تعهُّدات على المحك: سياسة تركيا تجاه التغير المناخي

ستكون تركيا، وفقاً لتقرير البنك الدولي عام 2022، إحدى ثلاث دول في منطقة البحر المتوسط ووسط آسيا الأكثر تأثراً بالتغير المناخي مع نهاية القرن الحادي والعشرين. ووفق التقرير نفسه، فإن هناك عوامل أخرى، بالإضافة إلى الظروف الطبيعة، التي ستسهم في إحداث هذا التغيير الدراماتيكي، أهمها: الزيادة السكانية الحاصلة في مناطق الدولة الأكثر عرضة للسيول وحرائق الغابات والجفاف؛ والنسبة العالية لمدخول الزراعة في الاقتصاد القومي التركي، فبالرغم من أن مساحة الأراضي الزراعية في تركيا لا تشكل أكثر من 0.8% من مجموع الأراضي الزراعية حول العالم، إلا أن مشاركتها في الإنتاج الزراعي العالمي تتجاوز 1.29%، كما يشكل الإنتاج الزراعي نحو 7.2% من الدخل القومي التركي، ونحو 11.3% من صادرات تركيا. ومن العوامل الأخرى أيضاً اعتماد وسائل المواصلات بشكل كبير على الوقود الأحفوري، والاعتماد بشكل كبير نسبياً في توليد الطاقة على الفحم، والإسراف في استخدام الطاقة في مشاريع البناء والتعمير.

 

الشكل 1: مخاطر تغير المناخ في تركيا ودول مختارة

المصدر: Key Highlights: Country Climate and Development Report for Türkiye (worldbank.org)

 

وعلى الرغم من هذا الوضع الهش الذي تواجهه تركيا في مواجهة التغير المناخي، إلا أن السلطات التركية تأخرت في التصديق على اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015، فقد صدّق البرلمان على الاتفاقية في 7 أكتوبر 2021. كما انتظرت الحكومة التركية حتى ذلك التاريخ من أجل إدخال تعديلات وإصلاحات على خطتها القومية للحفاظ على البيئة. وغيَّرت بعد ذلك اسم وزارة البيئة والتعمير إلى وزارة البيئة والتعمير والتغير المناخي، ووضعت لنفسها هدفاً وتعهُّداً بالوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول العام 2053. ويعود سبب تأخُّر تركيا في توقيع اتفاقية باريس، ثم التعهد بالوصول إلى صفر انبعاثات من الكربون في مدة قصيرة نسبياً، إلى السبب نفسه، وهو العامل الاقتصادي، وحاجة تركيا إلى الدعم المالي الدولي المخصص لتحقيق هذا الهدف. وسيتم بحث هذا العامل الاقتصادي لاحقاً في هذه الورقة.

 

آثار التغير المناخي على عموم تركيا

بدأت آثار التغير المناخي تظهر بشكل تدريجي في عموم تركيا، وبالأخص خلال العقدين الأخيرين، وأهم ظواهر ذلك جفاف العديد من البحيرات العذبة في تركيا نتيجة ارتفاع درجات الحرارة والسياسة الخاطئة في الزراعة. فنحو 60% من 300 بحيرة في تركيا جفّت خلال العقدين الأخيرين، بينها خامس أكبر بحيرة للمياه العذبة في تركيا، وهي بحيرة أكشهير.

 

كما تتعرَّض تركيا منذ نحو خمس سنوات لموجات جفاف قوية وكبيرة، وعلى سبيل المثال فإن منطقة تراقية، التي تُعتبر أكبر مخزون لزراعة القمح ودوّار الشمس في تركيا، تتعرض في السنتين الأخيرتين لأقوى موجة جفاف منذ 91 عاماً، كما أن مخزون المياه الجوفية في تلك المنطقة بدأ بالجفاف أيضاً. وبشكل مشابه، تتعرض محافظة قونية وسط الأناضول، التي توجد فيها أراض زراعية بمساحة 2.5 مليون هكتار، لموجة جفاف كبيرة ونقص في مخزون المياه الجوفية، لدرجة أن مستوى المياه الجوفية في آبارها تراجع بنحو ستة أمتار عن السابق. كذلك، بدأت تركيا تتحول من دولة لديها فائض مائي إلى دولة ستتعرض إلى أزمة مياه عام 2040، وفق دراسة أعدها معهد الموارد العالمية (WRI) بواشنطن، ووفق هذه الدراسة تراجع مخزون تركيا المائي الصالح للشرب من 112 مليار متر مكعب عام 2010 إلى 100 مليار متر مكعب حالياً فقط.

 

ومن آثار التغير المناخي السلبية أيضاً في تركيا ظاهرة حرائق الغابات التي ازدادت بكثرة في العقدين الأخيرين، بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة عن معدلها الطبيعي خلال فصل الصيف، فما بين عامي 2012 و2021 تعرَّضت 27,150 غابة للاحتراق في تركيا، معظمها في المناطق الجنوبية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبسبب هذه الحرائق احترقت مساحة تقدر بنحو 226,845 هكتاراً من الغابات والأراضي الزراعية، واحترق 60% من هذه المساحات خلال عام 2021 في أنطاليا وملاطيا جنوبي تركيا، في أكبر موجة لحرائق الغابات واجهتها تركيا في تاريخها.

 

وظاهرة سلبية أخرى للتغير المناخي في تركيا هي السيول القوية الناتجة عن هطول أمطار غزيرة في وقت قصير، وخصوصاً في شمال تركيا على مناطق البحر الأسود، وكمثال على ذلك تعرَّضت محافظتا كاستامونو وسينوب في أغسطس 2021 لسيول شديدة بسبب هطول أمطار بكميات غير مسبوقة في تاريخ المحافظتين خلال فصل الصيف، ما أدى إلى فقْد 81 شخصاً حياتهم.

 

ووفق تقرير لهيئة الأرصاد التابعة لوزارة البيئة والتغير المناخي، فإن تركيا تعرَّضت لأكبر وأشد التغيرات المناخية السلبية من ناحية الجفاف وارتفاع درجات الحرارة والسيول خلال عامي 2020 و2021، في إشارة إلى أن مسار التغير المناخي يشتد بشكل متسارع في تركيا. وما يزيد من الآثار السلبية للتغير المناخي السياسة الخاطئة للزراعة والإسكان.

 

توقعات التغير المناخي وسيناريوهاته

شَكَّل البرلمان التركي عام 2021 لجنة لمتابعة أسباب التغير المناخي، وآثارها على تركيا، وآليات مواجهتها، وخلصت دراسات هذه اللجنة إلى تقرير رسمي مهم رسم السيناريوهات المتوقعة للتغير المناخي وأثره في تركيا، ومن أهم النتائج التي جاءت في هذا التقرير، ما يأتي:

 

  1. من المتوقع أن تزيد درجة الحرارة في عموم تركيا خلال الفترة 2021-2100 ما بين 1 إلى 6 درجات مئوية.
  2. ستتعرض تركيا لموجات من الجفاف بشكل متصاعد حتى نهاية القرن الحالي، ومن المتوقع في الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن، أن يتراجع هطول الأمطار في عموم تركيا بنسبة 20-50% في الشتاء والربيع، وبنسبة 60% خلال الصيف. ومن المتوقع أن يكون هطول المطر قوياً في عدة مناطق بحيث يتسبب في سيول أكثر.
  3. المناطق الأكثر عرضة لمشاكل الجفاف ستكون وسط الأناضول والمناطق القريبة من سواحل البحر المتوسط.
  4. في حال عدم اتخاذ تدابير مهمة، فإن المناطق المعرضة للجفاف، ستتأثر بشكل كبير زراعياً وبيئياً، بحيث ستفقد هذه المناطق قدرتها على الإنتاج الزراعي بشكل كبير، وسيتغير الغطاء النباتي فيها.
  5. تراجُع الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف سيهدد المناطق المحاصيل الزراعية الأهم في تركيا، وسيؤدي إلى تراجع إنتاجيتها بنسب معينة ما بين 2021 وحتى 2050 على النحو الآتي: القمح 7.5%، والذرة 10%، ودوار الشمس 6.23%، والقطن 2.2%، والتين 9-14%.
  6. نسبة 86% من أراضي تركيا مُعرَّضة للتصحر، وأكثر المناطق المهددة هي وسط الأناضول وجنوب شرقي تركيا.

 

ووضع تقرير البرلمان سيناريوهَين اثنين، متفائل ومتشائم؛ ففي أفضل الحالات من المتوقع أن تزيد درجة حرارة تركيا بحلول عام 2100 ما بين 2-3 درجات مئوية، بينما في حال فشل الجهود في التصدي للتغير المناخي دولياً ومحلياً، فإن درجة حرارة تركيا قد تزداد بنحو 6 درجات بحلول عام 2100.

 

وفي عام 2021 أيضاً أعدت مديرية الإصلاح والتجديد في وزارة الزراعة التركية، تقريراً عن الآثار الحالية التي بدأ ظهورها في الأقاليم التركية السبعة -وفق التقسيم الجغرافي المعتمد في تركيا- على النحو الآتي:

 

1. منطقة البحر الأبيض المتوسط: وهي المنطقة التي تضم المحافظات/الولايات الواقعة جنوبي تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهي أضنة، وأنطاليا، ومرسين، وبوردور، وإسبارطه، وهاتاي، وعثمانية، وكهرمان مرعش. وتُعد هذه المنطقة السلة الغذائية لتركيا، وتُشتهر بزراعة محاصيل مهمة، منها القمح والأرز والقطن والحمضيات والزيتون والموز وبنجر السكر والعنب والفاصوليا والصويا والذرة. ولا يوجد قطاع حيواني مهم في المنطقة. ويشير التقرير إلى أن هذه المنطقة من أكثر المناطق عرضة للسيول والأمطار الغزيرة في الربيع والصيف، والصقيع في الشتاء، فضلاً عن وجود العديد من المزارع في مناطق السهول والوديان، مما يعرضها لخطر السيول الموسمية.

 

2. منطقة وسط الأناضول: وتضم محافظات أنقرة، وإسكشهير، وشانكري، وقيصري، ونيدة، ونيوشهر، وسيفاس، وكرك قلعة، وكرك شهير، وقونية، وكرمان، ويوزقات. وهي منطقة تتعرض للجفاف حالياً مع تراجع كميات هطول الأمطار، وتغير مواسم هطولها بشكل غير ثابت، مما أثر في مخزون المياه الجوفية فيها. وقد أدى اعتماد الزراعة في هذه المنطقة على الآبار الجوفية إلى جفاف العديد من هذه الآبار، وزيادة نسبة الملوحة في بقية الآبار. كما أن زيادة درجات الحرارة في هذه المنطقة، أدى إلى جفاف مساحات واسعة من المراعي التي تعتمد عليها الثروة الحيوانية، إذ تعتمد هذه المنطقة أكثر على تربية المواشي، وزراعة الذرة والقطن والبنجر السكري. وبسبب الجفاف، فإن الاستخدام المفرط للسماد الكيماوي وعدم إراحة الأراضي بعد كل موسم زراعي، أديا إلى تقلص المساحات الصالحة للزراعة، وبات الاستثمار الحيواني فيها مهدداً بسبب قلة المراعي الطبيعية.

 

3. منطقة بحر مرمرة: وتضم محافظات إسطنبول، وأدرنة، وكركلار إلي، وتكير داغ، وشناق قلعة، وكوجه علي، ويالوفا، وسقاريا، وبيلاجيك، وبورصة، وبليك أسير، وصبانجه. هذه المنطقة صناعية بالمقام الأول، لذلك فإن الزراعة فيها ليست مزدهرة، لكن المنشآت الزراعية فيها باتت تعاني من الصقيع شتاءً، وارتفاع درجات الحرارة صيفاً، كما أن ارتفاع درجة حرارة البحيرات وبحر مرمرة بدأ يؤثر سلباً في الثروة السمكية. وبسبب الفارق الكبير بين أعلى درجة حرارة وأدناها، باتت المحاصيل الزراعية هناك معرضة للعديد من الأمراض والآفات.

 

4. منطقة بحر إيجة: وهي المنطقة الواقعة في غربي تركيا التي تضم محافظات إزمير، ومانيصة، وأيضن، ودنيزلي، وموغلة، وأفيون، وكوتاهيا، وأوشاك. وهي المنطقة المشهورة بزراعة الزيتون والحمضيات في تركيا. وتعاني هذه المنطقة من الجفاف وشح المياه وانتشار الآفات الزراعية مؤخراً، مما أدى إلى تقلص المناطق الزراعية فيها. وبدأت الحكومة في تقنين المياه على المشاريع الصناعية والزراعية في تلك المنطقة بسبب زيادة الجفاف وبُعد المنطقة عن أي مصادر مائية طبيعية يمكن نقلها إليها.

 

5. منطقة جنوب شرقي الأناضول: تقع هذه المنطقة في جنوب شرقي تركيا، وتضم محافظات أضي يامان، وباطمان، ودياربكر، وغازي عنتاب، وكيليس، وماردين، وسيرت، وأورفا، وشرناق. وهي المنطقة الأكثر عرضة لارتفاع درجات الحرارة في تركيا حالياً. وتتعرض المنطقة لموجات من أمطار البرد التي تتلف محاصيلها بشكل متزايد، فضلاً عن تغير موعد هطول الأمطار، مما يغير مواعيد الحصاد ويؤثر في الدورة الزراعية. ولأسباب سياسية وأمنية فإن هذه المنطقة هي الأقل رقابة من قبل وزارة الزراعة وأجهزة الدولة، لذا فإنه يكثر فيها حفر الآبار الارتوازية بشكل غير قانوني، ما بات يهدد مخزون المياه الجوفية. كما أدى ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير خلال فصل الصيف إلى تعرُّض الثروة الحيوانية للكثير من الأمراض. كما أن هذه المنطقة تعد الأقل تنمية في تركيا، لذا فإن شبكات تدوير المياه وإعادة استخدامها في الزراعة غير موجودة، وهو ما يزيد الضغط على استخدام المياه في القطاع الزراعي.

 

6. منطقة البحر الأسود: تقع في شمالي تركيا، وتضم محافظات أرتفين، وريزة، وطرابزون، وغوموش هانة، وغيرسون، وأوردو، وطوكات، وأماصيا، وصامسون، وسينوب، وشوروم، وكاستام أونو، وبارطن، وقره بوك، وزونغول ضاغ، وبولو.  وهي أكثر المناطق الخضراء في تركيا بسبب ارتفاع نسبة هطول الأمطار فيها، وهي مشهورة بزراعة الشاي والبندق، حيث توفر 70% من الإنتاج العالمي من البندق. وتتعرض المنطقة حالياً لأمطار غزيرة تؤدي إلى سيول جارفة أدت إلى انجراف تربة العديد من المناطق الجبلية بالتحديد. وبسبب السكن العشوائي لأهالي تلك المنطقة بالقرب من مزارعهم، وتعرض هذه المزارع الجبلية للسيول فإن مصدر رزق هؤلاء السكان بات مهدداً، بالإضافة إلى اضطرار العديد من العائلات إلى النزوح إلى أمكان جديدة بعد السيول، ما يؤدي إلى فقدانهم مصدر رزقهم. كما أن ارتفاع درجة حرار مياه البحر الأسود ولو بشكل طفيف، بدأ يؤثر في الثروة السمكية هناك، وتغيير مواعيد مواسم الصيد فيها، ما يؤثر في الدورة الاقتصادية لهذا القطاع الحيوي، حتى بات اختفاء نوع معين من الأسماك في موسم الصيد وظهوره مجدداً في موسم آخر ملاحَظاً في المنطقة. وتؤمّن منطقة البحر الأسود أيضاً الغذاء للحيوانات والمواشي في تركيا، لذا فإن التصحر الذي بدأ فيها يؤدي إلى تراجع إنتاج هذه المحاصيل المهمة للثروة الحيوانية.

 

7. منطقة شرق الأناضول: تقع في شرقي تركيا على حدود إيران، وتضم محافظات أغري، وأرضهان، وبيتلس، وبنغول، والعزيز، وأرزنجان، وأرضوروم، وإغضر، وقارص وفان. وهي المنطقة التي تسجل أقل درجات حرارة في تركيا شتاءً، لذا فإنها ليست صالحة للزراعة بشكل كبير، لكن ما يوجد فيها من زراعة بات يتراجع بسبب الفارق الذي يزداد بين أقل درجة حرارة شتاءً والأعلى صيفاً، فهي منطقة شبه قاحلة نسبياً. وقد اشتهرت المنطقة سابقاً بثروتها الحيوانية التي تعتاش على المراعي الطبيعية، لكن في العقد الأخير تراجعت هذه المراعي بشكل كبير، وزاد الجفاف، مما جعل المنطقة الأفقر في تركيا بالزراعة والثروة الحيوانية معاً.

 

مشكلات تركيا الديمغرافية بسبب التغير المناخي 

بدأت تركيا، وفق تقرير وزارة الزراعة لعام 2021، تعاني من موجة نزوح أو هجرة داخلية بسبب التغير المناخي الحاصل في جنوب شرقي تركيا بشكل أساسي، ومناطق أخرى. وقد اتخذت مدينة سوروش في محافظة أورفا عينة لدراسة تأثير التغير المناخي على الهجرة الداخلية، وهي المدينة المشهورة بزراعة العدس والشعير والقطن والقمح بشكل أساسي، وتُعد الزراعة المصدر الأساسي للدخل لسكان هذه المدينة. وقد تراجع المخزون المائي في هذه المدينة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل كبير، ما أثّر في مساحة الأرض الزراعية فيها، كما تراجع هطول الأمطار فيها خلال العقد الماضي بنسبة 60%. ومع هذا التراجع في نسب المياه، يجد المزارعون والسكان على حد سواء صعوبةً في توفير مياه الري والشرب، ما أدى إلى هجرة عدد كبير من سكان المدينة، فضلاً عن عمّال الحصاد الذين استوطنوا المدينة في نصف القرن الماضي. وتوجه معظم الذين هجروا المدينة إلى كبرى المدن التركية، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير. ويشير التقرير إلى أن المدينة تواجه أزمةَ بقاء حقيقية مع زيادة الهجرة منها بشكل متزايد مؤخراً.

 

وبحثت دراسة أخرى الوضع في سهل منطقة قونية في وسط الأناضول الذي يتعرض لموجة شفاف شديدة أثرت في إنتاجه الزراعي بشكل كبير، مما أدى إلى هجرة أصحاب الأراضي الزراعية بعد تأجيرها لغيرهم من المزارعين، أو بيع تلك الأراضي والانتقال إلى العيش في أنقرة القريبة، أو الهجرة إلى مناطق على ساحل الأبيض المتوسط للبحث عن فرص جديدة للزراعة هناك، مع كون هذه المنطقة الأقل تضرراً في قطاع الزراعة في تركيا.

 

لكن ليست الهجرة الداخلية وحدها ما يهدد الديمغرافيا التركية بسبب التغير المناخي، إذ إن آثار الجفاف والسيول في محيط تركيا أدت أيضاً إلى تلقيها موجات هجرة من دول الجوار بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، بحثاً عن فرص عمل وإعاشة أفضل. ووفق مجلة لانسيت Lancet الطبية العالمية، فإن كندا وسويسرا وتركيا هي أكثر ثلاث دول تواجه موجات هجرة من الخارج لأسباب مناخية، وأكبر جهة تستقبل منها تركيا المهاجرين لهذه الأسباب هي الدول الأفريقية.

 

التصديق على اتفاقية باريس والخطوات اللاحقة 

وفق دراسة أعدتها شركة KONDA للتحليلات الاجتماعية والاستراتيجية التركية عام 2021، فإن 66% من الشعب التركي يشعر بالقلق من آثار التغير المناخي في تركيا، كما تذكر الدراسة أن نسبة كبيرة من المظاهرات الشعبية التي تخرج في تركيا سببها مخاوف الشعب أو اعتراضه على سياسات الحكومة فيما يتعلق بالبيئة. لكن رغم هذه الحساسية العالية لدى الشارع التركي من التغير المناخي، إلا أن الحكومة تجاهلت هذه المخاوف، وأجّلت غير مرة توقيع اتفاقية باريس للمناخ. كما أن الحكومة التركية تأخرت أيضاً في التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لعام 1992.

 

وبالرغم من أن تركيا عضو في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD)، فإنها سعت دبلوماسياً من أجل تصنيفها دولة نامية فيما يتعلق بمسألة التغير المناخي. وحجة الحكومات التركية المتعاقبة هنا، أن الالتزام بهذه الاتفاقات الدولية يضع أعباء مالية على الحكومة ويبطئ النمو الاقتصادي، ولأن هذه الاتفاقيات تضع أعباء أكثر ومسؤولية أكبر على الدول الصناعية الكبرى، فإن سعي تركيا لنيل تصنيف “الدولة النامية” مفهومٌ من هذه الناحية لتقليل الأعباء والالتزامات عليها، ذلك أن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ وضعت العبء الأكبر على دول الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية الكبرى ودول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، واعتبرت أن هذه الدول لا تستحق الحصول على دعم مالي نتيجة ما ستقوم به من التزامات في مجال التغير المناخي. وقد احتجت تركيا على هذا التصنيف الذي يحرمها من أي دعم مالي، بينما يُبقي الباب مفتوحاً أمام حصول الصين وكوريا الجنوبية عليه.

 

ونتيجة لجهود تركيا الدبلوماسية تمت الموافقة على شروط تركيا الخاصة وتحفظاتها عام 2004. ووفق هذا الاتفاق الجديد فإن تركيا غير ملزمة بدفع أي نفقات مالية لمساعدة الدول الأخرى، لكن حصولها على الدعم المالي بقي محدوداً ومشروطاً. ولهذه الأسباب جاءت موافقة تركيا على اتفاقية باريس للمناخ متأخرة ومشروطة وفق البيان التالي: “توافق تركيا على الشروط والأحكام الواردة في اتفاقية باريس للمناخ، بالشكل الذي لا يتسبب في أي ضرر لاقتصادها أو نموها الاقتصادي ونشاطها التجاري، باعتبارها دولة نامية”.

 

ويمكن القول إن سبباً آخر مهماً دفع تركيا إلى القبول باتفاقية باريس للمناخ ولو متأخراً، وهو التجارة مع الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري لتركيا؛ إذ إن دول الاتحاد الأوروبي وقّعت اتفاقية باريس للمناخ، كما أقرت اتفاقية أوروبية خاصة “للتحول الأخضر”. وبدأ الاتحاد الأوروبي في الضغط على شركائه التجاريين من أجل الالتزام بمعايير اتفاقية باريس ومعايير أخرى تتعلق بالتحول الأخضر، إنْ أرادت تلك الدول استمرار تجارتها مع الاتحاد الأوروبي. وعليه اضطرت وزارة التجارة التركية لإصدار بيان في يوليو 2021 توافق فيه على شروط الاتحاد الأوروبي، مؤكدةً أن تركيا حريصة على الحفاظ على موقعها من التجارة العالمية ودورها في سلاسل الإنتاج والتوريد. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الحكومة العمل على وضع خطط وشروط من أجل التواؤم مع شروط الاتحاد الأوروبي البيئية.

 

وبعد عشرين يوماً فقط من توقيع تركيا على اتفاقية باريس للمناخ، تقدمت أنقرة بطلب إلى صندوق التحول الأخضر الأوروبي من أجل دعمها مالياً لتحقيق التحولات الصناعية المطلوبة، للالتزام بمعايير الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن. وبذلك حصلت تركيا على وعد بالحصول على نحو 3 مليارات و157 مليون دولار من أجل هذا الهدف، وهو ما اعتبره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعماً قوياً للاقتصاد التركي، وأكد أن الأولوية في استخدام هذا الدعم المالي سيكون للقطاع الخاص.

 

قررت الحكومة التركية المشاركة في مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (كوب 26) الذي عقد في إسكتلندا عام 2021، وكان من المفترض أن يكون الوفد التركي ثاني أكبر وفد من حيث العدد بعد البرازيل، بمشاركة 376 شخصية ومسؤولاً تركياً على رأسهم الرئيس أردوغان، لكن القائمين على المؤتمر وضعوا شروطاً بتقليص أعداد المشاركين في الوفود الرسمية، وتقليل عدد السيارات التي تقلهم من أجل إظهار الاهتمام بتقليل الانبعاثات الغازية الضارة، ما دفع الرئيس أردوغان إلى إلغاء مشاركته في المؤتمر بحجة طلب تقليص حجم الوفد التركي وعدد سياراته.35 وأثّرت هذه حادثة سلباً في صورة تركيا وجديتها في الالتزام باتفاقية باريس للمناخ.

 

وكانت الحكومة التركية، قبل التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ في أكتوبر 2021، قد عقدت ما سمته “الاجتماع الاستشاري لقرارات الاستدامة والتحول الأخضر” في فبراير 2021، وخرج هذا الاجتماع بعدد من التعهدات التي ستعمل الحكومة على تنفيذها، وهي تعهدات طموحة من غير الواضح إذا ما كانت الحكومة ستستطيع تنفيذها، ومن أهمها:

 

  1. إعداد خطة سكانية عمرانية جديدة من أجل التقليل قدر الإمكان من استهلاك الطاقة.
  2. العمل على مشروع إعادة التدوير وصفر نفايات من أجل الوصول إلى 60% من النفايات المدورة بحلول عام 2035.
  3. رفع نسبة إعادة استخدام مياه المجاري من 2.5% حالياً إلى 5% بحلول عام 2023، وإلى 15% عام 2030.
  4. خفض نسبة الوقود الأحفوري المستخدم في المنازل إلى 25% بحلول عام 2030.
  5. البدء في إصدار رخص بناء خاصة بالتحول الأخضر للمباني اعتباراً من عام 2030، بحيث تكون المباني التي تُشيد بدءاً من ذلك التاريخ متوائمة مع معايير الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن.

 

ومن أهم الخطوات التي اتخذتها الحكومة التركية بعد التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ ما يأتي:

 

  1. في فبراير 2022، عقدت الحكومة التركية اجتماعاً تشاورياً بشأن التغير المناخي في محافظة قونية وسط الأناضول، لمعالجة آثار التغير المناخي في تلك المنطقة، وخرج الاجتماع بـ 217 توصية تتعلق بالطاقة والزراعة والري والصناعة والإسكان واستخدام الأراضي الزراعية.
  2. في سبتمبر 2022، أعلنت الحكومة عن خطتها الخمسية المقبلة، وتضمنت فقرات تؤكد على ضرورة التحول الأخضر في القطاعين الصناعي والزراعي. وتضمن برنامج التحول الأخضر والمدن الذكية، الذي أعلنت عنه الحكومة، العديد من العناصر والمواد التي تتحدث عن تحويل أسطول الصيد والنقل البحري الحكومي إلى النقل الأخضر، وإدخال تعديلات على الموانئ التركية لمواءمة آليات التصدير بطريقة تناسب خريطة التحول الأخضر.
  3. في نوفمبر 2021، أنشأت الحكومة “معهد أبحاث الطاقة النظيفة والاستدامة” في محافظة قونية وسط الأناضول، والذي سيعمل على إعداد أبحاث من أجل التوصل لأفضل الطرق للتحول في مجالات الطاقة والزراعة إلى الاستدامة والبرنامج الأخضر، للتقليل من الانبعاثات وتدوير النفايات.
  4. في نوفمبر 2021، أنشأ البنك المركزي التركي “مديرية الاقتصاد الأخضر والتحول المناخي” من أجل وضع خطط للاستدامة المالية والاقتصادية.
  5. في أبريل 2022، أنشأت وكالة أنباء الأناضول قسماً خاصاً للتوعية بمخاطر التغير المناخي وضرورة الحفاظ على البيئة من أجل نشر التوعية بين المواطنين.

 

هل الحكومة التركية جادة في مشاريع التحول إلى البيئة الخضراء والاستدامة؟

بالرغم من وجود وعي عال لدى الشارع التركي بخطورة التغير المناخي وضرورة الحفاظ على البيئة، فإن الدافع الأساسي وراء تأخر الحكومة في التوقيع على اتفاقية باريس وإقدامها بعد ذلك على توقيعها كان اقتصادياً بحتاً، ما يطرح السؤال حول جدية تركيا في التعامل مع هذا الملف وتسخير الأموال التي ستحصل عليها من أجل تفعيل مشاريع حقيقية وعملية تستطيع تنفيذها في التواريخ التي تعهدت بها. ونطرح عدداً من القضايا التفصيلية ضمن هذا الملف، كما يأتي:

 

1. سياسة صفر نفايات

تُشرف زوجة الرئيس التركي، السيدة أمينة أردوغان على هذا المشروع، وفي هذا الإطار يؤكد رئيس هيئة التفاوض في ملف التغير المناخي محمد أمين بيربنار أن تركيا رفعت نسبة إعادة التدوير للنفايات من 13% إلى 20% في السنوات الخمس الماضية، مما خفض الانبعاثات من الغازات الضارة بنحو مليارَي طن.

 

وتقدر الحكومة التركية أن الشخص في تركيا يستهلك نحو 440 كيساً بلاستيكياً سنوياً، وقد أصدرت الحكومة قانوناً بداية عام 2019 برفع سعر الأكياس البلاستيكية في المحلات التجارية من أجل خفض استهلاكها، وهو ما تحقق بالفعل، إذ تراجع استهلاك الاكياس البلاستيكية في تركيا منذ ذلك الحين بنسبة 75%، وهو ما خفض الانبعاثات الكربونية بنحو 12 طناً وفق تقارير الحكومة.

 

لكنْ في مقابل هذه النجاحات، فإن تركيا تُعد إحدى الدول التي تستورد النفايات البلاستيكية التي يريد الاتحاد الأوروبي التخلص منها، إذ يصدّر الاتحاد الأوروبي 35% من نفاياته البلاستيكية إلى تركيا، وهو ما يعادل 14.7 مليون طن من نفايات البلاستيك التي يتم دفنها في تركيا دون إعادة تدوير. ووفق تقرير صدر عن معهد حماية البيئة في جامعة البُسفور (الأمريكية-التركية) فإن تركيا هي ثالث أكبر دولة بعد إيطاليا ومصر في حوض المتوسط في جمع واستيراد النفايات البلاستيكية. كما شكك تقرير صدر عن منظمة “هيومان رايتس ووتش” الأمريكية في جدية عمل الحكومة التركية على التقليل من استهلاك البلاستيك محلياً، بسبب زيادة وارداتها من النفايات البلاستيكية من الخارج، فبينما كانت هذه الواردات 29 ألف طن عام 2018، فإنها وصلت في عام 2020 إلى نحو 446 ألف طن. ويذكر التقرير نفسه أن محافظة أضنة جنوبي تركيا، التي يبلغ عدد سكانها نحو مليونَي نسمة، تستورد 50% من واردات تركيا من نفايات البلاستيك، وهو رقم كبير مقارنة بعدد السكان فيها، وعلى الرغم من وجود 167 شركة لإعادة تدوير هذه النفايات إلا أن فعالية هذه الشركات مشكوكٌ فيها، مع وجود جبال من المخلفات البلاستيكية المكشوفة في أضنة حتى الآن. وبسبب الضغوط الأوروبية على تركيا في مسألة إعادة تدوير هذه النفايات، أصدرت الحكومة قراراً بمنع ووقف استيراد النفايات البلاستيكية من الخارج عام 2021، لكن هذا القرار صمد أربعة أشهر، وتراجعت عنه الحكومة التركية بسبب ضغط الشركات التركية المستورِدة لهذه النفايات لأسباب اقتصادية بحت.

 

2. مشروع قناة إسطنبول المائية 

هذا المشروع التي تُصر عليه الحكومة التركية، والذي تراجعت عنه مؤقتاً لأسباب اقتصادية بحت، هو دليل آخر على تقديم المصالح والمنافع الاقتصادية على استراتيجية محاربة التغير المناخي. ووفق تقرير صدر عن لجنة شكّلتها أحزابٌ معارضة ونقابات المهندسين وجمعيات الحفاظ على البيئة للنظر في هذا المشروع، فإن العمل على المشروع سيستغرق وفق تقديرات الحكومة سبعة أعوام، وفي كل عام من هذه الأعوام ستتسبب أعمال الحفر والبناء في إطلاق 1.7 مليون طن إضافية من الغازات الضارة بالبيئة. كما أن عمليات البناء للمشاريع السكنية والنقل على ضفتي هذه القناة المائية ستُؤدي إلى زيادةٍ في الانبعاثات الضارة مستقبلاً.

 

كما سيتسبب هذا المشروع في قطع الآلاف من الأشجار في المنطقة التي سيتم فيها الحفر، وهي مساحة تقدر بنحو 27 ألف هكتار، كما أن هذه القناة ستعمل على زيادة التيارات المائية القادمة من البحر الأسود إلى بحر مرمرة والمليئة بالنفايات (المنطقة من البحر الأسود المجاورة لمدينة إسطنبول هي منطقة انتظار لعبور السفن التجارية التي تنتظر فيها لأيام طويلة، ويتسبب انتظار هذه السفن في تلك المنطقة الصغيرة في تلوث كبير في مياه البحر الأسود هناك بسبب ما تُلقيه تلك السفن من مخلفات خلال فترة الانتظار تلك في منطقة محدودة). ومن شأن ذلك التأثير سلباً على البيئة السمكية والحيوية في بحر مرمرة شبه المغلق، كما سيؤثر مشروع قناة إسطنبول المائية على جزء من مصادر المدينة المائية، ويستنزف المياه الجوفية فيها.

 

3. قانون مكافحة التغير المناخي 

طبقاً لتعهدات تركيا بشأن مواجهة آثار التغير المناخي، كان يجب إصدار قانون مكافحة التغير المناخي عام 2021، لكن حتى الآن تمتنع الحكومة عن تقديم هذا القانون إلى البرلمان لمناقشته والمصادقة عليه ثم العمل به، وذلك أيضاً لأسباب اقتصادية وانتخابية بحت، إذ تفضل الحكومة تأجيل النظر في هذا القانون إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في صيف هذا العام، وهو ما يؤخر دخول الكثير من التدابير حيز العمل في هذا المجال. في المقابل فإن مناقشة هذا القانون الكبير والمتشعب سيأخذ وقتاً كبيراً من النقاش، لذا فإن وزير البيئة والتغير المناخي مراد كوروم لا يتوقع إقرار هذا القانون قبل نهاية العام الجاري.

 

وفق مسودة هذا القانون الحالية، فإن وزارة البيئة والتغير المناخي ستقوم بوضع سقف محدد لكمية الغازات المنتجة من المشاريع التجارية والصناعية في عموم تركيا، على أن تُراجَع هذه النسبة وتُقلَّل من فترة إلى أخرى. وستمنح الوزارة تراخيص وفق ذلك للمشاريع الصناعية والتجارية بعد التأكد من حجم الغازات التي ستصدر عن تلك المشاريع وفق آليات محددة، وتُمنَح جميع الشركات والمصانع في تركيا مهلة مدتها ثلاث سنوات من أجل اخذ التدابير اللازمة للحصول على رخصة العمل من الوزارة.

 

ووفق مسودة القانون أيضاً، فإنه ستُنشئ مديرية التغير المناخي في جميع المحافظات التركية، وهي التي ستقوم بمراقبة المشاريع التجارية والصناعية في محافظاتها، والتأكد من مراعاة تلك الشركات والمصانع لمعايير الرخصة التي حصلت عليها في هذا الشأن. كما ستُفرَض، اعتباراً من عام 2025، ضريبة مالية على الشركات التي تستورد أو تصنّع مواد تُصدر غازات الاحتباس الحراري بقيمة 320 ألف ليرة (نحو 20 ألف دولار وفق السعر الحالي للدولار)، فيما ستُغرًّم الشركات المخالفة لتراخيص وزارة البيئة والتغير المناخي بمبلغ 5 ملايين ليرة. واعتباراً من عام 2025 أيضاً، ستُلزَم شركات البناء والتعمير ببناء المساكن بحيث تحصل على 10% على الأقل من احتياجاتها من الطاقة من مصادر خضراء، وسيُعمَل على زيادة استخدام مياه المجاري في 2030 إلى نسبة 15% من مجموع المياه المستهلكة. كما تشير مسودة القانون إلى التنسيق بين مختلف الوزارات من أجل تقليل الانبعاثات الكربونية من وسائل النقل في تركيا حتى عام 2030، والاعتماد أكثر على السيارات الكهربائية، وقد أصدر الرئيس أردوغان قراراً بإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية في مدينة بورصة عام 2018، ومن المتوقع بدء الإنتاج تجارياً ما بين 2024-2027.

 

4. توليد الطاقة الكهرومائية من السدود 

تتمتع تركيا بعدد كبير من السدود التي تولد منها الطاقة الكهرومائية، وتخطط تركيا لزيادة نسبة توليد الكهرباء من هذه السدود، من أجل التقليل من الاعتماد على إنتاج الطاقة الكهربائية من الفحم، بشكل يساهم في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في تركيا وفق خططها المستقبلية. وتعتمد تركيا حالياً في قطاع الطاقة على مصادر عدة، أهمها: 31.6% من السدود والطاقة الكهرومائية، و26% من الغاز الطبيعي، و19% من الفحم الحجري (نصفه مستخرج محلياً ونصفه الآخر مستورد)، و10.6% من طاقة الرياح، و7.8% من الطاقة الشمسية. كما أن مفاعل أكيو في جنوب تركيا سيسهم في تأمين نحو 10% من الكهرباء التي تحتاج إليها تركيا وذلك عام 2027، وكان من المفترض أن يبدأ المفاعل بالعمل نهاية عام 2023 بربع قدرته، لكن هذا التاريخ غير مؤكد بسبب التأخير المستمر في إتمام المشروع لأسباب مالية وسياسية.

 

وإجمالاً، نلاحظ أن تركيا نجحت حتى الآن في توليد 40% من طاقتها الكهربائية اعتماداً على مصادر طبيعية متجددة (الرياح والطاقة الشمسية والسدود). لكنْ يقف أمام طموحات تركيا المستقبلية في زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، تعرّض تركيا مؤخراً لموجات جفاف، وتراجع مصادرها المائية. فتركيا حالياً هي ثاني أكبر دولة بعد الصين في إنتاج الطاقة الكهرومائية من السدود، وذلك بإجمالي 31,436 ميجاواط. وفي أغسطس 2022 أعلن الرئيس أردوغان عن مشروع طموح لبناء 34 سداً جديداً لتوليد الطاقة الكهرومائية، وقال إن حكومته خلال العشرين عاماً السابقة بنت 605 سدوداً من هذا النوع، مع مشاريع مستقبلية ستصل معها مجموع تلك السدود في تركيا إلى 930 سداً لتوليد الطاقة الكهرومائية.

 

لكن العديد من منظمات البيئة والطاقة تقول إن ما يقف وراء سعي الرئيس أردوغان لبناء هذا العدد الكبير من السدود هو الانتفاع المالي للشركات المقربة من الحكومة التي ستتولى بناء تلك السدود، وأن عملية بناء تلك السدود ستولّد الكثير من غازات الاحتباس الحراري في عمليات النقل والحفر، كما أن السدود تؤدي إلى نوع من الجفاف في المنطقة بسبب تخزينها كميات مياه كبيرة في منطقة محدودة، ما يزيد من معدل البخر، ناهيك عن عمليات قطع الأشجار وتجريف الأراضي الزراعية التي سيُبنى مكانها السد وبحيرته، وما ينتج عنه من تراجع القطاع الزراعي وانتقال السكان وهجرتهم إلى أماكن أخرى. هذا بالإضافة إلى أن عدداً من مشاريع السدود المطروحة ستكون قدرتها على توليد الطاقة الكهرومائية قليلة جداً وضعيفة، ولا يستحق الأمر معها كل هذه الآثار الجانبية للبناء.

 

وفي هذا الإطار، يُذكر أن المعارضة التركية المكونة من ستة أحزاب تعهدت في مشروعها الانتخابي بعدم بناء المزيد من السدود، والتركيز على إعادة تخطيط المدن بشكل أفضل ليتناسب مع احتياجات تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ورسم خريطة لمصادر تركيا المائية، مع زيادة التشجير ومحاربة التصحر، وإنشاء وزارة جديدة للتخصصات الهندسية بشأن البيئة.

 

ويُذكر أيضاً أن تعهدات الحكومة الدولية بالنسبة لملف التغير المناخ قد واجهت اعتراضاً من قبل بعض جمعيات البيئة المدنية، إذ قسّمت تركيا نصف القرن الحالي إلى فترتين من التعهدات والالتزامات؛ فهناك التزامات يجب تحققها وفق تعهدات الحكومة التركية عام 2030، وهناك تعهدات أخرى يجب أن تطبق مع دخول عام 2050. وفي قمة “كوب 27” التي عقدت في شرم الشيخ بمصر في نوفمبر 2022، قدمت تركيا تعهدات جديدة، ووفق هذه التعهدات وافقت الحكومة التركية على خفض نسبة الغازات المنبعثة من تركيا بنسبة 41% عن تعهداتها السابقة، أي بدلاً من تعهد تركيا السابق بخفض هذه الغازات عام 2030 إلى 1175 طناً مترياً من غاز ثاني أكسيد الكربون (MtCO2)، فإنها تعهدت بخفضها إلى 700 طن متري فقط، ضمن التنازلات والتصحيحات التي قدمها العديد من الدول في تلك القمة. لكنّ خبراء في مجال الطاقة والبيئة في تركيا، أكدوا أنه من أجل تحقيق تركيا هدفها الأبعد عام 2053 بالوصول إلى صفر انبعاثات، فإن خفض هذه الانبعاثات عام 2030 إلى 700 طن متري لن يكون كافياً ولا يمكن تحقيقه، ويجب خفض هذه الكمية من جديد في عام 2030 إلى 340 طناً مترياً.

 

الاستنتاجات

تتعرض تركيا مؤخراً لموجات متسارعة من التغير المناخي التي تؤثر بقوة على وارداتها المائية، وبيئتها الزراعية والسكانية، كما أن نسبة السيول وحرائق الغابات في ازدياد مضطرد بشكل كبير. وهناك فجوة كبيرة بين الوعي الشعبي في تركيا بأهمية الحفاظ على البيئة والمخاوف من آثار التغيرات المناخية، وبين نظرة الحكومة الحالية لهذا الملف القائمة أولاً على الآثار الاقتصادية، وعدم تأثير خطط البيئة الخضراء على ما تجنيه الشركات الكبرى من أموال. هذا الأمر قد يتغير في حال تغيرت حكومة حزب العدالة والتنمية، ووصلت المعارضة إلى الحكم في الانتخابات المقبلة.

 

ويأتي عامل الضغط الأكبر على الحكومة التركية من أجل بدء تفعيل خطط التحول إلى صناعة خضراء، من الاتحاد الأوروبي وخططه لوضع شروط على وارداتها الصناعية والتجارية من الخارج، والتأكد من أن هذه الواردات والمنتجات صُنِّعَت وفق معايير التصنيع الخضراء، ومن قبل شركات ومصانع تحافظ على البيئة. فنصف تجارة تركيا الخارجية هي مع الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن لتركيا التفريط في هذا الشريك التجاري الذي وقعت معه اتفاقية الاتحاد الجمركي.

 

بيد أن وضع تركيا الاقتصادي والموقع الجغرافي يؤثران سلباً في خططها للالتزام بتعهداتها تجاه ملف المناخ، خصوصاً في حال وقوع المزيد من الحروب في محيطها، وزيادة الهجرة إليها من دول أخرى. ولهذا، فإن التعهدات التركية التي قدمتها في مؤتمرات “كوب” لا تبدو قابلة للتنفيذ، وقد تسعى تركيا إلى تأجيل وتأخير تنفيذ العديد من تعهداتها.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/taahudat-ala-almehak-siasat-turkia-tujah-altaghayur-almunakhi

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M