أزمات مُلحة.. مصير أنظمة المعاشات التقاعدية في أوروبا

آية عبدالعزيز – الشيماء عرفات

 

أثارت موجة الاحتجاجات والإضرابات التي شهدتها فرنسا منذ بداية العام الحالي على خلفية توجه الحكومة نحو إصلاح نظام المعاشات التقاعدية، عدد من التساؤلات حول ماهية أنظمة التقاعد في أوروبا وعلاقاتها بارتفاع معدلات الشيخوخة وانخفاض معدل النمو السكاني؟ وما هي الدوافع المُحفزة للصدام بين الشعوب والحكومات بشأن الجهود الإصلاحية التي تقوم بها الدول لضمان استدامة أنظمة التقاعد الخاصة بها، بالتزامن مع معالجة عجز الميزانية؟ وبناءً على ذلك يحاول التقرير تسليط الضوء على بعض أنظمة التقاعد في أوروبا، في محاولة لفهم أبعاد الأزمة، والتداعيات المُحتملة لها.

خاصة وإنها ليست أزمة ناشئة ولكنها مُترسخة في أوروبا ومرتبطة بأنظمة الرفاه الاجتماعية التي تسعى الشعوب الأوروبية للحفاظ عليها، مقابل تغير ديمغرافي عميق تواجه القارة يجعل الحفاظ على تلك النظم أمر يزداد وطأة بمرور الوقت. وتأتي تلك الأزمة في سياق يشهد جملة من التحديات المتلاحقة التي تواجهها المجتمعات الأوروبية، والتي تزامنت مع استمرار تبعات جائحة “كوفيد-19″، وتفاقمت مع الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي كشفت عن المزيد من الأزمات الداخلية التي تعاني منها الشعوب الأوروبية، وفرضت على الحكومات جُملةً من التوجهات على الصعيد الداخلي والخارجي من المتوقع أن تكون لها تأثيرات ممتدة على المدى الطويل.

أولًا: تطور أنظمة التقاعد 

أصبحت أنظمة المعاشات التقاعدية أكثر تعقيدًا مع تطور وتعلم الدول المزيد عن هيكل وإدارة أنظمة التقاعد. فقد ركزت النظم الحكومية الأولى على برامج المساعدة لكبار السن. تبعهم التأمين الاجتماعي الذي ترعاه الحكومة، والذي تطور لأول مرة منذ حوالي قرن من الزمان، في العديد من الدول، مثل هولندا، والنرويج، والسويد. وفي تلك النظم بالبداية تم تقديم مزايا ثابتة فقط، مع إضافة مزايا مُتعلقة بالأرباح لاحقًا. وبمرور الوقت، زاد عدد الدول التي لديها مثل هذه الأنظمة، بالتوازي مع أهمية المعاشات التقاعدية المهنية التي يرعاها صاحب العمل بشكل كبير خلال النصف الثاني من هذا القرن؛ بخاصة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلا أن هذا النوع من نظم المعاشات التقاعدية يُعد الأكثر محدودية في باقية دول العالم. ولا يمنع وجود نوع من أنواع المعاشات التقاعدية وجود الأخر، بالعكس كل ما زاد تعقيد نظم التقاعد، ارتفع مستواها.

وعليه فقد أدى هذا التطور في نظم التقاعد لوجود مستويات مُتعددة لأنظمة التقاعد، المستوى الأولّي والأساسي منها هو ما يتصل بالحكومة وما تقدمه للمتقاعدين كشبكة حماية وأمان اجتماعي لهم، ويتم ربط هذا المستوى بعدد سنوات الإقامة للمواطنين وبخاصة لمنخفضي الدخل، ويتم تمويل هذا الشكل من أشكال أنظمة التقاعد من الإيرادات العامة للدولة، بغرض مكافحة الفقر لدى المتقاعدين. يليه مستوى يعتمد على الدفع الإلزامي للموظفين أول بأول، ويعمل كتأمين اجتماعي للعمال. يُلحق بهذا المستوى، خطة للتمويل تكن إلزامية في بعض الدول واختيارية في دول أخرى، وفيها يتم تمويل أنظمة تقاعد بمزايا أكبر من قبل الحكومة أو القطاع الخاص. وأخيرًا هناك برامج للتقاعد تطوعية، يختارها الفرد وتديرها جهات عدة سواء صناديق خاصة أو عن طريق الادخار.. إلخ.

ثانيًا: مُحفزات الأزمة في أوروبا

تعتبر نظم التقاعد الأوروبية من بين الأفضل، إن لم تكن بعض دولها الأفضل حول العالم؛ حيث يُمثل تمويل برامج التقاعد، ركن أساسي في نظم دولة الرفاه الاجتماعية التي تم تأسيسها ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا. إلا أن تلك النظم في الوقت الحالي ومستقبليًا تواجه أزمة عميقة، تتجلى أبرز أبعادها فيما يلي:

  • مصادر التمويل: إذ ارتبطت أزمة أنظمة المعاشات التقاعدية بالتمويل السخي يتلك النظم وزيادة قاعدة عدد المساهمين فيها. للتوضيح بمعنى أبسط، نجد أنه كل ما اتسعت قاعدة الضرائب التي تتحصل عليها الدول من العاملين بالدولة والمساهمين في النظام الاقتصادي، تكّون لدى الحكومة فائض تستطيع به تمويل نظم التقاعد بسخاء، نظرًا لأن نسبة المتقاعدين لعدد المساهمين أقل. إلا أنه مع بلوغ أنظمة التقاعد مرحلة النضج، وتزايد شيخوخة السكان، مقابل بدء قوة العمل في الانكماش، ظهرت وطأة تلك المشكلة، التي من المرجح تفاقهما كلما زاد عدد المتقاعدين، وانخفض النمو السكاني؛ والتي تعني انخفاض قوة العمل القادرة على تمويل تلك النظم. ويوضح الشكل التالي، كيف أن أوروبا القارة الوحيدة حتى الآن، التي يزداد فيها نسبة السكان فوق سن الـ 65، عن الأطفال تحت سن الـ 15 عامًا.
  • تغيرات هيكلية: توسعت الحكومات الأوروبية في تمويل نظم التقاعد، بغرض جذب المزيد من المؤيدين من الشرائح الأكبر سنًا، عن طريق استخدام الفوائض التي تولدت من الضرائب لزيادة سخاء نظام المعاشات التقاعدية، متصورين استمرارية نموذج النمو الخاص بهم. فنجد أنه في البداية، كان الهدف من أنظمة التقاعد في أوروبا هو تكملة دخل أولئك الذين فقدوا القدرة على العمل بسبب العمر. ومع تدفق الإيرادات، بدأت الأنظمة في تقديم معاشات تقاعدية لجميع من هم فوق سن معينة، بغض النظر عن القدرة على العمل. ثم ابتعدوا عن استكمال دخل كبار السن إلى توفير دخل كافٍ حتى لا يعود كبار السن بحاجة إلى العمل. حيث تضاعفت مستويات المزايا في الدول مثل هولندا بين عامي 1957 و1981، بحيث ارتفع الدخل التقاعدي من 30 في المائة من متوسط الأجر إلى 61 في المائة من متوسط الأجر. ولم يقتصر الدعم المتزايد على مستويات المزايا المقدمة للمتقاعدين فحسب، بل امتد أيضًا من خلال خفض سن التقاعد. فبين عامي 1970 و2009، انخفض متوسط سن التقاعد بمقدار ثماني سنوات في إسبانيا، وأربع سنوات في بلجيكا، وسنتين في السويد. وزاد متوسط الوقت الذي يقضيه في التقاعد، والذي يتأثر بكل من سن التقاعد ومتوسط العمر المتوقع، بمقدار 9.1 سنوات في إسبانيا، و8.3 سنوات في بلجيكا، و5.5 سنوات في السويد.

إلا أن هناك عاملان أساسيان عرضا هذا النموذج للخطر: الأول هو تحول ديموغرافي عميق. فقد أدى الانخفاض في معدلات الخصوبة في أوروبا إلى تغيير الهيكل العمري للسكان من هرم إلى شكل أشبه بالعمود. وفي الدول ذات الهجرة الكبيرة، والتي تميل إلى تفريغ السكان في سن العمل، بدأ الهيكل العمري يبدو أشبه بالهرم المقلوب، كدول شرق ووسط أوروبا الأقل نموًا عن دول أوربا الغربية. فقد أصبح الأوروبيون يعيشون ليبلغوا أعمارا أطول الآن؛ حيث يعيشون 78 عاما في المتوسط، ارتفاعا من 66 عاما في الخمسينات. وكذلك ارتفع عدد المسنين، ففي عام 1950، كان 12٪ فقط من سكان أوروبا في سن الخامسة والستين. إلا أن التوقعات تشير إلى أنه في عام 2050 ستصبح نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم الخامسة والستين أكثر من 36٪ من السكان. يتزامن مع ذلك انخفاض مستوى الخصوبة، فقد أصبح متوسط النمو السكاني أقل من المتوسط العالمي المطلوب والذي يصل لـ 2.1 طفل لكل امرأة، بكثير.

التغيير الثاني المهم كان داخل نظام المعاشات التقاعدية نفسه. في البداية، كان عدد قليل نسبيًا من العمال مساهمين – في بعض الدول عمال صناعيون، وفي بلدان أخرى خدم مدنيون. مع مرور الوقت، تم إضافة مجموعات أخرى إلى نظام التقاعد، بما في ذلك الموظفين بأجر من جميع الأنواع، والمزارعين، وعمال المنازل، والعاملين لحسابهم الخاص. ولكن بمجرد أن يساهم الجزء الأكبر من السكان في سن العمل، يصبح هرم المعاشات مقيدًا بهرم السكان، مع عدم وجود نمو في المساهمين ما لم يتوسع عدد السكان في سن العمل. وهو ما تم توضيحه في الشكل السابق. ويعمّق تلك المشكلة، تمتع أوروبا بأدنى معدلات مشاركة في القوى العاملة بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في أي منطقة في العالم. إذ يميل الأوروبيون إلى أن يكونوا أكثر صحة ولديهم دخل أعلى من الأشخاص في المناطق الأخرى، مما يشير إلى أن الانسحاب المبكر من القوى العاملة هو خيار يتخذه الأفراد والمجتمع؛ على نحو متزايد.

وعليه، يؤدي الجمع بين هذين الاتجاهين، وهو زيادة متوسط العمر المتوقع وتقلص عدد المساهمين، إلى إجهاد أنظمة المعاشات التقاعدية في المنطقة. حيث تشير التوقعات الخاصة بدولة افتراضية ولكن نموذجية في أوروبا الوسطى وفقًا لتقديرات البنك الدولي، إلى أن عجز نظام المعاشات التقاعدية يمكن أن يقترب من 7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2050، إذا ظل سن التقاعد وكرم التقاعد كما هي عليهما اليوم.

ثالثًا: نماذج أوروبية مُتباينة في إدارة المعاشات التقاعدية

تهدف الدراسة من عرض هذا الجانب، الأساليب الأوروبية المتباينة لإدارة أنظمة التقاعد، بدءا ممن يواجه الوضع الأصعب للنظم الأفضل، وكانت أبرز تلك النظم كالتالي:

  1. النموذج الإيطالي: احتواء هش

تأتي إيطاليا في المركز الثاني عالميًا من حيث نسبة أعداد كبار السن لإجمالي عدد السكان؛ إذ يبلغ عدد السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 65 وأكثر، ما يقرب من ربع سكان إيطاليا، بنسبة تصل لـ 23.2 في المائة، ومن المُتوقع أن ترتفع تلك النسبة إلى 35 في المائة بحلول عام 2050، وفقًا لتقديرات Istat. وقد كان متوسط العمر المُتوقع للإيطاليين في عام 2020 هو 81.5 عامًا، وهو من بين أعلى المعدلات في أوروبا. وقد تضاعف عدد المعمرين في إيطاليا ثلاث مرات خلال الخمسة عشر عامًا الماضية. ومن المُتوقع أن يؤدي شيخوخة السكان في إيطاليا وانخفاض معدل المواليد إلى خفض عدد السكان من 54.2 مليون شخص في عام 2050 إلى 47.7 مليون في عام 2070، وفقًا للمعهد الوطني الإيطالي للإحصاء.

وهو ما يعنى ارتفاع تكلفة فاتورة المعاشات التقاعدية عن وضعها المُتفاقم الحالي بالأساس، نظرًا لانخفاض أعداد المساهمين في تمويل تلك النظم. فنجد أنه لدى إيطاليا أكبر نسبة إنفاق على المعاشات في الاتحاد الأوروبي حاليًا، وتمثل المعاشات التقاعدية نسبة 16% من الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا، مقارنة مع 11% في بقية دول الاتحاد. وبين عامي 2012 و2017، بلغ الإنفاق ذروته عند 16.2 لمدة ثلاث سنوات. وبشكل عام، شكل الإنفاق الاجتماعي جزءًا كبيرًا من الإنفاق العام، ويمثل إجمالي الإنفاق الاجتماعي لإيطاليا بعضًا من أعلى المعدلات بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

ويُعد نظام التقاعد الإيطالي من النظم الراسخة تاريخيًا فهو موجود منذ عام 1919. ويتألف نظام المعاشات في إيطاليا من ثلاثة أركان: معاش الدولة، والمعاشات المهنية، والمعاشات الخاصة. وسن التقاعد الحالي في إيطاليا هو 67، وقد تم رفعه على مراحل من 60 عامًا للرجال، و55 عامًا للنساء. وللتأهل للحصول على معاش الدولة (pensione di vecchiaia)، يجب أن يكون المواطن قد قدم ما لا يقل عن 20 عامًا من اشتراكات الضمان الاجتماعي. ومن الممكن التقاعد مبكرًا والحصول على معاش تقاعدي حكومي طالما أن الموظف قد قدم مساهمات 41 عامًا و10 أشهر على الأقل للنساء، و42 عامًا و10 أشهر للرجال.

ويتم تمويل معاش الدولة الإيطالي من مساهمات الضمان الاجتماعي من العمال وأرباب العمل. وتبلغ مساهمات الضمان الاجتماعي في إيطاليا حوالي 40٪ من أرباح الموظف. يضع الموظف حوالي 10٪، وصاحب العمل 30٪. وفى عام 2023، قد بلغ الحد الأدنى للمعاش التقاعدي الشهري للأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 75 عامًا 600 يورو. وقد يتمكن العمال غير المؤهلين للحصول على معاش تقاعدي كامل؛ من المطالبة بمخصصات المساعدة الاجتماعية للشيخوخة (assegno sociale). وهذا متاح للأشخاص الذين لا تقل أعمارهم عن 67 عامًا والذين عاشوا في إيطاليا لمدة لا تقل عن 10 سنوات، ولا يتمتعوا بأرباح أو معاشات مهنية أو دخول قادرة على توفير الحد الأدنى للمعاش التقاعدي الشهري المتعارف عليه بالدولة.

ويتمتع النموذج الإيطالي بعدة خصائص، تزيد من تفاقم أزمة التقاعد، بخلاف الأسباب العامة التي تم توضيحها في موضع سابق بالدراسة. أولهم، أن إيطاليا تملك أدنى معدل مشاركة نسائية في العمل في أوروبا، وفقًا لـ “ماسيميليانو فاليري” المدير العام للإحصاء في إيطاليا. إذ تبلغ حاليًا حوالي 57٪ … بينما في ألمانيا تبلغ حوالي 75٪ وفي السويد أعلى من 81٪. وقد أضاف “فاليري” “إن عدم القدرة على العمل يجعل النساء أقل أمانًا من الناحية المالية ولا يشجعهن على تكوين أسرة”. يزيد من تلك المشكلة، ما تتعرض له الأمهات العاملات من تعسف، يضعف مشاركتها. فوفقًا للبيانات التي قدمتها منظمة Save the Children غير الحكومية، هناك معدل مرتفع من الاستقالات الطوعية والفصل التعسفي بين الأمهات في إيطاليا. وفي حين يؤكد القانون أنه لا يمكن فصل العاملات من بداية الحمل حتى نهاية إجازة الأمومة، فلا تزال العديد من النساء يواجهن الفصل وخفض الرتبة والتمييز أثناء الحمل وبعده.. حيث تظهر دراسات أخرى أن النساء الإيطاليات يدفعن أعلى عقوبة في أوروبا من حيث دخل التقاعد بسبب الأمومة. وثانيهم، إن إيطاليا تعاني من هجرة الأدمغة التي تؤثر على البلاد لسنوات. مع انخفاض نسبة المهاجرين التي تستقبلهم البلاد، لوجود سياسات هوياتية واقتصادية قاسية، مع نمو منخفض غير مشجع على هجرة العقول العكسية لإيطاليا.

وقد حاولت الحكومة التعامل مع الأزمة، وإن لم تعالج تلك الحلول الأزمة حتى الآن، ولكن حدت من تفاقمها لحد ما. فقد أقرت إيطاليا ربط سن التقاعد بمتوسط العمر المتوقع. وعليه سيتغير سن التقاعد تلقائيًا بناءً على متوسط العمر المتوقع. وستساهم تلك الألية في ارتفاع سن التقاعد للمرأة بحيث تكون مقاربة للرجال، بعكس ما كانت عليه سابقًا. ولوطأة تلك الأزمة، فقد أصبح التدهور الديموغرافي للبلاد العنصر الأول في البرنامج السياسي لحزب “إخوان إيطاليا”، ولهذا أنشأت الحكومة اليمينية بقيادة الحزب، وزارة الأسرة ومعدل المواليد كوسيلة لمعالجة هذه المشكلة. وكان من ضمن الحلول الأولى التي تم تنفيذها بغرض تشجيع المواطنين على الإنجاب، اعتبارًا من 1 يناير 2022، أصبح يمكن للعائلات الإيطالية الحصول بدل الطفل الفردي والشامل، ويرتبط حجم البدل بسن الطفل، باستثناء الأطفال المعوقين الذين لا يوجد حد لسنهم. وتتراوح المساهمة من 175 يورو إلى 50 يورو شهريًا لكل طفل أقل من 18 عامًا، بينما تتراوح المساهمة من 18 إلى 21 عامًا على مقياس من 85 يورو إلى 25 يورو. ولكن يظل نجاح مثل تلك الحلول محدودًا مقارنة بعمق الأزمة، التي تحتاج الكثير من الحلول على مستويات عدة، لحلها.

  1. النموذج الفرنسي: صدام مُتجدد

تشهد فرنسا عدد من التحديات المُتلاحقة بعضها نتاج للسياسات الإصلاحية التي تقوم بها الحكومة الفرنسية، والبعض الأخر بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي فاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المُتردية، وجعلتها ضرورة مُلحة على أجندة صانع القرار الفرنسي، ولابد من التعاطي معها في مقدمتها أزمة الطاقة، وارتفاع تكاليف المعيشة التي تسببت في خروج العديد من المواطنين احتجاجًا على هذه الأوضاع، وخاصة منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، وعدم تكمن حزبه من تحقيق الأغلبية في البرلمان، وهو ما أفقده القدرة على تنفيذ مشروعه الإصلاحي بدون عراقيل من قبل قوى المعارضة سواء كانت من اليسار واليسار المتشدد الذي استطاع من التحالف منذ الانتخابات التشريعية التي عقدت في يونيو الماضي، وقوى اليمين واليمين المتطرف اللذين لديهم تصورات مُغايرة لتوجهات الحزب الحاكم بشأن إدارة الأزمات التي تواجهها البلاد.

فضلًا عن اعتراض المواطنين على النهج الإصلاحي للرئيس وهو ما تمثل أيضًا في خطة الحكومة الفرنسية الخاصة برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 بحلول عام 2030 تدريجيًا من خلال زيادة سنوية بمقدار ثلاثة أشهر، التي تم الإعلان عنها في العاشر من يناير 2023، بعد أن كان من المُقرر أن تصدر في منتصف شهر ديسمبر 2022، حتى تتمكن الحكومة من إجراء مشاورات ونقاشات مع القوى السياسية والنقابية بشأن خطتها المُتعلقة برفع سن التقاعد. كما تم عرضها للمناقشة في الحادي والعشرين من يناير على الحكومة، على أن يتم عرضها على البرلمان بغرفتيه لمناقشتها في بداية شهر فبراير الجاري. في هذا السياق؛ اعترضت القوى السياسية والنقابية على هذه الخطوة، وحذرت من تداعياتها، وهو ما تجسد في توافق النقابات الرئيسية في البلاد لأول مرة منذ ما يقرب من عقد بشأن رفض بنود هذه الخطة والمُطالبة بالخروج في إضرابات للضغط على الحكومة للتراجع عن هذا القرار.

واستمرت الاحتجاجات أيضًا في الحادي عشر من فبراير، في جولة رابعة شارك فيها ما يقرب من 960 ألف شخص، وفقًا لما أوضحته وزارة الداخلية، وحوالي 2.5 مليون شخص بحسب تقديرات النقابات، في محاولة للضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها. وقد شهدت هذه الإضرابات مشاركة بعض الفئات لأول مرة التي لم تتمكن من المشاركة سابقًا مثل مراقبي الحركة الجوية، مما أدى إلى ألغاء ما يقرب من ثلث الرحلات الجوية في مطار باري-أورلي.

في سياق خروج المظاهرات الحاشدة، التي ضمت ما يقرب من 1.28 مليون شخص، وفقًا لوزارة الداخلية، وحوالي 3.5 مليونًا بحسب الاتحاد العمالي العام، في الثامن من مارس 2023، تمكن مجلس الشيوخ الفرنسي من إقرار النص الخاص برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، على أن يتم رفعه بمعدل ثلاثة أشهر سنويًا بدءً من سبتمبر 2023 وحتى عام 2023، وهو ما سيزيد سنوات العمل إلى نحو 43 عامًا، الذي يمثل جزء منة مشروع تعديل نظام التقاعد، في الثامن من مارس 2023، بعد أن صوت 201 عضو مقابل 115 عضو لصالح القرار. وقد سبق ذلك؛ أن تم إرسال القرار إلى مجلس الشيوخ لمناقشته في الثامن عشر من فبراير بعد أن تعثرت المناقشات الجمعية الوطنية لما يقرب من تسع أيام دون جدوى، بسبب المعارضة التي تواجه داخل البرلمان. وبالرغم من ذلك أصرت الحكومة على المضي قدمًا لتمرير القانون مُعتمدة على أحد مواد الدستور التي تسمح لها بتمرير القانون بدون أغلبية برلمانية؛ وبالفعل قامت الحكومة في السادس عشر من مارس وسط الاحتجاجات باستخدام المادة رقم (49) فقرة رقم (3) من الدستور، لتمرير التعديلات الخاصة بنظام التقاعد دون تصويت عليها، وذلك بالتزامن مع التصديق عليه في مجلس الشيوخ بأغلبية 193 عضوًا مقابل رفض 114 عضوًا، وامتناع 38 عضوًا عن التصويت.

حملت هذه الإضرابات والاحتجاجات عدد من الرسائل وهي: إنها لم تكن المرة الأول التي يعترض عليها الفرنسيين على إصلاح نظام التقاعد، فقد سبق وأن قام الرئيس “نيكولا ساركوزي” في عام 2010 برفع سن التقاعد إلى 62 عامًا -بعد أن كان 60 عامًا منذ عام 1982 نتيجة قيام الرئيس “فرانسوا ميتران” بخفضه من 65 عامًا إلى 60 عامًا- وسط معارضة شديدة. بجانب تنامي قدرة النقابات على حشد وتعبئة العديد من المُحتجين في عدد من القطاعات الحيوية مثل المُعلمين والعاملين في مترو الأنفاق، والمطارات بجانب العديد من الشباب والطلبة، ففي أول إضراب الذي حدث في السابع عشر من يناير تجاوز عدد المُحتجين المليون مُحتج. كما تزايد العدد أيضًا في الإضراب الثاني الذي تم في الحادي والثلاثين من يناير 2023، وتبرر النقابات رفضها لزيادة عدد سنوات التقاعد بإنه يكون أن يتم تعاطيها بشكل مختلف من خلال فرض ضرائب على الأثرياء، ومُطالبة أصحاب العمل على زيادة مساهاتهم المالية.

علاوة على استمرار المواطنين على رفضتهم تغير نظام التقاعد لكونه جزء من نظام رفاهيتهم الاجتماعية، بالإضافة إلى الاعتراض على زيادة سنوات العمل التي من المُقرر زياداتها إلى نحو 43 سنة لكي يتمكنوا من الحصول على المعاش التقاعدي كاملة الذي زاد إلى 1200 يورو بعد أن كان الرئيس “ماكرون” قد نوه أنه سيكون 1100 إبان حملته الانتخابية.

في المقابل؛ من الواضح أن الحكومة مُصرة على تغير النظام القائم تدريجيًا، وخاصة فيما يتعلق بسنوات العمل وليس في طبيعة النظام القائم على المساهمات المالية، نظرًا إلى أن الوضع الحالي على المدى الطويل سيكلف الحكومة المزيد من الأموال، وقد يؤدي إلى انهيار النظام نتيجة استدانة الحكومة لسد احتياجات العمال، علاوة على زيادة متوسط الأعمار مقابل انخفاض مُحتمل في معدلات المواليد، كما أن رفع سن التقاعد سيوفر للحكومة ما يقرب من 19 مليار دولار إضافية بحلول عام 2027 وفقًا لتقديرات وزارة العمل. ومن ناحية أخرى إذا لم تتمكن الحكومة من القيام بإجراء تعديلات في هذا النظام ستواجه عجزًا يُقدر بأكثر من 17 مليار يورو أي حوالي 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2025. لذلك يرفض الرئيس “ماكرون” الآن التراجع نتيجة محاولات الضغط التي تقوم بها قوى المعارضة، بالرغم من تنامي أعمال العنف والمظاهرات، قائلًا: “سنواجه أعمال العنف التي اندلعت خلال المظاهرات بكل حزم”. “لا مكان للعنف في الديمقراطية”.

بجانب ذلك يُعد هذا المسار جزءًا لا يتجزأ عن محاولة الرئيس “ماكرون” للوفاء بوعوده الانتخابية، ونهجه الإصلاحي منذ توليه الحكم للمرة الأولى في عام 2017، الذي تجلى في عام 2019 وسعيه لتعديل هذا النظام في عام 2019؛ حيث المزيد من الإضرابات التي امتدت إلى عدة شهور على غرار ما حدث في عام 1995، وبالرغم من ذلك استمرت الحكومة في نهجها وكان المُقرر استكمال الجهود الرامية لتعديل النظام، ولكن تفشي جائحة “كوفيد-19” في بداية عام 2020 ساهم في تراجع الحكومة والتركيز على مجابهة الجائحة.

وفي هذا السياق؛ ما زالت الاحتجاجات قائمة سواء داخل البرلمان الفرنسي أو في الشارع في محاولة للضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها، الأمر الذي قد يحدث في حالة عدم موافقة المجلس الدستوري على القانون، بعد تصويت البرلمان، أو من خلال سحب الثقة من الحكومة وهو ما تم مرتين من قبل قوى الوسط التي حصلت على دعم من بعض أحزاب اليسار، ولكنهم لم يتمكنوا من سحب الثقة التي تتطلب تصويت 287 صوتًا؛ حيث صوت 278 عضوًا. علاوة على ذلك قدم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف اقتراح بجب الثقة، ولكنهم لم يستطيعوا أن تحقيق هذا الأمر. وهنا يمكن توضيح إنه في حالة تمكنت قوى المعارضة داخل البرلمان من سحب الثقة من الحكومة سيكون على أمام الرئيس “ماكرون” خيارين إما أن يقوم بتشكيل حكومة جديدة أو يدعو لإجراء انتخابات تشريعية جديدة بعد أن يحل الجمعية الوطنية.

  1. النموذج الألماني: تحديات هيكلية

في نهاية عام 2021، كان هناك في ألمانيا شخص واحد فقط من بين كل عشرة أشخاص يتراوح عمره بين 15 و24 عامًا، أي ما يعادل 8.3 مليون شخص. هذا بالمقارنة مع أكثر من 18 مليون شخص تزيد أعمارهم عن 65 عامًا. وعليه، فأن ألمانيا تعيش في خضم تغيير ديموغرافي. فوفقًا لحسابات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يوجد بالفعل 37 متقاعدًا مقابل لكل 100 مشترك في تمويل النظم التقاعدية في ألمانيا. وسوف يرتفع هذا الرقم بشكل مطرد إلى ما يقدر بنحو 58 في عام 2050.

ويعتبر نظام المعاشات التقاعدية في ألمانيا نقطة فخر وطني، ويرجع ذلك إلى أنه قد تم تقديمه باعتباره الأول من نوعه في العالم في عام 1889 في عهد “أوتو فون بسمارك”. ويشارك غالبية الألمان بهذا النظام الذي يتم ادارته من قبل صندوق التقاعد الحكومي، باستثناء موظفي الخدمة المدنية والعاملين لحسابهم الخاص – والذين يمكن أن يشاركوا طوعًا في الصندوق. ويدفع المشاركون حاليًا بما يزيد قليلاً عن 9٪ من دخلهم الشهري في الصندوق. هذا الرقم يقابله صاحب العمل.

ولا يمكن المطالبة بالمعاش التقاعدي إلا إذا كان الشخص قد قدم اشتراكات تأمين معاشات تقاعدية لمدة خمس سنوات على الأقل. ومنذ يناير 2021، أصبح هناك ما يسمى بـ “المعاش التقاعدي الأساسي” (Grundrente)  يمكن للمتقاعد الحصول عليه عندما يكون المعاش التقاعدي قليل جداً. وذلك بعد استيفاء الشروط التالية: الوصول إلى الحد الأدنى لسن معاش التقاعد القياسي- وقد أقرت ألمانيا منذ عامين رفع سن التقاعد تدريجيا 65 إلى 67 لمن ولدوا بعد عام 1967، واعتباراً من عام 2024، سيتم رفع سن التقاعد شهرين كل عام حتى يصل إلى 67 عام. وقد تم دفع تأمينات المعاش التقاعدي لمدة 33 عاماً على الأقل. مع حساب فترات الاعتناء بالأطفال أو أفراد العائلة. ولم يكسب المتقاعد في المتوسط سوى القليل خلال سنوات العمل. وبهذا يتم الحصول على المعاش الأساسي بالإضافة إلى المعاش العادي. تعتمد قيمة المعاش الأساسي على الدخل، وقيمة المساهمات السابقة في تأمين المعاش التقاعدي ومدتها.

ولكن هذا النظام يواجه في العقود الأخيرة تحديات هيكلية ستزداد وطأتها بمرور الوقت، وهي: انخفاض معدل المواليد على مدى العقود الحالية والقادمة بما يعني قلة العمال الذين يدفعون في النظام، ويحذر الخبراء من أنه حتى مع الهجرة، يمكن أن تتضاءل القوى العاملة في ألمانيا من 2 إلى 10 ملايين بحلول عام 2060، وفقًا لمكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني. بالإضافة إلى ارتفاع متوسط ​​العمر المتوقع بما يعني دفع المزيد من الأموال من قبل الدولة للمتقاعدين. ونظرًا أن النوع من النظام لا يعمل إلا على افتراض وجود عدد كافٍ من العاملين الذين يدفعون في صندوق التقاعد الحكومي ليكونوا قادرين على تغطية مدفوعات المعاشات التقاعدية الحالية، لهذا فمن المتوقع أن يتم تمديد سن التقاعد لتغطية العجز في الإيرادات.

ولم يكن اقتراح رفع السن هو الوحيد، في قائمة اقتراحات الحكومة. فقد سعت الأجهزة الحكومية لتقديم حلول مختلفة، ولكنها قوبل بعضها بقدر كبير من الغضب من قبل غالبية الألمان. ولهذا الغضب ثمن كبير في الداخل نظرًا لأن الألمان الأكبر سنًا قوة لا يستهان بها. إذ يشكل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا أكثر من خُمسة الناخبين، ومن المتوقع أن يكون الرقم أكثر من واحد من كل ثلاثة بحلول عام 2060. وهو ما انعكس على أولويات الناخب الألماني، فقد وضع استطلاع أجرته مؤسسة “برتلسمان” قضية المعاشات التقاعدية في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية بالنسبة للناخبين، بعد البيئة والهجرة. وكان أبرز تلك الاقتراحات، هو اقتراح لجنة المعاشات التقاعدية في العام الماضي، تخفيض متوسط المعاشات التقاعدية إلى الدخل من 48% إلى 44% بعد عام 2025، بالإضافة للدعوة بأن يصل ل 70 عامًا.

وكان هناك اقتراحات مختلفة من الأحزاب الألمانية لتخفيض العجز المنتظر في الصندوق التقاعدي الحكومي، سواء كان ذلك بزيادة الحد الأدنى للأجور للساعة بحيث تزيد مساهمة الأفراد الحقيقة في صناديق التقاعد، او مقترحات بضم موظفي الخدمة المدنية للصندوق، أو تنويع عمل الصندوق، بحيث يشمل الاستثمار في الأسهم لتوفير إيرادات أكبر، إلا أن تلك الحلول جميعها لا تتعامل مع أصل الأزمة وهو انخفاض نسبة المساهمين في تمويل الصندوق الحكومي للتقاعد، مقابل زيادة عدد المستفيدين من المتقاعدين.

وقد سعت الحكومة الألمانية، نظرًا لأن بلادها هي الاقتصاد الأكبر في أوروبا، في استخدام الهجرة بديلًا عن انخفاض عدد سكانها. ونجحت في ذلك جزئيًا. فوفقا لأحدث مسح لمؤسسة “يوروستات”، جهاز الإحصاء الرسمي التابع للاتحاد الأوروبي، تستمر مجتمعات نحو 11 دولة في أوروبا في النمو حتى عام 2100 بفضل الهجرة، على رأسها السويد وفرنسا وهولندا والدنمارك وألمانيا، رغم الانكماش العام الحادث لسكان أوروبا خلال هذه الفترة، والمتوقع أن يهوى إلى 416 مليونا وذلك، مقارنة بـ 447 مليونا في الوقت الراهن. ومع ذلك، فالإحصائيات تتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الألماني حاجز الـ 7 ملايين وظيفة شاغرة بحلول عام 2035. لا تستطيع الهجرة وحدها تغطية هذا العجز، وبخاصة في ظل ظهور مشكلة أخرى تواجه البلاد وهي حدوث هجرة عكسية. فبالرغم من أنه ببدايات العام الحالي، احتفلت البلاد بمعدلات هجرة قياسية إليها، بلغت 1,1 مليون نسمة على مدار العام الماضي وحده. إلا أنه في المقابل، خرج منها نحو 750 ألف مهاجر كانوا قد وفدوا إليها في الأعوام السابقة. وهو ما دفع المسئولين إلى الدعوة والتشديد على ضرورة تغيير “ثقافة الترحيب” في البلاد. وقد تم ارجاع السبب الرئيسي وراء فرار هؤلاء، في أغلب الأحيان، لفشلهم في معادلة شهاداتهم. ومن ثم، الاضطرار لامتهان وظائف لا تتناسب وحجم مؤهلاتهم، ليأخذوا القرار الصعب بالرحيل، تاركين السوق الألماني يعاني أكثر من مليوني وظيفة شاغرة. وعليه، فإن الحكومة تواجه أزمة مركبة يتوجب التعامل معها، لتجنب انكماش الاقتصاد الألماني مستقبلًا، سواء من ناحية انخفاض عدد المواليد وارتفاع سن السكان، ومن ناحية أخرى عدم وجود هجرة مؤهلة كافية لتغطية هذا العجز.

  1. النموذج الدنماركي: إصلاح مُتوازن

تعد دولة الدنمارك من أفضل الدول الأوروبية التي لديها نظام معاشات تقاعدية؛ حيث تحتل المركز الثالث في مؤشر المعاشات التقاعدية العالمي لعام 2022. ويرجع ذلك لكونها من الدول التي تمتلك نظام تقاعد مُتكامل، ورعاية صحية شاملة، وتأمين اجتماعي، بالإضافة إلى تقديم جُملةً من الامتيازات التكميلية مثل دعم الوقود، وبدلات الإيجار، بالإضافة إلى المعاش الأساسي الذي تموله الدولة، علاوة على عوائد صناديق التقاعد التي تعتمد عليها البلاد. لذا فإن كافة المتقاعدين ذوي الدخل المرتفع والمنخفض لديهم مستوى تقاعدي مناسب بالرغم من إن لديها أعلى نسب ضرائب على الدخل.

بالإضافة إلى ذلك تنهج الدنمارك سياسة إصلاحية متوافقة مع التغيرات التي يشهدها المجتمع خاصة فيما يتعلق بمعدل متوسط الأعمار، مع تحفيز الشعب على تقبل هذه السياسة لكونها قائمة على أسس موضوعية، ويتم تنفيذها بشكل تدريجي، وفقًا لمعايير مرنة، بجانب تقديم بدلات تكميلية لتحفيز المواطنين. والجدير بالذكر؛ يحق لمن يعيش أو يعمل في الدنمارك الحصول على معاش تقاعدي؛ إذ يتم الحصول على قيمة المعاش كاملةً شرط الإقامة في البلاد لمدة أربع عقود، وفي حالة عدم التمكن من تحقيق هذا الشرط يتم الحصول على ما يعرف باسم “المعاش الجزئي” الذي يتم تحديد قيمته وفقًا لمدة إقامة الشخص بدءًا من عمر 15 عامًا وحتى سن التقاعد الذي يتراوح حاليًا ما بين 66 و68 عامًا.

وعليه؛ يرتكز نظام التقاعد في الدنمارك على المعاش العام الذي تموله الدولة من ميزانيتها، ويشمل كافة المواطنين والأشخاص الذين لديهم إقامة قانونية في البلاد كحد أدنى ثلاث سنوات على الأقل بين سن 15 وسن التقاعد القانوني، مع إمكانية الحصول عليه بشكل كامل في حالة الإقامة لمدة 40 عامًا. علاوة على المعاشات المهنية التي تتضمن التأمين ضد المخاطر المُحتملة التي يمكن أن يتعرض لها الأشخاص، حيث يوفر المعاش –على سبيل المثال- لذوي المتوفي المؤمن عليه معاش، أو في حالة تعرضه لعجز قبل التقاعد. ويتم تمويله من قبل صاحب العمل والموظف بنسب ينظمها القانون وفقًا لعدد ساعات العمل.

ويأتي هذا التوجه كرغبة في الحفاظ على نظام تقاعدي أكثر استدامة، خاصة مع ارتفاع متوسط أعمار الأشخاص فوق 60 عامًا، بجانب معالجة عجز الميزانية، الأمر الذي حفز الدنمارك لإدخال عدد من التعديلات على النظام يتم من خلالها المواءمة بين الأهداف السابقة، والاستمرار في ضمان نظام رفاه اجتماعي، وهو ما تجلى في الإصلاحات التي تبنتها الدنمارك منذ عام 2006، فعلى سبيل المثال تعد المرحلة العملية الأولى التي تم خلالها رفع سن التقاعد من 65 إلى 67 بحلول عام 2027، وأن يتم رفع سن التقاعد المبكر الطوعي خلال الفترة من 2019-2022 من 60 إلى 62. على أن يتم ربط سن التقاعد بالتطورات الخاصة بمعدل متوسط الأعمار المتوقعة لمن هم في سن 60 عامًا. وبداية من عام 2015 سيتم رفع سن التقاعد بحد أقصى عام واحد كل خمس سنوات، لمدة 15 عامًا، على أن يكون أول زيارة بحلول عام 2023على أن يكون سن التقاعد 68 بدلًا من 67، وأن يكون 69 بقدوم عام 2035، ويصل إلى 70 بحلول عام 2040.

  1. النموذج الأيسلندي؛ نهج مُستدام

وبالتطرق إلى نموذج مُغاير استطاع أن يتغلب على التحديات المُتمثلة في تنامي الفجوات الناجمة عن ارتفاع معدلات متوسط الأعمار؛ حيث احتلت أيسلندا المركز الأول في مؤشر معاشات التقاعد العالمي ” Mercer CFA Institute Global Pension Index ” لعام 2022، باعتباره النموذج الأفضل؛ حيث

يرجع سبب استدامة نظام المعاشات الأيسلندي بالرغم من أن سن التقاعد مرتفع مُقارنة بعدد من الدول الأوروبية؛ إذ يبلغ 67 عامًا للقطاع الخاص، وللقطاع العام 65 عامًا، إلا إنه يوجد به أنماط مختلفة من المعاشات التي تتمثل في المعاش العام الذي يتم تمويله من الضرائب، ويساهم بنسبة 15% من متوسط الدخل كمخصصات أساسية، وبالنسبة للأفراد الذين ليس لهم دخل إضافي للشيخوخة، يحصلون على معاش إضافي لهم؛ إذ يمكن أن تتزايد نسبة مخصصات المعاشات الأساسية والتكميلية بنحو 70% من متوسط الدخل. هذا بجانب المعاشات المهنية التي يتم تمويلها من صاحب العمل والموظف بنسبة 11% كحد أدنى، ويتم تقسيمها بنحو 4% يدفعهم الموظف، فيما يدفع صاحب العمل 7%.  كما يوجد أيضًا ما يعرف باسم المعاشات الخاصة الطوعية.

بالإضافة إلى وجود مصادر تمويل مستدامة يُمكن الاعتماد عليها مثل صناديق التقاعد؛ حيث قُدرت أصول صناديق المعاشات التقاعدية بأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي بحلول شهر أكتوبر 2021، وارتفعت بنسبة 12٪ بشكل إجمالي منذ بداية العام حتى نوفمبر من نفس العام. كما إنه يتم استثمار هذه الأصول في صناديق استثمار أجنبية لزيادة عائداتها، فعلى سبيل المثال زادت هذه الأصول بنحو 17% وفقًا للبنك المركزي الأيسلندي منذ نهاية عام 2020، وحتى نوفمبر 2021، بجانب قيام صناديق التقاعد بشراء عملات أجنبية وهو ما تمثل خلال الثلثين الأوليين من عام 2021، بقيمة 46 مليار “كرونا”.

ختامًا: كشفت النماذج السابقة عن عدد من الإشكاليات المُلحة التي من المُرجح أن تحتل أولوية على أجندة صانع القرار الأوروبي خلال الآونة المُقبلة؛ التي تتجلى في تراجع معدلات الخصوبة مقابل ارتفاع متوسط أعمار السكان، بجانب ارتفاع عدد المتقاعدين مقابل تراجع نسب المساهمين في أنظمة المعاشات التقاعدية، وهو ما سيفرض على كافة الدول الأوروبية التي أصبحت تعاني من تنامي معدلات الشيخوخة أن تتبني عدد من السياسات الإصلاحية التي يمكن من خلالها أن تحافظ على استدامة أنظمة التقاعد والحفاظ عليها من الانهيار نتيجة تعرضها للاستدانة إذا لم تتمكن من تأمين مصادر تمويل مُتجددة قادرة على تغطية كافة المواطنين، وذلك بالتوازي مع ضمان استقرار دولة الرفاه الاجتماعية التي تشهد تراجعًا كبيرًا، على غرار الدول أوروبا الشمالية التي ربطت ما بين رفع سن التقاعد بشكل تدريجي مع ارتفاع متوسط الأعمار.

هذا بجانب إمكانية إعادة النظر في كيفية إدارة ملف اللجوء والهجرة بما يتوافق مع مصالح الدول الأوروبية، فهناك خيار أما الحكومات الأوروبية أن تُعيد فتح باب الهجرة واللجوء ولكن بشكل مُنظم وفقًا لمقتضيات العمل، لتعويض النقص في الأيدي العاملة، وضمان تدفق مساهمات العاملين لدعم أنظمة التقاعد، وهنا سيكون أمام هذا الخيار مجموعة من المخاطر المُحتملة تتجسد أبرزها في إن هذا الخيار قد يُعيد تكرار سيناريو عام 2015 الذي شهد تنامي موجات الهجرة إلى أوروبا، وساهم في تباين المواقف بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية إدارتها، وعزز من صعود قوى اليمين المتطرف، والقوى الشعوبية. علاوة على ذلك أي مهاجر أو لاجئ سيكون محل ترحيب من قبل الحكومات الأوروبية هل القادم من مناطق الصراعات والحروب من الأقاليم المجاورة، أو المهاجرين واللاجئين القادمين من أوكرانيا؟

وأخيرًا؛ قد يكون من المناسب للدول التي تعاني من تحديات في أنظمة التقاعد أن تتبني نهج يرتكز على “الاحتواء المزدوج” بمعنى أن تقوم الدول باستكمال مسارها الإصلاحي من خلال رفع سن التقاعد الذي أضحى ضروري لكافة الدول الأوروبية، مقابل الحد من الصدام مع الشعوب والنقابات العمالية التي وظفت المشهد الحالي، وأعادت توحيد صفوفها كقوى معارضة للحكومات بجانب القوى السياسية الأخرى، عبر إجراء حوار شامل يهدف لتقديم مقاربة مُتكاملة تستهدف تهدئة الأوضاع الحالية، بجانب تقديم حوافز تكميلية تعزز من المستوى الاجتماعي للمواطنين، وخاصة إنه تراجع خلال السنوات الماضية نتيجة التحديات الاقتصادية غير المسبوقة التي أثرت على قدراتهم الشرائية، مع إمكانية تنويع مصادر تمويل أنظمة التقاعد أما من خلال إنشاء صناديق استثمار خاصة بها على غرار الدول أوروبا الشمالية، أو زيادة الضرائب على الأثرياء. وذلك بهدف الحد من تنامي الاضطرابات التي تواجهها الدول الأوروبية وفي مقدمتهم فرنسا.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33520/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M