تأملات قرآنية من الآية الحادية عشرة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

 

التأمل الأول :

إذا لم نفهم كيفية خلقنا من التراب فهذا لا يعني أن هذا الخلق غير حقيقي أو غير علمي ، فكثير من الحقائق العلمية تصوّر البعض أنها وهمٌ مثل كروية الأرض وأن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس وتبيّن صحتها ، وهذا هو حال العلم ، كلما تطوّر تصوّر الجهلة أنه وهمٌ لأنهم لم يبلغوا مستواه ، وهذا أمر طبيعي ، إلا أن غير الطبيعي أن الجاهل يفنّد ما توصل إليه العلم من دون علم أو دليل .

والقرآن باعتباره مصدر للعلم والمعرفة فإنه يزودنا بالحقائق العلمية المختلفة التي لم تصلها عقولنا وعلومنا ، وكثير من هذه الحقائق قد توصّل إليه العلم الحديث بعد جُهد جهيد . نعم من حق المتطلع والساعي للتعلم أن يعرف الآلية والطريقة التي خُلِق بها الإنسان من التراب والعلاقة بين الإنسان والتراب ، وهذا يدفعه للبحث العلمي عن هذه الطريقة من دون التشكيك بنتيجتها القرآنية ، فهذا على الله يسير .

 

التأمل الثاني :

العلم أحياناً لا يعطي تصوراً كافياً عن مكانة العالِم ، فالشخص الذي يعلم مثلاً أن سيارة ما مرّت من أمامه يمكن أن نعتبره عالِماً بدرجة من الدرجات ، ولكنها درجة متدنية ، أما الشخص الذي لا تمر سيارة إلا بعلمه فهو ذو علمٍ مختلف عن سابقه ، فحال الأول حال أغلب الذين نطلق عليهم وصف (العلماء) ، أما الثاني فيسيطر ويتحكم بما يعلمه الأول ، وبالتالي فهو أكثر سيطرة وهيمنة ، وينطبق على العلم الإلهي الذي يشمل الصنفين معاً .

ومن هنا نستفيد فائدة أن صاحب القرار وصانعه والمؤثر في حركة الحياة على أرض الواقع هو المتحكم الذي يتحكم بهذه الحركة ، فلا يتحرك المجتمع وأفراده إلا بإذنه وعلمه ، وليس العلماء الذين يعلمون ما يحدث في الحياة إلا بعد حدوثه وبعد إذن وعلم صنّاع القرار . وقد خُدِعَ الكثيرون بأن يكونوا مثل هؤلاء العلماء ، فتركوا الأهم وهو صناعة الحياة .

 

التأمل الثالث :

إذا أردنا أن نبحث عن مقومات النجاح لدى الشركات المتنافسة فسنجد أبرزها ( التوثيق ) ، فالشركة الأكثر توثيقاً تكون أقرب للنجاح ، بحيث يضعون نظاماً للتوثيق لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها ، مما دعا بعض المستثمرين الى تأسيس شركات متخصصة في التوثيق توثِّق كل ما تقوم به الشركات الزبونة وتحتفظ بها وتضمن عدم ضياعها واسترجاعها في أي وقت يُطلَب منها ذلك حتى لو بعد سنوات ، حتى أصبح التوثيق كأحد الأسس التي تجعل الشركة مؤهلة للحصول على بعض الشهادات الدولية كشهادة الآيزو ISO .

ووردت ثقافة التوثيق في القرآن بشكل مكرر ، منها توثيق ما تحمل من أنثى ولا تضع وما يعمّر كل معمر أو ينقص من عمره ، رغم بساطته هذه البيانات ، فكيف بالبيانات الأعقد والأهم ؟ فذلك على الله يسير ما دام على البشر يسيراً ، وحريٌ بالمسلمين أن يتثقفوا بهذه الثقافة كشكل من أشكال التخلق بالله عز وجل .

 

التأمل الرابع :

درس قرآني تربوي …. تراب ، ثم نطفة ، أساس خلق الإنسان ، فعلامَ تتكبر أيها المتكبر ؟! أعلى التراب الذي خُلِقتَ منه ؟! أم على النطفة ؟! ثم إنك لم تخرج الى الدنيا إلا من بعد إذن الله تعالى وبعلمه ، فلو لم يأذن الله سبحانه لخروجك فسوف تكون بمثابة العدم ، ولو بقيت مُعدَماً لكان خيراً لك من بقائك متكبراً ، فإن استمرّ تكبرُك ولم تُنقِذ نفسَك فسيُسَجّل ذلك في كتاب وستُفتضَح في الآخرة – وربما في الدنيا – خاصة إن كبُرت وعمّرتَ وأصبحت من المعمَّرين فستزيد من رصيد سيئاتك ، وأي رصيدٍ ؟ إنه رصيد التكبر الذي روي في الأحاديث القدسية : ( أن الكبرياء ردائي ، من نازعني عليه أدخلته النار ولا أبالي ) أو بصيغة مقاربة ، فهذا التكبر ينقص من العمر الفعلي والفعال للإنسان الذي ينبغي أن يقضيه ويستثمره في طاعة الله سبحانه ، فكلما عمّر الإنسان في المعاصي نقُص عمر طاعاته .

 

التأمل الخامس :

إن أفعال البشر ( الإيجابية والسلبية ) تُكتَب مرة عند البشر أنفسهم عندما يأخذ شخصٌ انطباعاً معيناً عن شخصٍ آخر نتيجة لفعلٍ فعله أو تصرفٍ تصرّفه أو موقف إتخذه ، وليس من السهل محو هذا الانطباع . ومرة يكتب التاريخ أفعال البشر والشعوب وما تُقدّمه للبشرية من عطاء مادي أو معنوي ، أو من ظلم واستبداد وتخلفٍ على الصعيد المادي والمعنوي ، ويكون عادة تسجيل التأريخ بعدة طرق منها مباشرة ككتب التأريخ أو غير المباشرة من خلال الأدب عموماً كالقصص والروايات ، أو الإعلام والتوثيق الإعلامي ، وما يكتبه التأريخ يكون محوه أصعب مما يكتبه البشر ، لذا يخشى الكثيرون مما يكتبه التأريخ.

وكلا الحالتين هما شكل من أشكال ما يُكتَب عند الله سبحانه ، ولكنهما أهون ، فينبغي أن لا يشغلنا كتابة البشر والتأريخ عن ما يُكتَب عند الله عز وجل الذي تكون تبعاته أخطر ، ولا بأس بالإتعاظ مما يكتبه البشر والتأريخ لنتذكر عِظَم ما يُكتَب عند الله تعالى .

 

التأمل السادس:

نسمع ونرى تقارير كثيرة عن المعمِّرين (بكسر الميم) بينما لا نسمع ولا نرى تقارير عن المعمَّرين (بفتح الميم) ، فما الفرق بينهما ؟

المعمِّرون (بكسر الميم) : هم الذين يعمِّرون بإرادتهم ، أو لِنقُل هم الذين قرروا إطالة أعمارهم وضمنوا ذلك ، باعتبار (المعمِّر) إسم فاعل ، فهو من يقوم بالفعل . أما المعمَّرون (بفتح الميم) : فهو إسم مفعول يدل على أن إطالة أعمارهم جاءت بتأثير خارجي وليس بقرارهم وإرادتهم .

وإذا أردنا أن نبحث عن الحقيقة نجد أن المعمَّرين (بفتح الميم) أصح من المعمِّرين (بكسر الميم) ، لأنه لا يمكن لأحد أن يُطيلَ عُمُرَه بنفسه مهما إتبع سُبُلاً وقائية وصحية ، لأن إطالة العمر في كتاب بيد الله عز وجل وحده لا شريك له ، ورغم صعوبة – بل إستحالة – إطالة العُمُر على البشر نجد ذلك يسيراً على الله جلّت قدرته .

 

التأمل السابع:

من الضروري الاهتمام بالبُعد الاجتماعي كإهتمامنا بالبُعد الفردي بل وأكثر ، لأنه أهم وأخطر وأنفع ، فمثلاً يهتم الكثيرون بالمعمّرين ( سواء بفتح الميم أو بكسرها ) كأفراد ، ويناقشون أسباب بلوغهم هذه الأعمار الطويلة والبرنامج اليومي والغذائي والصحي لهم ، وربما يتأثر البعض ويحاول أن يتقمّص تجربتهم عسى أن يطول عمره ، بينما قلّما نرى أو نسمع من يهتم بطول عُمُر الشعوب والمجتمعات والحضارات ويناقش أسبابه وأسباب نقص أعمار شعوب ومجتمعات أخرى ، وهل أن طول العمر ( سواء كان على المستوى الفردي أم الاجتماعي ) هو أمر إيجابي أم سلبي ؟ وهل أن طول العمر هذا يقاس بالزمن وعدد السنين أم بمقدار العطاء الذي يقدمه المعمّر ؟ فالنبي محمد صلى الله عليه وآله بسنينه الثلاث الستين هو أفضل من نوح النبي عليه السلام رغم أنه من أطول الناس عمراً ، وهذا يعني أن الأمة المعمّرة ليست بالضرورة هي الأمة التي استمرت لفترة طويلة . فمثل هذه الأمور من الضروري دراستها والإطلاع عليها والإهتمام بها .

 

التأمل الثامن:

للتراب أهمية خاصة في التراث الإسلامي وبالخصوص القرآن الكريم ، وهذه الأهمية تدفعنا الى الاهتمام بمعرفة أنواع التراب الوارد ذكره في القرآن ، عسى أن نعرف نوع التراب الذي خُلِقنا منه ، فهل هو هذا التراب الطبيعي بأملاحه ومعادنه ؟ أم هو تراب من نوع خاص ؟ كأن يكون تراب غير مادي مثلاً ، وهل هذا هو نفسه الذي يتمنى الكافر أن يتحول إليه بعد أن يشاهد العذاب ويوم القيامة ؟ أم هو ذلك التراب الذي صار علي بن أبي طالب عليه السلام أباً له عندما كنّاه رسول الله صلى الله عليه وآله بأبي تراب بقرينة الحديث النبوي الشريف ( يا علي أنا وأنت أَبَوَا هذه الأمة ) ؟

إن الفهم المادي للآيات القرآنية يفشل في كثير من الأحيان في الإرتقاء بالمستوى الفكري للإنسان المسلم ، لذا لا بد أن يُمزَج ويُخلَط بالفهم المعنوي ، كما مُزِجَ وخُلِطَ التراب (ذو البُعد المعنوي) مع النطفة (ذات البُعد المادي) .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M