اليوم التالي: سيناريوهات تطور الصراع بين طاجكستان وقرغيزستان

محمود قاسم

 

يبدو أن الوضع في دول آسيا الوسطى يزداد تعقيدًا وتأزمًا خلال السنوات الماضية، حيث شهدت المنطقة عدد من التطورات التي تشير لأن استقرار الأوضاع واستدامتها باتت محل شك، ما يفرض مزيدًا من الحذر والترقب للتفاعلات التي يمكن أن تتحكم في مجريات الأمور في تلك الساحة الجغرافية المهمة، حيث فرض سقوط أفغانستان وانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منها، وسيطرت طالبان على السلطة تساؤلات بشأن مستقبل المنطقة ككل، في ظل الشكوك المثارة حول قدرة طالبان على إدارة الدولة.

كما أن الصراعات الحدودية في المنطقة قد وضعت قيودًا مماثلة على معادلة الأمن والاستقرار، خاصة أن تلك النزاعات تمتد لعقود طويلة دون اختراق، ما يمكن ملاحظته من تجدد الصراع بين أرميننا وأذربيجان (13 سبتمبر) والذي يعتبره البعض الأعنف منذ عامين في ظل تزايد اعداد الضحايا بين الطرفين، ولا ينفصل عن ذلك تجدد النزاع الحدودي بين طاجكستان وقرغيزستان والذي عاد للاشتعال مرة أخرى (14 سبتمبر)، ما يضع دول المنطقة في اختبار لقياس قدرتها على تجاوز تلك التحديات أو الاستمرار في دوامة النزاعات والاشتباكات التي قد تخرج عن السيطرة رغم نجاح كافة المحاولات السابقة في تحجيمها.

صراع متجدد

يدخل الصراع بين طاجكستان قرغيزستان في دائرة الصراعات الممتدة والمتجددة والتي يصعب الوصول فيها لتسوية شاملة تحول دون اشتعاله مرة أخرى، ويعود ذلك بشكل أساسي لتشابك مواقف الأطراف المرتبطة بالصراع، وعدم القدرة على بناء تفاهمات طويلة الأمد تنقل البلدين من مرحلة الشد والجذب لمرحلة الاستقرار والسلام الدائم، وفي هذا الإطار يمكننا تحديد ملامح الصراع الحالي، وأسبابه، وما يمكن أن تفرزه تلك الحالة الصراعية فيما يلي:

اولًا) اتهامات متبادلة وروايات متضاربة، منذ الوهلة الأولى لتجدد الاشتباكات الراهنة عمد الطرفان على محاولة الصاق التهم ببعضهما البعض، خاصة فيما يرتبط بالمسؤولية عن اندلاع الصراع، كما بدت السرديات المعلنة من كل طرف تبدو وكأنها متضاربة، إذ حاول كل طرف أن يصور نفسه كرد فعل على هجوم الاخر، حيث أعلنت قرغيزستان قيام طاجكستان بمهاجمة الحدود واستهدف البنية التحتية والمنشآت في اقليم “باتكين” الجنوبي المتاخم لطاجكستان والذي شهد عدد الاشتباكات خلال السنوات الماضية، ما أدى لإعلان حالة الطوارئ وإجلاء ما يقرب من 136 ألف من قبل السلطات القرغيزية. من ناحية أخرى اتهمت السلطات الطاجكية حرس الحدود القرغيزي بقصف المركز الحدودي لها، وعدد من المستوطنات والبنية التحتية المدنية، علاوة على اتهامها بحشد القوات العسكرية ونقل المعدات بالقرب من الحدود فيما يشبه الاعداد والتجهيز للمواجهة.

ثانيًا) تصعيد حاد وموسع، تدخل المواجهة الحالية بين البلدين في نطاق المواجهات الحادة، خاصة في ظل توظيف الأسلحة الثقيلة كالدبابات وقذائف المورتر والمدفعية، ما يمكن الوقوف عليه من خلال ملاحظة تزايد اعداد الضحايا بين الجانبين والتي ارتفعت خلال الأيام الماضية إلى 100 قتيل، وتحمل تلك الأرقام دلالات واضحة على اشتداد المواجهة واتساعها مقارنة بجولات التصعيد السابقة بين الطرفين، فعلى سبيل المثال، كان يٌنظر للاشتباكات التي تفجرت بينهما في أبريل 2021 باعتبارها الأعنف والأشرس، والتي نجم عنها مقتل 50 شخصُا، وعليه تعد المواجهات الأخيرة ضمن حالات الصدام العنيف والتي أفرزت ضعف القتلى والضحايا مقارنة باشتباكات 2021، يضاف لذلك الخسائر المرتبطة بالبنية التحتية، حيث صرح أمين مجلس الأمن القرغيزي “مارات إيمانكولوف” أن التقديرات الأولية للأضرار المادية جراء الصراع مع طاجكستان قد بلغت 17 مليون دولار خلال الأيام الثلاثة للمواجهات.

ثالثًا) عقدة الإرث السوفيتي، يُنظر لأزمة ترسيم الحدود بين طاجكستان وقرغيزستان باعتبارها السبب الرئيس لتفجير الصراع بين البلدين، وهي الأزمة الممتدة والمتراكمة والتي ورثها البلدان من الاتحاد السوفيتي، فخلال عام 1937 تم تقسيم تلك الحدود بصورة رمزية وإدارية داخل الاتحاد السوفيتي، إلا أن التحولات التي شهدها العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 آلت لتحويل التقسيمة الإدارية لحدود طبيعية لكل دولة ومنذ ذلك الوقت اشتد الخلاف بين البلدين حول أحقية كل طرف وسيادته على عدد من المناطق محل النزاع.

وتشترك قيرغيزستان وطاجيكستان في 980 كيلومترًا من الأراضي الحدودية التي لا يزال هناك نزاع بشأن عشرات المناطق المتاخمة بينهما، فمنذ عام 2002 استمرت مفاوضات ترسيم الحدود بينهما دون أن تنهي كليًا هذا النزاع، حيث افضت إلى التوافق بشأن مساحة حدودية تصل 660 كيلوا، في حين ظل الخلاف قائمًا على باقي المساحة الحدودية دون حل، أي أن هناك ما يقرب من 30% من المساحات الحدودية المتاخمة لا تزال محلًا للنزاع.

ومثلت تلك القضية محفزًا لإثارة التوترات بين السكان ومواطني البلدين، والقوات النظامية، وتعد قضية ترسيم الحدود من القضايا الشائكة في منطقة آسيا الوسطى بشكل عام، فمن بين الدول الخمس في آسيا الوسطى لم تتمكن سوى كازاخستان وتركمانستان من الابتعاد عن الإشكاليات المرتبطة بترسيم الحدود مع جيرانها، حيث وقعت تركمانستان اتفاقية مع أوزبكستان عام 2000 ومع كازاخستان 2001، بينما تجاوزت كازاخستان قضايا الخلافات الحدودية عبر التوقيع على اتفاقيات مع كل من أوزبكستان 2002 وكل من قرغيزستان وتركمانستان 2001.

رابعًا) تفاقم أزمة الصراع على الموارد، اتصالا بالخلاف الدائم حول ترسيم الحدود تفاقمت إشكالية أخرى ترتبط بتقاسم الموارد وذلك في اعقاب انفصال طاجكستان وقرغيزستان عن الاتحاد السوفيتي، حيث كانت الحدود الإدارية والضوابط القانونية بين البلدين تختفي بصورة كبيرة تحت مظلة الاتحاد السوفيتي، وكانت عملية التنقل بين تلك الحدود تتم بصورة سلسله بعيدًا عن أية تعقيدات، كما كان الحق المشترك في الوصول للموارد الطبيعية والمائية هو المعيار الحاكم والضابط للتفاعلات قبل عام 1991، إلا أن الحدود الراهنة بين الدولتين قد فرضت قيودا مغايرة للمنفعة التي يمكن أن تعود على الدولتين، ما فاقمت من الأزمات في ظل صعوبة إدارة تلك الموارد بصورة مشتركة، خاصة ما يرتبط باستخدام الموارد المائية والطرق والأراضي الزراعية والمراعي.

وقد كان الاشتباك المسلح في أبريل 2021 والذي وصف بالأكثر دموية قبل اندلاع المواجهة الأخير دليلًا على تفاقم الصراع بين البلدين على الموارد، حيث اندلعت تلك الاشتباكات –آنذاك- حول محطه توزيع المياه على الحدود القرغيزية والطاجيكية في مقاطعة “باتكين”، ففي الوقت الذي قامت فيه السلطات القرغيزية ببعض أعمال الصيانة والتطوير في محطة سحب المياه، قام الجانب الطاجيكي بإنشاء كاميرا لمراقبة استخدام قيرغيزستان للموارد المشتركة، الأمر الذي قاد لاشتباكات بين المدنيين قبل أن يتسع ليشمل القوات المسلحة للجانبين.

وعليه يعتبر الصراع على الموارد، والأراضي الزراعية ضمن الخلافات المتجذرة بين البلدين والناجمة عن الحدود المصطنعة التي ورثتها تلك البلاد من الاتحاد السوفيتي، فعلى سبيل المثال تعد منطقة “فوروخ” دليلًا على الإشكاليات الحدودية بينهما فرغم أنها تتبع طاجكستان، إلا أنها لا تقع في نطاقها الجغرافي، كونها محاطة بأراضي تابعة لقيرغيزستان. من ناحية أخرى تبدو تعقيدات الجغرافيا في “وادي فرغانة” أكثر وضوحًا حيث يتوزع جغرافيًا بين بين أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وهو ما نجم عنه تنافس شديد فيما بينهما على الأراضي والمصالح الاقتصادية.

من هنا يمكننا فهم ما آلت إليه عملية تقسيم المساحات الجغرافيا في ظل الاتحاد السوفيتي بصورة إدارية وإقليمية لم ترعي التنوع أو إمكانية انفصال تلك الجمهوريات وخروجها من تحت مظلة الاتحاد، وعليه فقد كان انهياره كفيلًا بتفجير تلك النزاعات الحدودية المتفاقمة في دول آسيا الوسطى.

اليوم التالي

ثمة اتجاهات يمكن أن تتحكم في مجريات الأمور والتفاعلات التي يمكن أن ترسم ملامح اليوم التالي في ظل مشهد التصعيد المتجدد بين طاجكستان وقيرغيزستان، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

الاتجاه الأول: احتواء وتسكين الصراع، يفترض هذا المسار نجاح الطرفين في تثبيت وقف إطلاق النار واستعادة الهدوء على طول الحدود المتنازع عليها، ومن ثم احتواء التصعيد وتسكين الصراع، ويدعم هذا المسار عدد من الاعتبارات من بينها:

أولًا) أن الخبرة التاريخية للصراع الحدودي بين الطرفين تشير لأن أية تصعيد جرى بينهما اتخذ طابعًا مؤقتًا وسرعان ما تم احتوائه، حيث تشير التقديرات إلى وقوع ما يقرب من 230 حادثًا حدوديا بين البلدين خلال العقدين الماضيين وفقًا لتصريحات نائب وزير الخارجية طاجيكستان “سوديك إيمومي”، ورغم تعدد تلك المواجهات بين البلدين إلا أنها ظلت طيلة تلك السنوات تحت السيطرة ولم تتحول لحرب شاملة أو مفتوحة بينهما، كما لم تصل حدتها على سبيل المثال للاشتباكات المسلحة بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم “ناغورنو كاراباخ”.

ثانيًا) يظل الدور الروسي مؤثرًا في هذا الاتجاه، خاصة في الوقت الراهن، حيث أن مصلحة موسكو تدفع في تهدئة تلك التوترات واحتوائها بما يضمن استقرار المنطقة التي تعتبرها مجالًا حيويًا لنفوذها التاريخي، من هنا يمكن أن تضع جهود الوساطة لروسيا -في حال اندلاع المواجهات- قيدًا يحول دون انفلات المواجهة أو تحولها بعيدًا عن المسار المعتاد، خاصة أن روسيا تمتلك لعب هذا الدور في ظل تمتعها بنفوذ كبير داخل البلدين، إذ تحتفظ بقواعد عسكرية في كل من طاجكستان وقيرغيزستان.

كما أن مساعي روسيا في الوقت الراهن لإعادة تشكيل النظام الدولي تدفعها للعب دور مؤثر في محيطها الإقليمي، وضمان استقرار الأوضاع العسكرية والأمنية، حيث أن الاندفاع نحو الاقتتال المتسع بين البلدين قد يربك حسابات موسكو التي تكثف جهودها في مواجهة الغرب في حربها ضد أوكرانيا، وعليه ستعمل روسيا على ابعاد الطرفين عن تلك المواجهة.

ثالثًا) يعتبر إدراك كل من طاجكستان وقيرغيزستان لتكلفة المواجهة العسكرية المفتوحة محفزًا على تسوية الأوضاع رغم تجدد الصراع من وقت لآخر، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال إعلان الطرفين وقف إطلاق النار بعد يومين من الاشتباكات، ورغم وجود بعض الاختراقات إلا أن عملية وقف إطلاق النار تظل صامدة، حيث لم يتم الإعلان عن أية حوادث أو اشتباكات كبيرة بين الطرفين، وهو ما تم ترجمته من خلال قيام البلدين بتوقيع بروتوكول لإحلال السلام (19 سبتمبر) والذي نص على وقف الأعمال العدائية، وسحب القوات والمعدات العسكرية من على الحدود بين البلدين وعودتها لمراكز عملها، علاوة على تنظيم عمليات تفتيش مشترك للبؤر الحدودية، وفتح تحقيق شامل في الاشتباكات التي دارت بين البلدين في الفترة من 14 وحتى 16 سبتمبر

الاتجاه الثاني، صعوبة الحل الشامل، يفترض هذا المسار إمكانية التوصل لحل للنزاع الحدودي والتفاهم على ترسيم الحدود فيما بينهما، إلا أن الأمر قد لا يتم بهذه السهولة، خاصة في ظل عدم الثقة بين الطرفين، وغياب الرغبة في تقديم تنازلات للطرف الآخر، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال صعوبة تحقيق اختراق في هذه القضايا طيلة العشرون عامًا الماضية، حيث بدأت مفاوضات ترسيم الحدود عام 2002 وتم تدشين لجنة مشتركة بين الجانبين بدأت أعمالها 2006 دون أن تنجح في بناء تفاهمات مشتركة تفضى لحلحلة النزاع، حيث عقد الطرفان مئات الجلسات دون جدوى حقيقية، من هنا يمكننا فهم صعوبة التسوية الشاملة لهذا النزاع، خاصة وأن قضية تبادل الأراضي كأحد المقترحات للتعاطي مع الأزمة قد قوبلت بالرفض في ظل خطاب يتسم بالشعوبية والمراوحة بين الجانبين.

في الأخير، يتسم النزاع الحدودي بين طاجكستان وقيرغيزستان بالتعقيد، خاصة في ظل صعوبة تسويته بصورة شاملة، إلا أن احتمالية تجدد المناوشات بينهما، لا تعني بالضرورة دخول الطرفين لحرب مفتوحة، خاصة في ظل القدرة على احتواء هذا التصعيد كلما عاد للظهور. رغم ذلك فقد اضفى توقيت الاشتباك الأخير بعدًا مختلفًا للصراع، خاصة أنه يأتي في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وما تشهده من تطورات ميدانية تشير لتراجع السيطرة الروسية في بعض المناطق، علاوة على أنه جاء مصاحبًا لانعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون والتي بدت أنها تستهدف الترويج لنظام دولي جديد يبتعد عن الهيمنة الأحادية ويؤسس لعالم متعدد الأقطاب، كما أن تجدد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان قد دفع البعض للإشارة لان اشتعال المنطقة قد يكون مدفوعًا من الغرب لإرباك حسابات روسيا، إلا أن تلك الرواية تظل محل شك.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20941/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M