السودان ما بعد البشير: خرائط الفواعل الداخلية

 إسلام خليفة


تمهيد

بعد الانقلاب الذي شهدته السودان على نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسة عبد الفتاح البرهان لقيادة المرحلة الانتقالية، دخلت قوى الحرية والتغيير (قحت) ـ باعتبارها ممثلا عن الثورة ومطالبها ـ في مفاوضات طويلة استمرت قرابة 4 شهور، لترتيب المرحلة الانتقالية، وكان على رأس مطالبها تسليم السلطة للمدنيين، وأن تكون هناك مرحلة انتقالية مدتها أربع سنوات تعقبها انتخابات حرة، وانتهت المفاوضات بتوقيع وثيقة سياسية في أغسطس 2019 نصت على[1]:

  • فترة انتقالية مدتها 39 شهراً من تاريخ توقيع الاتفاق منها 21 شهراً تكون فيها الرئاسة للعسكريين و18 شهراً يترأسها عضو مدني تختاره قوى إعلان الحرية والتغيير بينما يكون إصلاح الأجهزة العسكرية مسؤولية المؤسسة العسكرية.
  • تشكيل مجلسين، الأول مجلس السيادة، ويتكون من خمسة عسكريين وخمسة مدنيين، بالإضافة لعضو مدني يتوافق عليه الطرفان (المجموع أحد عشر)، والثاني مجلس الوزراء، ويختار رئيسَه قوى إعلان الحرية والتغيير، ويختار رئيس الوزراء وزراء لا يتجاوز عددهم العشرين بالتشاور مع قوى الحرية والتغيير عدا وزيري الدفاع والداخلية اللذين يختارهما العسكريون في المجلس السيادي.
  • تأجيل تشكيل المجلس التشريعي لفترة أقصاها 3 أشهر (وهو مالم يتم حتى تاريخ كتابة هذه الورقة سبتبمر 2021)

ويعترض المسار الانتقالي العديد من التحديات على رأسها الترتيبات الأمنية والوضع الاقتصادي، واستكمال مسار اتفاق السلام مع الحركات المسلحة، وتعدد مراكز القرار وتضاربها والتوترات الاجتماعية والفساد، هذا مع تنامي الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية، وغياب الأولويات والتصورات المشتركة لكيفية إدارة المرحلة الانتقالية.

وينقسم المشهد منذ عزل البشير إلى أربع مكونات رئيسية، هم المكون العسكري ويقوده عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه حميدتي، المكون المدني ضمن تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)، الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، الحركات المسلحة، وجميعهم ممثلون في مجلس السيادة كشركاء في الحكم. وخلال الفترة الماضية، شهد تحالف الحرية والتغيير انقسامات وتفكك في جبهته الداخلية مما أضعف دوره في المشهد كمكون رئيسي وكذلك فشلت حكومة حمدوك في إدارة الأزمات الاقتصادية وسط سخط الشارع وضغط من باقي المكونات عليها، بالتوازي مع تغول المكون العسكري على المكونات الأخرى وقيادته للمشهد، كما مثلَ اتفاق السلام أحد محطات الخلاف بعد تخوف البعض من سعيه لتغيير الحاضنة السياسية الحالية بحاضنة أخرى.

تتناول هذه الدراسة المكونات الفاعلة في سودان ما بعد البشير، والعلاقات البينية بينهم وكذلك أوزان كل منهم ودورهم في المشهد والتحديات التي تواجه كل مكون، وآفاق هذه المكونات في ظل اضطراب الوضع الاقتصادي والأمني.

أولاً: المكون العسكري وفاعليته في المشهد

يتصدر المكون العسكري، بشقيه الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، المشهد السوداني، إذ أنه منذ استقلال السودان عام 1956 والجيش السوداني هو الفاعل الرئيسي، وفي بداية الفترة الانتقالية حَظي المكون العسكري بدعم خارجي كبير مكّنه من تثبيت قدمه في الحياة السياسية، ومنذ بدء الفترة الانتقالية تصدر حميدتي وقوات الدعم السريع، المشهد وتضخمت أدواره السياسية والعسكرية فقاد كل من مفاوضات السلام، واللجنة العليا لإدارة الأزمات الاقتصادية، وكذلك اللجنة العليا لجمع السلاح. وقامت دولة الإمارات بالوقوف خلفه والدفع به لتصدر المشهد وقيادة البلاد فحاول فرض هيمنته، ولكن واجهته العديد من العقبات تتمثل في أنه ليس جزءاً من المؤسسة العسكرية فضلاً عن أنه قائد مليشياوى من غرب السودان مما يستنفر بقية القبائل في شرق وشمال السودان لمعارضته، كما أنه غير محسوب على تيار سياسي بالإضافة إلى عدم وجود تكتل سياسي داعم له، لذلك يزداد تأزم العلاقة بينه وبين الجيش.

تنامت الخلافات بين ممثلي الجيش السوداني (البرهان، ياسر العطا، كباشي) من جهة، وقائد الدعم السريع حميدتي من جهة أخرى، حيث يرى ممثلو الجيش أن حميدتي يسعى إلى إقصاء مؤسسة الجيش واستلام الحكم بدعم من الإمارات، وكان كباشي، أثناء زيارته لولاية جنوب كردفان لاحتواء نزاع بين قوات تابعة للجيش وقوات الدعم السريع، اتهم الدعم السريع بأنهم أصبحوا يتسترون وراء القبيلة والمؤسسة حتي تحميهم من المساءلة، وذلك ردّاً على تصريحات لحميدتي اتهم فيها “كباشي” أنه أفقد المجلس العسكري مصداقيته عندما أدلى بتصريحات أكد فيها وجود العباس شقيق البشير في السجن ثم تبين فيما بعد عدم صحة حديثه.

وكذلك مَثلَ التعامل مع رموز نظام البشير تباينا بين البرهان وحميدتي، مع استنكار “حميدتي” لحبس قادة النظام السابق دون محاكمة، وكشف عن اتفاق سابق مع المؤتمر الوطني بعدم دخول الانتخابات المقبلة، بشرط عدم استهدافهم مع موافقتهم على محاكمة المفسدين، لكنه قال إنهم يشعرون بأنهم مستهدفون بأعمال لجنة التفكيك[2].

إلا إنه منذ توقيع اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، في أكتوبر 2020، بدأ دور قائد قوات الدعم السريع في الخفوت مقابل تعاظم الدور الذي يلعبه رئيس مجلس السيادة بفضل ترأسه القوات المسلحة ومجلس السيادة ومجلس شركاء الفترة الانتقالية ومجلس الأمن والدفاع، وأدي قرار السودان بتقليص وجوده العسكري في اليمن مطلع يناير 2020 وهدوء الأوضاع في ليبيا إلى تقليص أحد أهم مصادر دخل قوات الدعم السريع. ويمكن ملاحظة تهميش حميدتي من عدم حضوره مؤتمر باريس لدعم الانتقال الديمقراطي، خاصةً وأن الوفد السوداني ضم ٣١ مسؤولا حكوميا[3].

وخلال حضوره الإفطار السنوي للمبادرة الشعبية لحراسة الثورة في 4 مايو 2021، تحدث حميدتي أنه يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا عندما دخل مكة ولم ينتقم وكذلك سيدنا يوسف كيف تعامل مع إخوته وأن السودان يحتاج للخروج من هذا الوضع بأن نتفق جميعاً، وأن أي شخص يريد الانفراد بالسلطة وحده لن يقدر وأننا لو استمرينا في معاداة الشيوعيين والإسلاميين واليساريين سيصبح السودان مثل سوريا، وأضاف أن نصيحته أصبحت غير مقبولة في الوضع الاقتصادي.

وفي 9 مايو 2021، انتقد حميدتي الأوضاع في السودان متحسراً على إهدار العديد من الموارد بسبب الخلافات السياسية، وأن بلاده أصبحت تتسول المساعدات من النظام الدولي، وشدد على أهمية تناسي الخلافات الحزبية والتخوين وإطلاق الاتهامات جزافاً، وعلي أهمية المضي بالبلاد قُدُماً وصولاً إلى انتخابات حرة ونزيهة يختار فيها الشعب من يمثله[4].

وتتركز القضايا الخلافية في التراتبية العسكرية وقيادة الأفرع الرئيسية، وتفاقمت المشكلة بين البرهان وحميدتي عندما عقد الأخير اجتماعا لمجلس السيادة أثناء مشاركة البرهان في مؤتمر باريس، وهو الاجتماع الذي قُرر فيه قبول استقالة النائب العام وإقالة رئيس القضاء دون مشورة البرهان، وهي محاولة من “حميدتي” لكسب شعبية وسط لجان المقاومة التي تُطالب بتنفيذ العدالة لقتلى الاحتجاجات. كما أن توجيه “حميدتي” اتهامات مباشرة إلى اللجنة الأمنية بفض الاعتصام هو اتهام مباشر لعدد من العسكريين المتواجدين حاليا على رأس السلطة الانتقالية[5]. ويعتبر الصراع بين البرهان وحميدتي صراع نفوذ شخصي أكثر من كونه صراعا بين الجيش والدعم السريع، حيث يريد كل منهما فرض سيطرته على البلد وتقليص نفوذ الآخر.

وعلى الرغم من الخلافات بين حميدتي والبرهان، إلا أن هدفهما واحد وهو الانفراد بالسلطة، ولكن يتم تجنب الصراع عند ظهور تهديد مشترك ضدهما، وهو ما تمثل في مبادرة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، والتي دعا فيها إلى أن تكون القوات المسلحة هي الجيش الوطني الوحيد، وأن يضطلع الجهاز التنفيذي بدور أكبر في إدارة جهاز المخابرات، وكذلك مراجعة النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وحصره في الصناعات ذات الطبيعة العسكرية.

ثانياً: قوى الحرية والتغيير بين التفكك وغياب الدور

تأُسست قوى الحرية والتغيير في يناير 2019 وكانت تمثل ثلاث مجموعات، الأولى تتألف من الأحزاب السياسية التي عارضت البشير، والمجموعة الثانية تتكون من مجموعات مسلحة من المناطق النائية، والمجموعة الثالثة منظمات مجتمع مدني متنوعة كتجمع المهنيين، و”لجان المقاومة” وغيرهم، فضلا عن العديد من الحركات والمجموعات الصغيرة.

وقد اعترف المجلس العسكري الانتقالي بهم  كممثلين عن الحراك، واتفقوا على ضرورة العمل المشترك من أجل ترتيب الفترة الانتقالية، ودخل الطرفان في مفاوضات طويلة اختتمت بتشكيل المجلس السيادي لإدارة المرحلة الانتقالية[6].

إلا أن هذا التحالف بعد مرور أكثر من عامين على مشاركته في السلطة شهد تشرذما واختلافا ولم يعد تلك القوى المدنية المتماسكة، وعلى خلفية حالة من الارتباك والتوتر ظهرت في العديد من الأمور، كالاعتراض على نسب تشكيل المجلس التشريعي الذي لم يتم إلى الآن، وكذلك تشكيل الحكومة، والأزمة المتكررة فيما يخص تعيين الولاة. وكشف اتفاق السلام مع الحركات المسلحة خلافاً عميقاً بين مكونات “قحت” فمنها من طالب بتسليم ملف السلام الذي يتولاه (حميدتي) إلى رئيس الوزراء، وبعضها “تجمع المهنيين-الحزب الشيوعي” هاجم الاتفاق، بسبب خوفهم من أن يبدل الاتفاق الحاضنة السياسية بحاضنة جديدة قوامها أطراف الاتفاق وإبعاد القوى التي قادت “ثورة ديسمبر”.

أسباب التفكك والضعف

يلعب البُعد القبلي والمناطقي تأثير واضح في مجريات السياسة السودانية، وعلى الرغم من اتفاق قوى الحرية والتغيير على ضرورة التخلص من نظام البشير إلا أن هذا التجمع عبارة عن قوى هشة غير فاعلة في المشهد السياسي على مدار الثلاث عقود الماضية، وغلب على هذه التكوينات البعد الحزبي والجهوي لا التحالف والمصالح المشتركة وغلب عليهم التعامل بمنطق المحاصصة وهذا ما ظهر جلياً عند تشكيل الحكومة مثلاً أو تعيين الولاة وغيرها من الترتيبات التي تنم عن خلل في المنطلقات والتصورات لتكوينات هذا التحالف غير متجانسة.

إن أبرز عوامل التفكك التي شهدها التحالف هي اعتماد مبدأ المحاصصات الحزبية وترضية جميع الأطراف في ظل غياب للتصور والمشروع الجامع حول طبيعة الحكم وشكل العلاقة بين الأطراف، واعتبرت قوى التحالف نفسها المعبر الوحيد عن متطلبات الشعب السوداني دون سند شعبي واضح، وهو ما أدى بدوره إلى غياب المنطق في المحاصصات وتصور كل مكون أنه هو الأحق والأقدر بفرض رؤيته وتصوره للمرحلة الانتقالية وبدأت موجة من التخوين وتبادل الاتهامات بين الشركاء.

وفي ظل غياب للمشروع السياسي الموحد لمكونات التحالف ظهرت الخلافات بينهم في كل القضايا المطروحة على الساحة. فعلى سبيل المثال لا يتبنى التحالف موقف موحد من طبيعة العلاقة مع المكون العسكري، ولا حول طريقة إدارة المرحلة الانتقالية ومدتها، وينقسم في هذه القضية إلى اتجاهين؛ الأول يرى ضرورة الدخول في مرحلة انتقالية طويلة لمدة خمس سنوات يتم فيها إعادة تهيئة البيئة السياسية السودانية من آثار النظام السابق، ويمثل هذا التيار «قوى الإجماع الوطني» بزعامة الحزب الشيوعي إلى جانب «تجمع المهنيين»؛ والثاني يرى ألا تتجاوز المرحلة عاماً واحداً ويمثل هذا التوجه حزب “الأمة القومي” و«المؤتمر السوداني»، و«الحركة الشعبية لتحرير السودان/ قطاع الشمال».

وكشف اتفاق السلام خلافاً بين مكونات “قحت” فمنها من طالب بتسليم ملف السلام الذي يتولاه (حميدتي) إلى رئيس الوزراء، وبعضها هاجم الاتفاق “تجمع المهنيين-الحزب الشيوعي”، بسبب خوفهم من أن يبدل الاتفاق الحاضنة السياسية بحاضنة جديدة قوامها أطراف الاتفاق وإبعاد القوى التي قادت “ثورة ديسمبر”. بالتزامن مع ذلك تنامت الدعوات المطالبة بإعادة هيكلة تحالف “قحت” حتى يتم دمج مكونات الجبهة الثورية الموقعة على اتفاق السلام في مؤسسات الفترة الانتقالية.

إعادة الهيكلة وحدود الدور

منذ بدء المرحلة الانتقالية انسحبت العديد من المكونات المؤثرة في تحالف قحت وجمّدت مكونات أخرى نفسها. فمع بدء التفاوض مع المجلس العسكري حول شكل المرحلة الانتقالية، اعترضت الجبهة الثورية[7] وانسحبت، وفي إبريل 2020 جمّد حزب الأمة القومي لعضويته في التحالف، نظراً لعدم وجود برنامج واضح للفترة الانتقالية، وطرح برنامج “العقد الاجتماعي” دعا فيه لإعادة تشكيل التحالف وهيكلته وضبطه ووضع برنامج واضح له، تلاه انسحاب الحزب الشيوعي من التحالف وقوى الإجماع الوطني، واصفاً ما يحدث بأنه  انقلاب كامل الأركان على الثورة وأن الوثيقة الدستورية أصبحت مسوغاً قانونياً لحكم مجموعة تسعى لمشروع الهبوط الناعم.

هذا التفكك ساهم في تغول المكون العسكري على بقية المكونات وإمساكه بزمام الملفات الهامة.

وبالتزامن مع اقتراب انتهاء فترة المكون العسكري في مجلس السيادة، وتولي المدنيين رئاسة المجلس اتفقت قوى سياسية وجماعات مدنية على إعادة هيكلة وتوسيع قاعدة المشاركة في قوى الحرية والتغيير، وقال بيان، صادر عن حزب الأمة، في 15 مايو 2021، إن 20 كيانا سياسيا ومدنيا هم: (حزب الأمة القومي – المؤتمر السوداني – التجمع الاتحادي -البعث الأصل -البعث القومي -الوطني الاتحادي -الاتحادي الموحد -البعث السوداني – تجمع المهنيين -الحزب الجمهوري) اتفقوا على “تطوير إعلان تحالف “قحت” والسعي لإكمال هياكل السلطة وتقوية المكون المدني في مجلس السيادة، واتفقوا على عقد ورشة بصورة فورية لوضع تصور للإصلاح السياسي، كما جرى الاتفاق على تكوين لجنة فنية لإجراء اتصالات مع القوى السياسية بغرض إصلاح الائتلاف.

وظهرت بوادر انشقاق جديد داخل تحالف “قحت” بعد سحب لجنة فنية تمثل بعض الكيانات السياسية الثقة من المجلس المركزي للائتلاف (أعلى سُّلطة في الحرية والتغيير) وطالبت باستبدال أعضاء المكون المدني في مجلس السيادة، وأعلنوا قيام مؤتمر عام لكافة مكونات الثورة من قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني ومهنيين والقوى الشبابية في فترة لا تتجاوز أربعة عشر يوماً لهيكلة قوى الحرية والتغيير لتستوعب كافة مكونات الثورة. ما دفع تحالف “قحت” لمهاجمة حزب الأمة واتهمه بتعطيل إصلاح الائتلاف وتكوين المجلس التشريعي بتمسكه بتمثيل أعلى، على حساب المكونات الأخرى، كما أنه طلب 65 مقعداً في المجلس التشريعي وهذا من الأسباب الرئيسية وراء تعطيل تشكل المجلس، في ذات السياق طالب تجمع المهنيين بوضع «ميثاق ثوري جديد» له القدرة على مخاطبة مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، وتجاوز القصور في إعلان قوى الحرية والتغيير[8]. فيما شدد المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير على ضرورة إعادة صياغة الشراكة مع المكون العسكري لأن الأخير استولى على مهام الحكومة المدنية.

وتحاول القوى المدنية الممثلة في السلطة الانتقالية ترتيب أوراقها مجددا على ضوء التحديات التي تواجهها مع المكون العسكري واستبقت قوى الحرية والتغيير انفلات الأوضاع السياسية والأمنية باتخاذ إجراءات واسعة هدفها إعادة هيكلة التحالف وترميم الخلافات التي تهدد وجوده. وأعلن التحالف عن “إعلان سياسي جديد” جرى توقيعه بين الجبهة الثورية والمجلس المركزي لـ “قحت” وحزب الأمة القومي، لاستكمال أهداف الثورة والتغيير والإصلاح. واتفقت القوى المشاركة على تشكيل ثلاثة هياكل، متمثلة في الهيئة العامة، وهي أوسع إطار تنظيمي لتمثيل جميع قوى الثورة في المدينة والريف، إلى جانب المجلس المركزي وسيقوم بواجبات القيادة وتنفيذ استراتيجية الهيئة العامة، ثم المجلس القيادي[9] ويقوم بالعمل اليومي وفق ما يحدده المجلس المركزي من برامج وخطط وأهداف.

وفيما يخص مشاركة التيارات الإسلامية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، فقد أُحيل الأمر للمجلس المركزي المنتظر تشكيله، الذي يحدد مشاركتهم من عدمها في الهيكل الجديد. وتسببت الهيكلة الجديدة في انقسام “الجبهة الثورية” بعد تحفظ رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور علي الخطوة، مقابل مباركتها من قِبل نائب رئيس الحركة الشعبية “ياسر عرمان” الذي عينه “حمدوك” بعد ذلك مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء.

ثالثاً: الحكومة الانتقالية التصورات والتحديات

بعد الاتفاق السياسي بين قوى الحرية والتغيير، تم اختيار الخبير الاقتصادي عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء[10]، وتولى مهامه في أغسطس 2019، وكان على رأس الملفات الأزمة الاقتصادية والتي كانت سبباً في التظاهر ضد البشير، فضلا عن الملفات المتعلقة بالسلام والتحول الديمقراطي، وكانت الآمال متعلقة بشكل كبير على حكومة حمدوك إلا أن الحكومة أخفقت بسبب الخلافات وعدم وجود تصور كامل وقابل للتطبيق لإدارة المرحلة الانتقالية[11]، ومنذ مجيء حمدوك وهو يراهن على الحشد الدولي لدعم السودان للخروج من الأزمة الاقتصادية  فقام في نهاية 2019 بعدة زيارات دبلوماسية إلى واشنطن والعواصم الأوروبية لجلب الدعم للسودان، وانخرط في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلا أن الدعم كان ضعيفاً بجانب عدم قدرة حمدوك على اتخاذ قرارات مصيرية في ظل عدم امتلاكه لأدوات قوة في مواجهة المكون العسكري[12].

ومع تجاوز التضخم في السودان 300% وضعت الحكومة السودانية آمالاً كبيرة في دفع عجلة الاستثمار والتخلص من الديون خلال مؤتمر باريس لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، وتسعي الخرطوم من عملية إعفاء الديون أن تستفيد من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبك). وكذلك للاستثمار في قطاعات التعدين والنفط والطاقة والزراعة والصناعة، فتم عقد المؤتمر في 17 مايو 2021، ووضعت الحكومة ثلاثة أهداف من المؤتمر :

  • إعفاء ديون السودان الخارجية (حوالي 58.8 مليار دولار).
  • جذب الاستثمار
  • دمج البلاد في المجتمع الدولي بعد عزلة استمرت لثلاثة عقود.

وبالفعل استطاع السودان أخذ تعهدات بإعفاء ما يقارب 45 مليار دولار من ديونه، بالإضافة لمنح فرنسا قرضاً بقيمة 1.5 مليار دولار للسودان لسد ديونه في صندوق النقد الدولي[13]، وبالرغم من ذلك إلا أن الوضع الاقتصادي في تدهور مستمر وتعجز الحكومة عن تقديم حلول من شأنها حل الأزمة مبررة ذلك دائماً بالسيطرة العسكرية على موارد الدولة. وفي المقابل تخرج احتجاجات بشكل مستمر تطالب بإسقاط الحكومة وتحميلها المسئولية عن انهيار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

الخلافات بين الحكومة والمكون العسكري

في ظل مساعي حمدوك لتعزيز السيطرة الاقتصادية برزت خلافات حادة بين رئيس المجلس السيادي “البرهان” ورئيس مجلس الوزراء “حمدوك” كان أولها بعد لقاء البرهان ونتنياهو في فبراير، واعتراض مجلس الوزراء بسبب عدم معرفته باللقاء، فقد نصّت الوثيقة الدستورية على أن العلاقات الخارجية هي اختصاص السلطة التنفيذية، وليس المكون العسكري، وبرزت آخر تلك الخلافات خلال تشكيل مجلس شركاء الفترة الانتقالية الذي رفضه مجلس الوزراء من ناحية الاختصاصات والصلاحيات، حيث اعتبرت الحكومة أن المجلس بصيغته المطروحة يمثل التفافا على الثورة ومسعى لتعزيز تمركز المكون العسكري في قلب السلطة.

وتستمر مطالبات الحكومة ومحاولة الضغط من قبل حلفائها الخارجيين بضرورة سيطرتها علي أموال وأصول الأجهزة الأمنية ويدخل في ذلك الشركات العسكرية والأمنية والرمادية، وطالبت اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير على ضرورة سيطرة وزارة المالية الكاملة على المال العام وتجريم التجنيب وضم الشركات العسكرية والأمنية والرمادية لولاية المال العام، وفرض الضريبة النوعية والتصاعدية وتعديل ضريبة شركات الاتصالات الى 60% ومن أرباح الأعمال، وكذلك على ضرورة سيطرة الحكومة على صادر الذهب، أموال الطيران المدني، وإقامة البورصات، وإرجاع شركات المساهمة العامة، إضافة الى خفض الإنفاق الحكومي الاستهلاكي.

وكان رئيس الوزراء “حمدوك” قد صرح خلال حديثه لوكالة أنباء فرنسية عند سؤاله عن هيمنة الجيش على قطاعات اقتصادية أساسية مثل الطاقة والبنى التحتية ما إذا كان هذا الوضع مرشحاً للاستمرار في إطار شراكة المدنيين والعسكريين في إدارة شؤون السودان؟ بأن العسكريين «يعرفون كيف يقدمون التنازلات» وأن هناك تفاهماً يقوم على تخلي الجيش عن المؤسسات التي لا علاقة لها بالشؤون الدفاعية بحيث تعود إلى الإدارة المدنية. والهدف هو إنشاء شركات عامة تدار بشفافية وتدفع الضرائب بعكس ما كان عليه الوضع في العهد السابق.

مبادرة رئيس الوزراء حمدوك “الطريق للأمام”

تقدم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بمبادرة في 22 يونيو 2021، تحت عنوان “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام”، نص فيها على أن “الفترة الماضية شهدت تصاعد الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية مما يشكل خطراً جدياً لا على الفترة الانتقالية فحسب بل على وجود السودان نفسه، وقد بذلت مجهودات في التواصل مع الأطراف المختلفة ونزع فتيل الأزمة، والتي أرى أنها لن تحل إلا في إطار تسوية سياسية شاملة تشمل توحيد الجبهة المدنية والعسكريين وإيجاد رؤية مشتركة بينهما للتوجه صوب إنجاح المرحلة”.

ووضع حمدوك أسس للتسوية السياسية الشاملة  وهي[14] :

  1. توحيد الكتلة الانتقالية وتحقيق أكبر إجماع ممكن داخلها حول مهام الانتقال.
  2. الشروع مباشرة وعبر جدول زمني متفق عليه في عملية الوصول لجيش واحد مهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة عبر عملية للإصلاح الشامل وبما يعبر عن تنوع السودان الفريد.
  3. توحيد مراكز القرار داخل الدولة وعملها وفق رؤية مشتركة.
  4. الاتفاق على آلية موحدة للسياسة الخارجية وإنهاء التضارب الذي شهدته الفترة الماضية.
  5. الالتزام بتنفيذ اتفاق السلام واستكماله كقضية رئيسية من قضايا الانتقال.
  6. تقوية توجه الحكومة والدولة الذي يقوم على الإنتاج المحلي وحماية الفقراء والمستضعفين والتعاون مع المؤسسات الدولية.
  7. الالتزام بتفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن وبناء دولة مؤسسات وطنية مستقلة
  8. التزام جميع الأطراف فعلاً لا قولاً بالعمل من أجل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي مدني يقوم على أساس المواطنة المتساوية وإجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.

وتناولت المبادرة (إصلاح القطاع الأمني والعسكري- قضايا العدالة- قضايا الاقتصاد- ملف السلام-  تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ومحاربة الفساد- المجلس التشريعي الانتقالي)، ويأتي على رأس القضايا التي قدمها في المبادرة وأهمها قضية إصلاح القطاع الأمني والعسكري وأكد أنها لا يجب أن تقتصر على العسكريين ويجب مشاركة المجتمع السياسي والمدني في رؤية الإصلاح، وأعلن عدداً من البنود من بينها[15]:

  • القوات المسلحة يجب أن تكون الجيش الوطني الوحيد وذلك يتطلب إصلاحات هيكلية وعقيدة عسكرية جديدة وتمثيل التنوع السوداني في كافة مستوياتها وتنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاق جوبا لسلام السودان.
  • قوات الدعم السريع ذات طبيعة خاصة وساهمت بدور إيجابي في التغيير ودمجها في القوات المسلحة يتطلب توافق بين قيادة  القوات المسلحة والدعم السريع والحكومة للوصول لخارطة طريق متفق عليها تخاطب القضية بكل أبعادها.
  • جهاز المخابرات العامة والشرطة السودانية يجب أن ينفذ ما ورد في الوثيقة الدستورية بشأنهما وأن يخضعا لعملية إصلاحات عميقة وجذرية وعاجلة.
  • اضطلاع الجهاز التنفيذي بدور أكبر في إدارة جهاز المخابرات وتغيير كافة مدراء الإدارات بآخرين حادبين على نجاح المرحلة الانتقالية وإجراء إصلاحات جوهرية وسريعة في هيكله وطرق عمله.
  • مراجعة النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وحصره في الصناعات ذات الطبيعة العسكرية ومراجعة الشركات التي انتقلت لحوزته عقب التغيير ودمج نشاطه الاقتصادي في الاقتصاد الوطني تحت ولاية المالية على المال العام.
  • ابتعاد القوى السياسية عن العمل داخل القوات المسلحة وعدم استقطاب منسوبيها.
  • تطوير صيغة مجلس الأمن والدفاع لمجلس للأمن القومي يمثل فيه المدنيون والعسكريون بصورة متوازنة ويختص بوضع استراتيجية الأمن القومي ومتابعة تنفيذها.
  • قضية مستقبل القوات المسلحة وتنظيم علاقتها بالحياة السياسية الديمقراطية ستكون من قضايا المؤتمر الدستوري التي ستحسم قبل نهاية المرحلة الانتقالية.

ونادت المبادرة كذلك بـ:

  • توحيد الكتلة الانتقالية وتحقيق أكبر إجماع ممكن داخلها حول مهام الانتقال.
  • الشروع مباشرة وعبر جدول زمني متفق عليه في عملية الوصول لجيش واحد مهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة عبر عملية للإصلاح الشامل وبما يعبر عن تنوع السودان الفريد.
  • توحيد مراكز القرار داخل الدولة وعملها وفق رؤية مشتركة.
  • الاتفاق على آلية موحدة للسياسة الخارجية وإنهاء التضارب الذي شهدته الفترة الماضية.
  • الالتزام بتنفيذ اتفاق السلام واستكماله كقضية رئيسية من قضايا الانتقال.
  • تقوية توجه الحكومة والدولة الذي يقوم على الإنتاج المحلي وحماية الفقراء والمستضعفين والتعاون مع المؤسسات الدولية.
  • الالتزام بتفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن وبناء دولة مؤسسات وطنية مستقلة.

وفيما يخص المجلس التشريعي الانتقالي أعلن “حمدوك” التزام جميع الأطراف بتكوين المجلس في مدة أقصاها شهر من الآن وبمشاركة جميع الأطراف باستثناء المؤتمر الوطني ومن أجرم وأفسد في حق البلاد.

 

ردود الفعل على مبادرة حمدوك

لاقت المبادرة ترحيبا من كيانات عديدة “كـ الجبهة الثورية – وحزب الأمة القومي – تحالف الحرية والتغيير”، إلا أن المكسب الأهم لـ “حمدوك” هو التأييد الدولي للمبادرة من خلال الأمم المتحدة وواشنطن. وهو ما دفع الجيش والدعم السريع للتوحد ولو مؤقتا للوقوف أمام هذه المبادرة، بينما تمسك حزب البعث بمبادرة اللجنة الفنية لإصلاح الحرية والتغيير، وأعلن نداء السودان تكوين لجنة لدراسة جميع المبادرات المطروحة على الساحة السياسية بما فيها مبادرة رئيس الوزراء. علي الجانب الآخر ثمن حزب المؤتمر السوداني مبادرة “حمدوك” مضيفاً أنها تمثل خطوة إيجابية ويمكن أن تمهد لتصحيح المسار إذا توافرت الإرادة السياسية الكافية.

كما بحث “حمدوك” المبادرة خلال لقاءه وفد الحزب الاتحادي الموحد برئاسة د. محمد عصمت يحيى الذي أعلن دعمه ومساندته الكاملة للمبادرة. فيما يري رئيس حركة الإصلاح الآن، غازي صلاح الدين: “إن إقصاء الإسلاميين إذا كان كسياسة متبعة فإنه يعني انهيار المبادرة التي تقدم بها “حمدوك” من ناحية مبدئية لأن هناك طرف أو فصيل مهم جداً وله تأثير مقدر تم إقصاؤه”.

وكان مجلس الشيوخ الأميركي قد أجاز قانون الانتقال الديمقراطي والمساءلة والشفافية المالية بالسودان في ديسمبر 2020، نص فيه على “إنهاء أي تدخل للأجهزة العسكرية والأمنية في قطاع التنقيب والموارد المعدنية، بما في ذلك النفط والذهب”.

رابعاً : الحركات المسلحة ودمجها في منظومة الحكم

عقب عزل البشير تقدم رئيس جنوب السودان سلفاكير بمبادرة للتوسط بين المجلس العسكري والحركات المسلحة، لطي ملف النزاع والتوصل إلى تسوية سلمية تعزز فرص الانتقال الديمقراطي في السودان، وبدأت مباحثات السلام في جوبا بين الحكومة والجبهة الثورية للحركات المسلحة في أكتوبر 2019، واستمرت ما يقرب من عام. وتضم الجبهة الثورية ثلاث حركات مسلحة، وهي حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة مالك عقار، وحركة العدل والمساواة، وانقسمت  المفاوضات إلى4  مسارات هي: مسار دارفور  ومسار لجنوب كردفان  والنيل الأزرق ومسار لشرق السودان، ومسار لشمال السودان. ووقَّعت الحكومة والجبهة الثورية اتفاقاً للسلام في 1سبتمبر2020، ودُعي قادة الجبهة للعودة إلى الخرطوم للمشاركة في إدارة الفترة الانتقالية، وتلخصت أبرز بنود الاتفاق في[16] :

  • تمديد الفترة الانتقالية إلى 39 شهرا ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق على أن تشارك الأطراف الموقعة في السلطة بثلاثة مقاعد في مجلس السيادة.
  • تحديد 39 شهرا لعملية الدمج والتسريح المتعلقة بمقاتلي الحركات المسلحة.
  • تشكيل قوات مشتركة من الجيش والشرطة والدعم السريع لحفظ الأمن في ولاية دارفور والمنطقتين تمثل فيها قوات الحركات المسلحة بنسب تصل إلى 30 في المائة.
  • أصدر مجلس السيادة قرارا بالعفو العام عن جميع من حمل السلاح ضد الدولة  لكنه يستثني من صدرت بحقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية أو من يواجهون اتهامات أو دعاوى جنائية بجريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

تخلف عن التوقيع على الاتفاق الحركة الشعبية شمال/جناح الحلو التي تطالب بـعلمانية الدولة، وبالفعل وقعت معها الحكومة في 2 سبتمبر في إثيوبيا اتفاقاً مشتركا ينص على «قيام الدستور على مبدأ فصل الدين عن الدولة» وفي حال غياب هذا المبدأ «يجب احترام حق تقرير المصير» في جنوب كردفان[17].

وكذلك تخلفت عن الحضور حركة تحرير السودان/جناح عبدالواحد نور، التي تعاني نزاعاً داخليّاً بين فصيلين من الحركة، وترى أن مفاوضات السلام لم تختلف عن مفاوضات نظام البشير، وتعتزم الحركة إعلان مبادرة للسلام الشامل مع الحكومة من ضمنها التوافق على حكومة انتقالية، وفي نفس الوقت تتهم الحركة المجلس السيادي بتسليح القبائل في دارفور لخلق فوضى واقتتال قبلي.

فيما أسهمت المفاوضات في مسار شرق السودان[18] بمنبر جوبا، في خلق حالة عدم رضا حيث رأت مكونات اجتماعية وسياسية أن ما تمَّ لا يمثل الإقليم،  غير أن الحكومة مضت في طريقها، في ظل تشكيك بإمكانية تحقيقه على أرض الواقع في ظل الانقسام الحاد الذي يعاني منه الشرق، وحالة التباعد الذي أفرزته مخرجات اتفاقية السلام، وليس المسار وحده هو السبب في الانقسام، فقد أسهم تعيين صالح عمار والياً على كسلا في حالة اصطفاف قبلي وتفلتات أمنية حيث يرفضه تيار يقوده ناظر قبيلة الهدندوة فيما يؤيد توليه إدارة الولاية تحالف “قحت”  ومكونات أخرى على رأسها قبائل البني عامر والحباب المنتمي لها “عمار”.

إلا أن الحكومة رضخت لتلك الضغوط وأعفت الوالي في محاولة لاحتواء الموقف، ولكن لم تفلح جهودها بسبب احتجاج قبيلة البني عامر على إعفاء “عمار”، وبحسب رئيس نقابة هيئة الموانئ البحرية، فإن مسار الشرق يمثل أجندة خارجية هدفها الموانئ السودانية، وقد  نفت الحكومة في إبريل معلومات روجت لها مواقع إعلامية محلية، بشأن بيع البلاد ميناء “بورتسودان” للإمارات.

ويعد شرق السودان من المناطق التي لم تهدأ خلال عام 2020 بسبب موجات الاقتتال الأهلي، وتتمثل معارضة اتفاق الشرق في “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” الذي نصب نفسه كممثل حصري لقبائل البجا، بصرف النظر عن قبائل البني عامر والحباب، وبحسب مراقبون، فإن المجلس الأعلى لنظارات البجا، الرافض لمسار الشرق يقوده كل من: موسى محمد أحمد الذي عمل مساعداً للبشير حتى يوم سقوطه، وسيد أبو آمنة، أمين شباب المؤتمر الوطني بولاية البحر الأحمر.

معضلات تنفيذ اتفاق السلام

تبقي هناك بعض المعضلات أمام السودان حتي يستطيع تنفيذ بنود الاتفاق أبرزها ملف “الترتيبات الأمنية”، ويتجلى في عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج على أساس الولاء للبنية القيادية المسيطرة، وكذلك في تمويل عملية السلام نفسها، خاصةً في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تعاني منه الحكومة. ومع تشكيل حكومة سودانية جديدة في فبراير الماضي تولي فيها رئيس حركة العدل والمساواة منصب وزير المالية أعلن أن مشروع الحركة حكم السودان خلال الفترة المقبلة، وأنه قبل بتولي الوزارة لتمويل تنفيذ اتفاق السلام[19]. واستكمالاً لاتفاق السلام، تم تعيين 3 أعضاء جدد في مجلس السيادة، من قادة الحركات المسلحة، بجانب تولي رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، منصب حاكم إقليم دارفور.

إلا أن تأخر تنفيذ الترتيبات الأمنية تسبب في أزمة حادة بين شركاء الفترة الانتقالية وعلي رأسهم الجيش، والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وسط مطالبات من قادة تلك الحركات بإعادة هيكلة مفوضية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، ووسمها بتمثيل للنظام السابق، والتي كان قد شكلها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، لتنفيذ الترتيبات الأمنية ولجان وقف إطلاق النار في إقليم دارفور وتشرف اللجنة على مواقع تجميع مقاتلي الحركات الموقعة على اتفاق السلام وعلى عمليات الدمج والتسريح. وتضم اللجنة ممثلين لدولة الوساطة جنوب السودان، إضافة لممثلين من تشاد وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان “يونيتامس” وستكون قيادة اللجنة بالتناوب لمدة 6 شهور كل طرف، لكن الفترة الأولى رئاستها ستكون للجيش.

وكان مسؤول العمليات في القوات المسلحة الفريق خالد الشامي علل تأخر تنفيذ الترتيبات الأمنية بعدم توفر الموارد المالية، حيث تحتاج عملية الدمج ما يقرب من 187 مليون دولار. فيما حذرت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية السلام، من انهيار الاتفاق جراء تماطل المكون العسكري في إنفاذ بند الترتيبات الأمنية وقالت إن غياب الإرادة السياسية هو المتسبب في ذلك. وجددت الحركات اتهامها للاستخبارات العسكرية بتجنيد قوات باسم الحركات المسلحة، وطالبوا بتمثيل عادل في هيئة قيادة الأركان المشتركة وقيادة هيئة الشرطة وقيادة الأمن والمخابرات والدعم السريع[20].

مخرجات اتفاق السلام

يعتبر أهم مخرجات اتفاق السلام بجانب إشراك الحركات المسلحة في مجلس السيادة والحكومة وتوليهم العديد من المناصب إصدار البرهان مرسوماً دستورياً في 4 مارس 2021 يقضي بإنشاء نظام الحكم الإقليمي الفيدرالي في البلاد والذي ينص على تقسيم السودان إلى ثمانية أقاليم بدلاً من 18 ولاية تتمتع بصلاحيات وسلطات واسعة وحقيقية، وبالفعل أجرى رئيس الوزراء حمدوك، في 14 يونيو، تعديلا في حكام الولايات، تولت بموجبه الحركات المسلحة الحكم في ولايات شمال وغرب دارفور والنيل الأزرق[21].

كما أصدر البرهان، في 20 يونيو 2021، مرسوما دستوريا يمنح دارفور والنيل الأزرق حكماً ذاتياً. من جانبها أعلنت الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو رفضها لقرار منح منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة حكماً ذاتياً، واعتبرت أنّ مرسوم تطبيق الحكم الذاتي، هو قرار استباقي لنتائج المفاوضات مع الحركة الشعبية ومحاولة بائسة لفرض أمر واقع لن يمرّ دون موافقة الحركة.

خاتمة

شهد السودان في 30 يونيو 2021 تظاهرات واسعة بأعداد كبيرة ولكن الأجهزة الأمنية استطاعت التصدي لها، وكان من تداعيات ذلك بروز ثلاث اتجاهات مختلفة داخل القوى السياسية، اتجاه داعم لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك ويطالبه بتحقيق أهداف الثورة؛ وأخر يريد فض الشراكة بين المدنيين والعسكريين؛ أما الثالث فيسعى إلى إسقاط النظام بكامله لانتهاجه سياسة البنك وصندوق النقد الدوليين. وفي نفس الوقت تشهد السودان اضطرابات كبيرة نظراً لإخفاق السلطة الانتقالية في معالجة المشكلات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى الوضع الأمني الهشّ في دارفور وعرقلة جهود تحقيق السلام.

إلا أن الوضع السياسي يشهد حراكاً متسارعاً في سبيل إعادة صياغة العلاقة بين الحكومة والقوى الثورية من جانب، وإدخال إصلاحات شاملة على تحالف قوى الحرية والتغيير من جانب آخر، في محاولة للتعامل مع الغضب المتصاعد في الشارع الذي ينادي بإسقاط الحكومة واتهامها بالفشل في التعامل مع العديد من الملفات الحيوية. فجاءت مبادرة حمدوك “الطريق إلى الأمام” في محاولة لتصحيح المسار وإعادة صياغة العلاقة بين المكونات إلا أن من الصعب إنجاح هذه المبادرة بالرغم من الدعم الدولي لها نظراً لتحفظ المكون العسكري عليها.

الهامش

[1] أهم بنود الاتفاق السياسي في السودان، سبوتنيك، تاريخ النشر 17 يوليو 2019، الرابط

[2] حميدتي: حبس قادة النظام السابق لمدة عام دون محاكمة (غلط كبير)، النيلين، تاريخ النشر 25 مايو 2020

[3] مؤتمـر باريـس لدعـم انتقـال الســودان ينطلق اليـوم، صحيفة الخليج، تاريخ النشر 17 مايو 2021

[4] شرخ جديد في العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السودان، العربي اللندنية، تاريخ النشر 16 مايو 2021

[5] حميدتي: أنا الوحيد الذي رفض فض الاعتصام قبل عزل البشير، سودان تريبون، تاريخ النشر 4 يونيو 2021

[6] مظاهرات السودان: ما هو تحالف إعلان الحرية والتغيير وما هي مطالبه؟، بي بي سي عربي، تاريخ النشر 25 أبريل 2019

[7]  تضم “الجبهة الثورية” 3 حركات مسلحة، هي: “تحرير السودان” و”العدل والمساواة” بإقليم دارفور (غرب)، و”الحركة الشعبية/ قطاع الشمال”، جناح مالك عقار في ولايتي جنوب كردفان (جنوب)، والنيل الأزرق (جنوب شرق).

[8]  (نداء السودان) يمهل الائتلاف الحاكم 10 أيام لإجراء إصلاحات، سودان تريبون، تاريخ النشر 23 يونيو 2021

[9]  يضم المكتب القيادي 17 عضواً، تُسمي القوى السياسية 7 شخصيات وترشح تنظيمات الجبهة الثورية 5 أعضاء، فيما يسمي كل من المجتمع المدني وتجمع المهنيين السودانيين عضوين.

[10] للاطلاع على سيرته الذاتية انظر، من هو عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان؟، بي بي سي عربي، تاريخ النشر 22 أغسطس 2019.

[11] السودان: هل نجحت الحكومة الانتقالية في التعامل مع القضايا الملحة؟، بي بي سي عربي، تاريخ النشر 28 يوليو 2020.

[12] تحديات الحكومة الانتقالية في السودان، مجلة البيان، الرابط

[13] حول مؤتمر باريس لدعم السودان، بابكر فيصل، الحرة، تاريخ النشر 26 مايو 2021.

[14] نص مبادرة رئيس الوزراء: (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال-الطريق للأمام)، سونا، تاريخ النشر 22 يونيو 2021

[15] المصدر السابق

[16]  أهم ملامح الاتفاق الأمني بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في دارفور، العربي الجديد، تاريخ النشر 29 أغسطس 2020.

[17] السودان: كيف تحقق اتفاق السلام مع حركات التمرد وما آفاقه المستقبلية؟، بي بي سي عربي، تاريخ النشر 11 سبتمبر 2020.

[18] يتكون إقليم الشرق من 3 ولايات (القضارف والبحر الأحمر وكسلا).

[19]  أي دفع 750 مليون دولار لمدة 10 سنوات، للتنمية والاستثمار في الأقاليم المتضررة.

[20] الحركات المسلحة تتهم المكون العسكري بالتماطل في إنفاذ الترتيبات الأمنية، سودان تريبون، تاريخ النشر 28 مايو 2021

[21] السلطة السودانية تشرك الحركات المسلحة في الحكم إنفاذا لاتفاق جوبا، العرب اللندنية، تاريخ النشر 14 يونيو 2021

 

.

رابط المصدر:

https://eipss.site/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%b4%d9%8a%d8%b1-%d8%ae%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%88%d8%a7%d8%b9%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M