تأملات قرآنية من الآية التاسعة والثلاثين من سورة سبأ

بهاء النجار

 

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

التأمل الأول :
البشر كلهم (مؤمنون وكافرون) عباد الله سبحانه ، رضي العباد بذلك (كالمؤمنين) أم لم يرضوا (كالكافرين)، فهم عباده لأنهم يأتمرون بأوامره التكوينية ، فلا يستطيعون العيش مثلاً من دون رزقه جل وعلا كالهواء أو الماء أو الغذاء ، وهذه قوانينٌ أوجدها الله تعالى وفرضها على عباده ، ويسير وفقها عبادُه من دون أن يعترضوا ، ولا يمكنهم أن يعترضوا أصلاً ، فهذه عبودية رغم الأنوف .
والرب يتعامل مع العباد ( مؤمنهم وكافرهم ) كمربوبين لا كعباد ، بمعنى أنه يتعامل معهم برحمة لا تعامل تسلط واقتدار ، فيبسط رزقه لمن يشاء ويقدر رزقه لمن يشاء رأفة بحالهم ، وهم في كل الأحوال عباده ، وعليهم أن يرضخوا لتلك القرارات كما رضخوا للقوانين التكوينية .

التأمل الثاني :
قد يبسط الله تعالى الرزق ويقدر وفق مشيئته الحكيمة ولكنه في الوقت نفسه حمّل المرزوقين جزءاً من مسؤولية بسط الرزق على البعض كي ينال الدرجات العلى ويخسرها عند تضييقه وتقتيره ، فلو أنفق المرزوقون جزءاً ثابتاً وواضحاً مما رزقهم الله سبحانه ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) وخصصه لمن قُدِر عليه رزقُه لكان الرزق مبسوطاً للجميع ( كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ) ممن بسط الله لهم الرزق ، وبالتالي يمكن أن يكون السبب المباشر لبسط الرزق وتضييقه هم البشر أنفسهم لما خوّلهم الله تعالى من صلاحيات ليثيبهم على العمل الصالح إن اختاروه .

التأمل الثالث :
إن الإنفاق والإخلاف يشكّل حركة مهمة تحتاجها البشرية لإنعاش وضعهم الاقتصادي ، إذ تنتقل الأموال – بالإنفاق – ممن بسط الله تعالى له الرزق الى من قُدِر عليه الرزق ، والله كفيلٌ بالإخلاف فهو وعدٌ إلهي والله لا يخلف الميعاد ، عندها سيكون لهذا الإنفاق دوران : أحدهما مادي يتمثل بالحركة الاقتصادية ، والآخر غيبي يتمثل بتعميق الإيمان بالوعود الإلهية .
وعلينا أن نوسع معنى الإنفاق ، إذ لا يقتصر على الصدقة أو الحقوق الشرعية فيمكن أن يشمل كل ما ينفقه المرء في ما هو صالح كالإنفاق الواجب على العيال وحتى شراء السلع والخدمات ممن قُدِر عليه رزقه واستخدام هذه السلع والخدمات في تسهيل مهام الحياة .

التأمل الرابع :
قد يقيّد البعض مفهوم الإخلاف لمن ينفق بالإخلاف المالي ، قد يكون هذا صحيحاً ولكن لا يكون الإخلاف مباشراً ، فمثلاً يكون الإخلاف عندما يرزق الله سبحانه المنفقَ الصحة في جسمه وباقي من يعولهم ، وبالتالي سيتوفر عنده مبالغ العلاج ومراجعة الطبيب التي يصرفها لو كان مريضاً أو أحد أفراد عائلته ، أو يرزقه تعالى زوجة صالحة أو ولداً صالحاً يقدّران تَعَبَه ولا يُسرفان في مصرفهما ، وهذا عبارة عن تعويض مالي عما لو كانت زوجته وولده مسرفين ، أو يمنّ الله جل وعلا على المنفق بأصدقاء وجيران يتعاطفون معه فيقضون له حوائجه بلا مقابل ، وهكذا .
وهذا الى حد ما يتطابق مع ثمار الصدقة التي وُعدنا بها .

التأمل الخامس :
الى جانب الرزق المادي هناك رزق غير مادي ، أو لِنَقُل ( رزق غير مالي ) ، وبالتالي فَبسطُ الرزق يكون من النوعين ، وإخلاف ما ينفق المنفقون كذلك يمكن أن يكون من النوعين ، فيُرزَق المنفِقُ بالصحة كإخلاف لما أنفق ، أو يُرزَق بالوعي والثقافة والتدبير والتخطيط والنظرة بعيدة المدى واستشعار الرزق غير المباشر وغيرها من الأرزاق غير المادية التي تكون انعكاساتها مادية لتعويض ما تم إنفاقه .
فخير الرازقين ليس كباقي الرازقين ، إذ يرزق أرزاقاً متنوعة ( مادية وغير مادية ) ، ويُخلِفُ من ينفق من رزقه ليُربّيه على العطاء وأن يكون من الرازقين أيضاً .

التأمل السادس :
إذا أنفق المؤمن من رزقه المادي (المالي بالتحديد) فسيخلفه الله تعالى ، فمن باب أولى أن الله سبحانه سيخلف المؤمن إذا أنفق من رزقه غير المالي ( وخصوصاً المعنوي ) ، باعتبار أن الرزق المعنوي أفضل من الرزق المادي والإنفاق منه يكون ذا فضل عظيم ، وخير الرازقين – عظمت آلاؤه – سيرزق كلاً من فضله وكلاً بحسبه وبحسب مصلحته .
فمن ينفق من علمه وينشره فبالتأكيد سيخلفه الله جل وعلا ، فزكاة العلم نشره ، فالنشر عبارة عن إنفاق والزكاة هو الإخلاف ، وكذلك الأمر بالنسبة لمن ينفق وقته الذي رزقه الله تعالى به من أجل نصرة الدين أو قضاء حوائج الناس .

التأمل السابع :
من الأرزاق المعنوية التي يبسطها الله جل وعلا لمن يشاء هو الإنفاق في سبيل الله كالإنفاق لنصرة دين الله ومساعدة عباد الله وقضاء حوائجهم والإنفاق على العيال وما شابه ، فمثل هذا الرزق لا يُبَسط للجميع ولا يوفَّق له إلا من شاء الله تعالى توفيقه ممن وفّر أسباب هذا التوفيق في داخله كحُبِ الخير للآخرين والشعور بضرورة أن يعمّ على الجميع .
وإضافة الى أن الإنفاق هو رزق معنوي فإن تبعاته – كالإخلاف – هو رزق آخر إذ سيزيد من فرصة التوفيق للخير ، فضلاً عن التبعات الأخرى كرضا الله تعالى وحب الناس للمنفق ودفع البلاء وزيادة الرزق وغير ذلك .

التأمل الثامن :
لا بد من تلاقي مشيئة الرازق جل وعلا ومشيئة المرزوق ليكون الرزق مبسوطاً أو مضيّقاً ، فيرزق الله سبحانه من يشاء هو جل وعلا ويرزق من يشاء من عباده أن يُرزَق ، فإذا شاء العبد أن يُرزَقَ برزقٍ ولا يشاء الله تعالى أن يرزقه فلا يتحقق الرزق ، والعكس صحيح أيضاً ، فإذا شاء الله أن يرزق أحداً لا يريد الرزق ففي العموم لا يتحقق الرزق .
وقد لا يوجد شخص لا يريد أن يُرزَق برزقٍ معين ، ولكن هناك من يريد الرزق بلا مقدمات وبلا عمل ومن دون توفير الأسباب ، لذلك قد يرزقه الله تعالى لطفاً به لمشيئة ذلك الشخص القلبية حتى وإن تتحول الى مشيئة عملية .

التأمل العاشر :
يمكن أن نفهم تعبير ( خير الرازقين ) من عدة جهات :
– أن هناك عدة رازقين وأن الله تعالى خيرهم باعتباره هو المصدر الرئيسي للرزق وأن باقي الرازقين هم مصدر ثانوي للرزق وصلة بين الرازق الحقيقي والمرزوقين .
– أن الله سبحانه خير الرازقين لأن رزقه يكون وفق محددات تصب في مصلحة المرزوق سواء كان الرزق مبسوطاً أو مضيقاً ، بينما باقي الرازقين لا يمكنهم الإحاطة الدقيقة لمصلحة المرزوق .
– أن المرزوق يمكن أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه ويكون رازقاً لغيره من خلال إنفاق ما رزقه الله الرزاق من رزق معنوي ومادي .

التأمل الحادي عشر :
يقول أحد العلماء أن الله تعالى (بكرمه) يقبل العمل الإنساني حتى ولو لم يكن بِنيّة القربى ، أي بِنيّة التقرب الى الله سبحانه ، لذا فيمكن أن يقبل الباري عز وجل الأعمال الإنسانية – كالإنفاق على المشاريع الخيرية والإنسانية – من غير المؤمنين باعتبارهم لا يهتمون بالتقرب من ربهم بسبب عدم إيمانهم أو ضعفه ، وبالتالي قد يُخلفهم جل شأنه ما أنفقوا كي يشجعهم على فعل الخير ليصل الرزق الى الآخرين من أناس غير مؤمنين به جل وعلا ( نظرياً كان هذا الإيمان أم عملياً ) .
وهذا يؤكد أن الله تعالى خير الرازقين ، فقد لا نجد أحداً يعطي من لا يتوافق معه في التوجه والرأي رغم أن قيمته الوجودية لا تقارن مع الله عز وجل .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M