وقف عجلة الانهيار: هل تتجه تونس نحو سيناريو نادي باريس؟

أحمد نظيف

 

تعيشُ تونس اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أزمةً مركبةً، سياسياً واقتصادياً، دون أفق واضح لطريق الخروج منها. حيث يبدو الصراع، غير المحسوم، بين الرئيس قيس سعيّد وخصومه من جهة، والأزمة التي تهدد الدولة بالتخلف عن سداد دينها الخارجي وتقديم خدماتها العامة، من جهة أخرى، يتشابكان على نحو شديد التعقيد، ويدفعان بالبلاد سريعاً نحو الانحدار.

 

تسعى هذه الورقة إلى تحديد مؤشرات تعمق الأزمة في تونس، وتحليلها على نحو يمكن معه رسم مسارات متوقعة لمستقبل البلاد.

 

انحدار مُتسارِع: مؤشرات تعمُّق أزمة تونس

يسير المسارين السياسي والاقتصادي في تونس على نحو متلازم، ذلك أن الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، منذ سيطرة الرئيس قيس سعيّد على السلطة وتعليق عمل المجلس النيابي في يوليو 2021، تسير في خط متوازٍ مع أزمة مالية تعيشها مؤسسات الدولة، تتجلى في ضعف المستوى الإئتماني، وتؤثر في الوضع الاقتصادي للبلاد. وتزيد الأوضاع الدولية هذه الأزمة شدةً، من خلال ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة نسبة التضخم. هذا التلازم تؤكده ثلاثة مؤشرات ظهرت في الأيام الأخيرة، بوصفها تجلٍّ واضح، للمنحنى الإنحداري للوضعين السياسي والاقتصادي في البلاد، هي:

 

  • نكسة انتخابية: في 30 يناير 2023 أعلنت الهيئة العليا للانتخابات أنّ نسبة الإقبال على التصويت في الدورة الثانية للانتخابات النيابية بلغت 11.4%، وبذلك يكون حوالي 90% من الناخبين قد عزفوا عن المشاركة في هذا الاستحقاق، في أعلى نسبة امتناع عن التصويت منذ عام 2011. شكلت هذه النسبة المنخفضة جداً، نكسةً انتخابية للرئيس قيس سعيّد، الذي كان يعول على هذه الانتخابات لتأكيد شعبيته في مواجهة المعارضة أولاً، وفي مواجهة المجتمع الدولي، حيث يسعى إلى تأكيد هذه الشعبية دولياً حتى تساعده في إقناع المؤسسات المانحة لإقراض الحكومة التونسية من أجل تجاوز مصاعبها المالية الحادة. كما تأتي هذه النكسة في ظل صراع متصاعِد بين الرئيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية الأكثر نفوذاً، وكذلك في ظل قرار سعيد بتمديد حالة الطوارئ في البلاد حتى نهاية العام الحالي 2023.

 

  • تخفيض التصنيف الائتماني: قبل يوم واحد من الدورة الثانية للانتخابات النيابية أعلنت وكالة موديز عن تخفيض التصنيف الائتماني للحكومة التونسية من Caa1 إلى Caa2،مع آفاق سلبية على المدى الطويل. كما خفَّضت الوكالة تصنيف البنك المركزي التونسي للديون غير المضمونة مع توقعات سلبية، بوصف البنك المركزي مسؤول من الناحية القانونية عن مدفوعات جميع سندات الحكومة. ومن بين الأسباب التي دفعت الوكالة إلى هذه الخطوة، الإطار المؤسسي في البلاد الذي لا يزال في حالة تقلُّب، وكذلك الإقبال المنخفض للغاية المسجل في الانتخابات البرلمانية في الدور الأول، والذي يشير إلى أن المشهد السياسي مُجزأ في البلاد. كما تؤكد الموافقة المؤجلة على مستوى مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على عدم اليقين المحيط بدرجة التوافق بين أصحاب المصلحة وجماعات المصالح الاجتماعية، لاسيما النقابات، بشأن أجندة الإصلاح الحكومية. كما ستظل المخاطر على الوضع الائتماني في تونس مائلة إلى الجانب السلبي حتى في ظل أي اتفاقية نهائية مع صندوق النقد الدولي، مع بقاء آفاق التمويل معتمدة على تنفيذ الإصلاح المستدام في الوقت المناسب، والذي سيُثبت دائماً أنه يمثل تحدياً في مواجهة نقاط ضعف الحوكمة والتعرض الحاد للمخاطر الاجتماعية.

 

  • صمت صندوق النقد الدولي: تقوم خطوة تخفيض التصنيف الإئتماني للبلاد أساساً على تعطُّل مسار التفاوض بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي، بعد التقدُّم الذي أحرزته السلطات في ضمان موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على برنامجها للإصلاح. لكن في 14 ديسمبر 2022 ألغى الصندوق من جدول أعماله اجتماعاً للمجلس التنفيذي بشأن برنامج تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار (4.1% من الناتج المحلي الإجمالي) لتونس كان من المقرر عقده في 19 ديسمبر، دون أن يحدد موعداً جديداً، الأمر الذي جعل أفق الانتظار مفتوحاً، وعطَّل قدرة الحكومة التونسية على عقد اتفاقيات تمويل ثنائي مع دول ومؤسسات خاصة. لذلك لا يزال توفير المزيد من الأموال المادية من الشركاء متعددي الأطراف والثنائيين بعيد المنال. وفي ضوء الوصول المقيد للغاية إلى أسواق رأس المال الدولية والقدرة التمويلية المحلية المحدودة، فإن هذه الأموال ضرورية لتلبية احتياجات الاقتراض السنوية. وتشير وكالة موديز إلى أنه ما لم تتحسن آفاق التمويل الخارجي في الوقت المناسب، فإن احتمال التخلف عن السداد قد يرتفع بنسبة كبيرة، وسوف يؤدي ذلك إلى تآكل احتياطيات النقد الأجنبي من خلال سحب مدفوعات خدمة الدين، مما يؤدي إلى تفاقم مخاطر ميزان المدفوعات، واحتمال إعادة هيكلة الديون التي سيترتب عليها خسائر لدائني القطاع الخاص.

 

السيناريوهات المحتملة

إن تعقيد وتشابك الأزمتين السياسية والاقتصادية في تونس، يزيدان من صعوبة توقع المسارات المستقبلية للأزمة، وللبلاد عموماً، خاصة في ظل عدم اليقين والغموض الذي تتميز به سياسات الرئيس قيس سعيد. وفي ضوء الوضع الراهن، يمكن حصر ثلاثة سيناريوهات متوقعة في المدى المتوسط:

 

1. التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. يمكن أن يحدث ذلك في أفق أقصاه شهر مارس المقبل، خلال اجتماعات المجلس التنفيذي للصندوق، إذ يمكن أن يتسبب تأجيل آخر للحسم في الملف التونسي من طرف إدارة الصندوق في مزيد من تأزم أوضاع المالية العمومية للدولة، ومن ثمّ الذهاب نحو مسار كارثي يمكن أن تنهار خلاله العملة المحلية إلى معدلات غير مسبوقة. لذلك فإن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد سيضخ بعض الدماء في شرايين الحكومة، ويعدل قليلاً من موازينها المالية المختلة، والأهم، أنه سيفتح الباب أمامها كي تطلب تمويلات من الشركاء متعددي الأطراف والثنائيين، ويرفع من مستواها الائتماني كي تدخل السوق المالية الدولية.  ومع ذلك ستظل المخاطر التي يتعرض لها الوضع الائتماني في تونس أكثر ميلاً إلى الجانب السلبي حتى في ظل أي اتفاقية نهائية مع صندوق النقد الدولي، كما سترتفع في ظل هذا السيناريو المخاطر الاجتماعية، بالنظر إلى ما قد يتسبب به برنامج الإصلاح المدفوع من الصندوق من تدهور في أوضاع الطبقتين الوسطى والشعبية.

 

2. التوجه إلى نادي باريس. يمكن أن يكون التوجه إلى نادي باريس، بديلاً محتملاً لتعثُّر مسار برنامج صندوق النقد الدولي، حيث نجحت الحكومة في توقيع إتفاق الخبراء مع الصندوق، وهذا ما يجعلها مؤهلةً إلى الذهاب إلى نادي باريس كي تطلب الحصول إعفاء من ديونها الديون من طريق إعادة الجدولة، أو من خلال المعالجات الميسرة، أو تخفيض التزامات خدمة الدين لفترة محددة (معالجات التدفق)، أو تاريخ محدد (معالجة المخزون). ومما يؤشر على هذا السيناريو، الزيارة التي قام بها المدير العام للخزانة الفرنسية، إيمانويل مولين، والذي يشغل منصب رئيس نادي باريس، إلى تونس الأسبوع الماضي والتقى خلالها رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن، خاصة أن فرنسا تبدو داعماً قوياً للرئيس سعيد، ولملف الحكومة التونسية لدى صندوق الدولي، لذا قد تبذل جهوداً لإيجاد بدائل من خلال نادي باريس، بوصفها دولة المقر، وسيكون صوتها حينها أساسياً في مدى قبول حزمة مساعدات وتسهيلات لفائدة تونس.

 

3. عجْز الدولة واضطراب المجتمع. يقوم هذا المسار المفترض على احتمال فشل الحكومة التونسية في تحصيل التمويل المطلوب من صندوق النقد الدولي، وفشلها تالياً في تحقيق مكاسب تتعلق بالديون داخل نادي باريس. وهو سيناريو يمكن أن يهدد استقرار النظام السياسي والاجتماعي في تونس، بوصفه أقصى ما يمكن أن تصله الأزمة، حيث يمكن أن يفقد الدينار قيمته بشكل عميق ومتسارع وتعجز الدولة عن القيام بخدماتها العامة، لاسيما التوريد، بسبب ضعف الائتمان بالعملة الصعبة، وتشهد الأسواق نقصاً كبيراً في المواد الأساسية والأولية.

 

تسير السيناريوهات الثلاثة في شكل متلازم، حيث سيؤدي فشل أحدها إلى حدوث الآخر، لكن الأكثر ترجيحاً في حال فشلت الحكومة التونسية في تأمين القرض من صندوق النقد الدولي في أفق مارس 2023، أنها ستتجه إلى نادي باريس، وفي هذه الحالة يمكن أن يؤدي الدعم الفرنسي دوراً كبيراً في توفير حزمة تسهيلات تتعلق بتعليق الديون أو التخفيض في قيمة خدمة الدين وإعادة الجدولة، خاصة أن دولاً أوروبية، لاسيما فرنسا وإيطاليا، مازالت تحاول انقاذ الوضع الاقتصادي التونسي رغم غموض الوضع السياسي خوفاً من موجات هجرة غير نظامية، وإضرابات أمنية تهددها نتيجة اضطراب الأوضاع في تونس.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/waqf-ajalat-alainhyar-hal-tatajih-tunis-nahw-sinaryu-nadi-paris

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M