المعشر: تراجع نفوذ أمريكا في العالم العربي

عادل رفيق

 

نشرت مجلة الإيكونوميست  البريطانية في 26 أغسطس 2021 مقالاً لمروان المعشر، وزير الخارجية الأردني السابق (2002-2004) ونائب رئيس الوزراء في الفترة (2004-2005)، والذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي – لشؤون الدراسات. يُصدّر المعشر مقاله بالتأكيد على أنه “كما حدث في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى، دأبت أمريكا على أن تتدخل وتفشل ثم ترحل على عجل – وتترك وراءها الفوضى التي على الآخرين إما القيام بإصلاحها أو التعايش معها.”:

كان حتمياً أن تأتي نهاية “حقبة الأحادية القطبية” الأمريكية عاجلاً أم آجلاً. ومع قرب انتهاء حقبة القوة العظمى الوحيدة، فإن نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط آخذ في الانحسار بشكل حتمي. لكن وتيرة هذا الانحسار تتسارع بسبب التغيير السريع الحادث فيما كان يُعتبر لفترة طويلة الركائز الثلاث الرئيسية للسياسة الأمريكية في المنطقة، وهي: الاستقرار وإسرائيل والنفط.

لنبدأ بالركيزة الأولى وهي الاستقرار: فقد فشل ما يعرف بـ “باكس أميركانا” أو هيمنة السلام الأميركي. فقد سئمت أمريكا من جهود إنفاذه (السلام الأمريكي)، وتعبت الدول العربية بدورها من محاولات الولايات المتحدة لفرضه عليهم دون اعتبار مصالحهم. وبعد أكثر من عقدين من عملية صنع السلام الفاشلة بين إسرائيل والفلسطينيين، ونتيجة للحرب الكارثية لأمريكا في العراق، وتفضيل واشنطن الاستمرار في اتفاق نووي مع إيران ضد مصالح الدول العربية – كل ذلك باعد بين الولايات المتحدة وشركائها العرب بشكل أكبر عن أي وقت مضى.

كان غزو أمريكا للعراق بلا ريب خطأً فادحاً. فقد وعدت الولايات المتحدة شعبها بأن الحرب ستكون خاطفة وغير مُكلفة، حيث سيجري تمويلها من قِبل دول الخليج، وأنها من شأنها نزع أسلحة الدمار الشامل المفترضة من بين يدي أحد الطغاة، وعلى حد تعبير الرئيس جورج دبليو بوش، “بناء ديمقراطية دائمة على قيم السلام والازدهار، تكون نموذجاً يُقتدى به في الشرق الأوسط الكبير”. ولكن هذه الوعود الخيالية، المبنية على معلومات استخباراتية خاطئة وتبجح مفرط في الثقة، واجهت واقعاً صادماً. وكلّفت أمريكا تريليونات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب بالإضافة إلى آلاف القتلى من الجنود. وجعلت التداعيات المتعاقبة للفشل في العراق (وأفغانستان) الشعب الأمريكي أكثر تشككاً في المغامرات العسكرية التي تقوم بها القوات الأمريكية في الخارج، وفي الدور الأمريكي على مستوى العالم بشكل عام.

ويعتبر معظم العرب أن غزو العراق كان تدخلاً خطيراً في شؤونهم – حيث كان انتهاكاً لسيادتهم، إن لم يكن أيضاً انتهاكاً لكرامتهم. فلم ينظروا إلى صدام حسين على أنه دكتاتور وحشي كما كان في الواقع، ولكنهم اعتبروه الشخص الذي كان يمكنه إعادة العزة والفخار إلى الأمة العربية؛ وهو ما لم تسمح بتحققه الحرب الأمريكية التي صُمّمت، في نظرهم، للحيلولة دون امتلاك أي دولة عربية لقوة كبيرة.

وقد أثبتت مظاهرات الربيع العربي الكاسحة التي اندلعت في عام 2011 – أثبتت للجميع، بما في ذلك أمريكا، أن استهداف الحفاظ على الاستقرار الإقليمي من خلال إستراتيجية دعم المستبدين القمعيين الذين يحتفظون بعلاقات ودية مع الغرب (خلافاً لصدام)، وهي الإستراتيجية التي تم اختبارها طويلاً، لم تعد خياراً قابلاً للتطبيق. وثبت أيضاً أن التدخلات الأمريكية المحدودة في ليبيا وسوريا، حيث كانت تسعى في غالب الأمر إلى العمل من خلال وكلاء محليين، ثبت أنها لا يمكن التعويل عليها لتحقيق الاستقرار.

وفي مواجهة هذه الإخفاقات العديدة، رفعت الولايات المتحدة يديها عن المنطقة. وكما قال الرئيس باراك أوباما آنذاك خلال مقابلة مع مجلة “ذي أتلانتيك” في عام 2016، “لقد تفادينا وقوع خسائر على نطاق واسع بين المدنيين، ومنعنا الانزلاق شبه المؤكد إلى حرب أهلية دموية طويلة الأمد. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الفوضى تسود ليبيا الآن.” أما خلفاء أوباما – كل من دونالد ترامب وجو بايدن – فقد دفعتهم رغبات مماثلة لمحاولة الخروج من المنطقة.

كان الاختلاف الرئيسي بينهما (ترامب وبايدن) فقط في طريقة التعامل مع إيران. فبينما تخلى ترامب عن الصفقة النووية التي أبرمها أوباما مع إيران في عام 2015، وفضّل ممارسة سياسة “الضغوط القصوى” على إيران؛ يسعى بايدن إلى إحياء الصفقة من جديد. وتشعر دول خليجية كثيرة أنه في سبيل التوصل إلى اتفاق مع إيران، تتجاهل أمريكا التدخل الإيراني المستمر في أمن المنطقة واستقرارها.

ويبدو أنه ليس هناك رئيس أمريكي على استعداد لتبني سياسة بديلة تتمثل في: بذل جهود كبيرة من أجل دعم عملية إصلاح جادة في العالم العربي. والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة كانت على مدى السنوات العشرين الماضية مسرحاً لسياسة “المهام غير المنجَزة”. فما أن تبدأ في تدخل خارجي ما، حتى تفشل في تحقيق أهدافها، ثم تغادر على عجل – وتخلّف وراءها حالة من الفوضى على شعوب الشرق الأوسط محاولة إصلاحها أو التعايش معها. والانسحاب من أفغانستان هو مثال واضح على ذلك. فقد تركت الولايات المتحدة الأفغان، بمن فيهم أولئك الذين وقفوا إلى جانبها، للعيش في ظل حكم طالبان.

لا تقتصر الأعمال غير المكتملة فقط على التدخلات، ولكنها تشمل أيضاً “عملية السلام” بين الفلسطينيين وإسرائيل. لقد فشل الدور الأمريكي للإشراف على المفاوضات في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. والأسوأ من ذلك، أن الولايات المتحدة وفّرت الغطاء لإسرائيل من أجل ترسيخ الاحتلال وإقامة شكل من أشكال الفصل العنصري – يتمثل في نظامين قانونيين منفصلين وغير متساويين، أحدهما للإسرائيليين والآخر للفلسطينيين. لقد كانت “صفقة القرن” التي طرحها السيد ترامب – والتي بموجبها قام بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لتكون بمثابة مباركة منه لضم إسرائيل للمدينة، ووضَع خطة سلام تحرم الفلسطينيين من حلمهم بالاستقلال – كانت دليلاً آخر للشعوب العربية على أن الولايات المتحدة لا تتجاهل مصالحهم فحسب، بل تعمل بشكل مباشر على تقويضها.

ومع ذلك، فإن تحالف الولايات المتحدة مع إسرائيل، وهو ثاني الأركان الثلاثة الأساسية في السياسة الأمريكية في المنطقة، آخذ أيضاً في التغير بوتيرة سريعة. فمن من خلال احتضان السيد ترامب، عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، على تسريع استقطاب آراء الأمريكيين تجاه إسرائيل. فما كان ذات يوم يُعتبر مسألة اتفاق سهل بين الحزبين أصبح جبهة خلافية في الحروب الثقافية الأمريكية. حيث كانت خطة السلام التي وضعها السيد ترامب تهدف إلى جذب مؤيديه من الإنجيليين، الذين يعتقد بعضهم أن منح الأرض التي وعد بها الله للإسرائيليين سيعجل بنهاية العالم. وبخصوص اليسار، ففي غضون ذلك، تسبب الاحتلال الإسرائيلي المتواصل في بروز جيل جديد من الأمريكيين يشكّكون في صحة التزام الولايات المتحدة الراسخ تجاه إسرائيل. وشمل التغير تيار الوسط أيضاً. فقد توصل استطلاع أجرته جامعة ماريلاند عام 2018 إلى أنه إذا ثبت أن حل الدولتين مستحيل التطبيق، فإن 64% من الأمريكيين سيفضلون تحقيق المساواة الكاملة للفلسطينيين على استمرار وجود إسرائيل كدولة يهودية.

كانت إعادة الاصطفاف الأمريكي هذه مدفوعة بعامل ثالث: وهو تنامي استقلالية مصادر الطاقة. فبينما بلغ صافي واردات الولايات المتحدة من الطاقة ذروته في عام 2005 حيث وصلت حوالي 30% من إجمالي الاستهلاك المحلي. ولكن بفضل تطور تقنيات التكسير الهيدروليكي للغاز الصخري، الذي زاد من قدرة استخراج الغاز والنفط، أصبحت أمريكا مصدراً صافياً للطاقة في عام 2019. ومع أنها لا تزال تستورد بعض النفط الخام، إلا أن حصة وارداتها من منظمة أوبك (التي تهيمن عليها الدول العربية) انخفضت من 85% إلى 14% فقط. لقد أصبحت أمريكا على وشك التحرر من الحاجة إلى تأمين وحماية إمدادات النفط من الدول المنتجة له في الشرق الأوسط. ومن المسلّم به أن العديد من حلفائها ما زالوا يعتمدون عليه (النفط)، بينما يبتعد العالم عن الاعتماد على الوقود الأحفوري، إلا أن النفوذ الذي كان من الممكن للدول العربية المنتجة للنفط أن تمارسه على أمريكا، آخذ في الانحسار.

وقد دفعت الأخطاء الفادحة والإخفاقات المتعددة والظروف المتغيرة لسوق الطاقة، بالإضافة إلى خيبة الأمل من السياسات الأمريكية من قبل الشعوب العربية والحكومات على حد سواء، دفعت دولاً أخرى إلى السعي لملء الفراغ الذي تركته أمريكا في المنطقة. فتدخلت روسيا وتركيا وإيران، لا سيما في سوريا، بالإضافة إلى أماكن أخرى. وأقدمت الإمارات والبحرين، والسعودية، ضمنياً، على إقامة علاقات أوثق مع إسرائيل لموازنة تأثير إيران. وقررت الصين استعراض قوتها من خلال تفعيل الوسائل الاقتصادية، وضخ أموال طائلة في المنطقة للدول المستعدة لقبولها، دون إبداء أي تحفظات.

لا يعني تراجع نفوذ أمريكا أبداً أن الطريق إلى الاستقرار والازدهار أصبح أسهل. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ربما لم تحقق نجاحات كبيرة في الشرق الأوسط، إلا أنه من غير المرجح أن أولئك الذين يتنافسون الآن من أجل بسط نفوذ أكبر في المنطقة سيكونون أفضل حالاً منها، أو حتى أن يحاولوا تقديم العون للمنطقة على الإطلاق.

إن التغييرات التي أحدثتها أسواق النفط والربيع العربي والاستخدام واسع النطاق لوسائل التواصل الاجتماعي تعني أن الأدوات القديمة للدول العربية والتي دأبت على استخدامها لحفظ السلام الاجتماعي – القبضة الأمنية المشددة وتقديم الإعانات المالية ووظائف القطاع العام – آخذة في التراجع. إنهم في الحقيقة يسعون للبقاء في السلطة من خلال الاعتماد على تكتيكات قبيحة وقمعية. ولا يكاد هذا يلقى استحساناً من الداعمين أو الشركاء المحتملين في الغرب. وحيث إنه لدى كل من الصين وروسيا وتركيا نوازع سلطوية، فلا نكاد نتوقع أبداً أن تسعى إلى دفع الأنظمة العربية إلى الانفتاح السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.

ورغم ذلك، فإن تحقيق الاستقرار في العالم العربي يتطلب ذلك تماماً (الانفتاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي). ويحتاج الحكام إلى تفعيل أدوات جديدة تشمل: الاستيعاب واحتواء الجميع، والمساواة في المواطنة، والأنظمة الاقتصادية القائمة على الجدارة والتي تبشر بتعزيز السلام الاجتماعي وتحسين مستوى المعيشة. ولا يمكن أن يأتي هذا التغيير أبداً من خلال إعادة الاصطفاف مع الصين، أو الاعتماد على روسيا أو التحالف مع إسرائيل. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال عملية إصلاح وطنية جادة وتدريجية. وفي ظل انسحاب أمريكا من منطقة الشرق الأوسط، فإن هذه المهمة يجب أن تقع على عاتق الدول العربية نفسها من الآن فصاعداً بشكل أكثر من أي وقت مضى. فعلى الحكام العرب إدراك أن القيام بإصلاحات أمر ضروري لضمان بقائهم في سدة الحكم، وعلى الشعوب العربية أن تسعى إلى استخدام الوسائل السلمية للدفاع عن حقوقهم بشكل أكثر تصميماً.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b4%d8%b1-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ac%d8%b9-%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b0-%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M