­­ميناء جابهار: حلم استراتيجي إيراني يَتبدّد

تسعى إيران إلى لعب دورٍ مُهمّ ضمن ممرّات النقل الإقليمية، مُعتمدةً على موقعها الجغرافي الذي يؤمّن أقصر الطرق لربط البحار الجنوبية، بآسيا الوسطى، والقوقاز، وروسيا، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. وترى إيران أن موقعها، وعلاقاتها القريبة من روسيا، يُسهّلان لها مهمّة التحوّل إلى ممرّ أساسي لربط روسيا بالعالم بحكم الظروف الميدانية التي تعيشها روسيا الواقعة تحت الحصار.

ويُعدُّ مشروع ميناء جابهار الاستراتيجي، والمشاريع التكميليّة المرتبطة به، محور الارتكاز في هذه الخطط الإيرانية الطموحة. لكنّ مزيجاً من عوامل الضعف الاقتصادية، والسياسية الداخلية، علاوةً على التطوّرات المُتسارِعة في مجال خطط النقل الإقليميّة، وضعت جدوى المشروع، ومكانته ضمن ممرّات النقل الدولية على المحكّ. وهذه المُعطيات، ومجموعة أخرى من المؤثّرات، جعلت المشروع الإيراني عُرضةً للانهيار، وتركت الباب مفتوحاً أمام سيناريوهات عدّة.

 

حُلم إيران بالتحوُّل إلى محَطّة أساسية ضمن ممرّات الشّحن الإقليمية

يؤكّد صانع القرار الإيراني أن موقع بلاده الجغرافي يسمح لها بأن تكون مركزاً إقليميّاً للعبور والشحن؛ فهي تقع على مفترق عدّة ممرّات دولية كبرى. وتُعدُّ محطة عبور استراتيجية، يمكنها أن تختصر طرق نقل البضائع بنسبة 40% بحسب المصادر الإيرانية، كما يمكنها أن توفر كُلفة النّقل بنسبة تبلغ 30% حسب المصادر نفسها، وهو ما يوفّر دافعاً رئيساً لمختلف الأطراف لاستخدام أراضيها، خاصةً بالنظر إلى توافر ميزة الأمن الذي تحاول إيران إشهاره عادةً في وجه البلدان البديلة التي لا تتوافر فيها هذه الميزة، أو يكون الأمن فيها هشّاً. وقد تبنّت طهران خلال العقود الماضية خططاً طموحةً للتحوُّل إلى محطة رئيسة ضمن أهمّ ممرّات الشّحن الإقليمية والدولية، ومنها:

 

  1. الممرّ الشمالي-الجنوبي الذي تحاول موسكو إلى جانب دول آسيا الوسطى تفعيله، للوصول إلى المياه الجنوبية، وأسواق آسيا، وأفريقيا. كما تحاول الهند تفعيله من أجل نقل بضائعها إلى آسيا الوسطى، والاتحاد الأوروبي.
  2. الممرات الشرقية-الغربية التي يجري العمل عليها في سياق مُبادرة الحزام والطريق الصينية.

 

ويقع مشروع ميناء جابهار في قلب هذه الخطط، ويهدف إلى تأهيل ميناء جابهار بحيث يكون قادراً على شحن 33 مليون طن، ثم 80 مليون طن من البضائع بدلاً من 3 ملايين طن في 2016، و8 ملايين طن في 2021. ويتعين أن يرتبط الميناء بمدينة زاهدان، عبر خط قطار بطول 730 كم، بتكلفة 550 مليون دولار، ومنها إلى مدينة سرخس على الحدود مع تركمنستان، عبر خط قطار بطول 760 كم، بتكلفة 600 مليون دولار. كما تتضمن خطة المشروع، ربط ميناء جابهار بميناء بندر عباس، وبمحافظة كرمان عبر خط سكك حديد بقيمة 700 مليون دولار. وذلك ضمن خطة لإكمال ما يطلق عليه الجانب الإيراني “طريق الحرير الإيراني”، والتي تبلغ تكلفتها نحو 2.5 مليار دولار. وتؤكد الخطة الإيرانية على تطوير البنى التحتية للميناء عبر استثمارات أخرى بنحو 2.5 مليار دولار.

وتفترض إيران أن تفعيل مشروع جابهار، سوف يُمَكّنها من احتلال موقع مركزي ضمن شبكة نقل تؤمن مصالح مجموعة بلدان آسيا الوسطى، ورابطة الدول المستقلة (CIS)،وبلدان رابطة حافّة المحيط الهندي (IORA)، وبلدان الاتحاد الاقتصادي الأورو-آسيوي (EAEU)،إلى جانب احتلال مكانة مهمة ضمن ممرّات نقل البضائع من آسيا الجنوبية إلى الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن ميناء جابهار سيصبح ميناء شحن إقليمي ودولي عملاق، ونقطة بداية الطريق البرّي ضمن الممرّ الشمالي-الجنوبي، ونقطة اتصال بشبكة واسعة من خطوط قطارات الشحن. وقد رأت جهات إيرانية في انضمام إيران إلى كلٍّ من: منظمة شنغهاي، ومنظمة الاتحاد الاقتصادي الأورو-آسيوي، فرصةً لاستثمار هذه المكانة الجغرافية. وطمحت لاستخدام ميزة الإعفاءات الجمركية للتحول إلى محطة نقل بضائع مركزية بين آسيا الجنوبية، وآسيا المركزية، والقوقاز، وروسيا؛ ما من شأنه أن يُؤمِّن لإيران موارد اقتصادية كبيرة، ويمنحها مكانة جيوسياسية جيدة، يمكن استخدامها في الحسابات الدولية، من خلال ربط مصالح مختلف البلدان بالمصالح الإيرانية.

 

وفي هذا السياق، يأتي تأكيد صانع القرار الإيراني على ضرورة تطوير شُطآن إيران المطلّة على بحر عُمان، والتي يجري العمل عليها ضمن خطة تنمويّة تُسمى خطة “تطوير شطآن مكران”. ووردت هذه الخطة في وثائق إيران التنموية الأساسية، ومنها الخطة الخمسيّة السادسة للتنمية، ووثيقة التنمية الجغرافية. إلى جانب اهتمام القائد الأعلى علي خامنئي الذي اعتبر خطة تنمية شطآن مكران ضرورة استراتيجية للتحوُّل إلى محطة أساسيّة ضمن ممرّات النقل الدولية. وفي إطار هذه الخطة التنموية، تطمح إيران لتحويل الأراضي التي تقع على شاطئ بحر عُمان إلى منصّة لعدد كبير من مشاريع البتروكيماويات، والفولاذ. وتسعى لإنشاء مدن جديدة تتسع لأكثر من مليوني نسمة. إلّا أن النقطة الجوهريّة في جميع تلك الخطط، هو تحوُّل الشطآن إلى مجموعة من الموانئ المترابطة لشحن البضائع، بحيث تربط بحر عُمان بمحطات شحن البضائع في الحدود الشمالية، عبر شبكة واسعة من خطوط سكك الحديد.

 

تفترض إيران أن تفعيل مشروع ميناء جابهار، سوف يُمَكّنها من احتلال موقع مركزي ضمن شبكة نقل تؤمن مصالح مجموعة بلدان آسيا الوسطى، ورابطة الدول المستقلة (CIS)،وبلدان رابطة حافّة المحيط الهندي (IORA)، وبلدان الاتحاد الاقتصادي الأورو-آسيوي (EAEU)

 

مشروع استراتيجي تائه: ميناء جابهار والتوجهات الاستراتيجية المتعارضة

في مطلع العام 2022، صدَّرَت الهند نحو 40 ألف طن من القمح عبر الأراضي الباكستانية إلى أفغانستان التي أصبحت تحت قبضة تنظيم طالبان. ورأت إيران في هذه الخطوة دلالةً على تنصُّل الهند من تفاهمات سابقة، كان يُفترض بموجبها أن يُستخدَم ميناء جابهار الإيراني لإمداد أفغانستان بالمساعدات الهندية. واهتمت الصحافة الإيرانية بالخبر من هذا المنظور. وفي الربيع أشارت مصادر إلى أنّ نيودلهي زودت روسيا بالمواد الغذائية والدواء عبر جورجيا، مستخدمةً طريقاً بحريّاً يمرُّ عبر قناة السويس، والبحر المتوسط، والبحر الأسود. وأبدى الجانب الإيراني الذي كان يخطط للتحول إلى خطّ إمدادات رئيس لروسيا الواقعة تحت الحصار بعد الأزمة الأوكرانية، تحفظه حيال الخطوة الهندية التي اعتبرها التفافاً واضحاً حول الممرّ الإيراني، باعتباره جزءاً من ممر الشمال-الجنوب الذي تعوّل على تنشيطه كلّ من روسيا والهند، خصوصاً وأن التطورات شهدت اتفاقاً سابقاً بين موسكو ونيودلهي وطهران حول استخدام هذا الممرّ لتبادل البضائع.

ويأتي التوجُّس الإيراني من الخطوات الهندية في ظلّ تباعُد وجهات نظر الطرفين، حيال خطط النقل الإقليمية. وتسود في طهران مخاوف من أنّ هناك خطة أشمل، جرى التوافق عليها ضمناً بين بعض دول الجوار، لاستثناء إيران من ممرّات الشحن الإقليميّة. وتبدو على الإيرانيين بوادر قلق، من أن يكون حلم التحوُّل إلى محطة أساسيّة ضمن ممرّات الشّحن الدوليّة قد تبدّد. وفي هذا الإطار، انتشرت تقارير عن اقتراح ممرّ شرقي-غربي، يتفادى المرور بإيران، يمرّ عبر دول آسيا الوسطى إلى دول القوقاز ثم تركيا. كما وردت تقارير حول مشاركة كل من: باكستان وأفغانستان وأوزبكستان في جهد مشترك لإنشاء ممرّ شحن وخط قطارات يصل أفغانستان وأوزبكستان، ومن ورائهما دول آسيا الوسطى بالمحيط الهندي، عبر موانئ باكستانية، من ضمنها ميناء غوادر الذي تعتبره إيران المنافس الرئيس لمشروع ميناء جابهار.

وجاءت بداية تطبيق مشروع ميناء جابهار بعد الانفتاح الذي حصل مع توقيع الاتفاق النووي وإنهاء العقوبات على إيران؛ إذ عمدت حكومة حسن روحاني إلى تطوير الميناء من خلال ربطه بتطلعات دولية طموحة. وخلال فترة يمكن أن توصف بمرحلة تنافس الموانئ في المنطقة المطلة على بحر عمان (ومن ضمنها ميناء غوادر، وميناء الدقم، وميناء جابهار) حاولت حكومة روحاني طرح ميناء جابهار باعتباره محطة ضمن أهم ممرّات النقل الدولية، من خلال جذب بعض الأطراف الدولية إلى هذا المشروع.

وجاء التركيز الإيراني خلال الفترة المذكورة على الممرّ الشمالي الجنوبي (INSTC) الذي يربط الهند بآسيا الوسطى وروسيا، ومنها إلى الاتحاد الأوروبي عبر خطوط نقل تمتد لنحو 7200 كم، بالإضافة إلى توقيع عدة اتفاقيات، على رأسها الاتفاق الثلاثي بين الهند، وروسيا، وإيران، لنقل البضائع من الهند إلى روسيا عبر الأراضي الإيرانية في عام 2016، والاتفاق الثلاثي بين الهند، وإيران، وأفغانستان في 2017 لتطوير شبكة شحن برية تمرّ عبر جابهار إلى جانب اتفاقية “عشق آباد” للنقل.

وتشير التحركات الدبلوماسية إلى الدور المركزي الذي تلعبه الهند ضمن دبلوماسية النقل الإيرانية خلال هذه الفترة. وأظهرت التطورات الميدانية تحرك حكومة روحاني نحو ربط الهند بمشروع جابهار من خلال مشاريع تطوير بلغت قيمتها 2.5 مليار دولار، من ضمنها 500 مليون دولار لتطوير ميناء جابهار، و2 مليار دولار استثمارات هندية لتشييد خطوط قطار تربط الميناء بشبكة سكك حديدية إيرانية وأفغانية. على أن تأتي الاستثمارات الهندية في ميناء جابهار في سياق نظام البناء والتشغيل والتحويل (B.O.T) التي يتم بموجبها منح الهند الحق في إدارة الميناء لفترة لا تقل عن 40 عاماً بحسب مصادر إيرانية. وتُشير التحليلات إلى أن التقارب الإيراني-الهندي لتطوير جابهار يأتي في سياق المنافسة مع الصين التي كانت تعمل على تطوير ميناء غوادر الباكستاني، والذي يقع على بعد أقل من 100 كيلومتر من مشروع جابهار، وذلك باعتبار ميناء غوادر بوابة بديلة لربط آسيا الوسطى والصين بمياه المحيط الهندي.

 

وتؤكد تحليلات صادرة عن مراكز إيرانية ودولية بأن إدارة الرئيس الأمريكي ترمب دعمت مشروع جابهار، من خلال استثنائه من حملة الضغوط القصوى، ومنحه إعفاءات متنوعة بداعي دعم الحكومة الأفغانية. لكنّ التفسير المنطقي للخطوة الأمريكية، هو أنها جاءت في سياق سياسات ردع التطلعات الصينية، ودعم الهند في وجه تلك التطلعات. وكانت حكومة المعتدلين بقيادة حسن روحاني تتطلع للانفتاح على الاقتصاد الغربي على حساب الصين بعد إبرام الاتفاق النووي، ولذلك بادرت إلى تنفيذ المشروع الذي كان يعني إلى جانب القيمة الاقتصادية الاستراتيجية، ترجيح كفة الهند وروسيا في خطط العبور الإيرانية، عبر التأكيد على الممر الشمالي-الجنوبي على حساب الممرات الشرقية-الغربية التي تجري برعاية صينية. وعملت الظروف الميدانية المتمثلة في انخراط الصين في مشروع غوادر المنافس، على دعم توجه حكومة روحاني نحو البحث عن بدائل غير صينية؛ ما أدى بمجموعه إلى استياء الشريك الصيني خلال الأعوام الأخيرة من حكومة روحاني.

 

تسود في طهران مخاوف من أنّ هناك خطة أشمل، جرى التوافق عليها ضمناً بين بعض دول الجوار، لاستثناء إيران من ممرّات الشحن الإقليميّة، ما يعني أن حلم إيران بالتحوُّل إلى محطة أساسيّة ضمن ممرّات الشّحن الدوليّة قد يتبدّد

 

معالم تغيير الرؤية الاستراتيجية: الأولويات الصينية تضرب المشروع

بدأت الهند خطواتها الميدانية لتطوير ميناء جابهار عبر رصد 85 مليون دولار لبناء مرافئ واستيراد رافعات. وأبرمت الهند وإيران الاتفاقيات اللازمة لإنشاء سكة حديد “جابهار – زاهدان”. لكنّ التطورات اللاحقة أدّت إلى تجميد هذه المشاريع، أو عرقلتها. وكان للعقوبات الأمريكية الأثر الأكبر؛ حيث عرقلت مختلف مجالات التعاون الهندي-الإيراني على الرغم من وجود الإعفاءات الأمريكية. وأدى مزيجٌ من تغيير الحكومة في إيران، والضغوط الصينية، إلى تغيير أولويات إيران الاستراتيجية لتصبح أكثر التصاقاً بالصين، وهو ما انعكس سلباً على مشروع ميناء جابهار.

وأظهرت الصين أنها تسعى إلى تهميش حكومة روحاني، أثناء المفاوضات حول إبرام اتفاق التعاون الاستراتيجي مع النظام الإيراني؛ حيث فضّلت بيجين التفاوض مع الجهات السيادية في النظام. وقادت الجهود الصينية عمليّاً إلى تجميد أو إلغاء بعض العقود المبرمة بين الحكومة الإيرانية والجانب الهندي، مثل إلغاء إيران عقداً كان مبرماً مع الهند لبناء سكة حديد، بدعوى تلكؤ الجانب الهندي في التنفيذ؛ ما أدى إلى تباطؤ الأنشطة الهندية في ميناء جابهار. وترافق ذلك مع حملة إعلام معادية شنّتها الصحافة المقرّبة من المحافظين، واستهدفت نوايا حكومة روحاني السابقة في منح الهند حق إدارة الميناء لأربعة عقود.

وأظهرت الحكومة الإيرانية الجديدة، برئاسة إبراهيم رئيسي رغبةً واضحةً بتطبيق اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الجانب الصيني. وأصبحت بيجين في قلب “استراتيجية التوجُّه نحو الشّرق” الإيرانية على حساب الدول الأخرى، مثل روسيا والهند. وأكّد أكثر من مسؤول في الحكومة الجديدة على تنمية ميناء جابهار، وشطآن مكران، لكنْ هذه المرّة من خلال استثمارات صينية، تركزت على مشاريع النقل، وتشييد سكك الحديد، وتجهيز الموانئ. وبدا وكأن الصين أصبحت الشريك الاستراتيجي البديل لتطوير الميناء في ظل استمرار حالة التباعد بين طهران ونيودلهي، ليتمّ وضع مشروع جابهار هذه المرّة ضمن ممرّات النقل الشرقية-الغربية، وفي سياق مبادرة الحزام والطريق الصينية. وأظهرت عدّة بنود سُرِّبَت من نصّ اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، جزئيات اتفاق بين إيران والصين على تطوير ميناء جابهار، والاستثمار في مدينة بتروكيماوية فيه، وبناء مدينة تيس الذكية، وإنشاء ميناء جاسك على شطآن بحر عمان، وربط مينائي جابهار وجاسك بميناء غوادر الباكستاني عبر خط سكك حديد في سياق الممر الشرقي-الغربي، وهو ما يعني أن ميناء جابهار بات أقرب إلى كونه محطة من محطات مبادرة الحزام والطريق.

وقد أسهمت الظروف الإقليمية في دعم هذا التوجه الإيراني-الصيني الجديد لتغيير ماهيّة مشروع ميناء جابهار؛ إذ أدت هيمنة تنظيم طالبان في أفغانستان إلى خروج أفغانستان عمليّاً من حسابات ميناء جابهار. وكانت الخلافات بين حكومة أشرف غني وباكستان تدفع كابول باتجاه الحصول على المساعدات الهندية عبر الأراضي الإيرانية، لكنْ في ظل هيمنة تنظيم طالبان المقرب من باكستان، استغنت كابول عن الوسيط الإيراني، وبات يمكنها الحصول على المساعدات الهندية عبر الأراضي الباكستانية، وبالفعل تغير مسار المساعدات الهندية لأفغانستان من جابهار إلى باكستان. وانخرطت أفغانستان في اتفاق مع أوزبكستان وباكستان لإنشاء خط سكك حديد يربط آسيا الوسطى بميناء غوادر الباكستاني على المحيط مرورا بأفغانستان.

أما في الهند، وبالرغم من حصول غالبية الشركات الكبرى الهندية العاملة في ميناء جابهار على استثناء أمريكي من العقوبات المفروضة على إيران، إلّا أنّ معظم هذه الشركات ظلّت تتفادى التعاون مع إيران خشية التعرُّض إلى عقوبات ثانوية تفرضها الولايات المتحدة على الشركات المُتعاوِنة مع الحرس الثوري الإيراني، خصوصاً أن غالبية الشركات الإيرانية النّاشطة في مشروع جابهار، تنتمي بشكل أو بآخر إلى منظومة شركات الحرس الثوري. وكانت النتيجة أن الهند توجّهت نحو طرق بديلة لتصدير بضائعها إلى روسيا، رغم وجود اتفاق مُوقَّع مع إيران وروسيا في عام 2017، ورغم تفاؤُل إيران بأنّ الحصار على روسيا نتيجة الحرب على أوكرانيا سيدعم تطلُّعاتها للعب دور مركزي في نقل البضائع إلى روسيا.

 

تطوير البُنية التحتيّة لميناء جابهار الإيراني، وشبكة النقل المرتبطة به، سوف يستغرق 50 عاماً إذا استمرّ تقدُّم المشروع بنفس الوتيرة القائمة. ويبقى استكمال ميناء جابهار، وشبكة النقل المرتبطة به، مرهوناً إلى حدٍّ كبير بإنهاء العقوبات الأمريكية، وفتح الطريق أمام رؤوس الأموال الدولية الضرورية لتنفيذه

 

السيناريوهات

تُشير المعطيات إلى أنّ تطوير البُنية التحتيّة لميناء جابهار، وشبكة النقل المرتبطة به، سوف يستغرق 50 عاماً إذا استمرّ تقدُّم المشروع بنفس الوتيرة القائمة. ولا شكّ أن استكمال ميناء جابهار، وشبكة النقل المرتبطة به، يبقى مرهوناً إلى حدٍّ كبير بإنهاء العقوبات الأمريكية، وفتح الطريق أمام رؤوس الأموال الدولية الضرورية لتنفيذه، لكنّ مزيجاً من الأسباب الاقتصادية والسياسية تجعل المشهد مُنفتحاً أمام احتمالات وسيناريوهات عدة، أبرزها الآتي:

 

السيناريو الأول؛ عودة الهند إلى مشروع جابهار. يفترض هذا السيناريو أن تستطيع الهند مواصلة دورها في تطوير المشروع، وتحويل جابهار إلى محطة ضمن الممرّ الشمالي-الجنوبي. ويتطلّب ذلك إنهاء العقوبات على إيران، بما يسمح للشركات الهندية العمل بحريّة في مشاريع لا تقل عن ملياري دولار. كما يتطلّب ألا تُعارض الصين الأنشطة الهندية في تفعيل الممر الجنوبي-الشمالي. وهذا الافتراض يبقى وارداً لو تصورنا ضغطاً روسياً على الشريك الصيني، إلّا أن التطورات الميدانية لا تشير إلى نوايا صينية بهذا الاتجاه. وبشكل عام يصعب توقُّع مثل هذا الانصياع الصيني الذي يعني السماح للمنافس الهندي بالحصول على ميناءٍ، يُعتَبرُ المنافسَ الرّئيس لميناء غوادر.

 

السيناريو الثاني؛ انخراط الصين في مشروع جابهار. يفترض هذا السيناريو أن تنخرط الصين في مشاريع لتطوير الميناء الإيراني، وجعله محطة أساسية ضمن ممرّات النقل التي تخطط لها. وهو السيناريو الذي لوّحت الصين بتفعيله، من خلال بنودٍ جرى تسريبُها من اتفاق التعاون الاستراتيجي مع إيران. لكنّ السيناريو يواجه عدّة عقبات، على رأسها استمرار العقوبات على الاقتصاد الإيراني. كما أن المُعطيات الميدانية تقول إنه من غير المجدي أن تعمل الصين على تطوير ميناء آخر، على بعد 100 كيلومتر من ميناء غوادر الذي تعمل بيجين على تطويره في باكستان، خصوصاً وأنه لا يحمل أية سمات استراتيجية إضافية لمشاريع النقل الصينية، بما يستوجب تطويره على الصورة التي تنشدها إيران. ويبقى من المحتمل أن تعمل الصين على ربط جابهار بغوادر من خلال شبكة سكك حديدية، لإنشاء حلقة موانئ مترابطة. وفي هذه الحالة سيكون ميناء جابهار أصغر حجماً بكثير ممّا تتوقّعه المُخطّطات الإيرانية.

 

السيناريو الثالث؛ تجميد مشروع جابهار. يفترض هذا السيناريو، أن ما قامت به الصين، لا يأتي في سياق “تصيين جابهار”، أو جعله حلقة ضمن المشاريع الصينية، بل في سياق تحييد جابهار، وتجميده، وإخراجه من ساحة المنافسة. وعليه، يمكن الافتراض بأن الصين سوف تمنع الهند من تطوير جابهار، وفي نفس الوقت، لن تقوم بخطوات بديلة لتطويره ضمن مشاريع صينية. كما يُمكِن الافتراض بأن الصّين ستقوم بأعمال تطوير محدودة في جابهار، تُخوِّل لها استخدامه كميناء احتياط عن غوادر في حال حصول أية مشاكل. كما تُتيح لها استخدام المنطقة كمحطة تخزين، ونقل للبضائع البتروكيماوية إلى الصين، عبر غوادر أو عبر البحار. وهذه هي النقطة التي من المرجح أن يفكّر الإيرانيون في تسييرها بالتعاون مع الصّين في حال تمّ تجميد المشروع الطَّموح. وفي المجموع، يُمكن القول إنّ غالبيّة السيناريوهات تستبعد تحوّل جابهار إلى ذلك الميناء المنشود الذي توقّع الإيرانيون تحوّله إلى محطة أساسية ضمن ممرّات النقل الدولية.

 

الخلاصة والاستنتاجات

تسعى إيران إلى لعب دور مهم في ممرّات النقل الإقليمية، معتمدةً على موقعها الجغرافي الذي يؤمّن أقصر الطرق لربط البحار الجنوبية، بآسيا الوسطى، والقوقاز، وروسيا، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. وترى إيران أن موقعها، وعلاقاتها القريبة من روسيا، يُسهّلان لها مهمّة التحوّل إلى ممرّ أساسي لربط روسيا بالعالم بحكم الظروف الميدانية التي تعيشها روسيا الواقعة تحت الحصار. ويُعدُّ ميناء جابهار، والمشروع المتكامل المتشكِّل حوله، نقطة بداية مغرية لجميع الأطراف الساعية إلى ربط آسيا الوسطى، والقوقاز، والأناضول، بالمحيط الهندي. فضلاً عن إمكانية استخدامه كنقطة بداية لممرّات شرقية-غربية تحاول الصين فتحها في سياق مبادرة الحزام والطريق. وتحاول إيران الإيحاء بإمكانية استخدام نفوذها في العراق، وسوريا من أجل فتح ممرّ سهل حتى مياه البحر المتوسط.

لكنّ ضعف البنية التحتية، وعدم توافر الموارد المالية المحليّة اللازمة لتنفيذ مشروع جابهار، دفع طهران نحو الانخراط في اتفاقيات تعاون دوليّة مع الجهات الراغبة في استخدام هذا الممرّ؛ حيث سعت طهران إلى جذب استثمارات خارجية تبلغ نحو 5 مليارات دولار لإنشاء بنية تحتية جديدة، ونحو 8 مليارات دولار لتحسين البنى التحتية القائمة. وأظهرت طبيعة عقود ما بعد الاتفاق النووي رغبة إيرانية قويّة بتحديث بُنية النقل البرّي. واجتهدت إيران في جذب الهند إلى مشروع ميناء جابهار، وشبكة القطارات المرتبطة به، من خلال نظام البناء والتشغيل والتحويل (BOT)، بهدف تفعيل محطة إيران ضمن الممر الشمالي-الجنوبي، والوجود ضمن سباق الموانئ، وممرّات النقل قبل نفاذ الفرصة. لكنّ مجموعة أسباب، على رأسها العقوبات الأمريكية، وتغيير الحكومة في إيران، والتطورات الإقليمية، فكَّكت شبكة المصالح المُشتركة السابقة، وعملت على تجميد مشروع تطوير ميناء جابهار، وشبكة السكك الحديدية التي تربطه بالحدود الشمالية لإيران.

وأظهرت التطورات أن تغييب الهند من مشروع ميناء جابهار، رغم العقود المبرمة بين الجانبين، جاء بسبب ضغوط من المنافس الصيني الذي بدا أقرب إلى الحكومة المحافظة الجديدة، بعد أن كانت حكومة المعتدلين تُفضّل التعامل مع الهند. وعلى الرغم من أن الشركات الهندية تباطأت في التعاون مع إيران بشأن المشروع نتيجة التخوف من التعرض لعقوبات، إلا أن ضغوط جهات سياديّة إيرانيّة مُقرَّبة من الصين، كانت وراء إلغاء عُقود إيرانية-هندية لإنشاء سكك الحديد، ومنحها لشركات مُقرَّبة من الحرس الثوري. وأظهرت تسريبات نصّ اتفاق التعاون الاستراتيجي بين إيران والصين، حضور الصين في هذا المشروع، وهو ما أشعر الهند بأن المصالح الإيرانية تغيرت، وأنه لم يعد للهند مكان ضمن هذا المشروع، خاصةً بعد تعرُّضها لحملة إعلاميّة من الصحافة المُقرَّبة من المحافظين، بداعي اختراق السيّادة الإيرانية. وأغلب الظن أن تخلّي الهند عن الممرّ الإيراني، والتوجه نحو الممرّات البديلة لتزويد روسيا بالبضائع جاء بعد تلك التسريبات.

ولم تُظهِر الصين حتى الآن، رغبةً حقيقيةً في تفعيل محطة جابهار بشكل خاص، ومحطة إيران بشكل عام، ضمن مُبادرة الحزام والطريق، وذلك على الرغم من مسعاها لإبعاد المنافس الهندي عن إيران. بل إن الخطوات العملية التي اتخذتها الصين عكست رغبتها بتفعيل محطات غير إيرانية، وأوحت بمحاولتها تفادي إيران من خطط العبور الكبرى، إذ ركزت الصين على مشاريع تمرّ عبر بلدان آسيا الوسطى، ومنها إلى القوقاز عبر بحر قزوين. واستشعرت طهران الخطر من أن تكون نتيجة كل ذلك، هي تغييب إيران عن مشاريع الممرّات الصينية، بفعل عدم توافر البنية التحتية اللازمة، وضغوط المنافسين الإقليميين مثل تركيا. وبينما تبقى إيران القناة الأنسب ضمن الممرّ الشّمالي-الجنوبي الذي تنشده الهند وروسيا، إلّا أن تعارُض هذا المشروع مع مصالح الصين يُبقيه مُعلَّقاً في المرحلة الراهنة.

ولعلّ انخراط الصين في مشاريع لتطوير ميناء غوادر الباكستاني، يجعلها في غنىً عن تطوير ميناء جابهار؛ إذ وقّعت الصين ضمن ميناء غوادر على مشاريع يبلغ حجمها 48 مليار دولار، وتم حتى الآن استثمار 14 مليار دولار منها، ويبعد ميناء غوادر نحو 100 كيلومتر فقط عن ميناء جابهار. ولعلّ أفضل التوقعات البديلة، أن تعمل الصين على ربط جابهار (وميناء جاسك الإيراني) بميناء غوادر الباكستاني عبر شبكة سكك حديدية، لإيجاد حلقة موانئ مترابطة، يتم استخدامها مُجتمِعةً للارتباط بآسيا الوسطى. وربما يفكّر الجانب الصيني باستخدام ميناء جابهار كميناء احتياطي، في حال حصول خلاف بين الصين وباكستان، أو حدوث تباعد بينهما نتيجة الضغوط الأمريكية على إسلام آباد. إلّا أن التوقُّعات تشير إلى أنّ الخطوات الصينية أتت في سياق “تحييد جابهار”، وتجميده، وإبعاد المُنافِس الهندي من السّاحة.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/mina-chabahar-hulm-istiratiji-irani-yatabaddad

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M