بعدما تضع الحرب أوزارها: إثيوبيا إلى أين؟

شيماء البكش

 

بعدما خفتت حدة المعارك الدائرة بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وقوات جبهة تحرير التيجراي، وتراجع الأخيرة وانسحابها ميدانيًا بعدما كانت على مشارف العاصمة “أديس أبابا”، ودخول الحرب في تيجراي مرحلة من الهدنة التكتيكية؛ تصاعدت الآمال وكذلك الدعوات لكافة الأطراف الإثيوبية لوقف إطلاق النار والعمل على إجراءات بناء الثقة بهدف التمهيد لعملية مصالحة وطنية تحظى بالمصداقية، وفقًا لمناشدة الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” مطلع العام الجاري، رغم فشل كافة التدخلات الدولية والإقليمية في ثني كافة الأطراف المتحاربة عن قرار التصعيد.

وتزامن ذلك مع صدور مؤشرات متناقضة للحكومة الفيدرالية، فعلى الرغم من إطلاقها سراح مجموعة من المعتقلين من بينهم قادة التيجراي في السابع من يناير؛ في للانفتاح أمام جميع المواقف السياسية للمشاركة في مرحلة الحوار الوطني المقبلة.

ورغم دعوة الحكومة للحوار، إلا أن المعارضة لا تثق في الحكومة والتزاماتها الديمقراطية. ولكن البديل عن الحوار سيكون مدمرًا للبلاد. وبالفعل صدرت تصريحات عن قادة الجيش الإثيوبي تفيد باحتمالية معاودة الحرب حال تعرضت البلاد للخطر من قبل التيجراي، وأن تلك الهدنة لاستجماع القوى مرة أخرى، بما يحبط الآمال في الانتهاء الجذري للصراع الذي ترتهن نهايته والمرحله التالية عليه بالكثير من المحددات التي أدى غيابها من العملية السياسية بالأساس إلى الانجراف نحو المشهد الصراعي القائم.

انحسار الصراع

أثار تراجع قوات جبهة التيجراي عن المناطق المجاورة في ديسمبر الماضي الآمال في إمكانية إنهاء القتال والميل نحو التهدئة، والتي ربما تكون هدنة لاستئناف القتال مرة أخرى، على غير رغبة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأمر، وكذلك على غير مصلحة مستقبل الاستقرار السياسي في البلاد، وبذلك تمثل المرحلة الراهنة فرصة جديدة لاستئناف جهود الوساطة لوقف وإنهاء الصراع.

وما يعزز من فرضية إنهاء الصراع وما يزيد في الوقت نفسه من مخاوف استئنافه مجددًا؛ إعلان الحكومة الإثيوبية مؤخرًا عدم نيتها التقدم نحو التيجراي، بعد أن تراجعت الجبهة في سلسلة من الانتصارات الميدانية، ذلك في الوقت الذي أعلنت خلاله الحكومة احتمالية معاودتها للقتال مرة أخرى حال تعرض الأمن القومي للتهديد، ما يعنى بقاء التحفز قائمًا بين الطرفين.

ومؤخرًا، وخلال اتصال هاتفي جمع بين أنطونيو غوتيريش مع الرئيس النيجيري السابق، أولوسيغون أوباسانجو، الممثل الأعلى للاتحاد الأفريقي للقرن الأفريقي، لتبادل وجهات النظر حول الصراع الإثيوبي، أعرب أوباسنجو عن تفاؤله أن هناك الآن فرصة حقيقية لحل سياسي ودبلوماسي للصراع، ولكن على خلاف ذلك، يرى الأمين العام للأمم المتحدة، أن استمرار الصراع من شأنه وأد أية فرص للسلام.

وكذلك حثّ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خلال اتصال هاتفي جمعه برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على الإسراع في إرساء جهود السلام والجلوس إلى طاولة المفاوضات، مع تحسين عملية وصول المساعدات الإنسانية، ومعالجة مخاوف حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة الإثيوبية.

ورغم محاولات التهدئة والتسوية السياسية للصراع، إلا أن الغارات الجوية التي بدأتها الحكومة الفيدرالية منذ أكتوبر الماضي لا تزال تعصف بالمدنيين في التيجراي حتى الشهر الجاري، كذلك الأخبار التي وردت عن الجيش الإثيوبي الإسبوع الجاري بأن هناك استعدادًا وتخطيطًا من الجيش لدخول عاصمة التيجري ميكيلي للقضاء على القوات المتمردة، في الوقت الذي يسعى فيه الدبلوماسيون الأمريكيون للضغط من أجل الجلوس على مائدة المفاوضات، وبناء مؤشرات لتحسين النوايا بين كافة الأطراف.

إلا أن الأرضية المشتركة بين الطرفين غائبة، ليس فقط في ظل الخلاف الكلي على شكل مستقبل البلاد، مع مواصلة آبي أحمد لمشروعه السياسي على حساب الفيدرالية العرقية المعمول بها في البلاد، ولكن أيضًا في ظل حالة الاستعداء الجماعي بين العرقيات، وتحول التيجراي لأعداء يتعين القضاء عليهم حتى تنعم البلاد بالسلام، وفقًا لرؤية أنصار آبي أحمد. وتأتي تلك التصريحات كذلك بعد أسبوعين من دعوات آبي أحمد للحوار الوطني، بما ينسف أية أرضية مشتركة لبناء الثقة والتوافق.

الذاكرة الصراعية

تأخرت محاولات التهدئة والتسوية السلمية للقتال إلى الحدّ الذي عمّق من الشعور الانتقامي لدى كافة الأطراف، مع ارتفاع تكلفة التسوية السلمية بنفس قدر ارتفاع تكلفة الصراع، في الوقت الذي يستعصي فيه على أطراف الصراع التوصل بمفردهم إلى تسوية سياسية دون ضغوط من المجتمع الدولي.

فهناك تسعة ملايين إنسان في شمال إثيوبيا (تيجراي – عفر – أمهرة) بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي، بزيادة قدرها 2.7 مليون عن أربعة أشهر مضت. وتسببت الحرب في تدمير البنية التحتية الاجتماعية؛ فتم تدمير المنازل وتشريد الملايين من الناس، فشهد السكان مذابح عرقية وتفشي العنف القائم على النوع الاجتماعي، علاوة على فقدان الناس لأبسط حقوقهم في التعليم والسكن والغذاء. فالتطهير العرقي الذي تعرض له السكان والقصف الجوي للحكومة المركزية لم يسهم في تدمير الممتلكات والمؤسسات فحسب، بل ساهم في تدمير الأرواح بطريقة تعمق من العداء المجتمعي.

ومنذ فرض الحصار على دخول المساعدات الإنسانية في يونيو الماضي، تشهد الأوضاع الإنسانية تدهورًا مستمرًا، حتى وصلت إلى وضع مأساوي، عبّرت عنه المنظمات الإنسانية والأممية في يناير الجاري. فوفقَا للأمم المتحدة هناك حوالي 50 ألف طفل يعاني من سوء التغذية الحاد، واستنفذت المواد الغذائية والوقود في التيجراي وفقًا لتصريحات الصليب الأحمر.

وتزيد هذه المعاناة الإنسانية من فرص إنهاء الصراع، في مفارقة تناقض مجريات الأحداث، فالأوضاع الإنسانية هي أحد عوامل الدفع للمجتمع الدولي للانخراط في الملف من الناحية الإنسانية، وكذلك الضغط على أطراف الصراع لتحمل المسؤولية عن الدمار الذي خلّفوه. رغم أن التسوية السلمية للصراع واللجوء إلى التفاوض تواجهه مجموعة من المحددات، من بينها:

  • المسؤولية السياسية

يتحمل قادة الجبهتين المسؤولية عما تتسبب فيه من معاناة إنسانية للسكان المدنيين، بما في ذلك ضربات الطائرات بدون طيار. وتشير التقارير الإنسانية إلى تورط الجميع في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مع تصاعد خطاب التحريض والكراهية واستهداف الجماعات العرقية.

وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية التي تستهدف قادة الحرب المتورطين في الصراع، بما في ذلك قادة الجيش الإريتري، إلا أن تلك العقوبات لم تكن محفزة على التراجع عن مواقفهم الصراعية، بل إن المسؤولية السياسية التي يتحملها كافة الأطراف المنخرطة في الصراع تدفعهم إلى إطالة أمد الصراع.

  • الأوضاع الإنسانية

يتحمل قادة الطرفين كذلك مسؤولية وصول المنظمات الإنسانية إلى المتضررين، فمنذ بدء الصراع في تيجراي هناك نحو تسعة ملايين شخص في شمال إثيوبيا بحاجة إلى المساعدات الغذائية، إضافة إلى وجود حوالي 400 شخص يعانون من ظروف شبيهة بالمجاعة، علاوة على نقص الإمدادات وصعوبة وصول المساعدات منذ بدء الغارات الجوية في أكتوبر الماضي.

وتعد معالجة الأوضاع الإنسانية المأساوية أحد أهم الأولويات التي يجب أخذها في الحسبان بشكل متزامن أو سابق على أية فرص للتسوية السلمية للصراع. كذلك تفرض إعادة الإعمار في إقليم التيجراي تحديات اقتصادية على الحكومة الإثيوبية، في ضوء الأزمة المتجذرة بين المركز والإقليم.

  • مظالم تاريخية

على الرغم من أهمية التعامل الفوري والسريع مع الصراع القائم والبحث عن تسوية سلمية له؛ إلا أن كافة التدخلات الدبلوماسية للتوفيق بين الأطراف المتحاربة يجب أن تأخذ في الحسبان القضايا الأساسية والجذرية التي أدت في الأساس إلى الوضع المأساوي الراهن، وهي قضايا متشابكة ومعقدة، وترتبط في جزء كبير منها بقضايا القوميات والعرقيات وأزمة الهوية الوطنية.

فقبل اندلاع الصراع في تيجراي كانت هناك صراعات قائمة وممتدة بين الأقاليم والقوميات المختلفة على الموارد والأراضي الحدودية، ولعل الصراع بين قوميتي الأمهرا والتيجراي على الأراضي الحدودية بينهما أبرز تلك الأمثلة. وكانت هناك محاولات ولجان تشكلت من قبل الحكومة الفيدرالية لعقد الحوار بين الطرفين، إلا أن أزمة الثقة بين التيجراي وآبي أحمد دفعت إلى تشكيك التيجراي في انحياز آبي أحمد لمصالح الأمهرا المتحالفين معه، وربما كانت تلك أحد أبرز العوامل لانخراط الأمهرا في الصراع، وكذلك سيطرتهم على الكثير من المناطق الحدودية بينهم وبين التيجراي.

ويبقى التساؤل هل تضع الحرب أوزارها في إثيوبيا، وهناك جنوح حقيقي ناحية السلم، أم أن تلك التهدئة مجرد هدنة ناتجة عن حالة فتور عزيمة القتال مؤقتًا، تستعيد عقبها القوات المتحاربة عزيمتها مجددًا؟

وإذ كان الأمر كذلك، فما هي نقطة النهاية التي يرغب أن يصل إليها أي من الطرفين؟ وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فما هي الأرضية المشتركة التي يمكن أن يتفق حولها الطرفان، وكيف يمكن تخطي المظالم المتحققة؟

على ذلك، فإن الحوار الوطني المقبل تنتظره أزمة ثقة كبيرة قياسًا على فشل مبادرات الحوار الوطني في وقت سابق على الصراع الجاري، والذي بلا شك عمّق من تلك الأزمة. وتعكس قضايا الحدود والموارد أزمة هوية بين إثنيات متناحرة، بما يلقي الضوء على أزمات أخرى لا تقلّ أهمية عن معالجة الصراع، ومنها أزمة الفيدرالية العرقية وأزمة الميليشيات وتعدد الجيوش القائمة على أساس عرقي، علاوة على الأزمة الدستورية القائمة والخلاف على شكل النظام السياسي، وهي الأزمة التي تجسدت في أزمة الحزب الحاكم الذي أسسه آبي أحمد وحل الجبهة التي كانت قائمة على أساس عرقي، وما ترتب على ذلك من خلاف حول العملية الانتخابية، بما أدى إلى المشهد الصراعي القائم.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67000/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M