هل تُحوِّل معركة خاركيف مسار الحرب في أوكرانيا؟

السفير د. علاء الحديدي

 

في تطور بالغ الأهمية، شنت القوات الأوكرانية يوم ٥ سبتمبر الماضي، هجومها المضاد المنتظر منذ عدة أسابيع على طول جبهة القتال الممتدة من مدينة خاركيف في الشمال إلى مدينة خيرسون في الجنوب، ونجحت بعد ٦ أيام من القتال في استعادة السيطرة على نحو ٦ آلاف كم٢ من الأراضي التي كانت خاضعة للقوات الروسية، وذلك حسب تصريح للرئيس الأوكراني في ١١ سبتمبر الماضي. هذا، وقد وجاء تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية بأن ما تم هو إعادة انتشار للقوات الروسية من أجل تقوية الدفاعات الروسية حول محافظة لوهانسك ليؤكد هذا التقدم الأوكراني. ثم توالت بعد ذلك عدة تعليقات وتصريحات من داخل الجانب الروسي انتقدت أداء القوات الروسية وليطالب بعضها باتخاذ إجراءات مضادة أكثر قوة مما يتبع حاليًا وتصحيح الأخطاء التي حدثت.

ومن الجدير بالذكر هنا أنه طبقًا لتصريح سابق للرئيس زيلينسكي فإن الجانب الروسي يسيطر على نحو ٢٠ في المائة من الأراضي الأوكرانية، أي نحو ١٢٥ ألف كم٢، منها ٤٣ ألف كم٢ منذ حرب ٢٠١٤. وهو ما يعني أن أوكرانيا قد استعادت ٦ آلاف كم ٢ من ٨٢ ألف كم٢ استولت عليها روسيا منذ بدء الحرب الحالية في شهر فبراير الماضي. هذا وتقع معظم هذه الأراضي المحررة في مقاطعة خاركيف في شمال شرق البلاد والمتاخمة للحدود الروسية، ويقطنها حوالي ١٥٠ ألف مواطن موزعين على نحو ٣٠٠ بلدة وقرية وعدد كبير من النجوع والكفور.

هذا الانتصار الأوكراني لا تكمن دلالاته فقط في مساحة الأراضي التي تم استعادتها، ولكن فيما تمثله من قيمة استراتيجية. فقد كان من أكبر المكاسب الأوكرانية استعادة السيطرة على مدينة كوبيانسك التي تعد مركزًا لوجيستيًا مهمًا على خطوط السكك الحديدية لنقل القوات والأسلحة والمعدات الروسية -وخاصة المدافع- من مقاطعة بولوجراد داخل الأراضي الروسية إلى محافظة لوهانسك في إقليم الدونباس. كما أن إعادة السيطرة على مدينة إزيوم القريبة من لوهانسك كانت ذات دلالة معنوية بالغة حدت بالرئيس زيلينسكي إلى زيارتها في تحدٍّ للقوات الروسية المتواجدة على بعد عدة كيلومترات قريبة منها. وهو ما يجعل منها منصة لانطلاق القوات الأوكرانية في اتجاه إقليم الدونباس إذا ما قررت كييف استئناف هجومها على هذا المحور.

أما في مدينة خيرسون بالجنوب، والتي كانت القيادة الأوكرانية تروج طوال الشهرين الماضيين عزمها شن هجوم مضاد على القوات الروسية بها لاستعادة هذه المدينة الاستراتيجية وقطع الطريق على أي تقدم روسي محتمل في اتجاه ميناء أوديسا، فقد ذكرت التقارير أنه قد تمت استعادة ٥٠٠ كلم ٢ من الأراضي المحيطة بها. وقد سبق هذا الهجوم قيام القوات الأوكرانية بتوجيه العديد من الضربات لخطوط الإمداد والتموين إلى هذه المدينة والتي تقع على الضفة الغربية من نهر الدينبر وذلك بهدف عزلها عن القوات الروسية الموجودة في الضفة الشرقية والمتصلة جغرافيًا ببقية الأراضي الخاضعة للسيطرة الروسية في الشرق. وقد تم ذلك من خلال قصف الجسور القائمة على هذا النهر، وإلحاق أضرار بالغة بها وبما يحول دون وصول أي إمدادات إلى القوات الروسية المحاصرة هناك ودفعها للاستسلام. هذا القصف الأوكراني المكثف عزز من اعتقاد القيادة العسكرية الروسية بأن الهجوم المضاد الأوكراني الرئيسي سيكون في الجنوب فعلًا مثلما روجت أوكرانيا، ودفعها لتحريك ما بين ١٥ إلى ٢٥ ألفًا من أفضل قواتها المتواجدة في الشرق إلى الجنوب، وهو ما أضعف الدفاعات الروسية في الشمال، وفتح أكثر من ثغرة أمام تقدم القوات الأوكرانية في مقاطعة خاركيف كما سلفت الإشارة.

هذا، وقد قيل الكثير في أسباب تفسير النجاح الأوكراني وانسحاب القوات الروسية بهذا الشكل غير المتوقع، بداية من ضعف معنويات الجنود الروس وافتقاد القيادات الميدانية على الأرض ونقص الخبرة والكفاءة. ولكن يأتي أيضًا على رأس هذه الأسباب ما باتت القوات الأوكرانية تحصل عليه من سلاح متقدم من الدول الغربية -وعلى رأسها واشنطن- بعد فترة طويلة من التردد والمماطلة. ودون الدخول في تفاصيل مراحل الدعم المختلفة التي مر بها هذا الدعم الغربي لأوكرانيا منذ بداية الحرب، فمن المعروف أن كييف كانت تطالب دائمًا الجانب الأمريكي بتزويدها بالعديد من الأسلحة المتقدمة حتى تستطيع التصدي للغزو الروسي، ولكن واشنطن كانت تحجم عن ذلك لأن التقديرات -وقتئذ- كانت تذهب إلى عدم إمكانية وقف الزحف الروسي وسقوط أوكرانيا. ومن هنا كان التقدير الأمريكي بعدم جدوى تقديم أي دعم عسكري، ناهيك عن الخشية من وقوع مثل هذه الأسلحة المتطورة في أيدي القوات الروسية. ورغم ثبوت خطأ التقديرات الأمريكية حول قدرة القوات الروسية على السيطرة على أوكرانيا ومدى وقوة صلابة الجانب الأوكراني في الدفاع عن أرضه، لم يعد أمام صانع القرار في واشنطن أية حجة في منع إمداد أوكرانيا بما تحتاجه من سلاح بعد أن أثبتت الأخيرة جدارتها وكفاءتها القتالية. لذلك انتقلت الخطة الأمريكية من مجرد تقديم أسلحة دفاعية خفيفة مثل صواريخ الجافلين المضادة للدبابات والمحمولة على الكتف والتي أثبتت فاعلية شديدة ضد الدبابات والعربات المدرعة الروسية إلى نوعية أخرى من السلاح وخاصة بعد توقف تقدم القوات الروسية وتثبيت خطوط القتال في جبهة تمتد إلى حوالي ألف كيلومتر من الشمال إلى الجنوب فيما يشبه جبهات القتال في الحرب العالمية الأولى، حيث يتخندق كل طرف خلف خط الدفاع الخاص به وتتولى المدفعية قصف الطرف المناوئ، ولكن هذه المرة تقوم الصواريخ بهذا الدور. وهو ما كان يقتضي نوعية أخرى من الأسلحة لم تتحسب لها واشنطن إذا ما أرادت تحريك خطوط القتال ودعم الجانب الأوكراني في دحر القوات الروسية عن المواقع التي تتمترس حولها. وكان الحديث يدور في البداية حول طائرات دون طيار من طراز Switchblade 600، وكذلك نوعية أخرى تعرف باسم Kamikaze، إلا أن الحل الأمثل تمثل في راجمات الصواريخ الأمريكية من طراز هيمارس HIMARS التي تمتاز بكونها صواريخ موجهة تعتمد على تقنية GPS في الوصول إلى أهدافها وبدرجة عالية جدًا من الدقة، فضلًا عن مداها الذي يصل إلى ٨٠ كم، وهو ما يجعلها تتفوق على نظيراتها الروسية. ولا شك أن هذه الصواريخ قد بدأت تؤتي بثمارها، الأمر الذي حرص الجانب الأوكراني على إبرازه لتعزيز دعواه للمطالبة بمزيد من الأسلحة.

هذا، ويطالب الجانب الأوكراني حاليًا وبعد أن أثبت مدى نجاحه في استخدام الأسلحة المقدمة إليه وحتى يستطيع مواصلة التقدم، بتزويده بحاملات جنود مدرعة ودبابات. ويأتي على رأس هذه المطالب الدبابة الألمانية ليوبورد ٢ Leopard 2 وناقلة الجنود الألمانية المدرعة Marder والتي تم تقديم أربعين منها مؤخرًا إلى اليونان لتقوم الأخيرة بتقديم عدد مماثل مما لديها من ناقلات جنود روسية قديمة الصنع كانت بحوزتها إلى الجانب الأوكراني. وهو الأمر الذي يشعر معه الجانب الأوكراني بخيبة أمل وخاصة مع اكتفاء حلف الناتو بتقديم بعض الدبابات الروسية القديمة التي كانت تملكها بعض دول الحلف من الأعضاء السابقين في حلف وارسو، وذلك بحجة عدم استثارة روسيا وتفادي تصعيد الحرب كما تقول ألمانيا. ورغم أن البيت الأبيض قد أعلن عن تقديم حزمة مساعدات إضافية بـ٦٠٠ مليون دولار الأسبوع الماضي، إلا أنها لا تلبي الطموحات الأوكرانية في نوعية السلاح المطلوبة.

وعلى الجانب الآخر، تذهب التقارير الغربية إلى قرب نفاد ما لدى القوات الروسية من صواريخ موجهة والتي كانت محدودة العدد في الأصل من قبل هذه الحرب. وتشير التقارير ذاتها إلى استخدام موسكو ما لديها من منظومة صواريخ إس ٣٠٠ المضادة للطائرات وقيامها بسحب بعض ما لديها منه في سوريا لاستخدامه في أوكرانيا بين حين وآخر. ورغم أنه ما زال لدى الجانب الروسي الكثير من السلاح والذخيرة التي لم تستخدم بعد، فضلًا عن عدم معرفة نوايا بوتين الحقيقية أو كيفية تقبله لهذه الانتكاسة التي تعرض لها مؤخرًا، وما إذا كان سيكتفي بتكثيف ضرباته ضد البنية التحتية الأوكرانية أم سيشن هجومًا مضادًا بدوره في ذات المنطقة أو منطقة أخرى أو حتى اللجوء إلى السلاح النووي التكتيكي، فإن إعلان الكرملين أن روسيا ماضية قدمًا في تنفيذ خطتها في أوكرانيا لا يشي بقرب انتهاء القتال، بل عزم بوتين على مواصلة الحرب.

وعليه، فإن هذا الانتصار الأوكراني رغم أهميته، إلا أنه ليس بالانتصار الكاسح. كما أن هزيمة بوتين أيضًا ليست بالهزيمة الكاسحة التي تجبره على القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات. بل إنه يمكن القول إن النتيجة الأخرى لهذا الانتصار الأوكراني هي قطع الطريق على أية دعاوى أوروبية بالتفاوض مع روسيا وتقديم تنازلات كما كان يأمل البعض، وتأجيل أية مفاوضات معلنة أو غير معلنة كان يخطط لها من قبل بعض الأطراف الدولية بهدف التوصل إلى حل سياسي ووقف نزيف هذه الحرب.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20946/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M