النظام الدولى ثلاثى القطبية

د. أحمد سيد أحمد

 

وضعت قمة منظمة شنغهاى الأخيرة فى سمرقند بأوزبكستان, لبنة جديدة فى جدار النظام الدولى متعدد الأقطاب, والذى بدأت إرهاصاته منذ عقد وساهمت حرب أوكرانيا فى بلورته, فالمنظمة التى تضم أكثر من نصف سكان العالم, وتضم دولا بارزة مثل الصين وروسيا والهند وباكستان وبعض دول آسيا الوسطى, تمثل جبهة أخرى مختلفة ومقابلة للجبهة الغربية التى تقودها الولايات المتحدة وتضم دول أوروبا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا, وقد برز خلال القمة تأكيد الشراكة الإستراتيجية الروسية الصينية، وتعزيز التبادل التجارى بين البلدين ليرتفع من 140 مليار دولار حاليا إلى 300 مليار دولار خلال العام المقبل كما أكد الرئيس بوتين.

عرف العالم صيغا متعددة للنظام الدولى, منها صيغة التعددية قبل الحرب العالمية الثانية والتى شملت قوى بارزة استعمارية مثل فرنسا وبريطانيا والإمبراطورية العثمانية وغيرها, ثم بعد الحرب العالمية الثانية سادت القطبية الثنائية بين أمريكا وحلفائها, وبين الاتحاد السوفيتى وحلفائه, وكانت الأيديولوجية والصراع بين الاشتراكية والرأسمالية هى المسيطرة على تفاعلات ونمط تحالفات هذه الحقبة والتى عرفت بالحرب الباردة وساهم توازن الردع النووى فى عدم الصدام بين القوتين. ثم بعد عام 1991 وانهيار الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو, ساد النظام الدولى أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة, وكرست أحداث 11 سبتمبر عام 2001 هذه الأحادية الأمريكية, لكن سياسات اليمين المحافظ الأمريكى فى عهد بوش الابن, خاصة الحروب الاستباقية وإسقاط النظم السياسية تحت دعاوى نشر الديمقراطية والحرية, أدت إلى الاضطراب فى العلاقات الدولية وبروز قوى دولية معارضة لتلك السياسة وكان من أبرزها الصين وروسيا, اللتان صعدتا بقوة فى النظام الدولى وباتتا تشكلان تحديا حقيقيا للولايات المتحدة, وتعملان على إقامة نظام دولى متعدد الأقطاب يسهم فى تحقيق التوازن والاستقرار فى العلاقات الدولية, ويواجه ما يعتبرانه سياسات الهيمنة الأمريكية والغربية تجاه الدول الأخرى، سواء على الصعيد الاقتصادى واستخدام أمريكا للعولمة للسيطرة على الاقتصاد العالمى أو استخدام الديمقراطية لفرض نمط سياسى غربى على الدول الأخرى لا يراعى خصوصياتها, خاصة بعد تجارب الثورات الملونة فى آسيا وثورات الربيع العربى فى الشرق الأوسط وما أدت إليه من تداعيات سلبية من ضعف وانهيار الدولة الوطنية وانتشار الحروب الأهلية وتصاعد خطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية وزيادة أعداد اللاجئين والمهاجرين من تلك الدول, خاصة إلى أوروبا. وخلال العقد الأخير استطاعت بالفعل كل من روسيا والصين, امتلاك عناصر القوة الشاملة, العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية, التى تؤهلهما لأن يصبحان من القوى الكبرى فى النظام الدولى. فروسيا تعافت اقتصاديا، ولديهما قوة عسكرية كبيرة تقليدية وغير تقليدية. كما أن الاقتصاد الصينى استطاع أن يقفز إلى المركز الثانى عالميا, وطورت الصين قدراتها العسكرية بشكل كبير, حيث أصبحت ميزانيتها العسكرية أكثر من 300 مليار دولار, وتمتلك أحدث أنواع الأسلحة الذكية, وهى عضو دائم فى مجلس الأمن الدولى ومنخرطة فى الكثير من التفاعلات فى العالم، خاصة فى منطقة الشرق الأوسط.

الولايات المتحدة فى المقابل تسعى للحفاظ على الأحادية القطبية وتحجيم الصعود الصينى والروسى من خلال بناء الشركات الإستراتيجية مع الدول الأخرى, فى أوروبا واسيا, مثل تحالف كواد واتفاقية أوكوس, ومحاولة استنزاف الدولتين عبر إنشاء بؤر ملتهبة على حدودهما, كما حدث فى أوكرانيا لاستنزاف روسيا, وكما يحدث الآن فى تايوان لمحاولة استنزاف الصين. لكن يمكن القول أن السياسة الأمريكية ساهمت فى تعجيل التحول من النظام الدولى أحادى القطبية إلى متعدد القطبية, وتحديدا ثلاثى القطبية, يضم أمريكا وروسيا والصين. فمن ناحية تدهورت القدرات الأمريكية العسكرية والاقتصادية بسبب الانخراط فى الكثير من الأزمات العالمية، وفاقمت جائحة كورونا من التدهور الاقتصادى الأمريكى. كما أن السياسات الأمريكية تجاه روسيا والصين, دفعت الدولتين إلى التقارب والتلاقى, رغم التباينات الكبيرة بينهما فى العديد من القضايا والملفات, خاصة نزاعات الحدود بينهما وصراع النفوذ فى منطقة آسيا الوسطى. فقد جمع الصين وروسيا هدف مشترك وهو مواجهة التوسع والتمدد الأمريكى، سواء فى أوكرانيا أو فى تايوان, ومواجهة سياسة العقوبات الأمريكية ضدهما. وكان من أبرز نتائج حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية والأمريكية على روسيا, توجهها نحو الصين كسوق لتصدير منتجاتها من النفط والغاز بعد قرار أوروبا الاستغناء عن الغاز الروسى, وتعميق التعاون والتبادل التجارى بينهما, كما تضامنت روسيا مع الصين فى قضية تايوان وتأكيدها على مبدأ الصين الواحدة ورفض الاستفزازات الأمريكية.

القطبية الثلاثية لا تعنى التطابق بين روسيا والصين, فكلاهما يسعى لتعظيم مصالحه فى إطار التنافس, لكنهما يتلاقيان لمواجهة النفوذ والهيمنة الأمريكية. ولذلك تسعى الصين إلى تبنى سياسة متوازنة ما بين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية الكبيرة مع أمريكا والغرب, وما بين تقاربها مع روسيا ورفضهما المشترك للسياسات الأمريكية. كما أن الهند, العضو فى منظمة شنغهاى, والعضو أيضا فى تحالف كواد, تسعى لتعظيم مصالحها فى إطار صراع النفوذ بين القوى الثلاث ومحاولة استقطابها إلى جانب كل منهما.

النظام الدولى حاليا يتبلور بقوة نحو القطبية الثلاثية, التى تضم أمريكا وروسيا والصين, وهو ما يدفع الدول النامية, خاصة دول الشرق الأوسط, إلى بلورة استراتيجياتها للتعاطى مع هذا الوضع الجديد لتعظيم مصالحها.

نقلا عن جريدة الاهرام بتاريخ 19 سبتمبر 2022

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20918/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M