الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين تمتد إلى داخل أروقة اليونسكو

مي صلاح

 

بعد خمس سنوات من الانسحاب بسبب عضوية فلسطين، قررت الولايات المتحدة العودة مجددًا إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” في يوليو القادم؛ خوفًا من اتساع نفوذ الصين ليمتد داخل أروقة المنظمة التي كانت تتلقى الدعم منها، فبين أسباب الانسحاب والعودة نجد أننا أمام حرب باردة تزيد من حدة التوترات الموجودة بالأساس بين أكبر قوتين.

عن منظمة اليونسكو وأهدافها

هي وكالة تابعة للأمم المتحدة تتخذ من باريس مقرًا لها، وتهدف إلى تعزيز التعاون الدولي والسلام من خلال تعزيز القضايا التربوية والعلمية والثقافية، ولعل اسم “اليونسكو” يتردد صداه كثيرًا عند الإشارة إلى أي موقع أثري؛ إذ إن من أبرز مهام هذه المنظمة تحديد المواقع على مستوى العالم كمواقع للتراث العالمي، مما يعني الاعتراف الدولي والتمويل المحتمل للحفاظ وحماية هذا الأثر، وكانت الولايات المتحدة من أهم الأعضاء المؤسسين لليونسكو في عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وتتمثل أهداف منظمة اليونسكو فيما يلي:

● اتخاذ كافة التدابير؛ بهدف ضمان التنمية الثقافية المستدامة المحددة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

● حماية التراث الثقافي ومكافحة الاتجار غير المشروع بالمقتنيات الثقافية.

● حل أزمة التعليم على مستوى العلم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، التي يواجهها عالمنا اليوم.

● الاستثمار في الشباب للحصول على تربية نوعية لسد الطريق على التطرف العنيف.

● التأكيد على دور حرية التعبير والحصول على المعارف في مجالات التنمية المستدامة.

● المساواة بين الجنسين واستقلالية المرأة من أجل التنمية والسلام المستدامين.

من الانسحابات المتكررة إلى العودة.. الأسباب والدوافع

تعود قصة الانسحاب إلى عام 2011، في عهد الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما”، عندما أدخلت اليونسكو فلسطين كعضو بها، وهو الأمر الذي أغضب الولايات المتحدة وإسرائيل بالطبع، بدعوى أن المنظمة كانت متحيزة ضد إسرائيل، فوفقًا للقوانين الأمريكية أيضًا، فإنها تحظر- بسبب العلاقات التاريخية للدولة مع إسرائيل- التمويل لأي وكالة تابعة للأمم المتحدة تتضمن الاعتراف بمطالب الفلسطينيين بدولة خاصة بهم.

وقام حينها البلدان بوقف تمويل الوكالة، وكان تمويل الولايات المتحدة وحده يمثل 22% من إجمالي ميزانية الوكالة، أي ما يعادل 75 مليون دولار، ما ترتب عليه فقدان حق التصويت للبلدين. والجدير بالذكر أن فلسطين رغم ذلك لم تعترف بها الأمم المتحدة كدولة ذات سيادة، إذ تم تضمينها كدولة مراقبة غير عضو، بناء على اعتراضات إسرائيل في عام 2012، مما يعني أنها يمكن أن تشارك في إجراءات الجمعية العامة لكنها لا تملك حقوق التصويت.

وفي عام 2013، أصر سفير إسرائيل لدى اليونسكو “نمرود بركان”،أن بلاده تؤيد قرار الولايات المتحدة بوقف تمويلها، حيث أنها تعارض وبشدة تسييس اليونسكو أو أي منظمة دولية، بانضمام دولة “غير موجودة” مثل فلسطين، على حد تعبيره، خاصة وأن الفلسطينيين يطالبون الأمم المتحدة الاعتراف بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة -الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967- من أجل دولتهم المستقلة، وهو المطلب الذي ترى فيه إسرائيل أنه يهدف إلى التحايل على تسوية تفاوضية ويهدف إلى الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات.

وفي عام 2016، صدر قرار من اليونسكو بشأن مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر، حيث سجلت لجنة التراث العالمي التابعة للمنظمة “قبر البطاركة”، الواقع في مدينة الخليل بالضفة الغربية، على أنه يقع في “دولة فلسطين”.

ومع توقف الولايات المتحدة لعملية التمويل، تراكمت المستحقات عليها لتصل إلى 619 مليون دولار خلال سنوات التمرد، أي أكثر من ميزانية اليونسكو السنوية المقدرة بـ 534 مليون دولار، وكان هذا المبلغ أحد الأسباب وراء قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بالانسحاب بشكل رسمي من المنظمة عام 2017، ليدخل القرار حيز التنفيذ عام 2019، مع العلم أن إسرائيل هي الأخرى تراكمت عليها المستحقات ووصلت إلى 10 ملايين دولار.

ولم يكن هذا الانسحاب الأول للولايات المتحدة من المنظمة التي أنشئت عام 1946، فقد انسحبت سابقًا من اليونسكو في ظل إدارة رونالد ريجان في عام 1984 لخلافات حول القضايا الأيديولوجية خلال الحرب الباردة، ولأنها اعتبرت الوكالة “سيئة الإدارة وفاسدة وتستخدم لتعزيز المصالح السوفيتية”. وانضمت مرة أخرى في عام 2003 في عهد الرئيس “جورج دبليو بوش”، الذي أكد حينها أن المنظمة تم إصلاح ما بها من فساد، وأن أمريكا ستشارك بشكل كامل في مهمتها لتعزيز حقوق الإنسان والتسامح والتعلم.

الصين كلمة السر وراء العودة

وعن العودة هذه المرة، فالقرار-على غير المتوقع- يعود إلى القلق من الصين، القوة المنافسة للولايات المتحدة، خاصة وأنه في السنوات التي انسحبت فيها الولايات المتحدة من اليونسكو قامت الصين بسد الفجوة التي خلفتها في صنع سياسة اليونسكو، مثل وضع معايير الذكاء الاصطناعي والتعليم التكنولوجي في جميع أنحاء العالم، هذا بجانب استثمار مبالغ ضخمة جدًا في منظمات وبرامج الأمم المتحدة.

أصبحت منافسة العصر الرقمي للصين هي أولوية عظمى للولايات المتحدة، وهو ما يعكسه ترحيب المسؤولين بالمنظمة بقرار العودة. ولكن لا يزال هناك قانون كما ذكرنا يعيق العودة إلى اليونسكو، ولهذا يمكن للولايات المتحدة أن تتنازل عن هذا القانون إذا أخطر الرئيس الأمريكي رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ المؤقت ولجان الكونجرس بإعادة الانضمام من أجل “مواجهة النفوذ الصيني” أو تعزيز المصالح الوطنية الأمريكية الأخرى.

وهذا القانون كان سينتهي العمل به في 30 سبتمبر 2025، ما لم يمدده الكونجرس، أو “إذا حصل الفلسطينيون، بعد سن هذا القانون، على نفس المكانة التي تتمتع بها الدول الأعضاء أو العضوية الكاملة مثل دولة في الأمم المتحدة أو أي وكالة متخصصة تابعة لها خارج اتفاقية يتم التفاوض بشأنها بين إسرائيل والفلسطينيين “.

تؤمن واشنطن أن عودتها ستعطي الأولوية للاستعداد العسكري والتعليم والتكنولوجيا، خاصة وأنها تصر على أن الصين تستخدم التكنولوجيا لقمع شعبها بينما تسرق الشعب الأمريكي، وبالتالي فإن قرار العودة من شأنه أن يعزز الضوابط على التكنولوجيا الصادرة والملكية الفكرية من الولايات المتحدة.

وفي إطار هذه المنافسة المتحتمة، تنفق الولايات المتحدة الأمريكية-بعيدًا عن اليونسكو- المزيد من الموارد على قطاع التكنولوجيا، لا سيَّما في مجال التكنولوجيا العالية التقنية؛ وذلك من أجل التصدي للاستراتيجية الصناعية التي أطلقتها الصين (صُنِعَ في الصين 2025)، والتي مكَّنتِ الصين من تطوير قدراتها في مجال التكنولوجيا العالية التقنية، ممَّا جعلها متقدمة في المجالات العسكرية والاقتصادية وفي مجال الفضاء الخارجي، الأمر الذي قد يغير من موازين القوى على مستوى النظام الدولي، ويرفع مستوى الصراع بين القوى الدولية إلى أبعاد جديدة من أجل تحديد من يمتلك القوة العالمية.

وفي الفترة الأخيرة، رحبت الولايات المتحدة وأشادت بالطريقة التي تعاملت بها اليونسكو في السنوات مع التحديات الناشئة، وتحديث إدارتها، وخفض التوترات السياسية. وقد وافق الكونجرس في ديسمبر العام الماضي على تخصيص ما يزيد على 500 مليون دولار؛ لتسوية مستحقات البلاد غير المدفوعة للهيئة والسماح بعودتها كعضو كامل العضوية.

ومن المقرر أن تدفع الحكومة الأمريكية مستحقاتها لعام 2023 بالإضافة إلى 10 ملايين دولار كمساهمات إضافية هذا العام مخصصة للتوعية بالهولوكوست، والحفاظ على التراث الثقافي في أوكرانيا، وسلامة الصحفيين، وتعليم العلوم والتكنولوجيا في إفريقيا. وطلبت إدارة بايدن بالفعل 150 مليون دولار لميزانية 2024 لتوجيهها إلى مستحقات ومتأخرات اليونسكو. وتتوقع الخطة طلبات مماثلة للسنوات التالية حتى يتم سداد الدين بالكامل.

وستواجه خطوة الانضمام مجددًا تصويتًا من قبل الدول الأعضاء في اليونسكو، وفقًا للقوانين، ومن المتوقع أن يمر هذا التصويت بسلام، حيث لم تعترض أي دولة –حتى الآن- على قرار العودة. وبعودة الولايات المتحدة، ستكون إسرائيل وليختنشتاين الدولتين الوحيدتين غير العضوين في العالم. ومن جانبها لن تعارض الصين عودة الولايات المتحدة إلى اليونسكو، على الرغم من العلاقات الصعبة بين بكين وواشنطن، وترى الصين أن اليونسكو بحاجة إلى تكاتف جميع الدول الأعضاء للوفاء بمهامها، وأنها مستعدة للعمل مع الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة.

هل العودة لليونسكو تقوض العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟

باختيار الولايات المتحدة تحدي الصين من خلال العودة لليونسكو، يبقى الموقف غير مستقر بينها وبين إسرائيل التي كانت سبب الانسحاب بالأساس، وقد بدأت التوترات في الظهور عقب إعلان العودة داخل الكونجرس الأمريكي، فالعديد من المسؤولين “الجمهوريين بالأخص” يرون أن قرار إدارة بايدن بالانضمام مجددًا يقوض التحالف المهم بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا يلتفت إلى تاريخ اليونسكو في تمرير قرارات مناهضة لإسرائيل، بما في ذلك القرارات التي تحددها على أنها “القوة المحتلة للقدس”، ويشددون على أن أي منظمة لا تتعامل مع إسرائيل كدولة شرعية ومساهمة لا تستحق دعم الولايات المتحدة أو مشاركتها.

ويجادل المسؤولون أيضًا أن تمويل اليونسكو مجددًا بالرغم من موقفها المعلن والصريح من إسرائيل ما هو إلا إهدار لأموال دافعي الضرائب الأمريكيين. وقد تظهر احتجاجات في الفترة القادمة تجاه هذه القضية تحديدًا. وعلى الرغم من إسرائيل لم تحدد موقفها حتى الآن ولم تصدر أي بيان حول عودة الولايات المتحدة أو عودتها هي تحت لواء المنظمة، فإن المراقبين للموقف يعتقدون أن إسرائيل بالتأكيد على دراية مسبقة بالخطوة الأمريكية ويبدو أنها لن تعارض مساعيها للانضمام إلى المنظمة.

وختامًا، يظهر من كل هذه المجهودات الأمريكية أن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة واسعة ومعقدة بشكل غير عادي. ومن خلال “اليونسكو”، يبدو أننا أمام حرب باردة سيعزز فيها من ينفق أكثر موقفه، وفي جميع الأحوال، لا شك أن المنظمة الإنسانية التي تخدم ملايين الأشخاص هي المستفيد الحقيقي من هذه المنافسة.

 

.

رابط المصدر:

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M