الحدّ الأقصى: قراءة في الحسابات الروسية حيال الأزمة الأوكرانية

د. توفيق أكليمندوس

 

تدريجيًا تتضح الصورة، نحن لسنا بصدد أزمة عادية، ولا أمام مناورات لانتزاع نصر صغير، الرئيس بوتين يعتقد أن اللحظة مواتية لفرض تغيير المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية القائمة في أوروبا، وهي معادلات يرى أنها تظلم روسيا، لأن الحلف الأطلنطي يتمدد شرقًا، ولأن صواريخه أقرب إلى روسيا من الصواريخ الروسية إلى الولايات المتحدة. الحلف -وفقًا له- يستعد لضم دول جديدة، ويكثف نشاطه في البحر الأسود مستخدمًا قواته البحرية والجوية، مما يشكل تحديًا استراتيجيًا جسيمًا. ويرى الرئيس الروسي أن الولايات المتحدة –نظرًا لماضيها في أمريكا الوسطى واللاتينية- لا تستطيع الكلام عن تطلعات وحقوق الشعوب في اختيار مصيرها وتحالفاتها وفي حكم ذاتها.

التصعيد الروسي واللحظة المواتية

قام الرئيس الروسي بتصعيدٍ على كل الجبهات، حيث لم يكتفِ بحشد عددٍ بالغ الضخامة (١٧٠ ألف جندي وفقًا لتقديرات أمريكية) على حدود أوكرانيا، منها تشكيلات قتالية آتية من مواقع بعيدة عن المسرح؛ بل لجأ إلى استخدام سلاح الطاقة ضد أوروبا، وقلل من إمدادات الغاز إليها في وسط شتاء قارص، أي يشهد استهلاكًا كبيرًا للطاقة، وتحدث الرئيس البيلاروسي عن إمكانية نشر روسي لأسلحة نووية على أراضي البيلاروس، وقال مسئولون روس نفس الكلام، وصعّدت روسيا من خطابها الدعائي المعادي لأوكرانيا والناتو وهو خطاب حملهما مسئولية الأحداث وزعم أن القوات الأوكرانية نشرت أسلحة كيماوية في إقليم الدونباس، وأن الشركات الأمنية الخاصة الأمريكية متواجدة في أوكرانيا، وتوجت موسكو خطابها بنشر قائمة مطالبها. وحتى لو اعتبرنا هذه القائمة موقفًا أوليًا سيتغير إن جرت مفاوضات، فإن المطالب الروسية مستفزة ومهينة، وفي نشرها ابتزاز صارخ. فقد طالبت روسيا بعدم ضم دول جديدة إلى الناتو، وبتوفير ضمانات قانونية في هذا الصدد. هذا الكلام لا يستهدف أوكرانيا فقط، فالسويد في الوضع نفسه، وطالبت موسكو بامتناع الناتو عن نشر قوات عسكرية إضافية في أوروبا، ليس مقارنة بوضع اليوم بل مقارنة بالوضع الذي كان سائدًا في عام 1997، قبل توسيع الحلف ليشمل بولندا ودول البلطيق. ووفقًا لموسكو فإن على الناتو التعهد بعدم الانخراط في “أي نشاط عسكري على أراضي أوكرانيا، أو أوروبا الشرقية، أو القوقاز، أو آسيا الوسطى!”.

اللحظة الراهنة مواتية في نظر الرئيس الروسي لأن القوى الغربية تمر بفترة ضعف غير مسبوقة، وقبل هذه الأزمة كانت الدول الغربية تجد صعوبة بالغة في توحيد مواقفها من كل من روسيا والصين، كانت الولايات المتحدة أميل إلى التركيز على المواجهة مع الصين مع الاستمرار في معاداة روسيا، وموقف ألمانيا وفرنسا كان غير واضح، فهما من ناحية من أنصار الحوار مع موسكو، ومن ناحية أخرى يدركان أن المحاولات السابقة لم تسفر عن أي تقدم.

وهي لحظة ضعف لأن الكثير من منتجات الثورات التكنولوجية ومن الجيل الجديد من الأسلحة لم يدخل بعد الخدمة، أوروبا لم تتقدم بالقدر الكافي في مشاوير إعادة بناء جيوشها، والجيش الأمريكي ركز آخر عقدين على نوع معين من الحروب وهي الحروب اللا نظامية، وتأخر جدًا في تحديث قواته وبناء قدراته، هذا لا ينفي أنه ما زال أقوى جيوش العالم وبكثير ولكنه لم يعد قادرًا على خوض حربين كبيرتين في الوقت نفسه، وهو الآن في مرحلة انتقال وتحول كبير، وفي الوقت نفسه يعتمد الاقتصاد الحديث على شبكات اتصال وتقنيات سيبرانية من الصعب تأمينها، وعلى سلاسل توريد هشة، ويعتمد الاقتصاد الأوروبي على الغاز الروسي، وفي شتاء قارص لا تستطيع أوروبا المخاطرة بقطع إمدادات الغاز.

ويُقدر الرئيس بوتين أن عناصر أخرى تعزز موقفه، منها توجهات الرأي العام الأمريكي الذي ملّ من المواجهات والمغامرات الخارجية، ومنها تأثير فيروس (كوفيد-١٩) على معنويات الغربيين وعلى صحتهم واقتصادهم وأوضاعهم المالية، ومنها ضعف أداء الإدارة الأمريكية الحالية منذ توليها السلطة، حتى لو نحينا جانبًا الملف الأفغاني، منذ سنة كانت العواصم الغربية تتحدث عن رغبة الحزب الديمقراطي الأمريكي ومعه ما يمكن تسميته تجاوزًا الدولة الأمريكية العميقة في معاقبة الرئيس بوتين الذي تجرأ وتدخل تدخلًا صارخًا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أُجريت سنة ٢٠١٦ وفي غيرها من الانتخابات الحاسمة في دول الغرب، ولجأ كثيرًا إلى الهجمات السيبرانية وكان الشعار السائد “انتهت الفسحة” والسلوك السيئ لن يمر دون عقاب، ووصف الرئيس بايدن نظيره الروسي بـ”القاتل”. ثم عجز الجبل عن توليد فأر ولم يحدث شيء. بل وافقت الإدارة الأمريكية على تكملة وتشغيل مشروع “نورد استريم ٢” الذي يمد ألمانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى بالغاز الروسي، وهو مشروع حيوي بالنسبة لكل من روسيا وألمانيا التي وضعت نفسها في ورطة عندما قررت المستشارة الألمانية السابقة الخروج من النووي بعد كارثة أوكيناوا سنة ٢٠١١، وفيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا رسمت الإدارة الحالية عددًا من الخطوط الحمراء لم تحترم موسكو أيًا منها ولم يحدث شيء.

الموقف الأمريكي غير المشروط

في الأزمة الحالية حصل الرئيس بوتين على موافقة أمريكية لإجراء مباحثات دون أن تضع الولايات المتحدة شروطًا مسبقة تتعلق بتخفيض التوتر والتوقف عن التصعيد، ووافقت الولايات المتحدة على عقد هذا اللقاء رغم قيام موسكو بنشر قائمة مطالب ليست فقط غير معقولة بل هي مهينة، وسمح الرئيس الروسي لنفسه بأن يقول إنه “مستعجل” وإنه لن ينتظر فترة طويلة، أي إنه يطالب بتوافق على تعديل جذري للمعادلات الحاكمة لأوروبا ليكون لموسكو نوع من “حق” الاعتراض على خيارات دول الجوار، ويحد جذريًا من التواجد العسكري في دول المعسكر الشرقي السابق، ويضغط الرئيس الروسي من أجل التوصل إلى مثل هذا الاتفاق بسرعة بالغة، بصرف النظر عن عدم احترام كل هذا للأعراف ولهيبة الولايات المتحدة؛ إلا أنّ الطلب الروسي الأخير يُشير إلى عامل مهم وهو “الوقت”، إن الحشد على الحدود الأوكرانية مكلف جدًا والاقتصاد الروسي ليس قويًا كالاقتصاد الصيني، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تستطيع الولايات المتحدة استغلال هذا العامل أم لا؟.

وبصفة عامة، فإن التصريحات الأمريكية أثناء الأزمة بدت غير موفقة أو على الأقل شديدة الحرص على عدم إقلاق الرأي العام الأمريكي، فشدد الرئيس الأمريكي على أنه لن يقوم بإرسال قوات أمريكية مقاتلة إلى أوكرانيا لأن هذه الدولة ليست عضوًا في الناتو، وطبعًا يمكن فهم هذا التصريح على أنه حث لأوكرانيا على عدم استفزاز روسيا وعلى عدم الاشتراك في التصعيد، ولكنني أعتقد أن توصيل الرسالة نفسها بطريقة غير معلنة وعبر القنوات الدبلوماسية كان حلًا أفضل. ومن واشنطن قالت مصادر إن العقوبات ضد الغاز الروسي ستكون آخر العقوبات ولن يكون رد فعل واشنطن الأول، وطبعًا قيل هذا لتطمين المواطن الأمريكي والأوروبي الذي يخشى أزمة اقتصادية وارتفاع أسعار الطاقة في حال اتخاذ عقوبات ضد روسيا، ولكن إرسال هذا القول رسالة خاطئة. تحدث المسئولون الأمريكيون ومجلس الشيوخ الأمريكي عن عقوبات اقتصادية قاسية قسوة لم يسبق لها مثيل، ولكن ما تم الإعلان عنه غير مقنع. قطعًا نستطيع أن نتخيل عددًا من العقوبات القاصمة للاقتصاد الروسي، ولكن السؤال يبقى: لماذا التكتم؟. وأخيرًا وليس آخرًا وافقت الولايات المتحدة على الحوار رغم اللهجة الروسية وطلبات موسكو.

حسابات “بوتين”

قامت استراتيجية الرئيس بوتين على تصعيد دائم ومتواصل للأزمة، ولا نعرف ولا يعرف أحد إن كان يريد تحقيق حلمه بتوحيد الشعوب الروسية (شعوب روسيا والبيلاروس وأوكرانيا) وبتشديد القبضة على البحر الأسود أم يريد فرض معادلة جديدة في أوروبا، أو الاثنين. يرى بعض الخبراء أنه يسعى أولًا وأخيرًا إلى صفقة كبرى تفقد المعسكر الغربي قدرًا كبيرًا من مكتسبات ١٩٩١، وتوقف ما يراه الرئيس بوتين أنه زحف دائم نحو الحدود الروسية، ويقولون إن خيار غزو جزئي أو كلي لأوكرانيا سيكون كارثيًا لأنه حتى لو نجح في غزو كل المدن وكل أوكرانيا فإن التكلفة ستكون غالية جدًا بين الخسائر في الأرواح والمعدات أثناء الغزو وبين تكلفة احتلال وإعادة بناء وإعاشة الإقليم الأوكراني وتكلفة العقوبات الغربية، واستحالة قبول المجتمع الدولي لمثل هذه العمليات، ويقولون إن الرئيس بوتين إن قرر الهجوم فسيختار غالبًا غزو جزء كبير من أوكرانيا أو كلها، ولن يكتفي بتقدم محدود كما يأمل البعض أو بضم إقليم الدونباس إلى روسيا. ومنطقهم في هذا ما دامت التكلفة كبيرة فيستحسن أن يكون المكسب كبيرًا.

هذا الكلام –تفضيل بوتين لصفقة كبرى- يبدو وجيهًا وإن توقف جزء من دقته على قدرة الرئيس الروسي على التحكم في مشاعره وفي أحلامه باسترداد ما خسرته روسيا، وإن توقف جزء آخر على كفاءة الجيوش الروسية والأوكرانية. لا يشكك أحد في تفوق الجيش الروسي الساحق، ولكن السؤال الحالي يتعلق بقدرة الجيش الأوكراني على إلحاق خسائر كبيرة به ترفع كلفة الغزو. يقول الأمريكيون إن القوات البرية الأوكرانية أقوى بكثير مما كانت عليه سنة ٢٠١٤، ولكنها ليست قوية بالقدر الكافي، ويضيفون أن هناك تساؤلات حول ولائها لنظام كييف، حيث إن هناك أقلية أوكرانية تفضل الالتحاق بروسيا، ورفض مسئول أوكراني سابق تحدث في حلقة نقاشية في المجلس الأطلسي يوم ٢٢ ديسمبر هذا التشاؤم، وقال إن القوات ستقاتل بشراسة، وإن الرأي العام الأوكراني أقل انقسامًا اليوم مما كان عليه سنة ٢٠١٤. ومن ناحية أخرى، لا يعرف أحد بدقة قوة الجيش الروسي، قطعًا شبكة الصواريخ قوية، ولكن الدبابة الأحدث –على سبيل المثال- ليست متوافرة بأعداد تكفي. وهناك من يرى أن روسيا تبالغ في تقدير خطابها العام لقوتها، وهناك من يقول إنها تقلل من شأنها، ولا نملك المؤهلات والمعلومات التي تسمح لنا بحسم الجدل حول هذه النقاط. وعلى العموم فإن سير العمليات لا يعكس بالضرورة ميزان القوة عند بدء الحرب. المهارات والتكتيك والروح المعنوية والحظ والأحوال الجوية تلعب دورًا هامًا، أما الرأي العام الروسي فالثابت أنه يشارك رئيسه في تشخيصه، يتحمل الناتو وأوكرانيا مسئولية الأزمة وسلوكهما غير مقبول، ولكنه قطعًا لا يريد حربًا تتسبب في موت أبنائه، وهناك مؤشرات على تململه من السياسات البوتينية وعلى استيائه من تجاهل النظام لحدة المشكلات الداخلية وتراجع مستويات المعيشة.

وفي مطلع نوفمبر، قال الرئيس الأوكراني إنه ورد إلى علمه وجود محاولة روسية لتدبير انقلاب في كييف يطيح به، ولم يعط تفاصيل، وأنكرت موسكو هذا بشدة. يبدو لي أن مثل هذا السيناريو يفترض أن حكومة الانقلاب ستطلب مساعدة الجيش الروسي، وستوفر له غطاء شرعيًا. وعلى العموم سرعان ما اختفى هذا الحديث، ويبدو هذا السيناريو واردًا وإن كانت احتمالات حدوثه ضعيفة نظرًا لتبعاته المحتملة في أوكرانيا.

وأيًا كانت نوايا الرئيس بوتين إلا أن مقاربته للأزمة لها عيوب، تصعيده المتواصل والسريع ورفعه الدائم لسقف طلباته يغلقان أمامه طريق العودة والخروج الآمن من الأزمة إن لم يحصل على نصر كبير، نصر حقيقي وليس رمزيًا، وهو نصر لا تستطيع الإدارة الأمريكية قبوله أو الموافقة عليه دون أن تخسر كل مصداقية ودون أن يؤثر هذا على سلوك الصين وسلوك حلفاء أمريكا. ومن ناحية أخرى، يلعب الوقت ضد روسيا نظرًا لتكلفة الحشد الباهظة، وبالتالي قد يجد الرئيس الروسي نفسه مضطرًا إلى مغامرة عسكرية محفوفة بالمخاطر إن طال أمد المفاوضات.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18192/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M