التطبيع قد يبث حياة جديدة في “مبادرة السلام العربية”

غيث العمري

 

أحد الانتقادات الموجّهة لاتفاق التطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة هو أنه يخالف “مبادرة السلام العربية” التي أطلقتها السعودية وتم اعتمادها عام 2002. وهذا صحيحٌ في بعض النواحي  فالاتفاق الجديد ابتعد عن النهج الذي يشترط تحقيق التطبيع الكامل بين إسرائيل والدول العربية بعد تسوية جميع القضايا الفلسطينية (والسورية واللبنانية) العالقة مع إسرائيل. ومع ذلك، فمن خلال ربط الاتفاق بتعليق خطط إسرائيل لضم أراضٍ من الضفة الغربية، أعاد التأكيد من الجانب الإماراتي على الافتراض الأساسي الذي نصت عليه “مبادرة السلام العربية” القائل بربط التطبيع بالقضايا الفلسطينية. ونظراً إلى التلاقي المستمر بين مصالح إسرائيل وبعض الدول العربية، يشكل الاتفاق فرصةً لتحديث “مبادرة السلام العربية” – أي التخلي عن مقاربة “كل شيء أو لا شيء” بنهجٍ تدريجي وتبادلي يراعي المصالح القومية المشروعة للدول العربية ويحسّن في الوقت نفسه العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية.

تحوّلات جذرية منذ عام 2002

إن “مبادرة السلام العربية” هي اقتراح تقدّم به ولي العهد السعودي (والملك لاحقاً) عبد الله وتم اعتماده في القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002. وتَعِد المبادرة إسرائيل “بإقامة علاقات طبيعية” مع جميع الدول العربية مقابل “الانسحاب الكامل من كافة الأراضي العربية المحتلة منذ حزيران/يونيو 1967” وحل “عادل” و “متفق عليه” لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وفي ذلك الوقت، شكّلت “مبادرة السلام العربية” تحولاً جوهرياً في الموقف العربي الجماعي تجاه إسرائيل. ففي عام 1967 اجتمع القادة العرب في السودان لتحديد موقفهم الرسمي الذي أصبح معروفاً بإعلان “اللاءات الثلاث للخرطوم”: لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل. غير أن “مبادرة السلام العربية” تخلّت عن هذا الرفض المطلق وتبنّت موقفاً اشترط تحقيق حصيلة سياسية معينة مقابل إقامة علاقات مع إسرائيل. وهدفت هذه المبادرة في جوهرها إلى تحفيز الإسرائيليين على إحراز تقدم في القضية الفلسطينية عبر استغلال رغبتهم في تطبيع علاقاتهم مع دول المنطقة.

وكانت “مبادرة السلام العربية” غير فعالة إلى حدٍّ كبير في بلوغ هذا الهدف لأسباب عديدة، منها عدم رغبة إسرائيل في التعامل مع الاقتراح، والترويج العربي الباهت للفكرة إلى الجمهور الإسرائيلي، وسرعة تدهور الأوضاع على الأرض خلال الانتفاضة الثانية. ومع ذلك، صمد هذا التحول الجوهري في الموقف العربي على الرغم من المحاولات العرضية لإلغاء “مبادرة السلام العربية”.

وفي السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة تحوّلات جذرية، وتلاشت أي آمال بإيجاد حلٍ سريع للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي والتي ربما كانت قائمة عام 2002. وبدأت حكومات عربية كثيرة تتردد في تسخير جهود سياسية كبيرة فيما اعتبرتها عملية فاشلة. وفي الوقت نفسه، ظهرت تحديات أخرى أكثر إلحاحاً في المنطقة، ومنها تداعيات “الربيع العربي”، وأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الخارج، ونفوذ الحكومة التركية ذات الميول الإسلامية، مما أدّى إلى تراجع أهمية القضية الفلسطينية إلى أسفل قائمة أولويات تلك الحكومات. كما أدّت هذه التطورات إلى التقاء العديد من المصالح، مما دفع إسرائيل وعدة دول عربية إلى السعي وراء تعاون غير رسمي، وسري في الظاهر، ولكنه نال حيزاً كبيراً من التقارير. وفي حين أن نص “مبادرة السلام العربية” ظل دون تغيير، إلا أن مقاربة “الكل أو لا شيء” التي انطوت عليها “المبادرة” بدأت تتضاءل على أرض الواقع. ومؤخراً أضفى اتفاق الإمارات طابعاً رسمياً على هذه الديناميكية، وبذلك زاد بشكل كبير من مجالات التعاون المحتملة.

تفعيل “مبادرة السلام العربية”

من خلال التأكيد على ارتباط التطبيع بالقضايا الفلسطينية وفق ما نصّت عليه “مبادرة السلام العربية”، قد يُلقي الاتفاق الإماراتي الضوء على مسارٍ موازٍ للتقدم التدريجي في المسار الفلسطيني – الإسرائيلي. ووفقاً لهذا النهج، يمكن مقابلة التقدم الجزئي المحرز على المسار الأخير بخطوات مماثلة في الحجم بين إسرائيل والدول العربية. وفي الواقع أن قائمة التدابير الجزئية التي يمكن اتخاذها مع السلطة الفلسطينية طويلة وتتراوح بين التقدم التدريجي في القضايا الدبلوماسية الرئيسية كالمستوطنات، والخطوات الملموسة على الأرض بشأن حرية تنقل الفلسطينيين وتقدّمهم الاقتصادي، أو حتى توسيع نطاق صلاحية السلطة الفلسطينية لتشمل مناطق إضافية من الضفة الغربية. وبالمثل، قد يتّخذ التطبيع مع الدول العربية أشكالاً عديدة لا ترقى إلى مستوى العلاقات الكاملة، بدءاً من السماح للإسرائيليين بالمشاركة في الأحداث الرياضية والعلمية والثقافية على أراضي الدول العربية، وصولاً إلى إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الأمنية أو فتح مكاتب تجارية مع إسرائيل.

ويقيناً، يجب التعامل بحذر مع الجهود المبذولة لتعديل “مبادرة السلام العربية” لتفادي التجاوزات. وهذا يعني تجنّب أي محاولة لتحديث المبادرة رسمياً من خلال جامعة الدول العربية. ففي الوقت الحاضر، لا يمكن التوصل إلى إجماع حول هذه المسألة نظراً للانقسامات العميقة في العالم العربي – وإذا فُتحت المبادرة لإعادة صياغة النص من قبل الجامعة العربية، فلن يؤدي ذلك إلا إلى دعوة جبهة الرفض [للتدخّل]، وتحويل المبادرة إلى ساحة بالوكالة تحتدم فيها مختلف الخصومات الإقليمية. وبدلاً من ذلك، يمكن لمجموعة من الحكومات العربية ذات التفكير المماثل أن تبلور مقاربة جديدة. ففي عام 2013، على سبيل المثال، اجتمع وفدٌ من سبع دول [عربية] مع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري، وأعلن أنه سيتم تعديل “مبادرة السلام العربية” للسماح بتبادل الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين – وكان ذلك عنصراً أساسياً في الاقتراحات الأمريكية بشأن الأراضي في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه كان مفهوماً أن الدول تتحدث باسم جامعة الدول العربية، إلّا أنه لم تجرِ مداولاتٌ رسمية بهذا الشأن داخل الجامعة.

واليوم، قد تحتاج أي مجموعة من هذا القبيل إلى ترسيخ من قبل المملكة العربية السعودية، ويعود ذلك جزئياً إلى كَوْن مبادرة السلام العربية” إرثاً للملك الراحل عبدالله، ولكن الأهم من ذلك بسبب ثقل المملكة في العالم العربي. ويمكن في البداية أن تُعهد مهمة بلورة هذه المقاربة واختبارها إلى دول أصغر حجماً وأكثر مرونة من الناحية الدبلوماسية كالإمارات والأردن.

وسيتعين أيضاً إشراك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، على الأقل لضمان عدم محاولة حكومته إفشال هذا الجهد. ولكن نظراً لعلاقاته المتوترة مع العديد من القادة العرب، قد تكون بعض الدول غير راغبة في التعامل معه. وعلى الأرجح، إذن، قد تحتاج الولايات المتحدة إلى تشجيع القادة العرب بهدوء على اختبار هذه المقاربة، وفي الوقت نفسه تحفيز السلطة الفلسطينية على إعادة التواصل مع واشنطن وإطار عمل “مبادرة السلام العربية”. ويمكن لأوروبا أيضاً أن تبدي دعمها من خلال تقديم الحوافز اللازمة لاتخاذ خطوات تدريجية وملموسة بين الفلسطينيين وإسرائيل.

وكل هذا قد يتطلب إجراء محادثات عربية صريحة مع قادة السلطة الفلسطينية للتأكيد على الرسالة الأساسية نفسها وهي: أن الفلسطينيين سيحظون بفرصٍ للاستفادة من التقارب العربي الإسرائيلي لصالحهم ولكنهم لا يستطيعون إيقاف الأمر المحتوم. ويجب أن تنظر هذه المحادثات في ماهية الفوائد التي سيجنيها الفلسطينيون، من بينها الحوافز الإضافية التي قد تكون الدول العربية على استعداد لمنحها للفلسطينيين. ولكن بغض النظر عن التفاصيل التي تناقشها، يجب على الدول العربية أن تتجنب المجاملات الدبلوماسية التقليدية وأن توضح، على انفراد، بأنه على الرغم من استمرار التزامها بالحقوق والمواقف الأساسية للفلسطينيين، إلا أنها لم تعد مستعدة لوضع التكتيكات الدبلوماسية الفلسطينية قبل مصالحها الوطنية.

ومن شأن هذه المقاربة أن تدعم المصالح الأمريكية أيضاً. فتوفير مسارٍ للتطبيع يتغلب على التردد المستمر لدى بعض الدول العربية قد يساعد على انبثاق مشهد أمني إقليمي جديد. كما أن تقديم الحوافز لخطوات فلسطينية-إسرائيلية تدريجية ولكن ملموسة من شأنه أن يخدم الهدف الذي تبنّته كل إدارة أمريكية منذ الرئيس كلينتون – وهو تعزيز التقدم التدريجي على الأرض بالتوازي مع الجهود الرامية لضمان الحل الدائم.

الخاتمة

كشف الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل عن القيود التي تعيق المقاربة القديمة المدرجة في “مبادرة السلام العربية”. وعوضاً عن التخلي عن هذه الأداة التي قد تكون مفيدة، يجب على الأطراف المعنية تبنّي نهج جديد يقوم على خطوات تدريجية وتبادلية توازن تماماً بين المصالح التي تهم كافة الأطراف. ورغم أن هذه المقاربة ستكون بعيدة كل البعد عن الأهداف السامية الأصلية لـ “مبادرة السلام العربية”، فقد ثبت على مدى سنوات أن هذه الأهداف بعيدة المنال، لذا فإن اتباع نهج أكثر تواضعاً يوفر فرصة أفضل لتحقيق نتائج ملموسة. وقد أثبتت الدولتان العربيتان اللتان توصلتا إلى اتفافيتي سلام فرديتين مع إسرائيل في الماضي – مصر والأردن – أنهما أكثر فعالية في التوسط في الخلافات الفلسطينية – الإسرائيلية من الدول التي اختارت عدم الانخراط، لذا لا ينبغي الاستهانة بمنافع السلام المحتملة للتطبيع التدريجي.

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/normalization-can-inject-new-life-into-the-arab-peace-initiative

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M