أزمات داخل أزمة: مآلات الصراعات داخل «هيئة تحرير الشام» والاحتجاجات في مناطق سيطرتها

  • تواجه هيئة تحرير الشام مؤخراً أزمةً مركَّبةً، إذ تعاني من صراعات أجنحة داخلها، كما أنها تواجه اندلاع احتجاجات شعبية في مناطق سيطرتها رافضةً لممارسات الهيئة الأمنية، وتضييقها على الحريات، وسياساتها الاقتصادية.
  • يُراهِن زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني على غياب بديل لحكمه، وتفضيل الأطراف الرئيسة (تركيا، والولايات المتحدة، وحتى روسيا)، استقرار إدلب التي تنتشر فيها الجماعات المتطرفة.
  • يُرجَّح أن يقوم الجولاني بتوظيف ورقتي الإصلاحات الاقتصادية وإعادة هيكلة الجهاز الأمني لاحتواء التظاهرات الشعبية والانقسامات الداخلية، ومن جهة أخرى يمكنه استعمال القوة. ومع ذلك، سيكون عدم الاستقرار سمة المرحلة المقبلة في مناطق سيطرة الهيئة.
  • من شأن تغيُّر الأمر الواقع في إدلب، وبخاصة إذا استمرت الهيئة بالتضعضع، أن يُعيد رسم ميزان القوى في شمال غربي سورية، فإذا ضعفت هيئة تحرير الشام قد تتحول إلى عبء على تركيا، ما يدفع روسيا وإيران والحكومة السورية إلى استثمار الفرصة والتمدد نحو المناطق الخارجة عن سيطرة الهيئة. 

 

تمر «هيئة تحرير الشام»، الجماعة السلفية الجهادية الناشطة في شمال غرب سورية والمُصنَّفة منظمة إرهابية، بأزمةٍ متعددة الطبقات منذ صيف العام الماضي، نتيجة صراعات الأجنحة داخل الهيئة، واشتعال انتفاضة شعبية في مناطق سيطرتها، قابلته قيادة الهيئة بسياسات مرتبكة وتخبُّط في إدارة الأزمات، انعكس بشكل جلي على فعاليتها ومشاريعها في إدلب ومناطق سيطرة الفصائل المعارضة، الأمر الذي يُنذر بحصول تطورات مهمة في منطقة تقع في قلب الاهتمام الإقليمي والدولي.

 

تستعرض الورقة أسباب الصراع داخل مكونات هيئة تحرير الشام، ثم تناقش الحراك الشعبي- العسكري ضد قيادة أبو محمد الجولاني مع شرح أسبابه، وسياسات إدارة الأزمة التي يتبعها الجولاني ومواقف الفاعلين الخارجيين، وأخيراً تناقش السيناريوهات المحتملة لمآلات الأحداث في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.

 

مُتغير صراع الأجنحة داخل الهيئة

استطاعت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، التي قضمت العديد من فصائل المعارضة المسلحة في خلال الفترة 2014-2019، السيطرة على أغلب محافظة إدلب ومدّت نفوذها الاقتصادي وشبكاتها الاجتماعية إلى مناطق شمال حلب وغربها، الأمر الذي جعل من الهيئة رقماً مهماً في معادلة الوضع السوري، يصعب تجاوزه إقليمياً ودولياً. وقد دعم هذه الصورة القدرة على الضبط والتماسك التي تميزت بها الهيئة، بالإضافة إلى حالة الاستقرار الأمني في مناطق سيطرتها مقارنةً بنظيرتها في مناطق سيطرة الفصائل الواقعة تحت الإشراف التركي.

 

غير أن هذه الصورة بدأت في الاهتزاز منذ منتصف العام الماضي، بعد الإعلان عن فتح ملف العملاء “أو الجواسيس” لمصلحة أطراف خارجية. وقد ظهرت الأزمة بعد تعرض الهيئة لضربات مؤلمة بعد حادثة استهداف الكلية الحربية بحمص شنتها القوات الحكومية السورية، كما كُشِفَ عن حصول اختراق أمني لصالح الروس والحكومة السورية.

 

لكن جذور تفجّر الصراعات داخل الهيئة تعود إلى مرحلة التوسع في شمال حلب في أكتوبر 2022، ومحاولة قضم فصائل المعارضة، وفتح قنوات تواصل مع الفاعلين الخارجين، في سياق تلميع صورة الهيئة، حيث تم كُلِّفَ كلٌّ من أبو ماريا القحطاني وأبو أحمد زكور، القياديان في الهيئة والمحسوبان على جناح “الشرقية” الذي يتكون عناصره من مناطق شرق سورية وحلب، بإدارة هذه الملفات. أزعج ذلك القيادات المتحدرة من مدينة بنش في إدلب، وفي مقدمتهم أبو أحمد حدود، مسؤول الأمن والرجل الثاني في الهيئة، وبخاصة بعد نجاح القحطاني وزكور في مهمتهما. خاف جناح “بنش” من زيادة تأثير جناح “الشرقية” في قرارات الهيئة وسياساتها على حسابهم، لذا وبحكم سيطرة الجناح الأول على الجهاز الأمني قام بإعداد ملف اتهام للقحطاني بالعمالة والتخابر مع جهات خارجية للانقلاب على أبو محمد الجولاني، وتشكيل قيادة جديدة للهيئة.

 

حاول الجولاني، في بداية الأزمة، مراعاة التوازنات بين الأجنحة، والأخذ بالاعتبار أوزان كل طرف، حيث يملك جناح الشرقية أكثر من 1200 عنصر، وشكّل رأس حربة في جميع معارك الهيئة مع الفصائل، ويؤدي دوراً مهماً في علاقة الهيئة مع العشائر في حلب ومناطق شرق سورية، بالإضافة إلى وجوده في مفاصل مهمة ضمن البنية العسكرية للهيئة، في حين لدى جناح “بنش” حوالي 1700 عنصر أغلبهم من إدلب، ويسيطر على المفصل الاقتصادي والمعابر، ولديه نفوذ كبير في القطاع الأمني الذي يقوده أبو أحمد حدود (أنس خطاب)، والإعلام الرديف للهيئة، ويتميز بتماسكه، إذ ينحدر أغلب  أعضائه من مدينتَي بنش وتفتناز والقرى التابعة لهما، وقد انحاز الجولاني لهذا الجناح واعتقلَ القحطاني.

 

وتدل الوقائع على أن تقديرات الجولاني وحساباته لم تكن دقيقة، إذ أدى انحيازه إلى منح جناح بنش الضوء الأخضر للتنكيل بالمكون العسكري الذي يتشكَل من عناصر جناح الشرقية، الأمر الذي ولّد حالةً من الانقسام داخل الهيئة، والرغبة في الانتقام. وحاول الجولاني، تحت ضغط المكون العسكري الذي هدد باجتياح المقررات الأمنية، التراجع عن هذا الخطأ عبر الإعلان عن طي الملف الأمني وإخراج القحطاني من السجن، لكنه وقع في أزمة جديدة تمثلت بغضب جناح بنش، واندلاع المظاهرات التي تطالب بإسقاط الجولاني، وحتى التخلص من حكم الهيئة كلياً.

 

احتجاجات مركّبة

احتجاجات إدلب وما حولها ذات طبيعة مركبة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي، وقد تلاقت مصالح أطراف عديدة للاحتجاج على سياسات الجولاني، والضغط على الهيئة لتغيير نمط تعاطيها مع السكان في إدلب. وكانت ممارسات الهيئة تجاه المعتقلين بمثابة الصاعق المفجر للانتفاضة ضدها، بعد خروج بعض المعتقلين وكشفهم عما يجري داخل السجون من تعذيب وتنكيل بالمعتقلين واختفاء بعضهم، في ظل وجود مئات المعتقلين من فصائل المعارضة والناشطين المدنيين وسجناء الرأي في سجون التنظيم وسط مخاوف من تصفيتهم.

 

غير أن للاحتجاجات أسباباً عميقة، فبالإضافة إلى التضييق على الحريات والتدخل الفج في سلوكيات السكان ومراقبتهم، تعيش المنطقة حالةً من التدهور الاقتصادي بعد تراجع الدعم الدولي، وضعف البنية التحتية، ونقص الموارد الاقتصادية، وفرض حكومة الإنقاذ، التابعة للجولاني، ضرائب مرتفعة على البضائع التي تدخل إدلب، ما يسهم في رفع أسعارها، وفوق ذلك سيطرة الهيئة على المشاريع الاقتصادية واحتكار المجال الاقتصادي لصالح شخصيات في الهيئة دون إعطاء أي أهمية لتحسين الواقع المعيشي للسكان أو خلق فرص عمل لهم.

 

وتكشف خريطة الفاعلين في الاحتجاجات عن تلاقي مصالح أطراف عديدة، بعضها يرغب في التخلص من حكم الهيئة نهائياً، وهي الشريحة الأوسع التي تضم الناشطين المدنيين لكنها الأقل فعالية، ويجاري هذه الشريحة حزب التحرير الإسلامي الذي اعتقلت الهيئة أعداداً كبيرة من عناصره، لكنه أيضاً ضعيف وليس لديه قوة عسكرية، ولهذا السبب تركته الهيئة ينشط في مناطقها، يضاف إلى هذه الشريحة عناصر من الفصائل المسلحة وعائلاتهم.

 

وتضم الشريحة الثانية عسكريين من الهيئة غير راضين عن سياسات الجهاز الأمني وجناح بنش، وعناصر موالين لقيادات أبعدهم الجولاني عن مراكز القرار وشرعيين سابقين. وتختلف مطالب هؤلاء عن الشريحة الأولى، إذ يطالبون بحصول إصلاحات داخل الهيئة أو إزاحة الجولاني والإبقاء على هياكل الهيئة، أو يسعون للضغط على الجولاني من أجل إعادتهم إلى مواقعهم في هياكل الهيئة، وقد أضيف إلى هؤلاء عناصر من جناح “بنش” بعد إفراج الجولاني عن القحطاني، حيث يطالبون بإسقاط الجولاني وتعيين قيادة جديدة للهيئة.

 

وثمة عامل داخلي “من داخل مكونات الهيئة” يُغذّي حالة التمرد والتظاهر ضد الجولاني، إذ يؤكد بعض المصادر أن الجولاني كان بصدد الانتقال بالهيئة الى بنية عسكرية جديدة، من خلال الإعلان عن تأسيس وزارة الدفاع ضمن حكومة الإنقاذ، وذلك في إطار إجراء “حوكمة” عسكرية في سياق التحوَل إلى كيان مقبول دولياً، عبر صناعة هياكل عسكرية ومدنية للمناورة على مطلب تفكيك الهيئة باعتبارها تنظيماً مصنفاً على قوائم الإرهاب، بحيث يجري تغيير التسمية لتصبح منطقة “حكومة الإنقاذ” يتبع لها وزارة دفاع تنصهر بها مختلف المكونات العسكرية، ومن ثم تغييب تسمية هيئة تحرير الشام، كما جرى الانتقال سابقاً من النصرة الى الهيئة.

 

ويبدو أن هذا التحوُّل خلق أزمة بنيوية داخل التنظيم نتيجة معارضة مراكز القوى المستفيدة التي تتحسب أن يكون للتغيرات انعكاسات على أوضاعها ومكاسبها، وهو ما تُفسِّره مشاركة طيف واسع من العسكريين والأمنيين في الاحتجاجات الحالية، والتي اختبرت في السابق كيف قام الجولاني بعزل العديد من الشخصيات وتهميشها وإخراجها نهائياً من دائرة التأثير واستبدالها بشخصيات لا تمانع، أو لا تستطيع الممانعة، بسبب عدم امتلاكها حيثيات القوة وأدواتها.

 

يواجه الجولاني مشكلة انفضاض الحوامل الاجتماعية عنه التي شكلت في مرحلة سابقة عامل قوة له (AFP)

 

سياسات إدارة الأزمة

حاول الجولاني احتواء الغضب الشعبي المندلع في مناطق سيطرة الهيئة عبر الإعلان عن سلسلة من الإجراءات، أو الإصلاحات كما يُفضِّل الإعلام القريب من الهيئة تسميتها، فقد تمثلت هذه الإجراءات بالآتي:

 

  • استحداث إدارة تحت مسمى” الأمن العام” بدل الجهاز الأمني، وتعمل تحت إشراف وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، ويهدف هذا الإجراء لاسترضاء الشارع الثائر، الذي يعارض السياسات الأمنية للهيئة التي كان لها دور كبير في تثوير الناس ضد الجولاني والهيئة.
  • إعادة هيكلة الجناح العسكري، حيث عُيِّن قادة في مناصب قيادية كان الجهاز الأمني قد اتهمهم بالعمالة لجهات خارجية، فقد أصدر الجولاني قراراً بتعيين كلٍّ من “أبو مسلم آفس” مسؤولاً عن “لواء علي بن أبي طالب”، و”أبو أسامة منير” مسؤولاً عن “لواء أبو بكر الصديق”، و”أبو خالد الحمصي” مسؤولاً عن “لواء طلحة بن عبيد الله”، و”أبو ذر محمبل” مسؤولاً عن “لواء عثمان بن عفان”، وجميع هؤلاء القادة كانوا قد تعرضوا للعزل والاعتقال.
  • إصدار حكومة الإنقاذ قراراً بالعفو العام وقرارات تتعلق بالسياسات الضريبية، وإطلاق مبادرات للحوار مع المجتمع المدني لإبراز وجه ديمقراطي للهيئة.

 

بيد أن جميع هذه الإجراءات لم تُسهِم في تخفيف حدة الرفض والاعتراض على سياسات الهيئة ومطالبة الجولاني بالتنحي، والسبب أن الهيئة تتحرك في وسط سياسي معقد بدرجة كبيرة سبق أن خبر أعضاؤه التمرد على الدولة السورية، وخاض جزءاً منهم مفاوضات ومساومات معقدة على مدار السنوات مع مختلف الفاعلين الذين حكموهم، وبالتالي لم يكن من الصعب اكتشاف أهداف سياسات الجولاني القائمة على المماطلة والتسويف عبر تشكيل اللجان وإطلاق الوعود، وهو الأمر الذي دفع الجولاني إلى التهديد باستخدام القوّة في حال تم تجاوز الخطوط الحُمر، وادعائه بأن ثمة مطالب لا يمكن للهيئة تحقيقها في هذه الظروف.

 

يواجه الجولاني مشكلة انفضاض الحوامل الاجتماعية عنه التي شكلت في مرحلة سابقة عامل قوة له، والمتمثلة بالعشائر ورجال الدين وجزء كبير من أبناء إدلب، فمن جراء سياسات الاحتكار الاقتصادي والتخبط في إدارة الأزمة، وما خلفته أزمة ملف العملاء من حالة عدم الثقة بالجولاني، لم يعد كثير من الأطراف يثق بمستقبل المنطقة تحت حكم الهيئة وبقيادة الجولاني.

 

يراهن الجولاني على قدرته على الخروج من هذه الأزمة بالنظر لما يملكه من أوراق في مواجهة خصومه وحراك الشارع، فالجولاني يمتلك بشكل مركزي جميع الموارد المالية، ويسيطر على الأصول الاقتصادية للمنطقة، كما يمتلك سيطرة مطلقة على الأجهزة الأمنية، بالإضافة لذلك يُدرك حدود انزعاج القيادات العسكرية منه، التي تقع تحت خانة اللعبة التي تهدف إلى الضغط عليه لا إسقاطه، انطلاقاً من أن سقوطه سيعرّض هذه القيادات، التي ارتكبت في السنوات الماضية المجازر والانتهاكات، للمحاكمة والاعتقال من قبل أي طرف قد يأتي إلى الحكم.

 

مواقف الفاعلين الرئيسين

يراهن الجولاني أيضاً على عدم وجود بديل له في منطقة تعج بالقوى المتطرفة، ولا ترغب القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في حصول تغييرات على المعادلة القائمة من شأنها التأثير في ترتيباتها، وربما تكون لها انعكاسات أخطر على السلم والأمن الدوليين، وهذا ما تكشفه مواقف الفاعلين الأساسيين:

 

الموقف التركي: تبدو تركيا أكثر الأطراف استفادةً من الأوضاع الناشئة في إدلب، والتي تساعد في إضعاف هيئة تحرير الشام ومنعها من التمدد في مناطق سيطرة الفصائل الواقعة تحت الإشراف التركي، إلا أن الموقف التركي يبقى مرتبطاً بالخوف من حدوث صراعات يصعب ضبطها وتؤدي إلى تهديد أمن مناطقها الجنوبية والتسبب بموجات هجرة كبيرة، وهذا الأمر قد يجعل أنقرة تفضل استمرار سيطرة الجولاني لكنْ وفق صيغة لا يشكل فيها تهديداً لمصالحها في شمال سورية.

 

الموقف الروسي: ظل الموقف الروسي من منطقة شمال غربي سورية، حتى وقت قريب، تحت سقف تفاهمات أستانه وقواعد الاشتباك المتفق عليها مع تركيا، وعلى رغم التصعيد الذي شهدته المنطقة في الأشهر الأخيرة، بعد الهجوم على الكلية الحربية في حمص، فإنّ الصراع ظل مضبوطاً ضمن حدود معينة، ولم يترتب عنه أي تغيير في مواقع الأطراف. وربما يشكَل الهجوم في موسكو الذي نفذته “داعش خراسان” مُتغيراً في السياسات الروسية تجاه التنظيمات المتشددة في إدلب، غير أنه لا توجد مؤشرات على حصول تغيير جذري في هذه السياسات، لأن روسيا ترغب في استثمار الحدث لتوظيفه في الحرب ضد أوكرانيا، بحسب ما تشير إليه تصريحات المسؤولين الروس، ولأن لا وجود لجماعة خراسان في مناطق سيطرة الهيئة، بالإضافة إلى تصعيد تنظيم داعش لهجماته ضد الجيش السوري والقوات التابعة لروسيا في البادية. لكنْ ذلك لا يُلغي احتمال توظيف روسيا للهجوم على موسكو لشن هجمات على مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام بذريعة وجود مجموعات طاجيكية، حيث تتكون المجموعة التي شنَّت هجوم موسكو من عناصر طاجيكية، سواء في هياكل الهيئة أو ضمن المجموعات المتشددة في المنطقة، وربما تلجأ روسيا لمثل الهجمات باعتبارها إجراءً تحوطياً يهدف إلى عدم عودة هؤلاء إلى روسيا أو طاجيكستان، وشن هجمات ضد المصالح الروسية.

 

موقف إيران والحكومة السورية: تشن القوات السورية والميليشيات الإيرانية، منذ أكتوبر الماضي، معارك شبه متواصلة على مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، وأُدخلت “المسيرات الانتحارية” في تكتيكاتها الهجومية التي كان لها تأثير واضح في هيئة تحرير الشام، لكن من الواضح أن هذا التصعيد لا يهدف إلى تغيير الأوضاع، بقدر ما يهدف إلى الضغط على تركيا، واستنزاف هيئة تحرير الشام. وعلى الأرجح لن تتدخل الحكومة السورية في هذه المرحلة كي لا تؤثر في تطورات الأحداث التي قد تصل إلى حد الحرب الطاحنة داخل مناطق سيطرة الهيئة، وقد تتدخل في مرحلة لاحقة لاستثمار الفرصة التي توفرها حالة الضعف والشقاق في المناطق الخارجة عن سيطرتها.

 

الموقف الأمريكي والغربي: لم تتضح مدى صدقية الادعاءات التي تقول بتنسيق القحطاني مع التحالف الدولي للقيام بانقلاب في هيئة تحرير الشام، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة تراجعت منذ فترة عن استهداف قيادات الهيئة، كما كان هناك مؤشرات عن وجود تنسيق مع الهيئة في استهداف قيادات تابعين لجماعتي “داعش” و”حراس الدين” في مناطق سيطرة الهيئة. بالإضافة لذلك، لا ترغب الولايات المتحدة في زعزعة الاستقرار في مناطق سيطرة الهيئة لما لذلك من انعكاس على الدور التركي قد تستفيد منه روسيا وايران، كما أن ضعف قبضة الهيئة قد يساعد في عودة ظهور التنظيمات الأكثر تشدداً، مثل القاعدة وحراس الدين، في ظل تخوِّف أوروبي وأمريكي من هجمات قد تشنها التنظيمات المتطرفة في أوروبا في المرحلة المقبلة.

 

تؤكد المؤشرات الحالية أن عدم الاستقرار سيكون سمة المراحل المقبلة في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (AFP)

 

اغتيال القحطاني وتداعياته المحتملة

في 4 أبريل الجاري، وبعد خروجه من السجن بأيام وتبرئته من تهمة العمالة لجهات خارجية، قُتل أبو ماريا القحطاني، في مضافته بمدينة سرمدا عبر تفجير انتحاري. وقد نعته هيئة تحرير الشام ووصفته بالشهيد، واتهمت تنظيم داعش بالوقوف خلف عملية الاغتيال. وربما لا تحتاج الهيئة لتقديم الأدلة على عمق العداء بين داعش والقحطاني بسبب انشقاقه عن التنظيم في عام 2013 وقيادته للمعارك ضده في دير الزور، وأدائه دوراً رئيساً في القضاء على خلايا التنظيم وقياداته بالتنسيق مع التحالف الدولي أو بالعمليات الأمنية في شمال غربي سورية، لكن رواية الهيئة قوبلت بالتشكيك من أطراف عديدة داخل الهيئة وخارجها للأسباب الآتية:

 

  • انحسار تنظيم داعش في إدلب في السنوات الأخيرة يجعل من الصعوبة التخطيط لمثل عملية بهذا الحجم، وبهذه السرعة.
  • في ظل أن إدلب قد أصبحت ملاذاً آمناً يلجأ إليه بعض قادة التنظيم، يبدو من غير المحتمل أن يُقْدم التنظيم على مخاطرة قد تستفز الأجهزة الأمنية التابعة للجولاني للبدء في حملات تفتيش ومراقبة وتعقُّب التنظيم وأنصاره.
  • توقُّف تنظيم داعش منذ ثلاث أعوام عن القيام بأي عملية تفجير داخل إدلب، بسبب وجود اتفاق مع الهيئة مقابل السماح لعائلات التنظيم بالإقامة في إدلب أو الانتقال عبرها، والسماح لقيادي داعش، في البادية، بزيارة عائلاتهم وزوجاتهم وعائلاتهم.

 

وبالمقابل ثمة دلائل عديدة على احتمال تورط الهيئة في اغتيال القحطاني:

  • أشار باحثون في شؤون الجماعات المتطرفة في سورية إلى أن القحطاني أصبح يُشكل خطراً على الجولاني بعد خروجه من السجن ودعم العشائر له، ورجحوا أن اغتياله لم يكن ليحدث دون فقدانه الحماية الأمنية من الجولاني.
  • يُعدّ الجولاني الطرف الأكثر استفادة من إزاحة القحطاني نهائياً، الذي بمقتله يتحرر الجولاني من مصدر قلق كان سيواجهه في المرحلة المقبلة، في ظل حالة الاستقطاب التي تعيشها الهيئة والْتفاف وجهاء العشائر حول القحطاني.
  •  كما أن القحطاني، الذي انعدمت ثقته بالجولاني بعد حبسه، كان بمنزلة صندوق أسرار يريد الجولاني التخلص منه ليطوي بموته ملفات كثيرة تتعلق بالتواصل والتنسيق مع التحالف الدولي، للقضاء على قيادات في القاعدة وداعش واختراق فصائل المعارضة المسلحة.

 

لا شك في أن إزاحة القحطاني بهذا الأسلوب تُعدّ مغامرة، لكن يظهر أن الجولاني عَدَّها مغامرة محسوبة العواقب ومبررة. قد يؤدي الاغتيال إلى حصول قلاقل واضطرابات وعمليات اغتيال من المحتمل أن تقوم بها عناصر من تيار “الشرقية” انتقاما لمقتل القحطاني، كما يُحتمل انسحاب بعض العناصر التابعة للعشائر من الهيئة في ظل سيطرة تيار “بنش” على الهيئة. لكنْ قد تكون للجولاني حسابات مختلفة تدفعه للقيام بهذه المغامرة، من نوع أن القحطاني بقي معزولاً لمدة سبع شهور في السجن، وأن تأثيره تراجع بين أنصاره، كما أن الرجل الثاني في كتلة الشرقية، أبو مظهر الويس، يَدين للجولاني بالولاء، لذا سيعمل على تهدئة تيار الشرقية. وبنتيجة هذه المغامرة، يغيب آخر المؤسِّسين لجبهة النصرة، وبالتالي لا يعود هناك أي منافس محتمل للجولاني، ولا شريك في صنع القرار. كما يبعث الجولاني برسالة إلى قادة الحراك المدني بأن وضع داعش في واجهة الحدث سيتيح له ارتكاب المزيد من عمليات الاغتيال.

 

السيناريوهات المحتملة للأوضاع في مناطق سيطرة الهيئة

السيناريو الأول، دمج الجولاني بين محاولات الاحتواء واستخدام العنف. إذ يقوم الجولاني بعدد من الخطوات بهدف احتواء التظاهرات الشعبية والانقسامات الداخلية عبر توظيف ورقتي الأمن والاقتصاد، من خلال تخفيض ضرائب الدخل والضرائب المفروضة على أسعار البضائع الاستهلاكية ومواد الطاقة.  وفي الجانب الأمني، من خلال إعادة هيكلة الجهاز الأمني، وتخفيف القبضة الأمنية، والإفراج عن بعض المعتقلين. وهذا، بالنسبة له، جانب مهم لأن جزءاً مهماً من مطالبات المتظاهرين تُركز على تحسين الواقع الاقتصادي، وتخفيف القبضة الأمنية.

 

كما يمكن للهيئة وضع واجهة، فقد سبق للجولاني أن اتبع هذا التكتيك في عام 2017 لمواجهة مطالب المحتجين بتنحيته، وعَيَّن هاشم الشيخ أبو جابر، القائد السابق لأحرار الشام، زعيماً صورياً للهيئة، وبقي الجولاني المتحكم الفعلي. وبحسب مصادر مطلعة على أوضاع الهيئة، يُجرى حالياً تداول أسماء عدة لتسليمها قيادة الهيئة صورياً لتجنُّب التشظي والحرب الداخلية، ومن بين تلك الأسماء إبراهيم شاشو، وزير العدل السابق في حكومة الإنقاذ، ومصطفى موسى رئيس مجلس الشورى الحالي.

 

من ناحية أخرى، ألمح الجولاني نفسه أنه سيستخدم القوة في مواجهة ما يَعدّه تهديداً لأمن المنطقة واستقرارها، وما قد يشجع على هذا الخيار دفع الجانب الأمني ورغبته في حسم الموقف، انطلاقاً من الادعاء بأن هذه التظاهرات فئوية وليست شعبية تقف خلفها جماعات لها ثأر مع الهيئة، وتحديداً مع الجهاز الأمني، رغم إغلاق ملف العملاء، إلا أن الجانب الأمني لا يرى أن القضية منتهية ويمكن استخدامها ورقةً ضد الخصوم والمحتجين، وفي هذا السياق يمكن أن يلجأ الجانب الأمني إلى التفجيرات ضد أهداف مدنية لإثبات وجود مؤامرة ضد مناطق سيطرة الهيئة.

 

وبينما قد تمتص الإجراءات الاقتصادية غضب الناس إلى حدٍّ ما، ولكنها لن تحل المشاكل البنيوية في الاقتصاد (مثلاً عدم القدرة على التحكم بأسعارها)، كما لا يبدو أن تخفيف القبضة الأمنية، وهي القضية الأساسية في مطالب المتظاهرين، المدنيين والعسكريين، ستكون على درجة كبيرة، بسبب هيمنة الجناح الأمني على قرارات الهيئة. وبما يخص الواجهة، فقد باتت ورقة محروقة ولا يمكن تمريرها لا على المجتمع المدني ولا على العسكريين الذين خبروا هذه التكتيكات مسبقاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام القوة مرتبط بمخاطر، قد يدفع الفصائل الواقعة تحت الإشراف التركي إلى الانخراط في حرب مع الهيئة لوجود البيئة التي تؤيدهم في هذه المناطق.

 

مع ذلك، فهذا السيناريو هو الأقرب للواقع، لتناسبه مع استعدادات الهيئة والجولاني وترتيباتهما الظاهرة لمواجهة التطورات الراهنة، وكذلك بسبب عدم وجود قوة متماسكة في مواجهة الجولاني، فعلى الرغم من الصوت الجماهيري المرتفع ضد الجولاني، وتململ الجناح العسكري للهيئة، فلم يتوصل معارضو الجولاني لصيغة محددة وفاعلة في مواجهته لاختلاف الأهداف والرؤى.

 

السيناريو الثاني، فتح جبهات القتال مع الحكومة السورية. وذلك بالتصعيد مع الجيش الحكومي السوري وتكثيف العمليات الانغماسية ضده، وبخاصة في ريف حلب الغربي، في محاولة لتخفيف الضغط الشعبي على الهيئة وتوجيه الأنظار نحو المخاطر المحتملة في حال تفكك الهيئة واستغلال حكومة دمشق للصراعات الدائرة في المنطقة، وبنفس الوقت شيطنة القوى المطالبة بالتغيير بذريعة أن الهيئة هي الجهة الوحيدة التي تقاتل الدولة السورية.

 

بيد أن استخدام العمليات ضد مواقع القوات السورية ما عاد مُجدياً، وبات يستنزف الهيئة، ويُثير القوى العسكرية ضد الجولاني، بالنظر إلى الخسائر الكبيرة من العناصر في العمليات “الإنغماسية” الفاشلة، كما أنه قد يُعطي مُبرراً للقوات الروسية والميليشيات الإيرانية لمهاجمة المنطقة وتجاوز الترتيبات مع تركيا، ما يقلل من فرص تحقق هذا السيناريو.

 

السيناريو الثالث، سقوط الجولاني وتفكك الهيئة. ينطوي هذا السيناريو على حصول صراع بين الأجنحة في ظل التوتر الحالي، وعلى رغم أن الجولاني استطاع إلى حد ما استيعاب جناح الشرقية بعد الإفراج عن القحطاني، فإنّه يعاني من أزمة حادة مع جناح بنش، الذي يعترض على إخراج القحطاني ويُصر على إلغاء جناحَي الشرقية وحلب، ويطالب بإسقاط الجولاني ذاته. وتتلاقى مطالب هذا الجناح مع مطلب أهالي إدلب الذين يَعدُّون أنفسهم أصحاب الأرض، ولديهم أقدمية وخبرة أعرق في الإسلام السياسي بحكم انتماؤهم في عقود سابقة لجماعة الإخوان المسلمين.

 

لكن يُستبعد تحقق هذا السيناريو على المدى القصير، وذلك لعدة أسباب: أولاً، التيارات المُعادية للجولاني لا ترغب بالضرورة في إسقاطه نظراً إلى أنه لا يوجد بديل حقيقي، وإنما ترغب فقط في إرغام الجولاني على الخضوع لبعض مطالبهم. وثانياً، فرص المتظاهرين المدنيين في إسقاط الجولاني دون حدوث انشقاقات داخلية كبيرة ضئيلة، نظراً لأن الهيئة ما زالت تحتكر أدوات العنف. وثالثاً، سيتطلب تفكيك الهيئة مستوىً من التدخل الخارجي، مثل إضعاف الجولاني اقتصادياً من خلال إغلاق معبر باب الهوى، أو تورط الفصائل التابعة لتركيا في مواجهة مع الهيئة، لكن يبدو أن لا تركيا ولا حتى الدول الغربية لديها مصلحة في زعزعة الاستقرار في إدلب في الوقت الحالي.

 

استنتاجات

تؤكد المؤشرات الحالية أن عدم الاستقرار سيكون سمة المراحل المقبلة في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، بعد اهتزاز صورتها وتجرُّؤ فاعلين آخرين، من الهيئة وخارجها، على تحدي سلطة الأمر الواقع.  إلا إذا استطاعت الهيئة إعادة بسط سيطرتها بالقوة والعنف، وهذا خيار مُستبعَد، إذ ستُواجه مصادر تهديد داخلية وخارجية، تعمل على هز استقرار المنطقة. وإن تراجعت وتيرة المظاهرات، فإن الأجنحة المتخاصمة داخل الهيئة، وبحكم العصبيات المناطقية، سوف تستمر في الصراع. أما خارجياً، فسيؤدي استمرار ضعف هيئة تحرير الشام في إدلب إلى جذب تدخل قوات الحكومة السورية والقوات الروسية والإيرانية، الأمر الذي قد يتطور إلى هجوم بري. كما قد تقوم تركيا أيضاً بسحب جزئي لحمايتها من هيئة تحرير الشام، بالنظر إلى أن وجود هيئة ضعيفة سيُشكِّل عبئاً على أنقرة.

 

يتعين الانتباه إلى أن أي تغيير ملحوظ في الوضع بإدلب قد يؤثر في ميزان القوى بأكمله في شمال سورية؛ فإذا ضعفت هيئة تحرير الشام ولم تستطع ضبط الأمور، فستتحول إلى عبء على تركيا التي تحميها، ما ستتحول إلى فرصة وذريعة جيدة لروسيا والحكومة السورية وإيران لتصعيد الأوضاع في إدلب والسعي للحصول على صفقة أفضل مما هو قائم حالياً. وتنتظر السلطة الحاكمة في دمشق مثل هذه الفرصة بفارغ الصبر. أما روسيا فقد تدعم التصعيد للضغط على تركيا، والتي تشهد علاقاتها تحسناً بالولايات المتحدة. وإذا ما تماشت إيران أيضاً مع روسيا والحكومة السورية، فإن احتمالية التصعيد ستزداد.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/azamat-hayat-tahrir-alsham-

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M