هل تنجح أمريكا في ملء الفراغ الفرنسي في غرب أفريقيا؟

رشا رمزي

 

المتابع للوضع في إقليم غرب أفريقيا لن يسعه إلا التأكد من تراجع نفوذ فرنسا في منطقة نفوذها التقليدية، وهو ما حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تداركه غير مرة؛ مما أدى إلى مصاعب جمة أقلها: انتشار التهديد الإرهابي في دول الإقليم، والانقلابات التي سادت في دول كثيرة بل وتكررت لأكثر من مرة في نفس الدولة، وآخرها انتشار نفوذ المنافسين التقليديين وتمدد النفوذ الروسي والصيني؛ الأمر الذي أثار قلق الولايات المتحدة ومن ثم حفزها لملء الفراغ الذي تركته فرنسا.

أمريكا في غرب أفريقيا

أصبحت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة أكثر عداءً منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل عام، لذا تعارض واشنطن وحلفاؤها النفوذ الروسي في غرب أفريقيا. ومع انتشار الإرهاب في منطقة الساحل بغرب أفريقيا جنوبًا باتجاه الدول الساحلية، أطلقت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة لبناء السلام في خمس دول في غرب أفريقيا مهددة بالأزمات المحلية والعنف الذي ينتشر من منطقة الساحل المجاورة.

وكان أحد محاور هذه الاستراتيجية الاعتماد على الجيش الأمريكي بهدف مساعدة الجيوش الأفريقية على احتواء التهديد الإرهابي، وسيتم تدريب جنود من عدة دول أفريقية على تكتيكات مكافحة التمرد كجزء من التدريبات السنوية التي تقودها الولايات المتحدة والمعروفة باسم “فلينتلوك” والتي بدأت مطلع الشهر الجاري لتدريب حوالي 1300 عسكري من 29 دولة في غانا وساحل العاج، وسط تصاعد النشاط الإرهابي المرتبط بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش الذي قتل الآلاف وشرد الملايين وأغرق الدول في الأزمات.

الخسائر الفرنسية

وسط تزايد المشاعر المعادية للفرنسيين في غرب أفريقيا، أنهت مالي وبوركينا فاسو تعاونهما العسكري مع فرنسا، واشتكتا من أن الوجود العسكري الفرنسي على مدى عدة سنوات لم يفعل شيئًا يذكر لوقف تنامي النشاط الإرهابي. بل وطالبت الدولتان القوات الفرنسية بالرحيل عن أراضيها؛ وتم استبدال شركة الأمن الروسية فاجنر بها لتولي شؤون الامن.

بل وتخطت هذه الخسارة المجال العسكري، حيث وصلت إلى الإحجام والتراجع عن تعلم اللغة الفرنسية، وطرد وكالات الأنباء والإعلام الفرنسي. ووصل الأمر حد اتهام ماكرون بشكل مباشر لروسيا بالعمل على تدمير العلاقات الأفريقية الفرنسية؛ كون المجالس العسكرية الحاكمة لمالي وبوركينا فاسو الحالية تتلقى دعمًا عسكريًا من روسيا.

ووصل الأمر إلى توجيه الانتقادات لفرنسا خلال القمة الفرانكفونية أمام ماكرون نفسه، واتهامه بـ”العنصرية المتعالية هو والطبقة السياسية الفرنسية والأوروبية تجاه الأفارقة”. هذا بالإضافة إلى فضيحة أخرى في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تعرضت باريس للإذلال من خلال انتزاع امتياز منصب “عميد السلك الدبلوماسي” من السفير الفرنسي. هذا المنصب الذي كان “مخصصًا للسفراء الفرنسيين” تاريخيا.

المخاطر في غرب أفريقيا

دفع انتشار العنف الجماعي في الدول غير الساحلية في غرب أفريقيا -مالي والنيجر وبوركينا فاسو– والذي استمر لعقد من الزمن؛ القوات الأمريكية والأوروبية والأمم المتحدة إلى مهام مكافحة الإرهاب ضد تنامي تنظيم داعش والقاعدة؛ وذلك خوفًا من انتشاره وانتقاله إلى الدول الساحلية الخمس المجاورة: بنين، وتوجو، وغانا، وكوت ديفوار، وغينيا، مما يضاعف عدد السكان المعرضين للخطر من حوالي 60 مليونًا إلى ما يقرب من 150 مليونًا.

يعكس مقياس التجارة الثنائية التكلفة الإضافية الهائلة التي قد يفرضها مثل هذا العنف الموسع على الولايات المتحدة؛ فيمثل حجم التبادل التجاري للدول الساحلية الخمسة 3.86 مليار دولار مع الولايات المتحدة -أكثر من 13 ضعف حجم التبادل مع الدول الثلاث غير الساحلية- وتتزايد الأهمية الاستراتيجية للدول الساحلية لأنها تسيطر على ممرات الشحن الحيوية في خليج غينيا، حيث تتزايد القرصنة البحرية وغيرها من الجرائم العابرة للحدود.

على نحو متزايد، فإن ساحل غرب أفريقيا يقترب بشكل خطير من الانزلاق إلى العنف -سواء الصراعات المتجذرة في الداخل، أو نمط متزايد من الهجمات المرتبطة بمنطقة الساحل- وجد تقييم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لعام 2021 أن الدول الساحلية “تقترب بسرعة” من ظروف التمرد الإرهابي المستمر. بينما يتركز معظم النشاط الإرهابي في منطقة الساحل الداخلية بغرب أفريقيا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ينتشر العنف بسرعة إلى الدول الساحلية مثل غانا التي تشهد تصاعدًا في الهجمات التي تشنها جماعات مجهولة الهوية، والتي قد يكون لها صلات بالإرهابيين. حيث شهد شمال غانا حادثًا عنيفًا واحدًا مرتبطًا بجماعة مسلحة مجهولة الهوية عام 2021 ، لكن هذا الرقم ارتفع بشكل كبير إلى 19 عام 2022، وفقًا لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح.

النفوذ الصيني والروسي

من خلال مضاعفة مشاريع البنية التحتية الثقيلة في أفريقيا، تهدف كل من الصين وروسيا إلى ترسيخ نفوذهما في دول القارة، والتي تخاطر بنصيبها لتجد نفسها “محاصرة” ما بين ضغوط ضعف الموارد وضغط الديون. ومن أهم هذه المشاريع خطوط السكك الحديدية والبنية التحتية المدنية؛ حيث تضاعف الصين المشاريع العملاقة بالتعاون مع الدول الأفريقية، التي أصبحت أحد المانحين الرئيسين لها. لذا تستغل بكين الفراغ الذي خلفه انسحاب الدول الغربية الأكثر ترددًا في تمويل هذه المشاريع. ويتم تمويل هذه المشاريع ليس بالمنح لكن عن طريق “الديون” للدول الأفريقية؛ حيث تقدم الصين قروضًا لمشاريع البنية التحتية بضمان الأصول الاستراتيجية.

عملت الصين جاهدة لمساعدة الدول المضطربة، وهي المساهم الرئيس في مبادرة مجموعة العشرين لتعليق خدمة الديون. ففي كينيا، أحد المشاريع العملاقة التي نفذتها الصين كان خط السكك الحديدية الذي يربط مدينة مومباسا بالوادي المتصدع، بتكلفة خمسة مليارات دولار، وتمول بكين 90٪؛ فالصين هي ثاني أكبر جهة مانحة لكينيا بعد البنك الدولي.

ووقعت تنزانيا عقدًا بقيمة 2.2 مليار دولار مع شركة صينية لخط سكك حديدية يربط الميناء الرئيس بالدول الاخرى. في حين تبين أن بعض المشاريع مربحة، فإن الفائدة الحقيقية حتى الآن تحققها بكين، مع عقود صيانة يمكن أن تستمر حتى 99 عامًا، بالإضافة إلى توفير فرص عمل للعمالة الصينية.

وتعمل روسيا على تعزيز مكانتها في القارة، فهي الدولة الرئيسة المصدرة للأسلحة إلى أفريقيا، فقد قدمت روسيا 26% من كمية المدفعية التي استوردتها دول غرب أفريقيا في السنوات الخمس حتى عام 2022، ارتفاعًا من 21% عام 2017. أيضًا عملت من جانبها على تعزيز وجودها بشكل مدني بفضل مشاريع التعدين الممنوحة لمجموعة فاجنر شبه العسكرية الخاصة.

سياسة الحد من النفوذ الصيني والروسي

لمواجهة هذا النفوذ ورأب الفجوة الأمنية، تهدف الولايات المتحدة من خلال “فلينتلوك” -وهو التدريب الأكبر منذ بدأ عام 2005- إلى تعزيز قدرة الدول الشريكة الرئيسة في المنطقة على: مواجهة الجماعات الإرهابية، والتعاون عبر الحدود، وتوفير الأمن لشعوبها، مع احترام حقوق الإنسان وبناء الثقة مع السكان المدنيين. بل وقامت بدعوة للمشاركة القوية للشركاء الأفارقة والدوليين بالالتزام المتبادل لمكافحة النشاط الإرهابي في جميع أنحاء منطقة الساحل وغرب أفريقيا. في حين أن الأمن الإقليمي هو محور التمرين العسكري، فإن الدروس المستفادة في “فلينتلوك” ستخلق تأثيرات دائمة تتجاوز شمال وغرب أفريقيا.

وخلال زيارتها إلى السنغال في يناير، دعت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين الدول الأفريقية إلى “توخي الحذر بشأن الصفقات المغرية” في إشارة واضحة لكل من الصين وروسيا، وقالت إن هذه الصفقات “يمكن أن تكون غامضة وتفشل في نهاية المطاف في مساعدة الأشخاص الذين من المفترض أن تساعدهم”، في إشارة إلى الصفقات التي أبرمتها الصين في أفريقيا.

وبخصوص فاجنر، اتهمتها الولايات المتحدة في يناير بارتكاب “انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وابتزاز للموارد الطبيعية” في أفريقيا. وكرر الاتحاد الأوروبي الاتهامات الأمر الذي أسفر عن فرض عقوبات على المجموعة في فبراير. وكذا، تم اتهام “مشاريع التعدين الروسية بتسببها في إنتاج مستويات عالية من المركبات المعدنية السامة، وتلوث موارد المياه الجوفية والتربة والغطاء النباتي.” ففي ليبيريا، تم عرض الآثار “الخطيرة” للتعدين؛ لكون “التعرية التي تسببها المناجم تلوث مياه الشرب، وتم احتكار الموارد وتصديرها على حساب المواطنين”.

تؤكد مشاورات الولايات المتحدة مع دول غرب أفريقيا أن جزءًا من استراتيجية أمريكا الجديدة سيحتاج إلى بناء فترات انتقال أسلم وأسلس بعد الانقلابات للعودة إلى الحكم المدني، مع التركيز على نوعية الفترات الانتقالية بدلًا من الإصرار ببساطة على التحولات السريعة التي تفشل في معالجة نقاط الضعف الأساسية في الحكم التي أنتجت انقلابات (أو أعمال عنف أخرى) في المقام الأول.

لكن يظل السؤال هل تكفي هذه الجهود لحل المشكلة الإرهابية في غرب أفريقيا التي فشلت فيه القوات الفرنسية؛ وبالتالي تصبح سببا للنفوذ الأمريكي وبالتالي سببًا في نجاحه أو فشله؟! أم أن هذه المشكلة لها أسباب أخرى تحتاج إلى تدخلات أكثر من الحلول العسكرية التي لم يثبت أي جيش قدرته على حلها؛ في التاريخ الحديث؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/76200/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M