ووقت أطول. 
  • قد يؤدي ملف التعاون الاقتصادي بين مصر وتركيا دوراً مهماً في تقريب المسافة بينهما، فضلاً عن تقدُّم التفاهمات في ملف الإخوان المسلمين، والتي نتج عنها مؤخراً قرار أنقرة سحب الجنسية من القائم بأعمال المرشد العام الإخوان المسلمين في مصر محمود حسين، إلى جانب آخرين من عناصر الصفوف العليا في التنظيم.

 

بعد نحو 12 عاماً من آخر زيارة له إلى القاهرة، وبعد نحو 10 سنوات من القطيعة الدبلوماسية قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة رسمية إلى القاهرة في 14 من فبراير 2024، وقد جرى ترتيب الزيارة لينطلق الرئيس أردوغان إلى القاهرة من دولة الإمارات التي زارها في 13 فبراير لحضور مؤتمر القمة العالمية للحكومات في دبي ولقاء رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في إشارة مهمة إلى الدور الذي قامت به الإمارات في تقريب العلاقات بين أنقرة والقاهرة، فيما أكد الرئيس أردوغان أن الزيارة جاءت بناءً على دعوة متكررة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

 

تتناول هذه الورقة دوافع التقارب التركي مع مصر، ونتائج زيارة الرئيس أردوغان، والقضايا الأساسية التي ستكون على أجندة التقارب بين البلدين.

 

خلفيات الزيارة ونتائجها

تُعد زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة مهمة جداً لكسر الجليد بين البلدين بعد كل التصريحات السلبية التي أدلى بها الرئيس التركي بشأن الرئيس المصري والتي استمرت حتى 2019، لم تسفر عملياً إلا عن قرار إعادة تفعيل لقاءات مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، والاتفاق على عقد أول اجتماع له في أنقرة خلال زيارة ينتظر أن يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي في أبريل المقبل.

 

لكن الزيارة بحد ذاتها تعني اعتراف الرئيس أردوغان بنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي رسمياً بعد أن وصفه “بالدكتاتور الانقلابي القاتل”، خصوصاً مع حفاوة الاستقبال من الجانب المصري، وتأكيد الرئيس أردوغان على أهمية العلاقات التركية-المصرية التي وصفها بالاستراتيجية، كما وصف الرئيس السيسي “بالأخ الشقيق”. وعليه فإن الزيارة تعني عملياً اعترافَ أنقرة بانتهاء دورها السياسي الداعم لتنظيم الإخوان المسلمين وانتفاضات ما سمي “الربيع العربي”.

 

وكانت أنقرة التي قطعت علاقاتها بالقاهرة بعد إسقاط حكم الرئيس محمد مرسي صيف 2013، قد بدأت العمل من أجل إعادة العلاقات مع القاهرة منذ عام 2020، وخصوصاً بعد الانفتاح الذي حصل بين تركيا ودولة الإمارات، وتغيير أنقرة سياساتها الخارجية سعياً لتحسين علاقاتها بجميع دول الجوار. وكانت البداية لهذا التقارب التركي-المصري من خلال عمل واجتماع لجان المخابرات بين البلدين، ومن خلال اتخاذ أنقرة خطوات عملية في تحجيم نشاط تنظيم الإخوان المسلمين على أرضها، ومنها إغلاق قناة “مكملين” الإخوانية، وطرد عدد من الصحفيين المحسوبين على التنظيم.

 

تبع ذلك إعادة كل دولة تنظيم موقفها من القوى الفاعلة في ليبيا، ومساعدة كل منهما للدولة الأخرى للانفتاح على الطرف الآخر في ليبيا، حيث انفتحت تركيا على الشرق الليبي والبرلمان، بينما حسّنت القاهرة علاقاتها بالغرب الليبي وحكومة طرابلس. لكن هذا التقارب شهد بعض المعوقات، خصوصاً بعد توقيع أنقرة اتفاقية للتعاون في مجال التنقيب عن النفط والغاز مع حكومة طرابلس في عام 2022، وتأكيد القاهرة على ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية من ليبيا، حيث بردت بعدها لفترة وتيرة التقارب المصري-التركي، ليعود الزخم من جديد من خلال وساطة قطرية هذه المرة، حيث نجح أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في جمع الرئيسَين أردوغان والسيسي لأول مرة على هامش حضورهما حفل افتتاح دورة كأس العالم لكرة القدم في الدوحة في نوفمبر 2022، ليلتقيا ثانيةً خلال قمة العشرين بالعاصمة الهندية نيودلهي في سبتمبر 2023. 

 

وسبقت زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة تحركات دبلوماسية اعتبرتها الدولتان ضرورية للتأكيد على ثوابت الدولتين من أزمات المنطقة قبل الانتقال إلى الحوار الرسمي على مستوى الرؤساء، وبخاصة في الملف الليبي، فقد سبقت الزيارة دعوة القاهرة رئيس مجلس الرئاسة الليبي محمد المنفي إلى زيارتها، حيث التقى الرئيس السيسي بالمنفي في القاهرة في 1 فبراير، وصدر عن الزيارة بيان يؤكد على وحدة التراب الليبي وإجراء الانتخابات لتوحيد الحكومة، وخروج جميع القوات الأجنبية من ليبيا. كما زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ليبيا في 6 فبراير، حيث ذهب إلى بنغازي وطرابلس، وأعلن عن بدء العمل لإعادة فتح القنصلية التركية في بنغازي، وأكد من جديد ضرورة توحيد الحكومة الليبية وإنهاء الانقسام. وتشير جميع هذه الزيارات والتصريحات إلى أهمية الملف الليبي في إحداث تقارب حقيقي بين القاهرة وأنقرة، وأنه الملف الأهم في تجاوز أزمة الثقة بينهما.

 

دوافع أنقرة للتقارب مع القاهرة 

بعد عودته من زيارة القاهرة قال الرئيس أردوغان تعليقاً على الزيارة، في محافظة غيرسون التي زارها ضمن حملة حزبه الانتخابية للانتخابات البلدية المقبلة، إن “هدف سياستنا الخارجية هو زيادة عدد الأصدقاء بقدر الإمكان. نُريد لهذه المئوية أن تكون مئوية السلام والاستقرار في المنطقة، ومن أجل تحقيق ذلك فلا سبيل أمامنا سوى زيادة عدد أصدقائنا في المنطقة، إذا أردنا أن نُفشل خطط الدول الإمبريالية التي تسعى إلى إضعافنا، فإنه لا سبيل أمامنا إلا حل المشكلات مع الدول الصديقة، وتحويل الخلافات إلى نقاط انطلاق لتعاون أكبر وقوي في المنطقة”.

 

لقد أدركت أنقرة عام 2020 أن سياساتها الانعزالية أدت إلى زيادة قوة اليونان وقبرص في شرق المتوسط، لذا بدأت العمل على مشروع للمصالحات مع الدول التي شاب العلاقات معها في السابق خلافات قوية، انطلاقاً من الإمارات، فالسعودية، ثم إسرائيل، واليونان، ووصولاً إلى مصر. ولعل أكثر ما أقلق أنقرة هو زيادة التعاون بشكل كبير بين القاهرة واليونان للوصول إلى التعاون العسكري، وتسعى أنقرة هنا إلى تحييد القاهرة في ملف شرق المتوسط أو الحصول على دعمها في هذا الملف إن أمكن، لكن أنقرة تدرك أيضاً أن العلاقات بين القاهرة وكلٍّ من اليونان وقبرص قديمة ومُتجذّرة، ولم تتطور بسبب خلافات القاهرة مع أنقرة فقط، لذا سعت أنقرة لبذل المزيد من الجهد لموازنة الثقل اليوناني-القبرصي في القاهرة، ومن هنا جاء العرض التركي ببيع مُسيَّرات عسكرية إلى مصر.

 

تستخدم تركيا ورقة المُسيَّرات لتشجيع الجانب المصري على التقارب أكثر معها، وتقديم آليات لبناء الثقة بين الطرفين (Anadolu via AFP) 

 

تأثير العرض التركي بالتعاون في المجال العسكري مع مصر 

بعد زيارة أردوغان للقاهرة، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن “الزعيمين أكدا وجود قرار استراتيجي للتعاون بين البلدين، وضرورة تقديم ملفات التعاون الثنائي على ملفات الخلافات الواجب العمل على حلها، وأهم ملفات التعاون سيكون التعاون في مجال التصنيع العسكري”. وكان وفدٌ عسكري مصري قد زار أنقرة في ديسمبر 2023 وأعرب عن إعجابه بالمسيرات التركية، وعليه جاء العرض التركي ببيع مصر لهذه المسيرات، خصوصاً أن أنقرة ترى سعي القاهرة لتنويع مصادر أسلحتها بالترافق مع صعوبة الوضع الاقتصادي المصري الذي قد يجعل القاهرة تفضل شراء السلاح التركي الأقل ثمناً. وهي مبادرة مهمة من أجل بناء الثقة بين البلدين، وخصوصاً في ليبيا، حيث تستخدم القوات التركية الموجودة هناك تلك المسيرات، ومن أجل التأكيد على أن أنقرة لا تنظر إلى مصر على أنها خطر عسكري، ومن أجل مساعدة مصر على حماية استثماراتها ومنشآتها النفطية والغازية في شرق المتوسط وخلق دور أمني لتركيا في هذا الإطار.

 

لكن خلال الزيارة لم يتم التوقيع على أي اتفاقيات، وكانت الإشارة الوحيدة لهذا التعاون هي تصريح أردوغان في المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيسين بأن قال “إننا نرى استثمار مصر القوي في قطاع الدفاع، ونؤمن بأن تركيا ستؤدي دوراً قوياً في دعم هذه الجهود”. وعلى الرغم من وجود رغبة معلنة -بشكل غير رسمي حتى الآن- من قبل مصر لشراء المسيرات التركية، إلا أنه يجب التريث قبل الحكم على إمكانية حسم هذا الملف في المدى القريب، بالنظر إلى علاقات مصر بكلٍّ من إسرائيل واليونان وقبرص، ودراسة رد الفعل المحتمل من قبل هذه الجهات على هذه الصفقة، وخصوصاً مع تدهور العلاقات التركية مع إسرائيل على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. لكنْ المهم أن أنقرة تستخدم ورقة المسيرات هذه لتشجيع الجانب المصري على التقارب أكثر مع أنقرة، وتقديم آليات لبناء الثقة بين الطرفين.

 

القضايا الثنائية والإقليمية في أجندة التقارب بين البلدين 

من المهم -بدايةً- مراجعة المكاسب التي حققتها القاهرة خلال سنوات المقاطعة مع تركيا في شرق المتوسط قبل الحديث عن تقارب تركي-مصري يُعيد ترتيب ميزان القوة في المنطقة، فقد كسبت مصر أهميةً خلال هذه السنوات في لعب دور أمني في شرق المتوسط من خلال زيادة تعاونها مع قبرص واليونان وإيطاليا، وكذلك دول خليجية لها مصالح هناك مثل السعودية والإمارات، ولن يكون من السهل أن تُقْدم القاهرة على خطوات من شأنها أن تضع هذا الموقع الأمني المهم في خطر من أجل التقرب مع أنقرة فقط. وعلى سبيل المثال، منذ بدء مساعي التقارب بين البلدين عام 2020، دعت تركيا مصر ثلاث مرات إلى المشاركة في مناورات عسكرية على أرضها مع دول أخرى، لكن مصر لم ترد على أي من هذه الدعوات الثلاث.

 

في المقابل أجرت مصر عدداً من المناورات العسكرية خلال تلك الفترة مع اليونان وقبرص والإمارات. وفي عام 2023، نظّمت مصر مناورات “النجم الساطع” في شرق المتوسط مع 18 دولة، حضر 15 دولة منها بصفة مراقب، ومن بين هذه الدول كانت قبرص واليونان وإيطاليا والإمارات والسعودية والكويت والمغرب، كما عرضت مصر على عدد من الدول الأفريقية التعاون العسكري من خلال تدريب قواتها العسكرية في مصر، وهو دور منافس للدور الذي تحاول لعبه تركيا مؤخراً في أفريقيا. وعليه فإنه يجب الانتباه إلى أن كلا الدولتين تحاولان زيادة نفوذهما في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي، وهذا أمر يحتاج إلى مزيد من التنسيق وبناء الثقة بين القاهرة وأنقرة.

 

وبالإضافة إلى ما سبق، يقتضي التقارب بين الدولتين التفاهم حول عدد من الملفات الثنائية والإقليمية، وأهمها ما يأتي:

 

1. الملف الليبي

يُشكل هذا الملف العقبةَ الكبرى في التقارب التركي-المصري، كما يشكل في الوقت نفسه أكبر مجال للتعاون الاقتصادي بينهما في حال استطاع الطرفان حل المشكلات العالقة فيه. وهنا يشكل الوجود العسكري التركي في قاعدة الوطية في غرب ليبيا أكبر العقبات أمام هذا التقارب، إذ قال وزير الخارجية المصري سامح شكري في تصريحات صحفية عام 2022 إن “الوجود العسكري في ليبيا يشكل أكبر العقبات أمام التقارب التركي-المصري”. وقد بلغت الأزمة بين البلدين في هذا الملف ذروتها في 5 يوليو 2020، حين قصفت طائرات مصرية مناطق قرب قاعدة الوطية بعد يوم من زيارة وزير الدفاع التركي لها خلوصي أكار في ذلك الوقت.

 

وصعوبة حل الخلافات في هذا الملف ناشئة من اختلاف مقاربة كلٍّ من مصر وتركيا له من منطلقات مختلفة، فعلى الرغم من أن دعم مصر لقوى الشرق الليبي ودعم تركيا لقوى الغرب الليبي كان يُنظر إليه على أنه أحد مسارات الخلاف والمواجهة بين البلدين، إلا أن دوافع أنقرة الحقيقية للوجود العسكري في ليبيا لا تتعلق بشكل أساسي بالدور المصري هناك، وإنما بتوسيع اليونان وقبرص نفوذهما في شرق المتوسط، ما دفع تركيا إلى خطوة إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينها وبين ليبيا عام 2019، على نحو أزعج مصر وبقية الدول المشاطئة لليبيا، كما أن الوجود العسكري التركي هدفه الأساسي الرد على توسيع اليونان وقبرص نفوذهما في شرق المتوسط بشكل بات يهدد بنقل الخلاف التركي-اليوناني إلى بحر إيجة ومحاولات اليونان كسب الدعم الغربي لتوسيع حدودها المائية هناك. بينما ترى القاهرة في الوجود العسكري التركي في ليبيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خصوصاً بعد تعاون تركيا خلال العقد الماضي مع التيارات الجهادية والإسلامية هناك، وفي سورية.

 

وبالمثل، فإن منطلقات طرح الحلول للخلافات بشأن هذا الملف مختلفة أيضاً بين أنقرة والقاهرة، ففيما ترى أنقرة أنه يمكن فرض حل إقليمي على الساحة الليبية –كما هو الحاصل حالياً في سورية بين تركيا وروسيا- بحيث يمكن ترتيب تفاهمات إقليمية بين تركيا ومصر على نتائج الانتخابات المقبلة في ليبيا وتقاسم النفوذ بعد ذلك بينهما في الحكومة الليبية الجديدة الموحدة، فإن مصر ترفض هذا الطرح -حتى الآن- وتُصر على إجراء انتخابات ليبية نزيهة، وأن يقرر الشعب الليبي بإرادته الحرة مَن يحكمه، إذ إنها تراهن على خسارة التيار الإسلامي لتلك الانتخابات وهيمنة أطراف أكثر قرباً لمصر على الحكم في ليبيا، وتَعتبر خروج القوات الأجنبية –ومنها التركية- ضرورةً لسيادة ليبيا واستقلال قرارها. وعليه، فإن مهمة أنقرة تبدو صعبة في إقناع القاهرة بأن الوجود العسكري التركي في ليبيا لا يشكل تهديداً على أمنها القومي أو مصالحها في ليبيا، ومن هنا جاءت فكرة طرح التعاون العسكري مع مصر على أمل أن يساعد ذلك في بناء الثقة بين الدولتين ويقلل من مخاوف القاهرة الأمنية، إذ لا يبدو ممكناً لأنقرة سحب قواتها من ليبيا قبل تصحيح ميزان القوة بينها وبين كلٍّ من قبرص واليونان في شرق المتوسط.

 

وفي حال تجاوزَ البلدان خلافاتهما في ليبيا وساعدا على توحيد الحكومة هناك، فإن مجال التعاون الاقتصادي بينهما في ليبيا سيكون واعداً وكبيراً، فكلا البلدين بحاجة ماسة إلى الاستفادة من الثروات الليبية والعمل هناك في مجال إعادة الاعمار ومشاريع البنية التحتية من أجل العمل على تحسين الوضع الاقتصادي لكل منهما، والرهان -من طرف تركيا على الأقل- هو أن يكون التعاون الاقتصادي والأمني في ليبيا عاملاً مساعداً على تجاوز الخلافات بينهما هناك، وإن بدا الأمر صعباً حتى الآن.

 

مع إصرار تركيا على بقاء قواتها العسكرية في ليبيا، فإن تقاربها مع مصر بحاجة إلى جهود أكبر ووقت أطول (Shutterstock)

 

2. التعاون في شرق المتوسط 

في مقابل تعقيد الملف الليبي، قد يمثل ملف التعاون في شرق المتوسط والثروات النفطية والغازية هناك، عاملاً محفزاً لعودة التقارب والتعاون بين أنقرة والقاهرة، خصوصاً مع محاولات أوروبا والغرب عموماً تنويع مصادر الطاقة والاستغناء عن النفط والغاز الروسي قدر الإمكان، ومن هنا تبرز أهمية الاستثمار في حقول النفط والغاز المصرية والليبية في شرق المتوسط، وإمكانية أداء تركيا دوراً مساعداً وداعماً في ذلك من خلال الخبرات التركية في التنقيب واستخراج النفط والغاز، كذلك العمل على نقل هذه موارد الطاقة إلى أوروبا عبر مدّ خطوط نقل عبر تركيا التي تُعدّ المسار الأقرب والأقل كلفة لنقل هذه الموارد.

 

لكن حتى الآن لم تصدر عن القاهرة أي إشارات للرد على رغبة أنقرة في ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بشكل يُلغي الترسيم البحري القائم حالياً بين مصر واليونان، والذي تعارضه أنقرة بشدة. كذلك فإن تركيا تبدو متمسكة بشدة -لأسباب تتعلق بخلافها مع اليونان وقبرص أولاً– بترسيم حدودها البحرية مع ليبيا الذي عارضته القاهرة سابقاً. وعليه فإن هذا الملف يحتاج إلى حلول خلاقة جديدة من أجل تجاوز خلافات ترسيم الحدود، والعمل على التعاون بين مصر وتركيا وليبيا من أجل التنقيب عن الثروات الهيدروكربونية في شرق المتوسط والعمل على نقلها إلى أوروبا، وهو أمر يحتاج إلى دعم دول صديقة تستثمر في هذا الملف اقتصادياً، كما يتطلب عدم عرقلة من قبل إيطاليا وفرنسا اللتين تنافسان تركيا في هذا الإطار.

 

3. ملف الصراع في غزة 

سيتطلب العمل على الوصول إلى حل للأزمة في غزة تعاونَ أنقرة والقاهرة، لأن كلاً منهما شريك مهم لطرفي الصراع هناك، وخصوصاً “حركة حماس”. فقبل زيارة أردوغان إلى القاهرة، زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قطر، حيث التقى رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، وحثَّه على ضرورة قبول شروط الهدنة والإفراج عن الأسرى والرهائن الإسرائيليين.

 

من ناحية أخرى، تسعى كلٌّ من أنقرة والقاهرة لأداء دور مهم في ملف إعادة الإعمار في غزة، لكن القاهرة لا تزال تنظر بقلق إلى شكل العلاقات بين أنقرة و”حماس”، فبينما تتعامل القاهرة مع “حماس” على أنها فصيل فلسطيني وحكومة أمر واقع في غزة، وتحصر لقاءاتها معها في الملف الأمني، باعتبار أن القاهرة ترى في منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإن أنقرة وحكومة العدالة والتنمية تحديداً، تتعامل مع حركة حماس بشكل يوازي تقريباً تعاملها سياسياً مع السلطة الفلسطينية، حيث يستقبل الرئيس أردوغان القيادي إسماعيل هنية في القصر الرئاسي ويجمع بينه وبين الرئيس محمود عباس كما حصل في يوليو 2023.

 

وكانت أزمة سفينة مرمرة عام 2009 شاهداً مهماً على هذا الخلاف بين القاهرة وأنقرة في التعامل مع “حماس”، حيث رفضت القاهرة فتح معبر رفح والتعامل مع “حماس” على أنها سلطة مُعترف بها في غزة، بينما دعمت تركيا محاولات كسر “الحصار” على غزة وحماس حينها من خلال إرسال سفن “المساعدات الإنسانية” التي هاجمتها إسرائيل حينها. كما أن القاهرة رفضت التعامل مع المقترح التركي الذي عرضته أنقرة في بداية الأزمة القائم على أداء تركيا ومصر دور الضامن في غزة، وإرسال قوات مصرية وتركية إلى القطاع. وعليه فإنه يجب الانتظار إلى حين توقف الحرب الحالية وما ستسفر عنه بشأن مستقبل “حماس”، قبل الحديث عن تعاون تركي-مصري محتمل في غزة.

 

4. العلاقات الاقتصادية

على الرغم من الخلافات القائمة بين مصر وتركيا، إلا أن التعاون الاقتصادي بينهما بقي مستمراً، ففي عام 2022 زاد حجم التجارة بينهما بنحو 14%، والاستثمارات التركية المباشرة في مصر زادت أيضاً بنسبة 30%. وهناك رغبة قوية لدى القطاع الخاص التركي في الاستثمار المباشر في مصر، حيث أعربت كبرى الشركات التركية، مثل Vestel, Arcelik, Zorlu، عن تطلعها إلى الاستثمار المباشر في مختلف القطاعات الصناعية في مصر. وأكد الرئيس أردوغان في مؤتمره الصحفي في القاهرة مع الرئيس السيسي على رغبة البلدين في رفع التبادل التجاري بينهما إلى 15 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة. وعليه فإن التقارب المصري-التركي سيساعد القاهرة أكثر على جلب استثمارات خارجية هي بأمسّ الحاجة لها.

 

5. التعاون الأمني وتنظيم الإخوان المسلمين 

أشرنا سابقاً إلى أن التقارب بين القاهرة ومصر بدأ من خلال اجتماعات لجان المخابرات، وتقديم أنقرة خطوات مهمة في مجال تقييد وجود تنظيم الإخوان المسلمين وطرد عدد من قياداته السياسية والإعلامية، ويمكن القول بأن مسافةً مهمة قد قُطِعَت في هذا الملف، ما ساعد على تحقيق زيارة أردوغان للقاهرة وإعادة العلاقات بين البلدين.

 

وفي هذا الإطار، ترى أنقرة أن تنظيم الإخوان المسلمين بات ضعيفاً جداً، وأنها مستعدة لتقديم تقارير عن نشاط الجماعة على أرضها إلى القاهرة، وأن التنظيم انقسم على نفسه في ثلاثة تيارات وقيادات: اثنان منها في إسطنبول والثالث في لندن، وأن زيادة الضغط على التنظيم من قبل أنقرة قد يدفع أحد هذه التيارات إلى التعاون والتقارب مع إيران أو تنظيم “القاعدة”، وهو أمر سيكون له تبعات سلبية على كلٍّ من مصر وتركيا معاً. وعليه فإن التفاهمات التركية-المصرية في هذا الملف تبدو قائمة ومثمرة حتى الآن، والدليل أنه بعد أيام قليلة من زيارة أردوغان للقاهرة قررت الحكومة التركية سحب الجنسية الممنوحة للقائم بأعمال المرشد العام الإخوان المسلمين في مصر محمود حسين، ضمن 50 آخرين من عناصر الصفوف العليا في التنظيم، بدعوى مخالفتهم شروط الحصول على الجنسية التركية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/afaq-alalaqat-almisria-alturkia-baed-ziarat-alraiys-ardughan-lilqahira

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M