هل بات العالم مدمنًا للوقود الأحفوري؟

 د. أحمد سلطان

 

عندما نتناول ملف الطاقة فنحن في الواقع نتحدث عن موضوع حيوي وجوهري وقضية استراتيجية تهم الجميع دون استثناء، فالطاقة شريان الاقتصاد العالمي وقلب التطور النابض، ومحرك التنمية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دورها وأهميتها حاضرًا ومستقبلًا، وارتباطها ارتباطًا وثيقًا بمستقبل الأجيال القادمة وخطط التنمية المختلفة لجميع دول العالم، فالطاقة هي الممر الآمن للعبور إلى المستقبل.

مقدمة

حذر وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان العالم في ديسمبر الماضي من عام ٢٠٢١، من أن العالم مُقبل على أزمة طاقة كبيرة حال استمرار انخفاض حجم الاستثمارات في قطاع النفط والطاقة، موضحًا أن هذه الاستثمارات هي السبيل الوحيد للمحافظة على إمدادات الطاقة وزيادة الإنتاجية التي سيحتاج إليها السوق العالمي،  وفي بداية العام وبعد أقل من شهر من تحذيراته تخطت أسعار النفط حاجز ١٠٠ دولارًا للبرميل، لأسباب منها النمو المتزايد في الطلب الذي قابله نقص في معدلات الإمدادات، وما صاحب ذلك من أحداث سياسية يعيشها العالم حاليًا والتي من أهمها الحرب الروسية  الأوكرانية ومفاوضات الملف النووي الإيراني، تحذير الأمير عبد العزيز بن سلمان جاء ردًا على تحذيرات ومطالبات دولية بضرورة خفض الاستثمارات في النفط والغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي أدى إلى انخفاض حجم الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في قطاعات الطاقة المختلفة والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات منذ عام ٢٠١٤ حتى بداية العام الحالي.

مدخل

مما لا شك فيه، أن خفض دعم الوقود الأحفوري سيقود العالم نحو تحقيق الأهداف المناخية المرجوة، ولكنها بطبيعة الحال عملية صعبة ومعقدة وبكل تأكيد ستأخذ في طريقها العديد من الضحايا، وبالأخص الدول النامية التي لا تزال تكافح فقر معدلات الطاقة، ولذلك ترى الدول محدودة الدخل أن إنتاج النفط والغاز الطبيعي والفحم من ضروريات التنمية الاقتصادية، ولذلك تحارب من أجل ضمان عدم خنق تنميتها في طريقها نحو مستقبل منخفض الكربون، مؤكدة بأن الاقتصادات المتقدمة والنهضة الصناعية هي التي تسببت تاريخيًا في معظم الانبعاثات، وترى وكالة الطاقة الدولية ضرورة وقف الإنفاق على مشروعات الوقود الأحفوري وذلك من أجل تحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن الحالي.

دعم الوقود الأحفوري

دعم الوقود الأحفوري يكون من قبل الحكومات، سواءً من خلال إعفاءات ضريبية أو مدفوعات مباشرة تعمل على خفض تكاليف عمليات استخراج وإنتاج النفط والغاز الطبيعي، وتعمل على تعزيز الاستثمارات، وهذا هو الشائع في العديد من الدول الكبرى، أو عن طريق آخر وهو دعم أسعار الوقود والمنتجات البترولية للمستخدم النهائي، وهذا الأمر الأكثر شيوعًا في البلدان محدودة الدخل، وتُشير وكالة الطاقة الدولية أن هناك أكثر من ٥٢ من الاقتصادات المتقدمة والناشئة تُشكل حوالي أكثر من ۹٠٪ من إمدادات الوقود الأحفوري العالمية قدمت إعانات بقيمة حوالي ٥٥٥ ​​ مليار دولار سنويًا في المتوسط ما بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١۹، وذلك قبل أن تنخفض إلى حوالي 345 مليار دولار، وذلك في عام ٢٠٢١ بسبب جائحة كورونا.

وطبقًا لأحدث بيانات وتقديرات وكالة الطاقة العالمية، بلغ إجمالي حجم دعم الوقود الأحفوري عالميًا من قبل الحكومات حوالي أكثر من ٥ تريليونات دولار، وذلك منذ عام ٢٠١٠ وحتى بداية عام ٢٠٢٢، بينما قدر صندوق النقد الدولي إجمالي دعم الوقود الأحفوري عام ٢٠٢٠ عند حوالي ٥٬۹ تريليون دولار، أي ما يعادل حوالي ٧٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومع الوضع في الحسبان التكاليف غير المعلنة للوقود الأحفوري، مثل تأثيراته الضخمة في تلوث الهواء والاحتباس الحراري، ووفر أكثر من ٦٠ بنكًا من أكبر البنوك الاستثمارية علي مستوى العالم عمليات تمويل بقيمة حوالي ٤ تريليونات دولار للوقود الأحفوري وذلك في الفترة ما بين عامي ٢٠١٦و٢٠٢٠، وذلك بعد توقيع اتفاقية باريس للمناخ، وبحسب تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)، فإنه من بين ٦٣٤ مليار دولار لقطاع الطاقة عام ٢٠٢٠، بلغ دعم الوقود الأحفوري حوالي ٧٠٪، مقابل ٢٠٪و٦٪و٣٪ للطاقة المتجددة والوقود الحيوي والطاقة النووية على الترتيب.

اتفاق باريس للمناخ وبداية الصراع

كان اتفاق المناخ الذي وُقع عام ٢٠١٥ في العاصمة الفرنسية باريس، ودخل في حيز التنفيذ الفعلي في نوفمبر من عام ٢٠١٦، قد شدد بشكل أساسي على ضرورة مواجهة مشكلة انبعاثات الغازات الدفيئة، وكيفية إيجاد حلول واقعية وفاعلة للتكيف معها، والتخفيف من حدة ضررها على البيئة العالمية، والنظر بجدية إلى الآثار الواضحة للتغيرات المناخية، ولذلك أطلق مبادرات تسهم في الحد من الانبعاثات للتخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري ويُذكر أن أحد مهندسي هذا الاتفاق هو وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، وهو الآن المبعوث الرئاسي لشؤون المناخ، وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، أعلن خروج الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاق باريس للمناخ، ودعم صناعة النفط والغاز الطبيعي ومنح التراخيص للتنقيب والبحث، فإن الرئيس الحالي جو بايدن أعلن منذ توليه العودة لاتفاق باريس للمناخ ونقض جميع قرارات الرئيس السابق فيما يخص قطاع الوقود الأحفوري، وليوقف مؤقتًا عقود إيجار النفط والغاز الطبيعي الجديدة على الأراضي العامة والمياه البحرية إلى أقصى حد ممكن، وإلغاء خط أنابيب النفط كيستون إكس إل لنقل النفط الخام من كندا إلى ساحل الخليج الأمريكي.

تبع اتفاق باريس دعوات عدة من مؤسسات عالمية للتخلص من الاستثمارات في قطاع الوقود الأحفوري للوصول إلى الطاقة المتجددة والنظيفة، لتقود الوكالة الدولية للطاقة حملة تحذيرات ضد المستثمرين لعدم تمويل مشروعات النفط والغاز الطبيعي والفحم الجديدة، وذلك ضمن أكبر تحذير من الوكالة لكبح الاستثمارات في الوقود الأحفوري.

وبصفة عامة بلغ حجم الاستثمار في قطاع الوقود الأحفوري في عام ٢٠١٤ حوالي ٥٢ مليار دولار، فيما بلغت في عام ٢٠١۸ أكثر من حوالي ١٢٥ مليار دولار لشركات متعددة الجنسيات، وفي عام ٢٠١۹ التزمت حوالي ١١١٠ مؤسسات لديها أصول مُدارة بأكثر من حوالي ١١ تريليون دولار بالتخلص من الوقود الأحفوري، لتشهد تلك الصناعة القوية انخفاضًا ثابتًا بمركزها في ستاندرد آند بورز، نتيجة تراجع عدد المستثمرين المؤسسين، وانخفاض الأرباح، وضعف التوقعات، لتشطب شركات مثل ريبسول وبي بي وإكوينور أكثر من حوالي ١٢ مليار دولار من قيمة أصول النفط الصخري في قارة أمريكا الشمالية، وفي عام ٢٠٢٠، أعلنت أكثر من ٤٠ مؤسسة استثمارية من أكثر من ١٥ دولة سحب استثماراتها من الوقود الأحفوري، وأعلنت شركة بلاك روك، والتي تُعد من كبرى الشركات لإدارة الأصول علي مستوى العالم، أن الاستدامة البيئية ستكون عاملًا رئيسيًا وحاسمًا في قرارات الاستثمار العالمي مستقبلًا، وليعلن أيضًا صندوق المعاشات التقاعدية لولاية نيويورك الأمريكية أنه سيتخلص من شركات النفط والغاز نهائيًا وذلك بحلول عام ٢٠٢٤، وإزالة الاستثمارات الكربونية من محفظته نهائيًا، والتي تُقدر قيمتها بأكثر من ٥٥٠ مليار دولار وذلك بحلول عام ٢٠٤٠.

وبدورها، حددت شركة لويدز، والتي تُشكل أكبر سوق تأمين في العالم، موعدًا للتوقف عن تغطية التأمينات الجديدة لمشروعات الطاقة والفحم في القطب الشمالي وذلك بداية من يناير الماضي فيما التزمت بالانسحاب من جميع أعمال الوقود الأحفوري بحلول عام ٢٠٣٠.

أهم التهديدات التي تواجه قطاع الوقود الأحفوري

تُمثل زيادة تكلفة الضرائب مقابل دعم الطاقة المتجددة أهم المشكلات والعقبات التي تواجه الشركات المستثمرة في قطاع الوقود الأحفوري، وتتبنى بعض الدول خصوصًا دول القارة الأوروبية سياسات حادة لتحول تلك الشركات للاستثمار في الطاقة المتجددة والنظيفة، ومما يؤكد ويبرهن على ذلك؛ القرار الذي اتخذته دول الاتحاد الأوروبي بفرض ضريبة الكربون للحد من استخدام الوقود الأحفوري، وهو القرار الذي أثر بشكل كبير على شركات النفط والغاز الطبيعي واتضح بشكل قوي مع الأزمة الروسية الأوكرانية الحالية.

ومع زيادة استخدام تلك السياسات المشددة التي دفعت بعض الشركات لبيع جزء كبير من أصولها مثل شل ورويال داتش وإيني الإيطالية، وشركة بي بي التي من المتوقع بيع حصتها في روسنفت الروسية والتي تشكل حوالي ١٥٪ من إنتاج الشركة، بالإضافة إلى خروجها من الاستثمار في قطاع الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبلًا ستخرج من الاستثمار في الوقود الأحفوري بشكل أسرع، وهذه السياسات والانسحابات المستمرة تضغط بكل تأكيد على صناعة النفط والغاز الطبيعي العالمية.

وعلي الجانب الآخر، ذكر تقرير بلومبيرج نيو إنيرجي فاينانس والصادر في أغسطس من عام ٢٠٢١ أن كبرى شركات النفط العالمية أقدمت على بيع أصول بقيمة تخطت ١۹۸ مليار دولار ما بين عامي ٢٠١٥ و٢٠٢١، أي ما يتجاوز بمقدار أربعة أضعاف حجم الأموال التي استثمرتها هذه الشركات في تكنولوجيات الطاقة النظيفة، ومن الواضح أن شركات النفط الأوروبية اتخذت مسارًا ونهجًا مختلفًا عن نظيراتها الأمريكية، فكانت شركة إكوينور الوحيدة التي تجاوز حجم استثماراتها في مجالات الطاقة المتجددة والنظيفة عائدات بيع الأصول، ورغم الإجراءات الضخمة لبيع الأصول من جانب كونوكو فيليبس وإكسون موبيل وشيفرون، فإنها مجتمعة استثمرت حوالي ٧٥٧ مليون دولار فقط في مجالات الطاقة المتجددة والنظيفة، وذلك ما يعادل حوالي ١٪ فقط من عائدات بيع الأصول، والنقص الهيكلي في الاستثمارات وعدم كفاية الإنفاق الرأسمالي في قطاع الوقود الأحفوري ستكون له آثار كبيرة على معدلات الإنتاج العالمي من النفط والغاز الطبيعي، ففي حال استمرار الإحجام عن الاستثمار في هذا القطاع سيُفقد السوق العالمي للنفط حوالي أكثر من ١٦ مليون برميل وذلك بحلول عام ٢٠٣٠.

هل من السهل وقف التمويل؟

جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش خلال قمة المناخ الأخيرة والتي أقيمت في جلاسكو الإسكتلندية ، بأن العالم بات مدمنًا للوقود الأحفوري ومشتقاته وهو ما قد يدفعه إلى الهاوية، وفي الحقيقة، يُعد التخلص من إدمان شيء ما ليس بالأمر السهل وبالأخص إذا كان متوقعًا استمرار هذا الإدمان، رغم توقعات تزايد حصة الطاقة المتجددة بمزيج الطاقة خلال السنوات القادمة فإن الوقود الأحفوري سيظل هو المسيطر، وذلك بحسب تقرير آفاق النفط طويلة الأجل، والصادر عن منظمة الدولة المصدرة للنفط أوبك في عام ٢٠٢١، وكما تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في تقرير آفاق الطاقة زيادة استمرار الطلب على الغاز الطبيعي والفحم وذلك حتى عام ٢٠٥٠، وذلك بهدف  تلبية متطلبات الحمل الكهربائي، ودعم موثوقية الشبكة في أوقات عدم توافر الطاقة النظيفة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على  قد يُشكل الوقود الأحفوري حوالي أكثر من ٤٤٪ من توليد الكهرباء وذلك بحلول عام ٢٠٥٠، وبالرغم من تراجع حصته الكلية في مقابل الزيادة الهائلة للطاقة المتجددة.

فالحديث عن الانتقال السلس إلى الطاقة المتجددة والصديقة للبيئة أمر معقد، ولا توجد طريقة واقعية ومدروسة يمكن للعالم أن يتفادى من خلالها حدوث اضطرابات كبيرة في رحلة إعادة بناء كاملة لنظام الطاقة العالمي والذي يُمثل شريان الحياة للاقتصاد العالمي وحجر الأساس الذي يقوم عليه النظام الجيوسياسي، وعلاوة على ذلك، فغالبًا ما تخطئ الحكمة التقليدية والقديمة بشأن الخاسر والفائز، فالعالم ما زال وسيبقى متعطش لجميع مصادر الطاقة دون استثناء، ويجب وضع مئات الخطوط الحمراء تحت عبارة دون استثناء، فتهميش بعضٍ المصادر ومحاربة بعضها وشيطنة أخرى بوعي أو بغير وعي، خطأ استراتيجي سيعمل على خلق الكثير من الأزمات الكبيرة.

ولا نبالغ إذا قلنا كوارث اقتصادية لن يتحملها إلا قليل وقليل فقط من المستهلكين، فمن الضروري أن تصب الجهود ويتم التركيز على رفع كفاءة معدلات الإنتاج والاستهلاك على حد سواء، وليس أن ينجرف البعض نحو شعارات رنانة وأيديولوجيات ضيقة ولن تمد العالم بالطاقة، فالنمو العالمي متسارع في مختلف المجالات، وهذا يعني إنه أصبح من الضروري وجود إمدادات موثوقة ومستمرة للطاقة تغذي شرايين العالم لتواكب هذا النمو المتسارع وبشدة، فمن السهل أن تعلن الدول المنتجة والكبرى المسؤولة عن غالبية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، تعهدات وقف تمويل مشروعات الوقود الأحفوري في البلدان الأقل نموًا، لكن داخليًا يكون الوضع صعبًا، ما يجعل الدول الفقيرة، الأقل إطلاقًا للانبعاثات، أكثر تضررًا.

وبصفة عامة هناك العديد من العوائق الكبيرة والتي ستقف حائلًا أمام إلغاء دعم الوقود الأحفوري ومنها صعوبة ضخ نفس الكميات للأسواق وتعويض الطاقة التقليدية، وتُشكل شركات الوقود الأحفوري المختلفة مجموعات وجهات سياسية قوية وعالمية، وأيضًا هناك العديد من المخاوف من فقدان بعض الوظائف وبالأخص في المجتمعات التي لا يوجد بها خيارات متعددة في مجالات الطاقة، وعامة يشعر الناس بالقلق والخوف من أن ارتفاع الأسعار في شرائح الطاقة سيعمل على انخفاض معدلات النمو الاقتصادي أو تسارع وتيرة التضخم العالمي.

إدارة تقليل الوقود الأحفوري

على الرغم من أن التوجه العالمي يميل نحو التحول إلى الطاقة النظيفة وتحقيق أهداف الحياد الكربوني، فإن هناك وجهة نظر أخرى توصي بضرورة دراسة وإدارة التخلي عن الوقود الأحفوري، محذرة من احتمال مواجهة أزمات طاقة متكررة في المستقبل حال التوجه نحو مزيد من الطاقة المتجددة، وتؤكد تجربة أوروبا والمملكة المتحدة بأن التخلي عن الوقود الأحفوري وهذا الملف يجب أن يُدار بعناية شديدة، حتى لا يتحول هذا النوع من الأزمات المدمرة التي يشهدها العالم الآن إلى سمة متأصلة في عالم منخفض الكربون.

فإن أزمة الوقود الفوضوية والنقص الشديد في البنزين والديزل وانهيار صغار موردي الكهرباء، وارتفاع أسعار الكهرباء، وانتشار حالة من الذعر بين المستهلكين التي حدثت في نهاية العام الماضي في المملكة المتحدة حملت في طياتها عددًا من العناصر المحلية التي تؤجج الأزمة العالمية، وأيضًا شهدت الصين حملة لخفض الانبعاثات الكربونية حتى أجبرت المصانع على الإغلاق أو تقليص معدلات الإنتاج، كما أوقفت تشغيل مناجم الفحم ومحطات الكهرباء، وتمثلت الأزمة المشتركة بين المملكة المتحدة وأوروبا والصين في ارتفاع أسعار الغاز والفحم.

تمويل المناخ عائق قوي

لا تزل عمليات تمويل المناخ تُشكل حجر عثرة إذ تشعر الدول الفقيرة بالغضب، لأن الدول الغنية لم تفِ بعد بوعد يرجع إلى أكثر من ١٢ عامًا بتقديم ما يقارب حوالي ١٠٠ مليار دولار سنويًا وذلك بحلول عام ٢٠٢٠، لمساعدتها على خفض معدلات الانبعاثات والتكيف مع الآثار المتفاقمة للتغير المناخ، مع إعلان قمة المناخ الأخيرة  عن أسفها العميق للهدف الضائع، الذي تتوقع الدول الغنية الآن أن تفي به في عام ٢٠٢٣، لكنها لم تقدم خطة للتأكد من تحقيق ذلك، وقالت المسودة الختامية إنه بدءً من عام ٢٠٢٥، يجب على الدول الغنية مضاعفة حجم التمويل الذي تخصصه حاليًا لمساعدة الدول الفقيرة على التكيف مع التغيرات المناخية، كما تطرقت المسودة إلى الموضوع المثير للجدل المتمثل في التعويض عن الخسائر والأضرار المتزايدة التي يلحقها التغير المناخي بالدول التي كان لها دور ضئيل في التسبب في ذلك، لكنها لا تحدد ما إذا كان ذلك سيشمل تمويلًا جديدًا.

المواقف المتضاربة لوكالة الطاقة

حث فاتح بيرول، الرئيس التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، خلال مؤتمر الطاقة الذي عُقد في الرباط في مارس الماضي، الدول المنتجة على ضخ مزيد من الخام لتحقيق الاستقرار في الأسواق، وقال على كل دولة منتجة للنفط أن تتحلى بالمسؤولية وضخ مزيد من النفط في السوق، وكان بيرول قد صرح في مايو من عام ٢٠٢١، قائلًا إن الطريق إلى الحياد الكربوني ضيق لكن لا يزال من الممكن تحقيقه إذا أردنا الوصول إلى ذلك بحلول عام ٢٠٥٠، فنحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الاستثمارات في مشروعات جديدة للنفط والغاز والفحم وأضاف الأمر متروكًا للمستثمرين لاختيار أي محفظة يفضلونها ولكن هناك مخاطر ومكافآت، وهناك العديد من التناقضات الكبيرة بين توقعات ومطالب وكالة الطاقة الدولية بشأن الوقود الأحفوري ومستقبله، فالوكالة تحث على وقف الاستثمار في الطاقة التقليدية، ومن جهة أخرى تحذر وبشدة من خفض معدلات الإنتاج مستقبلًا وتأثيره على الأسواق.

وفي مقال نُشر سبتمبر من عام ٢٠٢١، في المجلة الأمريكية فورين أفيرز، شن نائب الرئيس النيجيري يمي أوسينباغو، هجومًا على الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بأنها تعمل على تقييد الاستثمارات في موارد الطاقة الأحفورية بهدف الحد من الانبعاثات والتحول نحو الطاقات المتجددة والبديلة، لكنها لم تراعِ الدور المحوري الذي تلعبه تلك الأنواع من الطاقة في دعم نمو الاقتصادات النامية، وخصوصًا في القارة الأفريقية، وأشار في مقاله أن مؤسسات التمويل الإنمائي كانت تسعى طوال السنوات الماضية لتحقيق التوازن بين الهواجس المناخية والاحتياجات التنموية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قررت اتخاذ خطوات صارمة للحد من استثمارات الوقود الأحفوري، وتريد من البنك الدولي أن يدعم هذا التوجه، وهو ما جعل بنك التنمية الأفريقي يفقد قدرته على دعم مشاريع الغاز الطبيعي الكبرى في القارة الأفريقية.

السعودية تحذر والغرب يعيد النظر في استراتيجياته 

وعلي الجانب الأخر، جدد الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة بالمملكة العربية السعودية تحذيره من نشوء تحديات أمام صانعي السياسات جراء ارتفاع الأسعار العالمية في أسواق النفط، واصفًا الحملة ضد الاستثمارات في قطاعي النفط والغاز الطبيعي بأنها قصيرة النظر وسيكون لها أثر على الرفاهية العالمية، مؤكدًا أن بلاده ستواصل الاستثمار في قطاعي النفط والغاز الطبيعي وأيضًا الطاقة المتجددة والنظيفة، وفسر ذلك بأن العالم يمر بمرحلة تحول الطاقة، ومن الخطأ الشديد التركيز على جانب واحد وهو الطاقة المتجددة والنظيفة، لأن اقتصاد العالم يتطلب مختلف مصادر الطاقة المتاحة وذلك لتطوير الاقتصاد العالمي، ورأى أن الاستدامة التي تُعد نتيجة للاقتصاد الدائري للكربون، ستكون معتمدة على التقنية القادرة على ضمان رفع الطلب على الوقود الأحفوري مع معالجة الانبعاثات عبر تلك التقنية، ويذكر أن مجموعة العشرين قد وافقت على تبني منهج الاقتصاد الدائري للكربون الذي اقترحته المملكة العربية السعودية في قمة الرياض عام من عام ٢٠٢٠.

إحجام الدول الكبرى والمستثمرين عن زيادة حجم الاستثمارات في الوقود الأحفوري أدى إلى أزمة طاحنة في الطاقة وإمداداتها والتي يعيشها العالم حاليًا، إذ تخطت أسعار خام برنت حاجز ١٠٠ دولار بداية العام الحالي، وذلك كنتيجة للطلب المتسارع وتجاوز التأثير الاقتصادي لوباء كورونا، وما تلاها من أزمة سياسية في الملف الروسي الأوكراني وتبعات الحرب والمفاوضات القائمة في الملف النووي الإيراني بما انعكس بشكل واضح وسريع على الأسواق العالمية المختلفة.

هذا الانعكاس دفع وزيرة الطاقة الأمريكية جنيفر جرانهولم، في مؤتمر في هيوستن بولاية تكساس عُقد بداية مارس الماضي أن تطلب من شركات النفط الأمريكية، زيادة معدلات الإنتاج من أجل ضخ المزيد من النفط والغاز الطبيعي بهدف تخفيف الاضطرابات في السوق الأمريكي وأيضًا العالمي، وقالت نحتاج إلى المزيد من الإمدادات ويجب علينا زيادة العرض قصير الأجل بشكل مسؤول، حيث نستطيع، من أجل تحقيق الاستقرار في السوق وتقليل الضرر الذي يلحق بالعائلات الأمريكية. وحينما تم تذكيرها باتفاق قمم المناخ، قالت إن الحاجة إلى إمدادات الوقود الأحفوري على المدى القصير لن تؤثر على التزام حكومة بايدن بالتحول في قطاع الطاقة.

وعلى الجانب الآخر أعلنت الحكومة البريطانية أنها تعد استراتيجية جديدة للطاقة تهدف إلى استعادة زخم عمليات استخراج النفط في بحر الشمال عقب إعلان وقف استيراد الخام والمنتجات النفطية الروسية، والعمل على تسريع وضخ المزيد من الاستثمارات في الطاقات المتجددة والطاقة النووية، إذ ذكر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أنه إلى جانب الانتشار السريع للطاقة المتجددة، سيكون هناك إنتاج أكبر من بحر الشمال، وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة استضافت قمة جلاسكو للمناخ وذلك في نوفمبر من عام ٢٠٢١ وشارك فيها نحو أكثر من ٢٠٠ دولة خرجت باتفاق يطالب الدول بتقليل اعتمادها على الفحم والتراجع عن دعم الوقود الأحفوري، وتعهدت فيه بريطانيا بأن تكون محايدة للكربون وذلك بحلول عام ٢٠٥٠، إلا أن وزير الصناعة والطاقة البريطاني كواسي كوارتنغ، قال إن وقف الإنتاج المحلي كما يطلب البعض سيكون خطأ كبيرًا.

مجموعة الدول السبع الصناعية تعلن الحرب على الوقود الأحفوري

أعلنت مجموعة الدول السبع الصناعية (G7) أمس الجمعة نيتها الاستغناء عن الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة الكهربائية بحلول عام ٢٠٣٥، جاء ذلك في إعلان أصدرته المجموعة الصناعية بعد الاجتماع الذي ضم وزراء الطاقة في الدول السبع  في العاصمة الألمانية برلين، ووفق الإعلان فإن الدول السبع تعهدت بتوليد تيار كهربائي بحلول عام ٢٠٣٥ خالٍ من ثاني أكسيد الكربون، وقال الإعلان إن المجموعة التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكندا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وألمانيا، ستُوقف جميع المشاريع المتعلقة بالوقود الاحفوري كي تضمن إنتاج تيار كهربائي نظيف، ويُذكر أن الدول السبع تتعهد لأول مرة في بيان مشترك بالقيام بهذه الخطوة، وهو الأمر الذي يأتي في وقت يحاول فيه الغرب الاستغناء كليًا عن مصادر الطاقة الروسية بسبب الغزو الروسي على الأراضي الأوكرانية.

ويتضح من الموقف الغربي والأمريكي العديد من النقاط الهامة، أولًا أن الدول الأوروبية ومع محاربتهم الشديدة للوقود الأحفوري بشكل عام وللفحم بشكل خاص، عادوا مرة أخرى لإحراق الفحم عندما هددت روسيا مستقبلهم بإيقاف ضخ الغاز الطبيعي، وثانيًا أن الغرب على الرغم من إعلان حرصهم الشديد على المناخ ومحاربة معدلات الانبعاثات الكربونية، فإنه لم يترددوا ولو للحظة في الاستثمار في الوقود الأحفوري عندما وجد أن اقتصادهم ورفاهية شعوبهم في خطر، وثالثًا يتضح التناقض بين الموقف الأوروبي واحتياجاتهم القوية من الطاقة الآن.

خلاصة القول، لا تزال الطاقة المتجددة تكافح من أجل إثبات وجودها ومكانتها، وأنها البديل الأمثل للطاقة التقليدية، وهذا الكفاح نابع من أن التبريرات في التحول وضخ الاستثمارات في الطاقة المتجددة يأتي أساسًا من فكرة أخلاقية واجتماعية ورؤية واضحة، وهي ضرورة المحافظة على البيئة ومواجهة التغيرات المناخية، وأن الانتقال إلى نشر الطاقة المتجددة والنظيفة عالميًا من الممكن أن يساعد على جعل التوترات بشأن موارد الطاقة شيئًا من الماضي، بالإضافة إلى أنه سيعمل على تخفيف تداعيات تغير المناخ.

ومن المحتمل أن الطاقة النظيفة ستغير الاعتبارات الجيوسياسية تغييرًا كاملًا، ولكن لن يحدث بالضرورة بالطرق التي يتكهن بها عدد من أنصار تلك الطاقة، إذ سيعيد هذا التحول تشكيل كثير من عناصر السياسة الدولية التي صاغت معالم النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، ما سيؤثر تأثيرًا مهمًا في مصادر القوة الوطنية وعملية العولمة والعلاقات بين القوى العظمى والتقارب الاقتصادي المستمر بين البلدان المتقدمة والنامية، وستغلب الفوضى على عملية الانتقال إلى الطاقة النظيفة، في أحسن الأحوال، ومن المرجح أن تنتج أشكالًا جديدة من المنافسة والصراع، بدلًا من تعزيز المجاملة والتعاون، قبل وقت طويل من تبلور وضع جيوسياسي جديد يكون مُرضيًا تمامًا.

وفي الأخير، فإن القارة الأوروبية تدرك جيدًا حتى مع عدم إعلانها بأن أمن الطاقة مهم جدًا لها، هذا الإدراك هو ما جعلها تدعو للاستثمار في الفحم في السبعينيات، وهو ما جعلها تُسوق للطاقة المتجددة والنظيفة ونبذ النفط في العقد الأخير، وهو ما جعلها الآن تعود مرة أخرى للنفط بعد أن قضى السنوات الأخيرة يعلن أن النفط يعيش آخر أيامه. ويبقى السؤال هل سيكتب الوقود الأحفوري نهايته قريبًا؟

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M