القومية التركية والعثمانيون الجدد

إيهاب عمر

 

شكلت فكرة صعود إمبراطورية من الشرق لمنافسة إمبراطورية الغرب هاجسًا دائمًا في بيوت السياسة والاقتصاد في العالم الغربي، وذلك منذ فجر التاريخ وليس في سنواته الأخيرة كما تظن بعض الأقلام؛ إذ أن الصراع الدولي بين اليونان والفرس ولاحقًا الرومان ومصر، كان في مجمله محاولة من الغرب للقضاء على إمبراطورية الشرق أيًا كانت، في مصر أو فارس أو لاحقًا في الأناضول وبلاد ما بين النهرين، أو روسيا والصين.

وفى حقب الإصلاح والنهضة والتنوير والثورات الصناعية على التوالي، كانت رؤية الغرب أنه يجب استخدام الإمبراطورية الروسية في لجم الإمبراطورية العثمانية متى صعدت، والعكس صحيح؛ إذ يتم استخدام الإمبراطورية العثمانية بوجه الإمبراطورية الروسية متى قويت شوكة سان بطرسبرج أو موسكو لاحقًا. وللمفارقة فإن كلا الإمبراطوريتين، العثمانية والروسية، توحدتا بوجه مشروع محمد على الإمبراطوري في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وبحلول القرن العشرين وبدء فعاليات الحرب العالمية الأولى، كان القرار قد اتُخذ في الغرب بأن نهاية وتفكيك رجل أوروبا المريض (المسمى الذي أُطلق على مرحلة أفول الدولة العثمانية) قد حان، وبالمثل فإن الإمبراطورية الروسية القيصرية قد تآكلت، وهكذا دارت فعاليات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) في إطار فكرة تفكيك الإمبراطوريات، الروسية القيصرية والعثمانية والمجرية والنمساوية وألمانيا القيصرية.

ولكن صعود الشيوعيين البلاشفة في روسيا صنع الحاجة من جديد إلى حائط صد في الأناضول حيال المد الروسي، وقد أصبح في النسخة الروسية الشيوعية مدًا شيوعيًا اشتراكيًا تقدميًا يتواصل مع الأحزاب اليسارية في عموم أوروبا، وهكذا فإن الانتصار الذي حققه القوميون الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وتأسيسه الجمهورية التركية قد وجد صدى إيجابيًا في نفوس الغرب، رغم أن هذا الانتصار قد بدد فكرة تقسيم الأناضول على أرمينيا واليونان وإيطاليا.

منذ عشرينات القرن العشرين، تلعب فكرة القومية التركية دورًا وظيفيًا لصالح الأجندة الغربية في مقاومة التمدد الروسي، ولم يكتف الغرب بتقوية الجمهورية التركية الوليدة في إطار لعب هذا الدور، ولكن الغرب خدم أيضًا الادعاءات الثقافية للمشروع التوسعي التركي القائم على الترويج لفكرة أن كافة الشعوب من غرب الصين إلى أوروبا الوسطى هي من أصول تركية.

ويلاحظ أن هذه المساحة على وجه التحديد هي التي شكلت الاتحاد السوفيتي في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وصولًا إلى أوائل التسعينات حينما انتهت الحرب الباردة بسقوط وتفكيك الدولة السوفيتية.

وتركزت الدعاية التركية والغربية على منطقة آسيا السوفيتية أو آسيا الوسطى اليوم، رغم أن التاريخ يثبت لنا أن كافة تلك الشعوب من غرب الصين إلى أوروبا الوسطى كانوا من أصول تتارية وليست تركية، وأن الوثائق الصينية تثبت أن شعوب آسيا الوسطي، الكازاخ والقرقيز والطاجيك والإيجور والأذربيين والأوزبك والتركمان، قد ظهروا من قبل ظهور القبيلة التركية “جوك ترك” التي أسست دولة خان الترك قبل أن تتم إبادتها على يد الرومان، وينتهي الأتراك الأصليون من كتب التاريخ. والأصل أن ينتسب الترك إلى التتار، وليس العكس كما قامت الدعاية التركية والغربية التي حاولت نسب التتار والمغول إلى العرق التركي!

ودمجت الدعاية التركية والغربية فكرة العرق بالدين، فأصبحت دعاية الحرب الباردة تذهب إلى الادعاء بأن كافة مسلمي الصين والاتحاد السوفيتي هم من أصول عثمانية وبالتالي تركية، وأنه على تلك الأقليات أن تسعى إلى الانفصال والاستقلال والثورة من أجل عودة مجد الإسلام والدولة العثمانية، وأنه لا يليق بهذه الأقليات المسلمة أن تخضع لحكم الشيوعيين الذين روجت الدعاية التركية والغربية لهم بأنهم “كفرة”.

ومع وصول الإسلاميين إلى الحكم في أنقرة عام 2002، بدأت فكرة توظيف القومية التركية في المشروع الإسلامي التركي “العثمانيون الجدد”. والمشروع الغربي المناهض للتمدد الروسي والصيني يتخذ أسلوبًا مختلفًا عبر إنشاء جامعة الدول التركية، والتي بدأت عام 2009 بتأسيس ما سُمي “مجلس التعاون للدول الناطقة باللغات التركية”، قبل أن يتحول في نوفمبر 2021 إلى منظمة الدول التركية أو كما أطلق عليه بعض المثقفين الأتراك “جامعة الدول التركية” في مقاربة مع منظمة “جامعة الدول العربية”. مقر المنظمة يقع في إسطنبول، وتضم إلى جانب تركيا كلًا من أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان، وتسعى تركيا إلى إقناع حكومات تركمانستان وأوزبكستان بالانضمام إلى الجامعة التركية!

هذه المنظمة التي تعمل منذ عام 2009 تحت قيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانت ذراع تركيا في محاولات التدخل والتأثير على الثورات الشعبية في قيرغيزستان، أو أحداث كازاخستان الأخيرة وما جرى من تمرد مسلح عنيف في أولى أيام يناير 2022 تحت ادعاء الثورة الشعبية، ما جعل موسكو تصدر بيانًا شديد اللهجة عن محاولات التدخل التركي في الشأن الكازاخستاني، وعرقلة الجهود الروسية لفرض الأمن على الجمهورية السوفيتية السابقة.

هذه المنظمة كانت ذراع تركيا في التدخل بحرب أوراسيا الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، رغم أن الشعوب الأذرية أقرب للفرس عن الترك، وإن كانوا عرقًا مستقلًا فلا هم من الترك أو الفرس، ولكن الدعاية التركية والغربية نجحت في إقناع الأقليات الأذرية داخل إيران وسكان جمهورية أذربيجان بأن ثقافتهم وعرقهم له أصل تركي!

هذا الادعاء التاريخي والثقافي والعرقي كان مفتاح تدخل تركيا في الملف الأوكراني ودعم حكومة كييف، تحت ادعاء أن عرقية تتار القرم سكان جمهورية شبه جزيرة القرم هم من أصول تركية، وأن تركيا تدافع عن امتداد عرقي وثقافي وديني لها!

وكانت جمهورية القرم قد أعلنت عام 2014 عن رفضها الاستمرار داخل أوكرانيا وطلبت الانضمام إلى جمهورية روسيا الاتحادية، ووافق البرلمان الروسي (الدوما) على هذا الطلب، وقام الكرملين فورًا ببسط سيطرة الدولة الروسية على الجمهورية التتارية الواقعة في جنوب أوكرانيا.

وقد حاولت إيران في زمن الرئيس محمود أحمدي نجاد تأسيس منظمة مضادة، تحت مسمى جامعة الدول الإيرانية أو “منظمة الدول الناطقة باللغة الفارسية”، وبالفعل عقد أكثر من اجتماع على مستوى رؤساء الدول، ضم إيران وأفغانستان وطاجكستان، وهى الاجتماعات التي توقفت عام 2014 عقب رحيل نجاد عن سدة الرئاسة الإيرانية.

وفى إطار عمل جامعة الدول التركية ودعمها غربيًا، تأتي الدعاية الإعلامية والصحفية المنتشرة في الغرب حول الأصول التركية لعرقية الإيجور في غرب الصين، في محاولة لتبرير أي دور تركي محتمل في الأزمة، وكذا محاولات تركيا تجنيس سكان وأقليات بعض الدول العربية، تحت ادعاء أنهم من أصول تركية، خاصة بين عرقية تركمان سوريا والعراق.

وحاولت تركيا إعطاء الجنسية التركية لبعض سكان القرى اللبنانية الفقيرة الذين يدعون أنهم من أصول تركية أو تركمانية، أو الترويج لتاريخ الدولة العثمانية في العالم العربي عبر الأفلام والمسلسلات من أجل نشر فكرة الانتماء للقومية التركية والانتساب للجمهورية التركية.

وقد عمدت تركيا إلى سياسة تتريك المناطق التي سيطرت عليها في سوريا خلال الربيع العربي، خاصة محافظة إدلب ومنطقة حلب الوسطى، من أجل تسهيل ضمها لاحقًا إلى الجمهورية التركية، أو حسم هوية المنطقة مبكرًا لصالح الهوية التركية حال نجاح أي محاولة غربية لإعلان كيان سوري مستقل ومنفصل عن الجمهورية العربية السورية في المنطقة الواقعة ما بين حلب الوسطى وكامل محافظة إدلب في شمال سوريا.

إن هذا التزاوج بين القومية والإسلام السياسي، سواء في تركيا عبر القومية التركية وفكر العثمانيين الجدد، أو في ايران عبر القومية الفارسية وفكر ولاية الفقيه؛ هو أمر لا تجده مع القومية المصرية التي تحمل إرثًا تاريخيًا عريقًا مضادًا للإرهاب الديني، لذا تجد كتابات أغلب منظري الإسلام السياسي المصري وعلى رأسهم سيد قطب تحمل العداء لفكرة الدولة الوطنية وتاليًا القومية المصرية، لأن القومية المصرية كانت عصية على الأسلمة والأخونة، عكس فكرة القومية الإيرانية والقومية التركية التي أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من مشاريع العثمانيين الجدد أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/66974/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M