الاحتواء بين أمريكا والصين

 

مقدمة

بدأت الولايات المتحدة حربًا تجارية في عام 2018 خوفًا من صعود الصين،وللحد من توسع نفوذ بكين في مجموعة الخمسة G5، وقد تدخل العلاقات الثنائية بين البلدين منحىً مشابهًا للحرب الباردة. فمؤخرا، تزايد اهتمام الولايات المتحدة بملفات حقوق الإنسان في هونغ كونغ وقضية الأويغور والتوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي ، وذلك في إطار مراقبة التوسع الجيوسياسي الصيني. وقد تفاقم هذا بسبب الطموحات الصينية التي دافع عنها الرئيس شي شين بينغ لتصبح الصين أكثر حزما في مزاعمها المتعلقة بالملفات المذكورة[1] .

تعد الولايات المتحدة هي الراعي المؤسس للنظام الدولي الليبرالي والقوة المهيمنة بلا منازع، أما الصين فتريد من العالم الاعتراف بها كقوة دون تدخل في شؤونها الداخلية. تتفهم الولايات المتحدة تهديد الصعود الصيني الذي يسعى لمنافسة نظامها، وتدرك تمامًا أن طموحات الصين تتجاوز مجرد الثراء الاقتصادي. لكن الانتصار الصيني ليس حتميًّا وهذا لتعقد المنافسة،حيث تطمح كلا القوتين إلى التنافس في مجالات الثروة المادية والتقدم التكنولوجي والمكانة الدولية[2]. لا شك في أنه ستكون هناك منافسة متوترة إذا واصلت الصين صعودها. لا تريد الدولتان الحرب،حيث إن مجالات الصراع الأخرى مفتوحة، وهذا سيؤثر على السياسة العالمية لعقود قادمة. لا توجد نتائج واضحة لهذا الحدث الجيوسياسي حتى الآن، ولكن تشكيل صورة عامة قد يساعد على فهم بعض النتائج المحتملة.

سياسة الاحتواء حقيقة بارزة بشكل متزايد في العلاقات الأمريكية الصينية، ومع ذلك فهي غير قادرة على تحقيق أهدافها كاملة بسبب الثقل الاقتصادي والسياسي الحالي للصين وتأثيرها المتزايد. والأهم من ذلك إدراك صانعي القرار الصينيين للتحدي الأمريكي ورغبته في الحد من صعود الصين. وهذا لن يمنع الولايات المتحدة من محاولة فرض الاحتواء كأداة ضغط للحصول على تنازلات من الصين لتحقيق نتائج جيوسياسية مواتية، ومع ذلك فإن الصين لن تقبل ذلك وتسعى هي أيضا للحصول على تنازلات أمريكية بدورها. يتمتع المتنافسان بروابط اقتصادية ضخمة يصعب قطعها، لذلك ستخاض المنافسة في ظل الانكماش الاقتصادي والمواجهات العسكرية المحتملة. ويمكن أن تتوصل كلتا القوتين إلى انفراج في العلاقات أو شكل من أشكال الاتفاق لتجنب التصعيد باعتباره الخيار الأكثر ملاءمة لبلوغ العديد من الملفات ذروتها، وهذا أفضل من خوض مواجهة كاملة.

استراتيجية الصين هي محاولة تقوية نفسها حتى لا تتأثر بالضغط الأمريكي، وسيتعين على الولايات المتحدة القبول بالواقع الجديد كنتيجة. وستتنافس القوتان في المقام الأول على صعيدي التكنولوجيا والاقتصاد لتأمين مكاسبهما. سنقدم في هذه الورقة تحليلًا ونتائجه على قسمين، الأول يتناول الاحتواء الأمريكي عبر الدبلوماسية والتحالفات، والقسم الثاني يتناول الاحتواء في ضوء السياسات الصينية، ولماذا فات الأوان لتحقيق احتواء ناجح تماما.

التحالفات والدبلوماسية الأمريكية

ترى الولايات المتحدة بصفتها القوة المهيمنة في هذه الحقبة أن استقرار النظام الذي أقامته هو هدف أساسي، والركيزة الأساسية للحفاظ على هذا النظام هي البقاء كقوة عالمية بارزة لها نظام إمبراطوري. ينشأ من تفاعل المتنافسين بعض الفجوات في علاقاتهما ،تعتبر هذه الفجوات ساحات المنافسة على النفوذ والسلطة، ويمكن أن تكون على الموارد والتكنولوجيا والتحالفات وما إلى ذلك[3].

كانت الولايات المتحدة في أول عهدها مصممة على ضمان آليات القوة للوصول إلى القمة والبقاء فيها، فقد قاتلت من أجل السيطرة على نصف الكرة الغربي وزيادة نفوذها الدولي وبناء الاقتصاد العالمي بمنظمات دولية لضمان سير التجارة والسياسات العالمية على طريقتها التي تفضلها وتحقق من خلالها مكاسب مباشرة لها [4]. تعتمد الاستراتيجية الأمريكية الكبرى على منع أي منافس محتمل من صعود مراتب القوة أكثر من اللازم، والطريقة الأمريكية التي تفضلها هي سياسة الاحتواء. منطق السياسة بسيط وهي إبقاء المنافس مشغولًا بتحديات داخل جغرافيته حتى لا يحقق أي هيمنة إقليمية، وإلا فإن الدولة المنافسة ستكون حرة في الحركة ويمكن أن تتحدى الدولة المهيمنة على أصعدة مختلفة[5]. حيث ستحاول تلك الدولة تسخير مجموعة الأدوات الاستراتيجية الكلاسيكية التي تعتمد على مزيج من الصعود الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار الداخلي وتوسع دبلوماسيتها وامتلاك قوة عسكرية، من أجل توسيع قدراتها لتحقيق مكانة دولية عالية، وهو ما يدفع أمريكا إلى إضعاف أدوات الدولة التي تسعى لبناء استراتيجيتها من أجل إيقافها ووضعها في إطار محدد من المنافسة لا تستطيع تجاوزه.

التحالفات عنصر مركزي للأهداف الأمريكية ونظامها العالمي، وهي طريقة مجربة في السياسة الأمريكية الخارجية منذ الحرب الباردة. إذا أراد الأمريكيون احتواء الصين، فلا بد من دعم التحالفات الإقليمية وتعزيزها. تحافظ أمريكا على تفوقها أمام الصين في مجالات القوة الناعمة بفارق كبير، وتعمل على تأمين تحالفاتها، فمثلا للولايات المتحدة روابط مع تايوان التي تمثل شوكة في حلق الصين. ويصاحب بناء التحالفات زيادة الإنفاق العسكري للولايات المتحدة جنبًا إلى جنب مع حلفائها في شرق آسيا لردع الصين ومنعها من الصعود الإقليمي. يأتي توسيع شبكة التحالفات كتطوير لسياسة الاحتواء من أجل تشتيت الصين، على سبيل المثال تلعب الهند دورًا محوريًّا باعتبارها قطب توازن كبير على الرغم من وجودها خارج إقليم شرق آسيا. وتخشى الصين تجنيد أمريكا لحلفائها في الإقليم ضدها، وتقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها الضامن لأمان واستقرار أنظمة الحكم في الدول التي تدخل في تحالف معها حتى لا تملأ الصين هذا الدور. وتعد القوة البحرية هي الأداة الفعالة للاحتواء حيث تجسد الهيمنة الأمريكية في احتواء الصين، ولكن يجب أن تكون مدعومة ببنية إلكترونية واقتصادية وأيديولوجية ودبلوماسية[6].

إن التحول الأمريكي نحو سياسة أكثر تدافعا يعكس التغيير الذي طرأ على مقاربة صانعي القرار بشأن ملف الصين. ففي مرحلة سابقة اعتمدت أمريكا على سياسة التحرر الاقتصادي لاعتقادها بأن قبول دخول الصين في النظام الدولي سيسمح بحدوث تغير في نظامها السياسي والاجتماعي. لكن أظهرت التطورات في العقود الأخيرة فشل هذا النهج.[7] وتعد حرب ترامب التجارية دليلًا على اقتناع أطراف في دائرة صنع القرار بفشل تلك السياسة، ومن ثم سعي لتبني الحرب التجارية لتحجيم قدرة الصين على الوصول إلى الأسواق الدولية. ومن هنا يمكن أن نقول إن هناك فريقين ووجهتي نظر في السياسة الأمريكية في التعامل مع الصين، الفريق الأول مع سياسة التحرر الاقتصادي مع الصين والفريق الآخر ضد هذه السياسة ويشكك دائما في تلك السياسة.

يسعى كلا الفريقين في الإدارة الأمريكية إلى احتواء الصين بطرق مختلفة. ويتبع الطرف المتشكك الأساليب العلنية كالتحالفات والإنفاق العسكري وسياسة الردع والسلوك الاقتصادي العدائي وعلى رأسها العقوبات. وعلى النقيض منه يسعى الفريق الذي يدفع في اتجاه التحرر الاقتصادي (الأكثر مكرًا)، حيث كانوا يأملون بأن تتمكن سياسة السوق المفتوحة والرأسمالية التي تقودها الليبرالية الحرة من زرع الأيديولوجية الغربية لدى الجمهور الصيني. وكانت النتيجة المنتظرة تخريبا يطيح بالحزب الشيوعي ويجلب الديمقراطية إلى الصين، ولكن هذا لم يحدث أبدًا. كانت الولايات المتحدة تضع سياسة الاحتواء في مخططاتها طوال الوقت على اختلاف أشكالها، ومع فشل سياسة التحرر الاقتصادي أخذت سياسات وأفكار المشككين تسود وتدير الاتجاه العام للسياسة الخارجية الأمريكية مع الصين.

وما يساعد تحقيق تلك السياسة هو خوف جيران الصين منها، وهذا يمنح الولايات المتحدة مساحة كبيرة لبناء شبكة أمنية. فحصد المخاوف الإقليمية أسهل بكثير لأمريكا لأن الصين لا تملك القوة الناعمة التي تمتلكها الولايات المتحدة، ولا يوجد تنافس فعلي في مجال القوة الناعمة مما يعطي الولايات المتحدة حرية الحركة الدبلوماسية. ويعتبر الحوار الأمني ​​الرباعي “Quad” بين اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة مثالا على بناء الشبكة الأمنية الأمريكية، تشترك هذه الدول في الخوف من قوة الصين وهذا هو العنصر المشترك الأكبر في الاحتواء. كما ذكرنا سابقًا، يمكن لمثل هذه التحالفات أن تبقي الصين مشغولة في منطقتها وغير قادرة على التجوال الحر. تدرك الولايات المتحدة أهمية الأحلاف وتعتمد عليها في سياستها كمانع لنظام إقليمي متمحور حول الصين[8].

قد يُقال إن الروابط الاقتصادية العميقة بين الولايات المتحدة والصين ستمنع المنافسة المتوترة، لكن هذا لا يبدو كذلك. تتفوق المخاوف الأمنية على المخاوف الاقتصادية في نهاية المطاف، ولم يمنع تلك الأخيرة الولايات المتحدة من تصنيف الصين كتهديد[9]. يتفاقم هذا بسبب مخاوف الأمن السيبراني وسرقة الملكية الفكرية والمخاوف بشأن الرأسمالية المملوكة للدولة في الصين، وتهديد الصين للنظام الدولي الليبرالي. وقد أخذت إدارة ترامب على عاتقها “تصحيح الأخطاء”، بدءًا بالعقوبات والقيود التي قد تجبر الصين على قبول بعض التنازلات.

ويعتبر التقدم السريع للصين في تنمية قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية سببًا في تغيير أمريكا لسياستها. يأمل البعض في حدوث ضغط يتسبب في حدوث تصدعات داخلية في الصين، بينما يركز البعض الآخر على الضغط الخارجي[10]. إن القيود الاقتصادية المفروضة خلال سنوات إدارة ترامب هي محاولة لكبح جماح الصين، ولكن ليس من المؤكد ما إذا كانت ستبطئ أو تعكس الواقع الحالي. سيكون هذا هو التحدي الأصعب الذي تواجهه أي إدارة أمريكية، وسيؤدي فهم بايدن الأفضل للحقائق الجيوسياسية إلى جعل إجراءات الاحتواء محسوبة وأكثر قوة[11].

الأهداف الصينية

هل تأخر الاحتواء؟ قد يساعد إلقاء نظرة خاطفة على العقلية الصينية في فهم الاحتواء. فقد التزمت الصين لفترة طويلة بـمبدأ الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ “ابق منخفضًا وأخف قدراتك”، حيث كان يرى أن وجود سياسة صينية حازمة ستثير الشك والاهتمام غير المرغوب فيه. وقد نمت طموحات الصين وأصبحت أكثر جرأة مع ازدياد قوتها الاقتصادية التي هي عماد سياسة التنمية والتطوير الصينية،و تزامنت زيادة الجرأة مع مجيء شي شين بينغ، الذي بدأ إصلاحات شاملة وبدأ العديد من المشاريع لتحسين وضع الصين والحفاظ على سلامة استقرارها الداخلي[12]. إن قرن الذل الذي شهدته الصين وما تلاها من الحرب الباردة وهيمنة الولايات المتحدة قد ترك شكوكًا عميقة تجاه القوى الغربية، وهو ما ينعكس في استراتيجية الصين الكبرى منذ بدايتها. وكان يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها التهديد الرئيسي من عام 1949 إلى عام 1960 عندما حدث الانقسام الصيني السوفيتي. وتسبب انهيار الاتحاد السوفيتي والانهيار الخاطف للأنظمة الشيوعية في جميع أنحاء العالم في إثارة الرعب الشديد عند السلطات الصينية. حيث كانت ترى أن تحول النظام العالمي إلى أحادية القطب وتصاعد موجة الدمقرطة يمثل تهديدا لاستقرار نظامها، واعتبرت أن أمريكا تمثل التهديد الرئيسي، وذلك لقدرتها على زعزعة الاستقرار الداخلي وهو أكبر مخاوف الصين. فالتهديد الأمريكي ذو شقين، الأول ظاهر يشمل الردع العسكري والعقوبات الاقتصادية. والثاني باطن يسعى إلى تقويض النظام الداخلي الشيوعي، فالولايات المتحدة لديها القدرة على القيام بذلك إلى حد لا يرغب الصينيون في اختباره. والرد الصيني هو أن تكون هناك القوة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى الحالية، وهي وحدة الأراضي وتأمين شرق آسيا والمحيط الهادئ من التدخل الخارجي، وتأمين بيئة دولية للتنمية الاقتصادية، وأن يكون لها دور أكبر في الشؤون الإقليمية والدولية[13].

إن أكبر مظهر لمحاولة كسر حصار الاحتواء هو شعار “الزحف للغرب” ومبادرة الحزام والطريق، وهو أكبر مشروع للسياسة الخارجية الصينية. ويمكن لمبادرة الحزام والطريق إعادة تشكيل النظام الإقليمي في أوراسيا وتحييد النفوذ البحري للولايات المتحدة، حيث تعمل على جذب الدول من خلال ربط اهتماماتها الاقتصادية مع الامتداد الاقتصادي الصيني. وتعتبر هذه المبادرة وسيلة لضمان النمو الاقتصادي وزيادة القوة الناعمة الضعيفة للصين لتحقيق توازن أمام سياسات الولايات المتحدة في شرق آسيا[14]. وتعد مبادرة الحزام والطريق تهربًا من القوة البحرية الأمريكية، فهي وسيلة للوصول إلى العديد من البلدان التي يمكنها التعامل مع الصين مثلما تتعامل مع الولايات المتحدة[15]. ويمكن للقوة الناعمة الصينية أن تزداد، حيث تسعى القوة الصاعدة إلى نشر نفوذها ومن ثم بناء مجتمع دولي يتمحور حول معاييرها لتحدي القوى القائمة. ويغطي المشروع نحو 70 دولة وثلثي سكان العالم،وتراهن الصين على وزنها الاقتصادي لتحقيق انتصارات سياسية واقتصادية. حيث سيكون للمشروع تأثير جيوسياسي هائل حتى لو تم تحقيق ثلث أهدافه المعلنة فقط، و هذا على الرغم من وجود عقبات كبيرة. المشروع عبارة عن مجموعة أدوات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى المذكورة مسبقا، ولتحقيق التنوع في أسواق التصدير والاستيراد. هذا يطلق العنان لموارد الطاقة في آسيا الوسطى، وبالتالي يقلل من استهلاك الفحم ويساعد على تنويع مصادر الطاقة الخارجية. والأهم من ذلك أن مبادرة الحزام والطريق يمكن أن تكون أداة فعالة لمواجهة التحديات الاقتصادية المحلية مثل تباطؤ النمو أو زيادة الإنتاج. وتتمتع الصين بالبراغماتية، ويتميز المشروع بالكثير من المرونة لتحقيق تقدم كبير، وقد يمثل انتصارًا بارزا على الرغم من أن المشروع به العديد من المطبات والعقبات المحتملة[16]. إحدى المطبات هي روسيا، فقد تكون مشتركة مع المشاريع الصينية حاليا، لكن ليس لفترة طويلة. وقد يتغير موقف روسيا مع تصاعد قوة الصين،وهو ما قد يمنح الولايات المتحدة فرصة لتشديد الخناق على الصين من شمالها وغربها من خلال التوصل إلى اتفاق مع روسيا.

الصينيون يدركون تمامًا أن الولايات المتحدة تعمل على عرقلتهم. وهذا ما يجعل عملية الاحتواء صعبة، حيث تسخر الصين جميع مواردها وسياستها الخارجية والداخلية والإصلاحات الداخلية والتقدم العسكري نحو تحييد التهديد الأمريكي. لذا فالسؤال هو هل فات الأوان لاحتواء الصين؟ الجواب في هذه الحالة هو نعم، لقد تقدمت الصين تقنيًّا واقتصاديًّا بما يكفي لجعل الاحتواء غير قابل للاكتمال ببساطة. كانت إدارة ترامب تحاول التوصل إلى اتفاق مع الصين من خلال الضغط عليها لتقديم تنازلات أو الاتفاق على قواعد معينة قبل أن تصبح الصين قوية للغاية على أمل الحفاظ على النظام العالمي سليمًا، وكذلك إدارة بايدن. وذلك من الصعوبة بمكان لأن الصين لا ترغب أن تكون العلاقة على هذا النحو. وتسعى الصين إلى رفع مكانتها الدولية وتأثيرها، ويجب التوصل إلى تنازل قبل أن تترجم الصين قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية عالية المستوى، وهو الذي تفعله بالضبط ، بالإضافة لبناء العمق الجيوسياسي والقوة الاقتصادية، وقد أعادت الصين هيكلة البيروقراطية والجيش. من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي وسيادة الدولة والمصالح الاقتصادية ، وتولي الصين تركيزا على نظامها الداخلي، مع تنامي خطر النزعات الانفصالية. ويُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها تمثل تهديد “دبلوماسية الزوارق الحربية” الجديدة والاستعمار الجديد. وبالتالي فإن التطورات العسكرية الصينية مصممة خصيصًا لإلغاء التفوق الأمريكي، مما يؤدي إلى استثمارات في قيادة العمليات المشتركة القائمة على أسس معلوماتية. وقد أدت حرب الخليج الثانية وتدخل الناتو في يوغوسلافيا إلى دفع الصينيين للعمل على تحقيق توازن مع قدرات القيادة المشتركة العسكرية أمام الولايات المتحدة، وتطوير نهج “النظم” في محاولة لمجابهة القدرات الحربية المعلوماتية الأمريكية[17].

تمتلك الولايات المتحدة اليد العليا، ولكن يبدو أنها تكافح من أجل خنق الإصلاحات الصينية بشكل فعال، حيث اكتسبت الصين تقدما تكنولوجيا قويا. تحاول الولايات المتحدة تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا الغربية من خلال اتفاقيات مع حلفائها والتحذير من مخاطر وجود روابط تكنولوجية مع الصين. وتحاول الولايات المتحدة إقناع حلفائها بأن التقنيات الصينية المصدرة تستخدم في التجسس وتضر في النهاية بالدولة المستقبِلة. ولكن حتى الآن لم يظهر أي تقدم في وقف تدفق التكنولوجيا وسيصبح الاحتواء أكثر صعوبة مع مرور الوقت. ولا يزال أمام الصين طريق طويل، لكن الوضع الحالي مؤشر على مزيد من التقدم. فمما تمت مناقشته أن الصين ليست مهتمة بالحفاظ على الوضع الراهن في منطقتها كما هو، فهي تسعى لتحقيق صعود إقليمي وهي تعلم أن الولايات المتحدة لا تريد ذلك. وتقوم الصين على غرار الولايات المتحدة بضخ دعاية شعبوية عندما يتعلق الأمر بعلاقتها بالولايات المتحدة وبنيتها الاقتصادية والإصلاحات المعلوماتية العسكرية والنهج المعادي المتزايد في منطقتها، لا سيما في ساحة الواجهة البحرية التي تظهر أن الصين تريد وضع بصماتها على العالم[18].

الخاتمة

لا يمكن إنكار أن كُلا من الصين والولايات المتحدة مرتبطتان اقتصاديًّا على مستوى عميق، ولكن من الواضح بشكل أكبر أن “مصيدة ثوسيديديس” قد تشكلت. ويدرك كِلا البلدين أهمية الحفاظ على التوازن الجيوسياسي حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، ولا تزال الصين تعتبر التعاون مع الولايات المتحدة أولوية قصوى للحفاظ على النمو والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وتحتاج الولايات المتحدة أيضًا إلى الحفاظ على العلاقات الودية مع الصين لأنها بحاجة إلى سوق عالمي مستقر، مع الحفاظ على التوازن بين الشراكة والاحتواء. وتدرك الولايات المتحدة أن الصين بحاجة إلى علاقة إيجابية إلى حد ما، وهذا يعطي الولايات المتحدة فرصة أفضل للمساومة. وربما يكون أفضل سيناريو هو الانفراج، وقد يحدث هذا بسبب الاعتماد المتبادل بين كلا الطرفين وتركيزهم المحلي المتزايد على سياسة الدولة الخاصة بهم.

إن عدم قدرة أمريكا على الاستمرار في سياسة الاحتواء الكامل واعتمادها المشترك على الصين يعطي الأمل في أن الصين يمكن أن توافق على تنازلات أو تتوصل إلى تفاهم. وترى الصين هذا النوع من الاتفاق على أنه تطويق، وهي تعارض الفكرة تمامًا في الوقت الحالي. ولكن كلما زادت مخاوف جيران الصين، كلما وجدت الولايات المتحدة المزيد من المساحات لبناء تحالفات أقوى وتجنيدهم في إطار سياسة الاحتواء، وهو ما سيزيد قسوة الصين. وقد تلعب روسيا أيضًا دورًا في هذا الأمر مع الولايات المتحدة، بينما تراهن الصين على ثقلها الاقتصادي لتشكيل حقيقة ترضيها وتجبر الآخرين على قبولها كأمر واقع. وعلاوة على ذلك فالقضايا الداخلية تلعب دورًا هاما، فهي أكبر نقاط الضعف عند الصين. ولا يزال لدى الولايات المتحدة الوقت لبناء شبكة تحالفات إقليمية، وكذلك للصين فرص في سباقها للتقدم. ولا توجد طريقة لمعرفة نتائج المنافسات الجيوسياسية، ولكن الأكيد هو أنه إذا استمرت الصين في مسار الصعود فإن فشل سياسة الاحتواء أمر لا مفر منه.

المصادر

  1. Affairs, C. C. O. G. (2016, August 17). Can China Rise Peacefully? Chicago Council on Global Affairs. https://www.thechicagocouncil.org/event/can-china-rise-peacefully#:%7E:text=Any%20nation’s%20ideal%2C%20Mearsheimer%20said,absolute%20control%20of%20one’s%20region.&text=Because%2C%20he%20said%2C%20regional%20hegemony,the%20world%20doing%20foolish%20things.%E2%80%9D
  2. Al-Arian, S. (2020, November 6) Personal Interview [Online Interview]
  3. Bitzinger, R. (2020, February 27) China’s Love Affair  With ‘Informatized Warfare’. https://asiatimes.com/2018/02/chinas-love-affair-informatized-warfare/
  4. Deborah Welch Larson, Can China Change the International System? The Role of Moral Leadership, The Chinese Journal of International Politics, Volume 13, Issue 2, Summer 2020, Pages 163–186
  5. Ferguson, N. (2020). America and China Are Entering the Dark Forest | Niall Ferguson | Journalism. http://www.niallferguson.com/journalism/politics/america-and-china-are-entering-the-dark-forest
  6. Kaplan, R. (2020, October 16). The Afterlife of Empire. https://nationalinterest.org/feature/afterlife-empire-170803
  7. Jisi, W., Ran, H. From cooperative partnership to strategic competition: a review of China–U.S. relations 2009–2019. China Int Strategy Rev. 1, 1–10 (2019). https://doi.org/10.1007/s42533-019-00007
  8. Kaplan, R. (2019, June 17). America Must Prepare for The Coming Chinese Empire. https://nationalinterest.org/feature/america-must-prepare-coming-chinese-empire-63102.
  9. Lai-Ha Chan (2020) Can China remake regional order? Contestation with India over the Belt and Road Initiative, Global Change, Peace & Security, 32:2, 199-217, DOI: 10.1080/14781158.2020.1772215
  10. Michael Haas, Henrik Larsen, Linda Maduz, NiklasMasuhr, Jack Thompson, Benno Zogg. (2020) Strategic Trends 2020. Oct 2018. Center for Security Studies (CSS), ETH Zurich. https://css.ethz.ch/en/publications/strategic-trends/details.html?id=/s/t/r/a/strategic_trends_2020
  11. Scobell, Andrew, Edmund J. Burke, Cortez A. Cooper III, Sale Lilly, Chad J. R. Ohlandt, Eric Warner, and J.D. Williams, China’s Grand Strategy: Trends, Trajectories, and Long-Term Competition. Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2020. https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2798.html.
  12. The White House. 2017. National Security Strategy of the United States of America.
  13. https://www.whitehouse .gov/wp-conte nt/uploa ds/2017/12/NSS-Final -12-18-2017-0905.pdf. Accessed 22
  14. Xi Xinping, Secure a Decisive Victory in Building a Moderately Prosperous Society in All Respects and Strive for the Great Success of Socialism with Chinese Characteristics for a New Era, Delivered at the 19th National Congress of the Communist Party of China, October 18, 2017.

الهامش

[1]Ferguson, N. (2020). America and China Are Entering the Dark Forest | Niall Ferguson | Journalism. http://www.niallferguson.com/journalism/politics/america-and-china-are-entering-the-dark-forest

[2] Deborah Welch Larson, Can China Change the International System? The Role of Moral Leadership, The Chinese Journal of International Politics, Volume 13, Issue 2, Summer 2020, Pages 163–186,

[3] Kaplan, R. (2020, October 16). The Afterlife of Empire. https://nationalinterest.org/feature/afterlife-empire-170803

[4] Al-Arian,S. (2020, November 6) Personal Interview [Online Interview].

[5]Affairs, C. C. O. G. (2016, August 17). Can China Rise Peacefully? Chicago Council on Global Affairs.

[6] Kaplan, R. (2019, June 17). America Must Prepare for The Coming Chinese Empire. https://nationalinterest.org/feature/america-must-prepare-coming-chinese-empire-63102

[7] Thompson, J. (2020). China, the US and World Order. Strategic Trends 2020, Center for Security Studies,ETH Zurich. P, 17.

[8]  Lai-Ha Chan (2020) Can China remake regional order? Contestation with India over the Belt and Road Initiative, Global Change, Peace & Security, 32:2, 199-217, DOI: 10.1080/14781158.2020.1772215

[9] The White House. 2017. National Security Strategy of the United States of America.

https://www.whitehouse .gov/wp-conte nt/uploa ds/2017/12/NSS-Final -12-18-2017-0905.pdf.

[10]Jisi, W., Ran, H. From cooperative partnership to strategic competition: a review of China–U.S. relations 2009–2019. China Int Strategy Rev. 1, 1–10 (2019). https://doi.org/10.1007/s42533-019-00007-

[11] Al-Arian,S. (2020, November 6) Personal Interview [Online Interview]

[12] Xi Xinping, Secure a Decisive Victory in Building a Moderately Prosperous Society in All Respects and Strive for the Great Success of Socialism with Chinese Characteristics for a New Era, Delivered at the 19th National Congress of the Communist Party of China, October 18, 2017.

[13] Scobell, Andrew, Edmund J. Burke, Cortez A. Cooper III, Sale Lilly, Chad J. R. Ohlandt, Eric Warner, and J.D. Williams, China’s Grand Strategy: Trends, Trajectories, and Long-Term Competition. Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2020. https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2798.html. P, 5-21.

[14]Lai-Ha Chan (2020) Can China remake regional order? Contestation with India over the Belt and Road Initiative, Global Change, Peace & Security, 32:2, 199-217, DOI: 10.1080/14781158.2020.1772215

[15]  Al-Arian,S. (2020, November 6) Personal Interview [Online Interview]

[16]Zogg, B. (2020). On The Belt, On The Road: China’s Pivot to Eurasia. Strategic Trends 2020, Center for Security Studies,ETH Zurich. P, 81.

[17]Scobell, Andrew, Edmund J. Burke, Cortez A. Cooper III, Sale Lilly, Chad J. R. Ohlandt, Eric Warner, and J.D. Williams, China’s Grand Strategy: Trends, Trajectories, and Long-Term Competition. Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2020. https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2798.html. P, 73-97.

[18]Bitzinger, R. (2020, February 27) China’s Love Affair  With ‘Informatized Warfare’. https://asiatimes.com/2018/02

/chinas-love-affair-informatized-warfare/

 

.

رابط المصدر:

https://capitalforum.net/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%a1-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M