غوغل يحتضر.. لماذا وصلت نتائج البحث إلى هذا المستوى من الانحدار؟

هل لاحظت مؤخرا أن نتائج البحث على غوغل أصبحت تافهة إلى حدٍّ كبير؟ غوغل أكبر مما تتخيل، إنه يشبه السيارات، فقبل اختراعها كان العالم طبيعيا، ثم ظهرت فتغيَّر العالم، تغيَّر لدرجة أنه لا يمكن الاستغناء عنها، وإذا حدث وتوقَّفت كل سيارات العالم (ونقصد هنا كل شيء من السيارة الشخصية إلى المواصلات العامة) فسنصاب بالشلل، لأن السيارات ليست مجرد أداة نستخدمها، بل واقع يتخلَّلنا، غوغل هو الشيء نفسه، إنه أقرب شيء إلى يديك، موجود في كل فكرة تفكر بها تقريبا، هل سألته يوما عن البثور الحمراء الغريبة التي ظهرت على قدمك مؤخرا؟ أو حينما مرض طفلك في المساء؟ ماذا عن طريقة عمل الكيك أو كيفية فك جهاز لا تستطيع إصلاحه؟ ببساطة، لقد وصلنا إلى مرحلة أننا لا نستطيع أن نعيش من دونه.

لكن ما سبق يطرح سؤالا مهما أكثر عمقا وأهمية: ما ألفابت، الشركة التي تُشغِّل غوغل؟ في النهاية هي شركة إعلانات، لكن هل تود أن يكون ما يتحكم بحياتك الرقمية -وهنا نتحدث عن معظم وقتك- هو شركة إعلانات؟ آثرنا في “ميدان” أن نعمل على ترجمة هذه المادة لتشارلي ورزيل، كاتب التقنية في “ذا أتلانتك”، لأن فهم آلية عمل غوغل، ونعني هنا تحديدا محرك البحث الشهير، خاصة مع الانحدار الذي حصل مؤخرا، لم يعد رفاهية أو اختيارا، بل ضرورة لحياة طبيعية في هذا العالم المعاصر.

نص الترجمة:

قبل بضعة أسابيع، واجهتُ مشكلة تتعلق بخزان الصرف الصحي في منزلي حينما بدأت أشياء مُروِّعة تنبثق من البالوعة، وتَفجَّر الموقف بما لا يُحمَد عقباه. لذا لجأتُ إلى هاتفي كما يفعل أي شخص يعتمد على الهاتف في مثل هذه الظروف، وبدأتُ أبحث في غوغل بصورة محمومة عن حل لمشكلتي، لكن نتائج البحث المبنية على ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) عجزت عن تقديم حل لمشكلتي. كان من الواضح أن الموضوعات التي ظهرت في نتائج البحث أُنشئت على عجل دون تأنٍّ أو بذل مجهود كافٍ ليتمكَّن الناس من الاستفادة منها، فضلا عن الكلمات الطنانة المتكررة التي غمروا بها الموضوعات لدرجة بات يصعب معها قراءتها.

في النهاية، ذهبت جميع محاولتي سُدى، ولم أخرج من عمليات البحث بأي شيء مفيد على الإطلاق. وما كانت لتُكتب لي النجاة إذا تركتُ حل هذه المسألة في يد غوغل، لذا قرَّرتُ في النهاية الاستعانة بمتخصص، وبالفعل جاء هذا الشخص وانتهت المشكلة ولم ينتهِ تفكيري بها، بل ظلَّت تبعاتها تحوم على غير هدى في رأسي، وبدأتُ أتساءل: “كيف لنتائج بحث بهذا المستوى من الدونية أن تخرج لي من الأساس؟”.

شأني شأن الكثيرين، ألجأ إلى غوغل لأحصل على إجابة عن معظم الأسئلة العادية التي أواجهها في حياتي اليومية. ومع ذلك، بدت الصفحة الأولى من نتائج البحث مؤخرا تُقدِّم إجابات غير مُرضية، ولستُ الوحيد الذي لاحظ ذلك، بل أصبح الإحباط سِمة منتشرة و”ميما” شائعا بين المستخدمين بشأن غوغل الذي يعتبره الكثيرون أداة بحث لا غنى عنها في عصرنا الحديث، الذي بدا مؤخرا أنه يحتضر وفي طريقه إلى الموت.

حيل البحث

على مدى السنوات القليلة الماضية، ازدادت شكوى الناس في مختلف المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي حيال مشكلة النتائج التي تتصدَّر الصفحة الرئيسية في غوغل، ولم تعد بالنسبة إليهم أرضا خصبة عمادها النتائج المنطقية، بل أرض قاحلة لا فائدة منها، وسرعان ما انتشرت شكواهم كالنار في الهشيم. إذا قرَّرت ذات مرة أن تبحث في تويتر أو موقع “ريدت” (Reddit) عن عبارة “غوغل يحتضر”، فستكتشف على الفور أن استياء الناس لم يكن وليد اللحظة، بل تعود جذوره إلى منتصف عام 2010، كما أنك ستلاحظ إلى أي مدى ارتفع صوت الانتقادات وتضاعف في الآونة الأخيرة. في فبراير/شباط الماضي، كتب مهندس يُدعَى دميتري بريريتون منشورا على أحد المواقع يتحدث فيه عن درجة التدهور التي وصل إليها محرك البحث في غوغل، وجمع في هذا المنشور أشهر النظريات التي تتحدث عن “الفشل الذريع لنتائج البحث في غوغل في الآونة الأخيرة”.

حقَّق المنشور انتشارا فيروسيا، وتَصدَّر أشهر المواقع التقنية على غرار “هاكر نيوز” (Hacker News)، كما حقَّق رواجا واسعا على تويتر لدرجة أنه أثار حفيظة داني سوليفان، وهو أحد مسؤولي العلاقات العامة في غوغل. ويبدو أن أي انتقاد يغدو مؤلما إذا ما ضرب على أوتارنا الحرجة، ولعل هذا ما شعر به المسؤولون في غوغل. لذا خرج سوليفان لدحض النظريات التي سبق وتحدَّث عنها بريريتون في منشوره الذي يُدين محرك البحث في غوغل بأنه على وشك أن يَترَدَّى في الهاوية، فكتب في سلسلة من التغريدات ردا عليه: “ما قلته في منشورك عن أن نتائج بحث غوغل التي لا تُشبِع رضا المستخدمين ولا تعطيهم إجابات منطقية مبني على الخلط، ولا أساس له من الصحة”.

كانت أكثر حجج بريريتون إثارة للاهتمام هي أن المستخدمين الذين تنطوي دواخلهم على بعض المكر والدهاء تخلَّوا منذ زمن عن فكرة الاستعانة بالكلمات المفتاحية أثناء عملية البحث، وبدلا من ذلك لجأوا إلى بعض الأكواد السرية الخادعة لتجاوز بحر النتائج الذي يُغرِق الشاشة ويسيطر على الثلث العلوي منها، وأشهر مَن يقوم بذلك هم موظفو غوغل أنفسهم. استمر بريريتون في سعيه لدحض رؤى المتشككين في نظريته بقوله: “لا يتطلَّب الرضا الحقيقي للمستخدمين توافر بحر من النتائج يُغرِق الصفحة الرئيسية، بل يتطلَّب بدلا من ذلك نتائج تتسم بالأصالة عن المواضيع التي يبحث عنها المرء، وهي ما تفتقر إليه بشدة نتائج البحث في غوغل حاليا، كما أن الافتقار إلى هذه الأصالة مَزَّق ثقتنا بهذه النتائج إربا إربا، لذا عندما نلجأ إلى استخدام غوغل، نضطر إلى إلحاق كلمة ريدت (reddit) بنهاية البحث”. (في الولايات المتحدة الأميركية خاصة)

يستند بريريتون في حُجَّته إلى بيانات “غوغل تريندز” (Google trends)، أو ما يُعرَف باسم “إحصائيات غوغل”، التي أزاحت الستار عن الإقبال المحموم في استخدام كلمة “ريدت” أكثر من أي وقت مضى، وهي الطريقة التي تبنَّاها معظم الأشخاص الذين فهموا جيدا ما يحدث، ومن خلال هذه الخدعة، استطاعوا التملُّص من المنشورات الطويلة المنغمسة في الإعلانات التي بدت لنا مثل أمراض متفشية لا مناص منها.

في كل مرة نصبو فيها إلى شيء ولا نستطيع أن نناله نزداد إحباطا، اللجوء إلى هذه الخدع يُعَدُّ بمنزلة صرخة احتجاج صغيرة ضد التدهور الذي وصلت إليه نتائج البحث في غوغل، وقد نعتبرها طريقة عملية للوصول إلى مُحرِّك البحث الأمثل، وبلوغ مساحة يمكن أن توفر لنا على الإنترنت شعورا أكبر بالحرية والآدمية. بالطبع لا يمكننا غض الطرف عن الإنجازات التي حققتها شركة غوغل خلال السنوات الماضية، مثل النجاح الساحق في صناعة أنظمة تشغيل للهواتف المحمولة، فضلا عن رسمها خريطة كاملة للعالم، وتطويرها لطريقة استخدامنا البريد الإلكتروني، أو حتى طريقتنا في حفظ الصور على الإنترنت، والأهم من ذلك كله أنها استطاعت -بقدر متفاوت من النجاح- تصنيع سيارات توجِّه نفسها بنفسها. لكن الجانب المؤسف من الحكاية يتمثَّل في الجهد الذي نتكبَّده للحصول على أية معلومات.

يُجبرنا العالم الحديث على أن نستثمر معظم أوقاتنا في البحث، وبقدر ما توفر محركات البحث لأفرادها عددا مهولا من النتائج عن أي موضوع، فإن محصلتها النهائية تكاد تكون معدومة. ما قد نسهو عنه أحيانا أن غوغل أثناء هذه العملية تفتح حواسها على أقصاها لتجميع قدر مُرعب من البيانات عن مليارات الأشخاص (الذين لا يفطنون غالبا إلى ما يحدث)، تذكَّر هنا أن “ألفابت”، وهي الشركة الأم لغوغل، لا تزال في الأساس شركة إعلانية. في عام 2020، حقَّقت الشركة أرباحا بقيمة 147 مليار دولار من الإعلانات فقط، أي ما يقرب من 80% من إجمالي إيراداتها. تلعب معظم الخدمات التي تُقدِّمها الشركات التكنولوجية على غرار الخرائط والبريد الإلكتروني دور أحصنة طروادة التي تتسلَّل إلى داخل بيوتنا وسياراتنا ومكاتبنا لجمع معلوماتنا وتحويلها إلى إعلانات تحاول استقطاب أكبر قدر ممكن من المستخدمين.

رأسمالية المراقبة

لذا يُعَدُّ لجوء الناس إلى محركات البحث نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ من عندها كل شيء، ولولاها لما صحَّت عزيمة شركة مثل “ألفابت” لاستكمال أهدافها، وهي الطريقة الحديثة لما يُعرف بـ “رأسمالية المراقبة”، وهو مصطلح أطلقته أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة هارفارد والناقدة التكنولوجية شوشانا زوبوف (ويُشير إلى عملية شاملة من المراقبة والتحكم في السلوك البشري بهدف الربح، من خلال التحليل التنبؤي للكثير من البيانات التي تصف حياة وسلوك مئات الملايين من الناس).

في السنوات الأخيرة، ضرب الإنترنت بجذوره بعمق في حياتنا اليومية، وأصبح أقوى أضعافا مضاعفة عما كان عليه منذ سنوات، لدرجة أننا اعتمدناه خطا محوريا يتفرَّع منه كل شيء يخص حياتنا الحديثة، ومع هذا النمو، توسَّعت شركة غوغل أيضا، وصاحب توسُّعها مع الوقت نزعة إلى الجشع، واشتعلت شهيتها باستمرار لإطلاق المزيد من الخدمات التي تبدو استغلالية بعض الشيء.

لكن إمطارنا بنتائج كثيرة وغير دقيقة لا يصب دائما في مصلحة المنتجات التكنولوجية، فكثيرا ما تنقلب الآية وتتحوَّل مواطن التفرد إلى مواطن ضعف، ومن هنا ينبثق السؤال الأهم: هل نبالغ حقا في شكوانا أو تذمرنا حيال نتائج البحث في غوغل، أم أن شركة غوغل بالأساس وقعت ضحية لنجاحاتها، فركَّزت على كل شيء تقريبا باستثناء جودة نتائج البحث التي تظهر في صفحتها الأولى؟! قد نكون سعداء كفاية بالقليل من النتائج إذا كان هذا القليل هو ما نتوقعه ونصبو إليه، وقد نكون مُحبَطين من الكثير من النتائج إذا كانت بالأساس لا تنطوي على أي معلومات مفيدة، وكما نرى فالعبرة لم تكن يوما بالكم وإنما بالجودة والأصالة.

لكننا مع ذلك، لا نستطيع أن نبخس حق غوغل في قدرته على تغيير عملية البحث تغييرا جذريا. فعند طرحه لأول مرة عام 1997، لم يكن هو محرك البحث الوحيد في الساحة، ولكن أحد أهم العوامل التي جعلته يتفوق على محركات البحث السابقة مثل “ياهو” (Yahoo) و”لايكوس” (Lycos) و”ألتا فيستا” (AltaVista) هي خوارزمية “بيج رانك” (Page Rank)، التي ترجع تسميتها إلى “لاري بيج”، أحد مؤسسي غوغل ومُصمِّم هذه الخوارزمية التي يتمحور دورها حول إعطاء كل صفحة ويب تقييما عدديا يُمثِّل أهمية هذه الصفحة (يُدعَى قيمة بيج رانك)، ويعتمد بصورة أساسية على مدى ترابط وتشعُّب صفحة الويب أو الموقع نفسه مع صفحات الويب الأخرى الموثوقة أو عالية الجودة.

بمعنى آخر، ساعدت هذه الخوارزمية في تحديد أهمية الصفحة نفسها اعتمادا على عدد مرات الإشارة إليها في صفحات أخرى، بدلا من الاستناد إلى عدد مرات ظهور الكلمة المفتاحية ضمن صفحة الويب. وبالفعل نجحت الخوارزمية لما حققته من ظروف مواتية كفلت للمستخدمين نتائج مُرضية، ما أضفى على غوغل بريقا سحريا في أواخر التسعينيات. أثناء ذلك الوقت، صعد غوغل القمة متجاوزا أقرانه السابقين من محركات البحث، لأنه لم يعد يكتفي بتقديم إجابات ملائمة فحسب، بل وفَّر لمستخدميه إجابات يطغى عليها الجانب المنطقي والبديهي. لذا بدت الآلة حينها وكأنها تمتلك مهارة الإنسان الفطرية في تمييز المحتوى الجيد من السيئ.

لكن ما نزل بغوغل مؤخرا من تغيُّر بدا واضحا وملموسا للجميع! حاوِل على سبيل المثال أن تبحث عن منتج على هاتفك الذكي، وسترى أن ما كان في يوم من الأيام مجرد شريط صغير أزرق يضم رابطا إعلانيا لشركة راعية، بات الآن عواصف من إعلانات مدفوعة الأجر، وأدلة شرائية تُحيط بك من كل جانب أينما حللت وحيثما اتجهت، فضلا عن الخرائط التي تعرض أقرب المتاجر إليك، فيتركك ذلك كله تتخبَّط حائرا لا تهتدي إلى مُستَقَر.

ثمة نظريات تُفسِّر في الحقيقة سبب الانتشار الواسع لتلك الإعلانات المتطفلة باستمرار. يرجع أحد الأسباب إلى انخفاض المبلغ الفعلي الذي يُحَصِّلهُ غوغل من أصحاب الإعلانات مقابل كل نقرة على إعلاناتهم جرّاء المنافسة الشرسة بين غوغل ومنصات أخرى مثل فيسبوك وأمازون (واستجابة لهذا الخطر الذي يُهدِّد غوغل، قررت الشركة هذا العام إطلاق أدوات أفضل لتوفير مساحات إعلانية أكبر).

على مدار العامين الماضيين، خططت غوغل للتخلُّص من ملفات تعريف الارتباط التابعة لطرف ثالث (التي يُرسلها كيان آخر لا علاقة له بالناشر أو موقع الويب) على متصفح كروم الخاص بها استجابة لقوانين الخصوصية، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في أوروبا وقانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا. وعلى الرغم من أن إزالة ملفات تعريف الارتباط لن تؤثر على الشركة، فإنها مع ذلك قررت ألا ترتدع ولا تنثني عن سبيلها في إطلاق الإعلانات بوفرة، في محاولة منها لاسترداد بعض الأموال التي قد تخسرها جرّاء التغييرات التي أجرتها على غوغل كروم.

إذا كان الأمر كذلك حقا، فذلك يعني أن محاولات غوغل لإصلاح مشكلة مزعجة أدَّت إلى تفاقم مشكلة أخرى أكثر إزعاجا، وهي طوفان الإعلانات الذي انبثق من كل مكان. لكن حينما تواصلنا مع الشركة بشأن هذه المشكلة، جاء ردها قاطعا وصريحا بنفي أي علاقة تربط بين خططها للتخلُّص من ملفات تعريف الارتباط التابعة لطرف ثالث والإعلانات التي تظهر مع نتائج البحث، وأعلنت أنه لم يطرأ أي تغيير على عدد الإعلانات التي سبق وحددته الشركة منذ سنوات، وادَّعت عدم ظهور أي إعلانات في 80% من نتائج البحث في غوغل على مدار السنوات الأربع الماضية.

أسرار الخوارزميات

يُعَدُّ الخبراء في مجال تحسين محركات البحث (SEO) هم أفضل مَن يعطونك إجابات تتعلق بخوارزميات البحث في غوغل، ومنهم ماري هاينز، خبيرة استشارية تدرس خوارزميات غوغل بهوس شديد منذ عام 2008، وجزء من وظيفتها هو الانتباه لكل تغيير صغير يقوم به مهندسو الشركة، ومن ثم التواصل معهم. لفهم عملية البحث، علينا أن ندرك أولا أن غوغل تعمل على فهرسة جميع صفحات الويب بهدف البحث عن مُكوِّنات مُحدَّدة، وكل مُكوِّن مرغوب يوجد في الصفحة يقابله رقم يدل على أهميته ضمن الخوارزمية.

في النهاية، تجمع خوارزميات غوغل الأرقام الدالة على العناصر المرغوبة في الصفحة، وتُعطي النتيجة تقييما عاما لهذه الصفحة. لذا فالشركات التي يُمكنها رصد أي سقطات لخوارزميات غوغل، يُكافئها غوغل في المقابل بتقييمات عالية. وكلما زاد الرقم، زادت أهمية الصفحة بين نتائج البحث، وأولت الخوارزمية اهتماما أكبر لها، ما يعني نظريا مزيدا من المال يصب في صالح هذه المواقع.

عندما أعلنت غوغل في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2020 أنها ستبدأ طرح خوارزمية تُسمَّى “فهرسة المرور” (passage indexing)، وهي طريقة جديدة تهدف من خلالها الشركة إلى رصد جميع الفقرات غير المترابطة على مواقع الويب، وإعادة ترتيبها من جديد، حفَّز ذلك هاينز وفريقها لمحاولة دراسة تأثير الخوارزمية الجديدة على قدرة محرك البحث على التمييز بين النتائج الأصيلة وبين تلك النتائج التي تبدو مجرد ثرثرة غير مفهومة مكتوبة عن طريق روبوت.

على الرغم من أن غوغل يوفر دائما تحديثات متواترة ومنتظمة للمهتمين بتحسين محركات البحث، فإن خوارزميات البحث الخاصة بالشركة عبارة عن صندوق أسود لا يمكن اختراقه (وتَعتَبِر الشركة هذه الخوارزميات سِرًّا تجاريا لا ترغب في البوح به للمنافسين). ومع عزيمة الشركة على إخفاء كل ما يتعلق بخوارزميات البحث، بات من الصعب على المستخدمين معرفة نوعية المحتوى الذي يمنحه غوغل امتيازات، فأصبح عليهم أن يبذلوا في سبيل ذلك الكثير من التخمينات، مع تقبُّل المحاولات والأخطاء.

ترى هاينز أن ظهور الإعلانات على غوغل أصبح أسوأ من أي وقت مضى وزاد من نفورنا تجاهها. هذا الخلل في التوازن بين ما نتطلَّبه من نتائج تتسم بالأصالة وبين قرار الشركة بمنح الأولوية لمنتجاتها وإعلاناتها على حساب أي شيء آخر هو العمود الذي ينهض عليه الإحباط في نفوسنا. لكن على الجانب الآخر، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن نتائج غوغل في الصفحة الرئيسية كانت قد تحسَّنت بالفعل وأصبحت أكثر أصالة وتعقيدا بمرور الوقت.

لا يقتصر الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي اليوم على ما يكتبه المستخدم في محرك البحث فقط، بل يمتد ليحاول فهم نية المستخدم أو قراءة ما وراء كلماته

لا يقتصر الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي اليوم على ما يكتبه المستخدم في محرك البحث فقط، بل يمتد ليحاول فهم نية المستخدم أو قراءة ما وراء كلماته (مواقع التواصل)

عبر سلسلة من التغيرات التقنية المعقدة، جرى تحرير غوغل من خوارزمية “بيج رانك” (بمعنى أن تحديد أهمية الصفحة نفسها لم يعد يعتمد على عدد مرات الإشارة إليها في صفحات أخرى، لأن الإشارة إليها قد تكون أحيانا بالسلب، بل سيعتمد أكثر على جودة المحتوى الذي يُنتجه الخبراء والمصادر الموثوقة). في النهاية، أطلقتْ شركة غوغل في شهر مايو/أيار عام 2021 تقنية جديدة تُسمَّى (MUM)، أو “فهم الآلة للمعنى”، وهي تقنية تهدف إلى تحسين الطريقة التي يُفسِّر بها محرك البحث الاستعلامات من خلال فهم الغرض من ورائها، ما يعني أن ترتيب الصفحات سيعتمد بدرجة أكبر على جودة المحتوى، لا على كثرة الكلمات الرئيسية وعوامل تحسين محركات البحث التقليدية الأخرى. وتُعَدُّ هذه التقنية أقوى ألف مرة من سابقاتها.

حول ذلك تقول هاينز: “لا يقتصر الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي اليوم على ما يكتبه المستخدم في محرك البحث فقط، بل يمتد ليحاول فهم نية المستخدم أو قراءة ما وراء كلماته، لتحديد أفضل محتوى يمكن أن يلائم غرضه، ما سيؤدي إلى تغيير جذري في نوع النتائج التي سيحصل عليها الباحث”. لذا فاهتمام غوغل بمعرفة ما تبحث عنه حقا يعني تخليه عن فكرة إظهار أي نتائج لمجرد أنها تنطوي على كلمات مطابقة للكلمات المفتاحية في البحث، بل يفحص سؤالك جيدا ويحاول فهم ما يعنيه، ومن ثم يُظهِر لك الصفحات التي يعتقد أنها بالفعل تتطابق مع هذا المعنى.

لطالما بدت محركات البحث بالنسبة إلى البشر كأنها أداة يمكنهم التحكم فيها، غير أن التقنيات الجديدة التي تطرحها غوغل اليوم أضفت على محرك البحث صفات بشرية، مثل امتلاك أفكار وعمليات تحليل خاصة به، فبدا وكأنه كائن حي على درجة أصيلة من التعقيد. وبمرور الوقت، يمكننا بسهولة تخيُّل الكارثة التي قد نتعرَّض إليها مع زيادة وعي الذكاء الاصطناعي وفقدان السيطرة عليه. (أوقفت شركة غوغل مؤخرا أحد مهندسيها عن العمل مؤقتا بعد تصريحات له بأن أحد روبوتات الذكاء الاصطناعي الخاص بالشركة قد طوَّر “إدراكا شعوريا خاصا به”. غير أن الشركة رفضت هذه الادعاءات، وأحالت المهندس إلى إجازة مفتوحة مدفوعة الأجر).

المشكلة إذن ليست أن غوغل عاجز عن إعطائنا نتائج بحث مُرضية، ولكن أن الشركة قرَّرت توظيف تقنياتها المتطورة للاستمرار في تضليل الناس بعيدا عن غرضهم الأساسي، وتوجيههم نحو منتجات الشركة والإعلانات المُمولة. تخيَّل أن تكون قرارات حياتك كلها معتمدة على معلومات من غوغل، هذا يعني أن معرفة غوغل نية المستخدم يمكن أن تؤثر على جميع قرارات حياته، وهي مخاطر قد تودي بنا إلى التهلكة.

حرب المعلومات

غاية المستخدم من كل ما سعى أن يبلغ نتائج منطقية، وليس أشق على نفسه ولا أدعى إلى إضاعة الوقت من أن تذهب مجهوداته سُدى بإغراق شاشته بنتائج مليئة بالهراء

إن غاية المستخدم من كل ما سعى أن يبلغ نتائج منطقية، وليس أشق على نفسه ولا أدعى إلى إضاعة الوقت من أن تذهب جهوده سُدى بإغراق شاشته بنتائج مليئة بالهراء تعوزها المنطقية. لكن الأشد مدعاة للدهشة هو أن هذا الهراء قد يكون أحيانا من صُنع البشر، وهو ما أشار إليه زاك فيربت الذي شغل بعد تخرجه وظيفة في شركة “هوث” (HOTH)، وهي شركة تسويق مُتخصِّصة في تحسين محركات البحث، حيث كانت مهمته هناك كتابة منشورات على مدونات معينة من شأنها أن تساعد عملاء الشركة ليحتلوا مرتبة مرتفعة على صفحات غوغل الرئيسية. أمضى فيربت ساعات طويلة في تأليف قوائم بعناوين كثيرة على غرار: “10 أشياء لا بد أن تفعلها عندما يتعطل مكيّف الهواء”.

بدت منشوراته وكأن روبوتا هو مَن كتبها أو شخصا تعلَّم لتوّه الكتابة. كان على فيربت أن يكتب نحو عشرة منشورات يوميا حول مواضيع لا يعرف عنها شيئا، وتعليقا على ذلك يقول: “إن تلك المنشورات التي تبعث فيك شعورا بأن روبوتا هو مَن كتبها تكون أحيانا مكتوبة بقلم بشر حقيقيين يحاولون تكديس أكبر قدر ممكن من الكلمات المفتاحية لتتصدر الصفحات الأولى في نتائج البحث”. حينما أدرك فيربت أن مقالته التي كتبها على عجل دون تأنٍّ أو مراجعة تتصدَّر بالفعل الصفحات الأولى في نتائج البحث، سرعان ما خاب رجاؤه وفترت حماسته، وران على صدره إحباط شديد، وقرَّر ترك وظيفته بعد عام واصفا هذه الصناعة بأنها مُفرطة الضعف والهشاشة.

إنها المصادفات التي تبعث إليك رسالة أحيانا تساعدك على فهم ما يحدث حولك جيدا، لذا مضت هاينز تتأسف على ما وصل إليه البحث في غوغل من تدهور بعدما كان الأداة الأبسط والأكثر فاعلية والأشد ثورية في عالم الإنترنت، وعن هذا تقول: “كلما انغمست في وظيفتي أكثر، أدركت إلى أي مدى تهاوت نتائج البحث في غوغل ولم تعد تستند إلى أرض صلبة، بل أصبحت عديمة الجدوى تماما”.

في محاولة من شركة غوغل لسحب نفسها من ذاك التيار المشؤوم الذي انجرفت إليه، قرَّرت عام 2017 البدء في اتخاذ إجراءات صارمة ضد المعلومات الخاطئة والمحتوى منخفض الجودة، بإعلانها عن مبادرة لتشجيع صُنَّاع المحتوى وأصحاب المواقع بضرورة الالتزام بثلاثة معايير: “الكفاءة، والأصالة، والمصداقية”، كما أصدرت الشركة العديد من الإرشادات التي على أساسها تتحدَّد جودة المحتوى ومدى أصالته، بجانب المعايير الصارمة التي طبَّقتها أيضا على أي صفحة قد تظهر للمستخدمين الذين يبحثون عن معلومات طبية أو مالية.

إحدى المفارقات العجيبة حقا هي ما بذله الباحثون والتقنيون والسياسيون والصحفيون من جهود مضنية استمرت لسنوات عديدة حاولوا خلالها تحذيرنا من مخاطر الإنترنت وميله إلى تضخيم نظريات المؤامرة، وسماحه للقضايا المثيرة للجدل بالانتشار على نطاق واسع، ما أدى في النهاية إلى الكثير من الانقسامات، فضلا عن المعلومات المُزيفة التي تتصدر نتائج البحث. كثيرا ما نادى هؤلاء بضرورة التزام المنصات بالجودة قبل كل شيء، وأن يكون همها الأول هو المصداقية لا الربح. ولعل شركة غوغل في النهاية خضعت لهذه المطالب (وإن كان ذلك بعد طول تقاعس)، ويبدو أنها نجحت جزئيا في إظهار نتائج تنطوي على بعض الأصالة فيما يخص المسائل الخلافية التي يحوم حولها الجدل.

صحيح أننا نتوق دائما إلى المعلومات الموثوقة، لكن لغتها كثيرا ما تبدو جافة تشبه طريقة كتابة الوثائق الحكومية، وأحيانا أخرى يغلب عليها طابع الملل كالكتب المدرسية، فلا تجد حواسنا ميلا إليها، فنمرّ عليها بِعينَيْ أعمى وأُذنَيْ أصم، على عكس لغة الروايات التي تظهر مفعمة بالحياة والألوان. لكن ما لا يفطن إليه الكثير من البشر أن الإنترنت الذي يحبونه هو عكس ذلك تماما؛ إنه في حقيقة الأمر مساحة مُشَوَّشة تغشاها الفوضى، ويصعب التنبؤ بالسبل التي سَتُحِيلُك إليها، وأحيانا ما تكون وعرة ومُضللة. وكما نرى، فإن ذلك كله يُسلِّط الضوء على مواطن ضعف الإنترنت التي يبدو في حضرتها إنسانا على درجة أصيلة من التعقيد والتناقض.

يرى راند فيشكين، مؤسس شركة “سبارك تورو” (SparkToro) للبرمجيات، أن غوغل أحرز تقدُّما ملحوظا في مواجهة نظريات المؤامرة وخطاب الكراهية، لكن الأمر استغرق وقتا طويلا من الشركة لحل هذه الأزمة. وعن هذا يقول: “إن حاولت أن تبحث عن معلومات تخص الهولوكوست في الفترة بين عامَيْ 2000-2008، فستجد أن جميع النتائج التي تحتل الصدارة هي عن أشخاص ينكرون المحرقة، لكن عائلات الضحايا قررت محاربة نظريات المؤامرة، وأدى ذلك إلى بعض التغييرات في محرك البحث”.

قد يكون السبب وراء تدهور نتائج البحث في غوغل هو تطوره كثيرا خلال السنوات الماضية لدرجة أنه تحوَّل إلى سلعة تجارية سُوِّقَت بشراسة. وربما السبب الآخر حيال شعورنا بأن غوغل يحتضر هو الحنين إلى الماضي الذي كان فيه غوغل مجرد أداة بحث أصغر وأقل تطورا، لكنها مع ذلك توافينا بنتائج أصدق. ومن جانبه، يتفهَّم “سوليفان”، مسؤول الاتصالات والبحث، هذا الحنين إلى الماضي، لكنه يرى أن التغيير الذي طرأ على غوغل هو مجرد استجابة للحاق بركب التقدُّم التكنولوجي، وهو يؤكد أن استياءنا من غوغل اليوم يعكس إلى أي مدى ازدادت توقعاتنا بمرور السنوات بقوله: “إننا نبحث اليوم عن أشياء لم نتخيل أن بإمكاننا البحث عنها قبل 15 عاما”. وبالفعل غيَّر غوغل الآن طريق تقييمنا للمعلومات ومعالجتها والوصول إليها وحتى تصوُّرنا لها تغييرا جذريا.

في السياق ذاته تقول هاينز: “يتبنَّى الجيل الأصغر حاليا طريقة بحث مختلفة تماما عما اعتاد عليه الجيل القديم. في الوقت الذي تتعامل فيه الأجيال الجديدة مع غوغل باعتباره شخصا حقيقيا قادرا على مساعدتهم، ما زالت الأجيال الأكبر تتبنَّى الأسلوب القديم في التعامل مع غوغل بكلمات مفتاحية. إنها مهمة الحياة إذن أن تُرغمنا على مواكبة التطورات. فلا عجب من أن الأجيال الشابة أسدلت ستارا كثيفا على طرق البحث التقليدية، وأضفت على غوغل الصبغة الإنسانية، فما كان للأخير إلا أن يتقمص دور البشر، ويتصرَّف كما لو كان واحدا منهم.

لذا إن نظرنا إلى سؤال “هل يحتضر غوغل؟” من الناحية العملية، فسنُدرك أنه سؤال عبثي، لأن غوغل لا يزال وسيلة أساسية تُقدِّم عددا لا يُحصَى من المعلومات، وهو العمود الذي ينهض عليه قلقنا بشأن مكانة التكنولوجيا في حياتنا. جعلتنا الحياة الحديثة نتوق إلى مزيد من الراحة والابتكارات والاحتمالات، ولكن إذا حصل المرء على ذلك كله، فهل تنقطع شكاواه ما دام إنسانا؟ لم تنقطع شكوانا رغم كل ما حصلنا عليه من تقدُّم تكنولوجي، ولم يغب عن ناظرنا شبح الأشياء التي فقدناها في المقابل. بيدَ أن ما فقدناه في المقابل كان جزءا من إنسانيتنا. كل شيء يشي بأن محركات البحث باتت اليوم سلاحا ذا حدين، ما يترك لنا الكثير مما يجدر بنا تأمُّله.

في نهاية المطاف، لا يرغب معظم الناس في أن تبقى معلوماتهم رازحة تحت وطأة شركات التكنولوجيا الاحتكارية المُعتمِدة على المراقبة، لكنهم في الوقت ذاته لا يرغبون أيضا في العودة ولو خطوة واحدة إلى الوراء أو فقدان الفرص المتاحة أمامهم جرّاء التقدُّم التكنولوجي الهائل. لذا فإن ما نرغب فيه جميعا هو التوصل إلى حل وسط، لأن التطور الذي وصل إليه البحث في غوغل أصبح أمرا مُربِكا ومزعزعا لاستقرارنا، والأشد مدعاة للأسف أن الإنترنت الذي صنعه البشر يوما ما بأيديهم تحوَّل ببساطة إلى أداة لا تسمح بأي توازن أو مساومة أو مساحة للحلول الوسطى.

* هذا المقال مترجم عن The Atlantic ونشر في موقع ميدان، ترجمة: سمية زاهر

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/informatics/32233

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M