مِن الحوار إلى الانفجار: مستقبل الوضع السياسي في مالي في ضوء القطيعة بين المجلس العسكري ومعارضيه

  • في سياق تزايُد الصدام بين السلطات العسكرية في مالي والقوى المدنية والحزبية التي حُلَّ العديد منها، وجُمِّدت أنشطة بقيتها، قاطعت جُل الأحزاب والتنظيمات السياسية الأهلية جلسات الحوار الداخلي الذي بدأ في 13 أبريل 2024. 
  • اعتبرت التنظيمات المسلحة في شمال مالي، الحوار الوطني، الذي ترعاه السلطات العسكرية في البلاد “غير شرعي”، وأبدت تمسُّكها باتفاقية الجزائر التي أعلن المجلس العسكري، في نهاية ديسمبر 2023، الانسحاب منها.
  • مع النكوص عن التعهدات السابقة المتعلقة بتنظيم انتخابات ديمقراطية تعددية بعد استكمال المرحلة الانتقالية في مارس الماضي، تبدو آفاق الاحتقان والانفجار السياسي قوية في مالي، وقد تجرّ البلاد إلى أفق مسدود.

 

بدأ في مالي يوم 13 أبريل 2024 الحوار الوطني الشامل على المستوى الجهوي من أجل تعزيز الوحدة الوطنية والأمن الداخلي في البلاد، بمقاطعة جُل الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة في الشمال. وقد بدأ الحوار في سياق يتسم بالقطيعة المتزايدة بين المجلس العسكري الحاكم والقوى السياسية والمدنية إثر القرار الحكومي الصادر يوم 10 أبريل بتجميد نشاط الأحزاب السياسية، وحظر تغطية أنشطتها إعلامياً، مع إلغاء الموعد السابق بالعودة للحياة الدستورية بعد 26 مارس 2024.

 

المشروع السياسي للمجلس العسكري الحاكم 

مع أن “المجلس الوطني من أجل خلاص الشعب” قد تعهَّد بتنظيم انتخابات ديمقراطية حرة بعد 18 شهراً من وصوله للحكم، إلا أنه عدل عن هذا التوجه لاحقاً. وفي يونيو 2023 نظمت السلطات العسكرية استفتاء شعبياً على الدستور الجديد للدولة، يتضمن على الخصوص مواد تُضاعف صلاحيات رئيس الجمهورية في كل الميادين، وتُجرِّم الانقلابات العسكرية اللاحقة، بما فُهم منه عزم الرئيس الحالي العقيد عاصمي كويتا البقاء في السلطة من طريق الترشُّح للانتخابات المقبلة.

 

وكان من المتوقع أن يبدأ العمل بالدستور الجديد في مطلع سنة 2024، من خلال تنظيم انتخابات رئاسية في فبراير من نفس السنة، قبل أن يتم التراجع عن هذا الخيار. ويمكن تفسير عوامل تعثر مسار الانتقال الديمقراطي في مالي بعناصر ثلاثة أساسية:

 

1) عودة الحرب إلى مناطق الشمال بعد تنصل المجلس العسكري الحاكم من اتفاقية الجزائر الموقعة سنة 2015 مع الجماعات المسلحة التي كانت تسيطر على عاصمة أزواد الكبرى كيدال. ففي خطاب رئيس المجلس العسكري العقيد أسيمي غويتا، بتاريخ 31 ديسمبر 2023، أعلن الانسحاب من اتفاقية الجزائر، داعياً إلى حوار داخلي وطني يشمل مختلف مكونات الساحة السياسية دون تدخل خارجي. واعتبرت الفصائل المسلحة هذا التراجع بمثابة إعلان حرب، وقررت مواجهة النظام الحاكم في باماكو، الذي اعتمد على قوات فاغنر الروسية في السيطرة على مركز كيدال في 14 نوفمبر 2023.

 

عادت الحرب إلى مناطق شمال مالي بعد تنصل المجلس العسكري الحاكم من اتفاقية الجزائر الموقعة عام 2015 (Shutterstock)

 

إلا أن هذه السيطرة لم تؤد إلى احتواء الصراع المسلح العنيف مع الجماعات المقاتلة والتيارات الراديكالية المرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة، التي لا تزال تتحكم في جل مناطق الشمال، وفي المحاور الحدودية الاستراتيجية مع النيجر وبوركينا فاسو. ورغم مناشدات المجلس العسكري، قاطعت تنظيمات الشمال جلسات الحوار الوطني الذي بدأ في 13 أبريل، واعتبرته غير شرعي، مُتمسكة باتفاقية الجزائر التي لم تطبق، كما قاطعته القوى السياسية والمدنية الفاعلة في البلاد.

 

2) الصراع المتزايد مع القوى السياسية والحقوقية والمدنية، التي ساندت في جلها السلطات الانقلابية عند استلامها الحكم. وهكذا عمدت الحكومة العسكرية في الآونة الأخيرة إلى حل العديد من الأحزاب والمنظمات السياسية، بدءاً من “منسقية الحركات والروابط ومناصري الإمام محمود ديكو” التي حُلت في 6 مارس 2024، ثم رابطة تلاميذ وطلاب مالي النشطة في المؤسسات التربوية التي صدر قرار حلها يوم 13 مارس 2024. وقد بدأت الإجراءات العملية الفعلية لحل اثنين من أهم الأحزاب السياسية المالية هما: “التضامن الأفريقي من أجل الديمقراطية والاستقلال” بزعامة عمر ماريكو، و”الحزب الاجتماعي الديمقراطي الأفريقي” بزعامة إسماعيل ساكو. وصدرت هذه القرارات بعد حل “مرصد الانتخابات والحكم الرشيد” في نهاية ديسمبر 2023.

 

وهكذا، يمكن اعتبار الإجراءات الجديدة لتجميد العمل السياسي للأحزاب خطوة متوقعة في إطار الصدام المتزايد بين السلطات العسكرية والقوى السياسية والمدنية.

 

3) انبثاق شبكة إقليمية جديدة تضم الأحكام العسكرية في منطقة الساحل التي ترى في الديمقراطية الليبرالية على الطريقة الأوربية خطراً على استقرار وأمن المجتمعات والدول في المنطقة. وأصبح من الواضح اليوم أن الأنظمة العسكرية الحاكمة في دول الساحل الثلاث المركزية (مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر) عازمة على التنسيق في ما بينها في كل ما يتعلق بالأجندة السياسية والاستراتيجية، خصوصاً بعد أن أعلنت قيام تحالف مشترك بينها في سبتمبر 2023، وقررت الانسحاب الجماعي من منظمة الأيكواس في فبراير 2024. وفق تصريحات رئيس الوزراء المالي شوغيل مايغا، ليست الديمقراطية أولوية عاجلة في مالي ودول الإقليم، بل لا بد من أن يسبقها الاستقرار السياسي الكامل والأمن الداخلي الشامل.

 

حلَّت الحكومة العسكرية العديد من الأحزاب والتنظيمات السياسية، بما فيها “منسقية الحركات والروابط ومناصري الإمام محمود ديكو” (AFP)

 

آفاق الوضع السياسي في مالي

في ضوء التحولات الراهنة التي لا تزال في بدايتها، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات في رصد مستقبل الوضع السياسي في مالي:

 

1) سيناريو الانفجار، الذي تؤكده مؤشرات بارزة من بينها تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة للعقوبات الاقتصادية والضغوط الإقليمية والدولية، واستفحال التحديات الأمنية وتضافر الخطر الإرهابي، والقطيعة الفعلية مع القوى السياسية والحقوقية والمدنية. وفق هذا السيناريو المرجح، سينتج عن مبادرات التكتلات المعارضة (مثل تحالف نداء فبراير، وشبكة المدافعين عن حقوق الإنسان، وتعاضد العمل من أجل مالي…) الشروع في إجراءات العصيان المدني والاحتجاجات المدنية، وفق الطريقة الفعالة التي أسقطت سابقاً نظامي موسى تراوري سنة 1991، وإبراهيم بوبكر كيتا في 2020. وفق هذا السيناريو الذي سيحظى بدعم دولي، من المرجح أن ينضم بعض القيادات العسكرية للانتفاضة المدنية المناوئة للسلطة الحالية.

 

2) سيناريو الرجوع إلى المسار الانتخابي، وتطبيع الوضع السياسي وفق مطالب الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية (مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة). قد تضطر السلطات العسكرية الحاكمة إلى هذا الخيار بعد إدراك فشل مشروعها للاستمرار في الوضع الاستثنائي، على أن تتبنى مسلك الاستمرار في السلطة عبر البوابة الانتخابية، ووفق أحكام الدستور الجديد.

 

3) سيناريو الاحتقان المستمر بإحكام السلطات العسكرية قبضتها على العاصمة باماكو والمحيط المجاور لها، بدعم قوات فاغنر الروسية، على أن تتوسع المواجهة في مناطق الشمال والوسط، وبحيث تستفيد الجماعات الإرهابية الراديكالية من هذا الفراغ السياسي والأمني لتعزيز مواقعها في مناطق الاضطراب والتوتر على طول البلاد المترامية الأطراف.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M