الاقتصاد … الدافع الرئيس وراء تجدد الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا

علي عاطف

 

بعد استقرار نسبي دام لأكثر من عام، اندلعت الاشتباكات العسكرية مجددًا بين أذربيجان وأرمينيا خلال الأسبوع الماضي، لتتسبب حتى الآن في مقتل العشرات من الجانبين؛ وذلك بعد انهيار وقف إطلاق النار القائم بينهما. فقد قالت وزارة الدفاع الأرمينية في بيانٍ لها نُشر يوم 13 سبتمبر الجاري إن “أذربيجان شنت فجر اليوم قصفًا مُكثَّفًا بالمدفعية وأسلحة نارية من العيار الثقيل على مواقع عسكرية أرمينية”، موضحة أن باكو استخدمت في هذه العمليات طائراتٍ من دون طيّار (درونز).  أما وزارة الدفاع الأذربيجانية على الجانب الآخر، فقد وجّهت اتهاماتٍ ليريفان بالقيام بـ “أعمال تخريبية واسعة النطاق” بالقرب من مناطق حدودية.

وقد تجدد هذا النزاع بعد انخراط الدولتين في عمليات عسكرية واسعة أواخر عام 2020 نتج عنها مقتل وإصابة الآلاف من الطرفين. ولكن، على الرغم من أن دوافع الصدام العسكري في ذلك العام كانت بهدف السيطرة على مرتفعات “ناجورنو قرة باغ” بالأساس، فإن أسباب تجددها في سبتمبر 2022 تبدو مختلفة نسبيًا، إلى جانب أنها تجيء هذه المرة في بيئة دولية مختلفة بشكل ملحوظ عما كانت عليه خلال عملية 2020 التي أسماها الآذريون آنذاك بـ “عملية القبضة الحديدية”.

ما دوافع تجدد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا؟

يغلب على أسباب تجدد النزاع العسكري الأخير بين باكو ويريفان الطابع الاقتصادي أكثر من كونه عسكريًا فقط أو حتى سياسيًا، هذا علاوة على ما يبدو من تحولات دولية قد تكون مساعدة لأذربيجان بشكل غير مباشر فيما يتعلق بالمواجهة العسكرية مع أرمينيا.

وفي ضوء ذلك، نتناول فيما يلي أبرز دوافع التصعيد في المواجهات العسكرية مؤخرًا بين باكو ويريفان.

  1. إنشاء ممر اقتصادي يربط أذربيجان بتركيا عبر إيران: 

تهدف هذه الحرب الجديدة بين أذربيجان وأرمينيا إلى إفساح الأولى الطريق أمام تنفيذ مشروع كبير يربطها بريًا بتركيا ويمر عبر مناطق متنازع عليها بين باكو ويريفان تقول الدولتان إنها تتبع لها.  فقد وقعت الصدامات العسكرية الأخيرة داخل منطقة بعمق 200 كيلومتر في إقليم “ناجورنو قرة باغ”.

وتستحوذ هذه المنطقة تحديدًا على أهمية كبيرة من الناحية الإستراتيجية؛ إذ إن هذا الجزء الذي تديره أرمينيا ترغب أذربيجان من خلاله في مد طريق سريع وخطوط سكك حديدية لتصل إلى منطقة نخجوان ذاتية الحكم والتي تتبع حاليًا أذربيجان ليصل في النهاية إلى تركيا.

ويُطلق على هذا المشروع اسم “زنجه زور”، وهو يمر أيضًا عبر الأراضي الإيرانية، ما يعني من زاوية أخرى الكثير هذه المرة بالنسبة لداعمي أرمينيا التقليديين في مواجهة باكو. لذا، فإنه من المقرر أن يتم مدُّ هذه الطرق عبر مناطق تسيطر عليها أرمينيا، وهو ما يمكن أن يفسر لنا الدافع الرئيس وراء تجدد الأعمال العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا.

https://media.farsnews.ir/Uploaded/Files/Images/1400/07/19/14000719000581_Test_PhotoL.png

فتسعى أذربيجان بالأساس إلى أن تصل هذه الطرق إلى الأراضي التركية التي تربطها حدودٌ جغرافية مع نخجوان، لتكون ممتدة بالتالي من أذربيجان إلى تركيا عبر مناطق “قرة باغ”، مرورًا بإيران. لذا، نجد رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، يعلن استنكاره مؤخرًا لهذا المخطط.

وبشأن هذا الممر أيضًا، كان الرئيس الآذري، إلهام علييف، قد صرّح في الأول من ديسمبر 2020، بعد محادثات مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، قائلًا إن “أذربيجان تعمل الآن على الاتصال بتركيا”، بمعنى أنها بدأت مشروعات لترتبط جغرافيًا عن طريق ممر “زنجه زور” بالأراضي التركية.

وأعاد علييف التأكيد على عزم بلاده إنشاء هذا الممر حينما قال في شهر أبريل 2021: “نحن سوف ننفذ ممر زنجه زور سواء رغبت أرمينيا أم لم ترغب. فإذا رغبت أرمينيا، فسوف نحل هذا الموضوع بشكل أسهل، وإذا لم يكن كذلك، فإننا سوف نحله بالقوة”. ويبدو هنا أن يريفان رفضت إقدام باكو على تنفيذ هذا المشروع.

وعلى أي حال، فإن الدولتين، أذربيجان وتركيا، تسعيان إلى تعظيم مصالحهما الاقتصادية من وراء هذا الخط الذي يُطلق عليه أحيانًا “الممر الاستراتيجي”؛ إذ سيحقق مثل هذا الممر لأنقرة حلم الوصول إلى بحر قزوين وبالتالي جمهوريات آسيا الوسطى التي تتصل بدورها باللاعب الاقتصادي البارز وهي الصين.

  1. عدم وضع تسوية نهائية لأزمة “قرة باغ”:

على الرغم من انتهاء الصدام العسكري بين أذربيجان وأرمينيا عام 2020 باتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن ذلك لا يعني أن الأزمة قد انتهت من ناحية، ولم يؤد من ناحية أخرى إلى انتهاء الصدامات العسكرية بين البلدين خلال الأشهر الماضية؛ إذ استمرت المناوشات العسكرية بين الطرفين ووقع معها قتلى ومصابون. ومن ثم لم يكن تجدد النزاع يوم 13 سبتمبر الجاري إلا ذروة تصاعد الصدامات بينهما مرة أخرى بعد وقف إطلاق النار عام 2020، أي أنه لم يكن تطورًا مفاجئًا.

وعلى سبيل المثال، وقعت مناوشات عنيفة بين البلدين في 16 نوفمبر 2021 وُصفَت حينها بأنها الأعنف منذ اتفاق سلام 2020 الذي تم بوساطة روسية وتنازلت بموجبه أرمينيا عن مناطق داخل إقليم “ناجورنو قرة باغ”. حيث قُتل وأُسر ما لا يقل عن 15 جنديًا من الجانبين، فيما أصيب عددٌ آخر من الجنود. وتجددت الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا كذلك في شهر أغسطس 2022، ولكنها كانت أقل حدة من سابقتها.

أما الصدامات الأخيرة فقد اندلعت عندما أعلنت يريفان في 13 سبتمبر الجاري قيام أذربيجان بتنفيذ “قصف مكثف” ضد قواعد عسكرية أرمينية في بلدات جوريس وسوتك وجرموك جنوبي البلاد، وسيطرت على 10 كيلومترات مربعة من أراضيها. وقد تم الإعلان حتى الآن عن مقتل 135 جنديًا من أرمينيا و50 آخرين من أذربيجان. وقد اتضح، كما سبقت الإشارة، أن الفصل الجديد من النزاع ذو صلة برغبة باكو في السيطرة على جزء من الأراضي المتصارَع عليها مع أرمينيا. لذا، فإن الأزمة الحالية بين باكو ويريفان ما هي إلا فصل من فصول الصراع بينهما، والذي لن يتم حله إلا بتسوية شاملة فيما يتعلق بالإقليم المتنازع عليه “ناجورنو قرة باغ”.

  1. تبدل مصالح الحلفاء وتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية: 

شجّعت التحولات التي شهدتها الساحة الدولية على مدار الأشهر القليلة الماضية التي أعقبت بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 أذربيجان على السعي إلى السيطرة على مزيدٍ من الأراضي المتصارع عليها مع أرمينيا؛ فروسيا، التي تُعد أحد أهم الداعمين لأرمينيا في نزاعها مع أذربيجان، منشغلة الآن في أزمتها هي الأخرى مع أوكرانيا في ظل عدم وضوح أفق للحل حتى اللحظة.

ويبدو أن باكو قد توقعت أن هذا الانشغال الروسي سوف يُضعِف الموقف الأرميني وأنها يمكن أن تستغله للسيطرة على المزيد من الأراضي مرة أخرى حال شنت هجومًا جديدًا. ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فإيران التي تساند أرمينيا، ولو بشكل غير معلن منعًا لإثارة غضب الآذريين الإيرانيين في الداخل، بدأت تربطها مصالح اقتصادية على نطاق أوسع مع أذربيجان نفسها ومن ثم مع تركيا، على النحو الذي تم إيضاحه هنا فيما يتعلق بممر “زنجه زور”. ويعني هذا أن أهم حليفين على الإطلاق ليريفان قد لا يقدمان لها نفس العون الذي كان في عام 2020 أو قبل ذلك، وهو ما أدركته باكو وتحركت طبقًا له.

آفاق الأزمة

مع أن أزمة “ناجورنو قرة باغ” لم تنتهِ إلى الآن وتسبب من آن إلى آخر في اندلاع أعمال عنف بين أذربيجان وأرمينيا، إلا أن السعي لتنفيذ ممر “زنجه زور” يُعد السبب الرئيس لتجدد الصدام بين البلدين في سبتمبر الجاري؛ إذ يعد هذا الممر ذا أهمية اقتصادية كبيرة لأذربيجان وتركيا على وجه الخصوص، ولا تزال الأولى مصممة على تنفيذه، وهو ما تسبب في اندلاع الأعمال العسكرية مجددًا.

وفي الوقت نفسه، قد يعني هذا إطالة أمد النزاع الحالي المؤقت بين أذربيجان وأرمينيا، حيث قد لا ينتهي الفصل الجديد من الصراع الممتد إلا بسيطرة أذربيجان على الأراضي التي تريد للممر الجديد أن يمر خلالها حتى يصل إلى حليفتها تركيا، وهو ما يحمل في طياته أيضًا إمكانية حدوث تصعيد أكبر خلال الأيام المقبلة في ظل رفض أرمينيا لتحقيق باكو طموحاتها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72898/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M