التأهب النووي: الشرق الأوسط في قلب حسابات التصعيد

أحمد عليبة

 

في واحدة من السوابق النادرة، ظهرت الغواصة النووية الأمريكية ويست فرجينيا في تمرين بمنطقة القيادة الوسطى الأمريكية في مياه بحر العرب في الشرق الأوسط، لتخلط أوراق الحسابات وتطرح المزيد من علامات الاستفهام حول: ما الذي يجري في المرحلة الحالية؟ وما هي حسابات اليوم التالي؟ وكيف يمكن استيعاب مثل هذه الإشعارات من الجانب الأمريكي؟ هل تقتصر فقط على إشعارات مضادة لنظيراتها الروسية؟ أما أن هناك رسائل متعددة لإشعارات أخرى من أطراف متعددة، ويستتبع ذلك الأخذ في الاعتبار طبيعة التطورات الحالية التي يشهدها الشرق الأوسط كجزء من مسرح الانتشار العسكري للقوى العالمية، حيث أصبحت سوريا ساحة خلفية أساسية لنشر المزيد من الأسلحة الاستراتيجية الروسية، بالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه إيران لروسيا من جهة، والدعم الإسرائيلي المقابل لأوكرانيا على الضفة الأخرى، إضافة إلى تطور خريطة الانتشار الأمريكي قيد إعادة التشكل في المنطقة كجزء من إعادة الانتشار الأمريكي في العالم.

مظاهر التأهب النووي

لدينا ضوء أحمر على خريطة الإنذار المبكر في العالم فيما يتعلق بالموقف النووي، بدأت مرحلتها الأولى بسلسلة مراجعات العقيدة النووية قبل وبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ثم ظهرت سلسلة من الإشعارات النووية، بدأتها الولايات المتحدة بالحديث عن اتجاه صيني لزيادة القدرات النووية والصاروخية، بالتوازي مع إجراء موسكو عددًا من مناورات “فوستوك” بما فيها الشق الخاص بالقوة النووية وربما بشكل رئيسي في شرق البلاد، وكانت مقلقة لكل من الصين والهند ودول أخرى، لكن على الأقل تم ضم الصين والهند كمراقبين لتلك المناورات منذ عام 2018، كخطوة من جانب روسيا لاحتواء القلق المتصاعد من جانبهما.

في خطوةٍ متقدمة تحوّلت العملية من النطاق النظري إلى العملي. في نطاق الحرب الروسية الأوكرانية هناك مخاوف مستمرة بشأن انعكاسات الحرب على البنية النووية الأوكرانية، حيدت روسيا موقع “شير نوبل” في المرحلة الأولى من الحرب، في المرحلة الحالية من الحرب هناك مخاوف هائلة بشأن مفاعل زابورجيا كمحور صراع روسي أوكراني، يتعرض للاستهداف من الجانبين بشكل ينطوي على مخاطر هائلة، بينما لا يبدو أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد تكون طرف الأمان في هذه المعركة. بالتوازي مع ذلك فإن الإشعارات الروسية بشأن اللجوء للقوة النووية تشكل مخاوف فعلية، بوضعها في معادلة الحرب (التصعيد مقابل التصعيد).

على الجانب الآخر، هناك ساحات أخرى في العالم قيد التسخين في المرحلة الحالية، ولا توجد كوابح أو عوامل تبريد، فالحرب الروسية الأوكرانية تتطور باتجاه تصاعدي ميدانيًا، والشرق الأوسط قيد إعادة تشكل مستمر، كان يمر بهذه المرحلة كل عقد تقريبًا على مدار العقود الخمسة الماضية، لكن حاليًا يطوي الشرق الأوسط عقدًا من الصراعات متصلًا بالعقد التالي الذي تغلب عليه الأزمات والصراعات، بالإضافة إلى اتصاله الإقليمي بالحرب الروسية الأوكرانية، كما تتصاعد مؤشرات التوتر في النصف الآسيوي من العالم في ضوء مخرجات المؤتمر السنوي للحزب الشيوعي الصيني تعكس درجة إضافية من التصعيد في قضية تايوان، وتجارب كوريا الشمالية الصاروخية واحتمالات القيام بالتجربة النووية السابعة، بالإضافة إلى الهند التي أجرت تجربة صاروخية، وبالتبعية هناك احتمالات قائمة بشأن إجراء باكستان تجربة مماثلة لاحقًا، ومن غير المرجح أن تجلس اليابان في مقعد المراقب في ظل هذه الأجواء.

وفقًا لهذه التطورات ما يُخشى منه في المرحلة المقبلة هو الانتقال من ألعاب الحرب التقليدية التي تتطور في المرحلة الحالية إلى “الألعاب النووية” في ظل هذا الوضع المتوتر في النظام العالمي، وما يواكبه من توترات في أقاليم العالم، ومن بينها الشرق الأوسط المتوتر بطبيعة الحال، خاصة إذا ما وضع في الاعتبار ما الذي يمكن أن يعينه الفشل الذريع لمسار عودة إيران إلى الاتفاق النووي، لا سيما في ظل التوترات الداخلية الحالية.

رسائل “ويست فرجينيا”

يمكن أن يحمل التزامن من بين ظهور ويست فرجينيا في بحر العرب والمناورات النووية Steadfast Noon التي يجريها الناتو حاليًا مؤشرًا ذا دلالة، وفقًا لبعض تقديرات الخبراء الاستراتيجيين، قد يكون الانتشار المثالي على اعتبار أنها لن تكون الوسيلة الفعالة للضربة النووية الثانية، لذا يفضل أن تكون خارج مسرح العمليات الرئيسي المعلن عنه من جانب الحلف (بلجيكا، وبريطانيا، وبحر الشمال) بالإضافة لصعوبات التواجد فيها أساسًا، مرورًا من بحر الشمال إلى بحر البلطيق، ناهيك عن أن تواجد ويست فرجينيا بحمولة نووية هي الأكبر من نوعها في العالم في هذا المسرح ينطوي على رسائل أكثر خطورة لدرجة أنها قد تعد إعلان حرب نووية، وليس فقط مجرد استعراض قوة، كذلك لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أو حلف الناتو التواجد بشكل آمن ومستقر في منطقة البحر الأسود. لكن أيضًا تطرح هذه السياقات تساؤلا آخر يتعلق بالعلاقة ما بين مناورات تجري في نطاق الأسطول السادس الأمريكي (مناورات الحلف) وتمرين يجري في نطاق الأسطول الخامس.

الاعتبار الآخر، من بين الرسائل المتصورة، هو أن الولايات المتحدة تستكمل اختبار الثالوث النووي، ففي الفترة السابقة، كانت هناك عملية إعادة انتشار لقاذفات بي 25 النووية شملت نشر مجموعة منها في بريطانيا، بالإضافة إلى تعزيز المجموعة الموجودة حاليًا في قاعدة العديد قطر، ومجموعة ثالثة موجودة في مورون الجوية جنوبي إسبانيا، كما أجرت الولايات المتحدة اختبارًا للصاروخ منتيمان 3 الفرط صوتي الذي يمكنه حمل أعلى عدد من الرؤوس الحربية والنووية، وبالتالي كانـت هناك حاجة للإعلان عن تمرين لغواصاتها النووية لإظهار الجاهزية الكاملة لاحتمالات التطورات، ومواكبة أيضًا للعمليات الروسية التي تعمل في الاتجاه ذاته، حيث أجرت روسيا مناورات لقاذفاتها النووية تو 95، كما أدخلت قاذفة (توبولوف باك دا) الخدمة، بالإضافة الى الاختبارات المتوالية لسلسلة الصواريخ الفرط صوتية مثل كينجال وإسكندر وتسركون، فيما يعتقد أنها تضع نحو 150 رأسًا من ترسانتها النووية في وضع التأهب بعضها على غواصاتها النووية الحديثة.

بخلاف هذه الاعتبارات الخاصة برسائل ظهور ويست فرجينيا، من الأهمية بمكان قياس تنامي الأهمية الجيوستراتيجية للشرق الأوسط في ضوء تطور هذه المعادلات على المسرح الدولي من المنظور الأمريكي، والتي تعطي قيمة إضافية للرسائل فيما يتعلق بالجانب الآسيوي من حيث التفاعلات ذات الصلة، وبشكل مباشر إلى كل من الصين في ضوء مخرجات مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير، والتلميحات الخاصة بتسريع الصين لوتيرة ضم تايوان، فضلًا عن استعداد كوريا الشمالية لإجراء تجربة نووية بعد التجربة الصاروخية التكتيكية المقلقة لكل من جارتها الكورية الجنوبية واليابان. ويؤخذ في الاعتبار أيضًا أن واشنطن نشرت قاذفة بي 1 بي في جوام، ووفقًا للمتحدث باسم البنتاجون الجنرال بات رايدر في بأن هدفها هو إرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة قريبة من حلفائها وشركائها لردع أي استفزاز محتمل.

أين يقع الشرق الأوسط في تلك الحسابات؟ 

عمليًا يمكن أخذ الاعتبارات الثلاثة في الحسبان، مع الميل إلى أن المنظور الخاص بأولوية الشرق الأوسط بالحسابات الجيوبوليتيكية والاستراتيجية عمومًا، وهي نقطة فارقة في حسابات التواجد الأمريكي في المنطقة، حيث أصبح الفارق هامشيًا بين الترتيبات الأمريكية الخاصة بتواجدها أو انتشارها العسكري في الشرق الأوسط، وما بين حسابات إعادة الانتشار الأمريكي في العالم عمومًا، وهي زاوية تضع القوى الرئيسية في الشرق الأوسط خاصة الأطراف المعنية بهذا التواجد في حالة ترقب لما سيجري في المستقبل، تتطلب أن تكون هذه الأطراف على اطلاع على النوايا الأمريكية التي تتجاوز مرحلة الترتيبات الأمنية إلى فرض صيغ جديدة تتعلق بمنظورها الأوسع لمعادلة توازنات القوى العالمية.

البعد الآخر -في السياق ذاته- يتعلق باتجاه روسيا لفرض الحسابات ذاتها، وهنا تظهر أهمية العلاقة الروسية مع كل من إيران وسوريا، وهي المسألة التي تثير الحاجة إلى ضرورة إعادة تقييم عدد من المؤشرات الطارئة. منها -على سبيل المثال- تنامي الحديث عن زيادة المخزون الروسي من الصواريخ في سوريا، إضافة إلى مقترح لنقل منظومات صواريخ استراتيجية يمكنها حمل رؤوس نووية، وإن كان ينظر إلى هذا الطرح على أنه نوع من المغامرة، وزيادة التحدي بشأن توسيع مدى الانتشار الصاروخي، إلا أن الحسابات الحالية هي نفسها تنطوي على مغامرة، وبالتالي لا يمكن استبعاد أي نوع من السيناريوهات مهما كانت تنطوي على درجة من المغامرة والخطورة.

في الأخير، من المتصور أنه لا يمكن بشكل انتقائي التعامل مع الرسائل الأمريكية بشأن تطوير خطط الردع والدفاع، لكن من الأهمية بمكان النظر إلى عاملين رئيسين، أولهما: أن مرحلة استعراض القوة وصلت إلى المدى الأقصى المتصور، باستعراض العضلات النووية. وثانيهما: وهو ما ينطوي على نطاق ليس أقل خطورة من العامل الأول وهو مدى اتساع الدائرة الجيبولوتيكية ذات الصلة بتفاعلات الحرب لا سيما ساحة الشرق الأوسط التي أصبحت بالفعل في قلب هذه التفاعلات.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21329/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M