نهاية التحالف الخماسي: انسحاب بوركينا فاسو والنيجر من تجمع دول الساحل وآفاق الوضع الإقليمي

  • لا يعني إعلان حكومتي بوركينا فاسو والنيجر انسحابهما من تجمع دول الساحل الخمس، بعد انسحاب مالي منه في مايو 2022، إنهاءً لهذا التجمع فحسب، بل أيضاً تراجعاً للنفوذ الفرنسي والأوروبي في منطقة الساحل، في مقابل تنامي النفوذ الروسي. 
  • لا يُستبعد أن تنسحب الدول الساحلية الثلاث من تجمع “الإيكواس” أيضاً، كما لا يُستبعد أن تسعى لوضع عملة مشتركة تخرجها من منظومة الفرنك الأفريقي المرتبط عضوياً بفرنسا. 
  • مع ما تعانيه بوركينا فاسو والنيجر ومالي من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، ناتجة عن توقف التعاون مع الدول الغربية وبرامج الأمم المتحدة ومقاطعة مجموعة “الإيكواس” لها، يتوقع أن تشهد حالات مقلقة من عدم الاستقرار السياسي والأمني قد تتفاقم إلى حد الانهيار الكلي للدولة المركزية.

 

في 2 ديسمبر 2023 أعلنت حكومتا بوركينا فاسو والنيجر انسحابهما من تجمع دول الساحل الخمس، وكانت مالي قد انسحبت من التجمع نفسه في 15 مايو 2022.

 

تتناول الورقة خلفيات انسحاب الدول الثلاث، وأثره في مستقبل هذا التحالف الذي تشكل عام 2014 من أجل تعزيز جهود بلدان الساحل في محاربة الإرهاب والتطرف الديني.

 

خلفيات انسحاب بوركينا فاسو والنيجر 

تشكلت مجموعة الساحل الخماسية G5 Sahel في نواكشوط في 16 فبراير 2014 من خمس دول هي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا. وقد وضعت البلدان الخمسة مجموعة أهداف لتحالفها الإقليمي أهمها: تنسيق السياسات الأمنية والتنموية في المنطقة، والعمل على توطيد اندماجها الاستراتيجي. ومع أن اتفاقية إنشاء المجموعة ذكرت أهدافاً عامة ومتشعبة للتحالف، إلا أن المادة الخامسة من الاتفاقية ركزت على الأبعاد الأمنية للشراكة بين البلدان الساحلية، بما ينعكس على جودة الحوكمة وصلابة النسيج السكاني للدول المعنية. وقد نصت المادة 13 على إنشاء لجنة خاصة بالدفاع والأمن تتشكل من قادة جيوش البلدان الساحلية، بما يُجسِّد الطابع العسكري الأمني للمجموعة.

 

ومن المعروف أن مشروع التجمع الإقليمي لدول الساحل كان بالأساس مدعوماً من فرنسا والاتحاد الأوروبي، والغرض منه التنسيق مع الطرفين في السياسات الأمنية والاستراتيجية في المنطقة. وهكذا أُعلِن الشروع عن إنشاء قوة مشتركة من دول الساحل، مؤلفة من خمسة آلاف جندي خلال قمة باماكو في 2 يوليو 2017 التي حضرها إلى جانب رؤساء دول المجموعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وخُصِّص للقوة المشتركة ميزانية قدرها 423 مليون يورو تدفع منها الدول الأعضاء 50 مليوناً، ويدفع الطرف الأوروبي 50 مليوناً أخرى، وتسهم المجموعة الدولية ببقية المبلغ المذكور. إلا أن المشاريع التنموية المقدرة بـ12 مليار دولار والمشاريع الدفاعية لم تنل التجاوب المطلوب، بما انعكس سلباً على أداء التجمع قبل أن تدخل المنطقة، منذ 2020، في أزمات سياسية متواصلة.

 

ومع الانقلاب العسكري في مالي، في أغسطس 2020، الذي تلاه انقلاب ثان في مايو 2021، بدأ التجمع ينهار عملياً، نتيجة للموقف الفرنسي المتشدد ضد الانقلاب، بما أفضى إلى سحب فرنسا قواتها العسكرية من مالي، وتلتها بعثة الأمم المتحدة لحفظ الأمن في مالي، ثم انسحبت مالي من كل هيئات التجمع الساحلي في مايو 2022. وكما كان من المتوقع، سلكت الحكومتان العسكريتان في بوركينا فاسو والنيجر التوجه نفسه، إثر إنهاء التعاون العسكري والأمني مع فرنسا، بما ظهر بقوة في البيان الصادر عن البلدين، في 2 ديسمبر 2023، والذي ورد فيه أن “الفهم المشترك لدولتينا هو أن تجمع الساحل الخماسي يجب ألّا يخدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، والأدهى من ذلك قبول وصاية أي قوة مهما كانت باسم شراكة مموهة.. تنفي حق سيادة شعوبنا ودولنا”. ومن الواضح أن الإشارة هنا تتعلق بفرنسا الراعية الأساسية للتجمع التي وقفت بشدة ضد الانقلابات العسكرية التي عرفها الإقليم.

 

وقد تزامن انسحاب دول الساحل المركزية من المجموعة مع تزايد الدور الروسي في الإقليم من جهة، وبروز مشروع طموح للاندماج بين البلدان نفسها من جهة أخرى. وقد بدأ الدور الروسي في الإقليم من مالي، حيث أصبحت روسيا الشريك الاستراتيجي الأول لمالي بعد الانسحاب الفرنسي، ووفّرت حكومة موسكو عتاد متكامل للسلطات الانقلابية، من طائرات عسكرية وأسلحة وأنظمة رقابة، ويعتقد أن عدد قوات فاغنر الروسية وصل إلى 6000 مقاتل في شمال مالي. واستقبلت حكومة مالي عدة بعثات عسكرية ومدنية مؤخراً، ووصلت الشراكة بين البلدين حد التوافق حول مشاريع بنيوية كبرى من قبيل تزويد مالي بالمحروقات والأسمدة وإنشاء شركة طيران إقليمية وبناء سكك حديد وخطوط ترام، وفق ما رجح عن زيارة وزيري الدفاع والمالية الروسيين مؤخراً لباماكو، بحسب موقع مالي ويب الإخباري.

 

وتوطدت العلاقات العسكرية والاقتصادية بين روسيا وبوركينا فاسو بوتيرة متسارعة بعد انقلاب النقيب إبراهيم تراوري في سبتمبر 2022. ومن بين آثار هذه الشراكة الجديدة استقْدام عشرات المستشارين العسكريين الروس، وتنفيذ روسيا مشاريع عديدة في بوركينا فاسو في مجالات الطاقة النووية السلمية والصحة والثقافة، بما اعتبرته صحيفة “لوموند” الفرنسية مظهر تحالف وثيق بين البلدين. ونلمس التوجه نفسه في النيجر بعد انقلاب يوليو 2023 الذي أسقط الرئيس المدني محمد بازوم؛ ففي بداية ديسمبر 2023 استقبل رئيس المجلس العسكري الانتقالي الجنرال عبد الرحمن تياني نائب وزير الدفاع الروسي، وتوصل الطرفان إلى اتفاقية دفاعية طموحة تكرس الاختراق الروسي المتزايد لإقليم الساحل.

 

وقد أعلنت الحكومات العسكرية في البلدان الثلاثة قيام تحالف مشترك بينها في 15 سبتمبر 2023. وفي 25 نوفمبر أوصى وزراء المالية في الدول المذكورة بإنشاء مصرف استثماري مشترك، والشروع في استراتيجية اندماج نقدي ومالي، قبل أن يقترح وزراء الخارجية في الأول من سبتمبر قيام كونفدرالية بين البلدان الثلاثة تُفضي إلى دولة فيدرالية بحكومة مشتركة، ولا تزال هذه القرارات مطروحة لمصادقة الرؤساء.

 

ومن هنا نستنتج أن انسحاب بوركينا فاسو والنيجر، إثر انسحاب مالي، من تجمع الدول الساحلية يندرج في سياق التحولات الكبرى التي عرفتها البلدان المذكورة من حيث الوضع الداخلي والعلاقة بالأطراف الدولية.

 

آفاق الوضع الساحلي الجديد 

بعد انسحاب الدول الساحلية المركزية، أصبحت الخارطة الاستراتيجية للمنطقة تتوزع إلى محورين متمايزين: محور موريتانيا وتشاد الذي تدعمه فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي؛ ومحور مالي وبوركينا فاسو والنيجر الذي أصبح تحت النفوذ الروسي.

 

وقد بذلت موريتانيا (مقر التجمع الساحلي) جهوداً حثيثة للحفاظ على المجموعة، ومارست ضغوطاً كبيرة على مالي من أجل إرجاعها إلى التجمع دون جدوى، ولا شك في أنها تَعتبر نفسها فشلت في أهم مشروع جيوسياسي إقليمي كان يوفر لها مظلةً استراتيجية أساسية بعد انسحابها من “المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” (الإيكواس)، وبعد دخول اتحاد المغرب العربي في شلل حقيقي.

 

وليس من المستبعَد أن تنسحب الدول الساحلية الثلاث من تجمع “الإيكواس” الذي فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على تلك البلدان احتجاجاً على الانقلابات العسكرية التي عرفتها، كما لا يُستبعَد أن تسعى لوضع عملة مشتركة تخرجها من منظومة الفرنك الأفريقي المرتبط عضوياً بفرنسا. إلا أن البلدان الثلاثة تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، ناتجة عن توقف التعاون مع الدول الغربية وبرامج الأمم المتحدة ومقاطعة مجموعة “الإيكواس” لها، ولا يُعتقَد أن الدعم الروسي يمكن أن يعوض تلك الشراكات المتوقفة. ومن هنا فإن البلدان الثلاثة ستشهد على الأرجح حالات مُقلِقَة من عدم الاستقرار السياسي والأمني قد تتفاقم إلى حد الانهيار الكلي للدولة المركزية.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/ensihab-burkina-fasw-walnayjar-min-tajamue-dual-alsahil-wafaq-alwade-al-iqlimi

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M