تأملات قرآنية من الآية السابعة من سورة فاطر

بهاء النجار

 

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

التأمل الأول :

شدة العذاب تتناسب مع مستوى الكفر ، فتكون في أشدها عندما يكون الكافر لا يؤمن بوجود الله سبحانه رغم أن الدلائل على وجوده أكثر من أن تُحصى وتعيش مع الإنسان بشكل يومي ، ورغم أن هذا الكافر يستدل بأدلة على وجود كثير من الأشياء والحوادث الغائبة عنه ويبني عليها مواقفه وقناعاته إلا أنه يرفض إستخدام هذه الأدلة على وجود الله سبحانه ، وبالتالي فإنه يلغي عقله الذي جعله الله تعالى ميزاناً للحساب ، ومن يلغي عقله بشكل كلي يستحق العذاب الشديد بشكل كلي أيضاً ، أما إذا كان إلغاؤه لعقله بشكل جزئي – عندما يطيع نفسه الأمارة بالسوء على حساب طاعة عقله – فشدة عذابه تكون جزئية حتى يُرفَع عنه العذاب عندما يستخدم عقله بشكل كامل ومطلق لأنه يصبح معصوماً بشكل كامل .

 

التأمل الثاني :

يُروَى أن الله تعالى لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب .

هذا يعني أن العقل الدال على الله جل جلاله والدال على ضرورة العمل بما يأمر وترك ما ينهى هو مقياس الثواب والأجر من جهة والعقاب والعذاب من جهة أخرى ، فيكون الثواب والأجر كبيراً لمن يقودُه عقلُه والعذاب شديداً لمن يقود عقلَه ، كما أن الأوامر والنواهي الإلهية لا تتقاطع مع العقل ، بمعنى أنها منطقية دائماً ، بحيث أن العقل لا يرفضها ولا يستهجنها ، وعلينا أن نفرّق بين الرفض والاستهجان العقلي والرفض والاستهجان العاطفي الذي يكون غالباً عند من نفسه الأمارة بالسوء متغلبة على عقله .

 

التأمل الثالث :

يتدرج الإيمان في قلوب المؤمنين كما يتدرج الكفر في قلوب الكافرين ، فيبدأ من الإيمان (النظري) بوجود الله سبحانه ثم ينتقل الى الإيمان (النظري) بالأنبياء والمرسلين واليوم الآخر وبالكتب السماوية ، وعندما يتجذّر الإيمان في تلك القلوب يُترجَم الى عمل صالح فيتحول الإيمان النظري الى إيمان عملي ، ويزداد العمل كمّاً ونوعاً عندما يزداد الإيمان ويرتقي حتى يستحق المؤمن الأجر الكبير .

ولا بد من الإشارة الى أن المستويات المتدنية من الإيمان يرافقها مستويات معينة من الكفر ، ولولا وجود هذا الكفر في قلوب ضعيفي الإيمان لما كان إيمانهم ضعيفاً ، وهذه المستويات من الكفر تُترجَم على شكل معاصي وذنوب وكفر بالنعمة الإلهية  التي تقرّب صاحبها الى العذاب الشديد ، وهذا ما لا يتورط بها صاحب الإيمان الكبير .

 

التأمل الرابع :

للمغفرة طرقٌ عدة ، فيمكن أن تتحقق عن طريق الاستغفار الحقيقي الذي ينعكس على شكل ندامة في القلب ، وليس الشكلي الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، وأعلى مستويات الاستغفار هو الذي يثمر عن توبة وإقلاع عن المعصية التي استغفر منها ، وهذا المستوى يمكن إعتباره ضامناً للمغفرة إلا أن تكون هناك حقوق للناس في ذمة المستغفر جرّاء تلك المعصية ، فعندها لا بد أن يؤدي المستغفر ما بذمته تجاه الناس كي تتحقق التوبة لتتحقق المغفرة .

وهناك طريق آخر يكون عن طريق الإيمان المعزز بالعمل الصالح ، فالمؤمن العامل قد ينشغل بالعمل الصالح عن الاستغفار أو أن إستغفاره لا يناسب ذنبه ، فيتفضل الله عز وجل عليه بالمغفرة كي يعطيه الأجر الكبير .

والمؤمن الحقيقي يجمع بين الطريقين ، فلا يؤثر أحد الطريقين على الآخر .

 

التأمل الخامس :

كل إنسان يكون جزء منه كافراً ( من خلال المعصية وعدم شكر النعمة الإلهية وأبرزها الإيمان ) وجزء منه مؤمناً ( عندما يطيع الله في ما أوجب وترك ما نهى عنه ) ، فالجزء الكافر منه يستحق عليه العذاب ، وكلما كان الكفر عميقاً وكبيراً اشتد العذاب ، ويقلّ كلما قلّ الكفر عند ذلك الإنسان ، فإن تطوَّرَ إيمانه وتجسّد عملياً على أرض الواقع وانطلق نحو الميدان العملي وعمل الصالحات على المستوى الفردي (العبادات) والاجتماعي (المعاملات) استحق المغفرة عن (الجزء الكافر) من حياته ، وبعد القضاء على آثار الكفر الجزئي ينال الأجر الكبير ، ولو نال هذا الأجر قبل المغفرة لنقص ولن يُعدّ كبيراً حينها ، كما أن حسنات العمل الصالح يمكن أن تُذهِب سيئات (الجزء الكافر) وفق قاعدة ( الحسنات يذهبن السيئات ) فتكون النتيجة أشبه المغفرة .

 

التأمل السادس :

عندما يزداد الوعي عند المؤمن يبدأ بالانتقال من الإيمان النظري الى الإيمان العملي ، وكلما زاد هذا الوعي زاد شعوره بالتقصير أمام الله سبحانه وتعالى ، بحيث أن زيادة العمل الصالح – كماً أو نوعاً أو كلاهما – المتلائمة مع زيادة الوعي لا تسد الشعور بذلك التقصير ، وربما يزداد هذا الشعور خاصة إذا اعتبر التوفيق الى العمل الصالح نعمة تستحق الشكر بالإكثار منه على مستوى الكم والنوع ، لذا فاهتمام مثل هذا المؤمن الواعي يكون بالمغفرة – عن التقصير – أكثر من إهتمامه بالأجر حتى لو كان كبيراً ، وربما لا يهتم به اصلاً ، وقد يعتبر زيادة العمل الصالح بِبُعدَيه الكمي والنوعي تكفيراً عن ما بدر منه من تقصير ، لذا تأتي البشرى بالمغفرة قبل البشرى بالأجر الكبير .

أما من يشعر بأن حقق شيئاً بعمله الصالح ويركّز على الأجر الذي سيَنالُه من دون التفكير بالتقصير والمغفرة فما زال في مستوى غير كافٍ من الوعي .

 

التأمل السابع :

عندما يغسل الإنسان العادي يديه عن الأوساخ بالماء الخالي فيظن أنه قضى على تلك الأوساخ ، ولكن عندما يكون هذا الإنسان عالماً ويطلع عن طريقة المجهر دقائق تلك الأوساخ يدرك أنه كان مخطئاً ، فيسارع الى تنظيف يديه بمواد تنظيف مناسبة ليزيل تلك الأوساخ ، وإذا رآه إنسان جاهل فسيظن أن تصرفه مبالغاً به .

هذا هو حال المؤمن العادي ، إذ أنه يتعامل مع بعض الذنوب باستغفار تقليدي لساني فقط ، ولكن عندما يرتفع في درجات الوعي والعلم فسيرى بعين البصيرة كثيراً من الذنوب التي لا يمحوها الاستغفار التقليدي اللساني وإنما تحتاج الى مستويات أعلى كالعمل الصالح ، وقد يراه المؤمن العادي مبالغاً في إستغفاره .

 

التأمل الثامن :

المؤمن العامل الواعي عندما يقرأ كتاب الله المجيد حينما يقول : ( يا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ? وَكَانَ ذَ?لِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) فإنه يدرك أن التقرب الى الله تعالى له ضريبة وهي أن أي سيئة أو معصية يرتكبها المتقرب الى الله سبحانه بإيمان وعمل صالح سيُضاعَف له العذاب ضعفين ، وليس كما يتصور البعض أنه سينال حصانة من العذاب والعقاب عند إرتكاب المعصية .

وبما أن المؤمن العامل للصالحات يبقى إنساناً غير معصوم فيمكن أن يرتكب الخطيئة والمعصية ، إلا أن وعيه يجعله مهتماً بالتوبة والاستغفار والعزم على عدم العودة الى تلك المعصية ، وهذا الاهتمام يشغله عن الأجر الذي يصفه الباري جل شأنه بالكبير الذي خصصه الله عز وجل له ، لذلك تأتيه البشارة بالمغفرة قبل البشارة بالأجر الكبير .

 

التأمل التاسع :

لا بد أن يعلم المؤمنون العاملون أن من السمات التي ينبغي أن يتسموا بها هو الاستغفار ، وبالتأكيد فإن المقصود من الاستغفار هو الاستغفار العملي وليس اللفظي ، لأن أن الأخطاء لا تصدر من الإنسان الخامل وإنما من الإنسان العامل ، وأن هذا الخطأ يمكن أن يؤدي الى معصية وربما الى تبعات كارثية حتى وإن كانت غير مقصودة ، وهذا ما يتقاطع مع إيمانهم ، فالمغفرة هو الثواب الحقيقي ، أما الأجر الكبير فهو نتيجة طبيعية لما بعد المغفرة والعمل الصالح لثقتنا بكرم الله عز وجل وتفضله سبحانه ، فالعامل الذي لا يداوم على الاستغفار يكون هناك خلل في إيمانه ، كما أن المؤمن الذي لا يستغفر لا يكون عاملاً وإن كان عاملاً فسيكون عمله مشوباً بالأخطاء الشرعية والأخلاقية التي لا تنجلي إلا بالاستغفار المتبوع بالتوبة .

 

التأمل العاشر :

يمكن تقسيم المؤمنين العاملين إزاء الهدف والغاية من عملهم الى ثلاثة مستويات على الأقل :

1) المستوى الأول (الأدنى) : الذين يعملون الصالحات للحصول على الأجر الكبير ، وقد تكون المغفرة غاية ثانوية وقد لا تكون غاية أصلاً .

2) المستوى الثاني (الأوسط) : الذين يعملون الصالحات لنيل المغفرة والأجر الكبير ، مع أفضلية تحقيق المغفرة على الأجر الكبير .

3) المستوى الثالث ( الأعلى ) : الذين لا تكون غايتهم لا المغفرة ولا الأجر الكبير ، وإنما وجدوا ربهم أهلاً للطاعة والعمل الصالح الذي يرضيه فعملوا ، وقد طبّق ذلك أمير المؤمنين عليه السلام عملياً عندما : ما عبدتك خوفاً من نارك (حتى يفكّر بالمغفرة) ولا طمعاً بجنتك (حتى يفكّر بالأجر الكبير) وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .

 

التأمل الحادي عشر :

هناك مرض أخلاقي خطير وفتاك يصيب المؤمنين العاملين ، يفتك بالأعمال الصالحة ويحبطها ويضيّع جهودهم فيها ، وهذا المرض هو ( العُجب ) ، ولهذا المرض مناشئ أخلاقية عديدة منها انعدام الشعور بالتقصير أمام خالقه وبارئه عز وجل ، مما يجعل العامل المصاب بهذا المرض يفكّر فقط بالأجر الكبير على ما عمل من أعمال صالحة وكأنه متفضل على ربه سبحانه !

وبالتالي لا بد من تسلح المؤمن العامل بالشعور بالتقصير أمام خالقه وبارئه عز وجل على الأقل كي يحافظ على عمله من الإحباط ، وذلك من خلال مراقبة نفسه عندما يراها قد أعجبها عملُها فيستغفر ، وعندها سيشعر بطعم البشارة الألهية بالمغفرة إضافة الى الأجر الكبير .

 

التأمل الثاني عشر :

لننظر الى أجر العمل الصالح بالنظرة البدائية ، وهي أن يحصل العامل على حسنات ما عَمَلَ من الصالحات ، ويحصل على سيئات ما عَمَلَ من منكرات ، ثم تُطرَح السيئات من الحسنات فيكون الناتج هو الأجر النهائي لذلك العامل ، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار الكرم الإلهي المتمثل بأن الحسنة بعشرة أضعاف والسيئة بمثلها فسيكون الأجر النهائي في مصلحة العامل .

ووفق هذه النظرة فإن الأجر النهائي لهذا العامل سيكون كبيراً إذا نال المغفرة ، لأن سيئاته إن غُفِرَت فستكون حسناته كلها أجراً له ، وهو أجر كبير إذا ما قورن بالأجر بدون المغفرة ، وبالتالي فإن للمغفرة دوراً مهماً في زيادة أجر المؤمن العامل .

 

التأمل الثالث عشر :

في علم الأخلاق هناك مصطلحات مفيدة ومهمة تنفعنا في مسيرتنا مع الله سبحانه وتعالى ، ومن هذه المصطلحات ( التخلي والتحلي والتجلي ) ، إذ يعني (التخلي) هو التخلي عن الذنوب والصفات السيئة ، و ( التحلي) هو عمل الأعمال الصالحة والتحلي بالصفات الحسنة ، و (التجلي) هو الارتقاء في سُلَّم الكمال ، النتيجة أن من يريد الرقي ونيل الأجر الحقيقي وهو القرب من الله جل جلاله عليه أولاً التخلي ثم التحلي ومن بعدها الرقي المتمثل بالتجلي .

فعلى المؤمن العامل إن كان يعمل الصالحات لنيل القرب من خالقه عز وجل أن يتخلى عن سيئات الأعمال مستعيناً بالاستغفار متأمِلاً المغفرة كي لا تعيق حركته الكمالية ، ثم يسعى لعمل الحسنات كي يحصل على الأجر الكبير ، بعدها يمكن أن يكون مؤهلاً لبلوغ مراتب القرب الإلهي .

 

التأمل الرابع عشر :

التشعب والتكاثر في آثار العمل الصالح والطالح سواء ، فلكل عمل صالح – وخاصة الأعمال ذات البُعد الاجتماعي – آثار وتشعبات واضحة ، ولكلٍ منها أجر كبير ، كمساعدة الفقراء وتزويج الشباب وتثقيف الناس وتعليمهم ورفع الظلم عنهم وهدايتهم وغيرها ، وكذلك العمل الطالح – وخاصة الأعمال ذات البُعد الاجتماعي – كالغيبة والنميمة والكذب والغش والظلم وغيرها ، وكلٌ منها تتطلب مغفرة .

وبما أننا كبشر لا نعلم أيها أسرع الى صحائفنا حتى نحكم على أن آثار العمل الصالح تطيح بآثار العمل الطالح ، خاصة وأن العمل الصالح مشروط بالنية الخالصة لله تعالى ، وهذا غير مشروط بالعمل الطالح ، فإن المغفرة في هذه الحالة أولى من الأجر الكبير .

 

التأمل الخامس عشر :

الغفلة سبب رئيسي لكثير من الآثام والذنوب والمعاصي ، بل هي سبب حتى لبعض الآثار الوضعية التي لا يُحاسَب عليه الفرد ، كأن يشرب شخصٌ كأساً من الخمر غفلة معتقداً أنه عصير ، فحتى لو لم يُحاسَب هذا الشخص على شربه للخمر إلا أن تأثير الخمر – كالسُكر – يسري عليه ، وربما يرتكب أفعالاً شنيعة بسبب هذا السُكر كالقتل أو دهس الآخرين أو التلفظ بألفاظ غير لائقة وغيرها ، وقد يترتب على فعل هذه الأفعال نتائج اجتماعية قد تكون قاسية كاستهجان المجتمع من فاعلها وربما يُسجَن أو ما شابه .

ومثل هذه الآثار الوضعية يتعرض لها العاملون المؤمنون بحُكُم عملهم وحركتهم ، وقد تُسيء هذه الآثار الى سمعتهم كمؤمنين ، بل وتُسيء الى الدين والتدين الذي تمثّل بهم ، وهُم بريئون من كل ذلك ، فيشعرون بأنهم أساءوا الى الدين بدل أن ينصروه ، لذا فإنهم يتمنّون المغفرة أكثر من تمنّيهم الأجر الكبير .

 

التأمل السادس عشر :

من الضروري التعرف على بعض المعايير والمقاييس القرآنية لنعرض أنفسنا عليها ونعرف مستوانا الإيماني من دون أي مجاملة ، فمثلاً :

المؤمنون العاملون على قسمين ، الأول يرى أن الله تعالى وفّقه للعمل الصالح وبالتالي فإنه يخشى التقصير فضلاً عن خشيته من إرتكاب المعاصي كي لا يُسلَب منه هذا التوفيق ويُحرَم من الأجر الكبير المعَد لذلك العمل الصالح ، وبالتالي عندما يرى بشارة المغفرة فإنه يستبشر ويطمئن بأن تقصيره ومعصيته قابلة للمحو بفضل الله تعالى . والثاني يرى أن توفيقه للعمل الصالح جاء بجُهدٍ وسعي منه ، وقد لا ينطق ذلك بلسانه ولكن فعله يدل على ذلك ، إذ يهتم فقط بالأجر على ما عمله من عمل صالح ولا يفكّر بأن توفيقه لهذا العمل قد يُسلَب ، لذا لا يعتني بالمغفرة كمقدمة للأجر الكبير .

فليعرض كل واحد منا نفسه على هاتين الحالتين ليعرف من أي قسم هو .

 

التأمل السابع عشر :

بما أن عمل العاملين المؤمنين يهدّ كيان إبليس وأتباعه من الكافرين والمنحرفين والفاسدين فإنه بمثابة العذاب الشديد لهم ، لذا يحرّك إبليس شياطينه ليزرعوا الأمراض المعنوية في قلوب المؤمنين ليفسدوا أعمالهم ، وقد يؤدي ذلك الى تركهم للعمل ، ومن هذه الأمراض المعنوية الحسد الذي يصيب العاملين عموماً ، ولكن من غير المناسب أن يصيب المؤمنين لأنه يتعارض مع إيمانهم .

وبدل أن يتمنى المؤمن أن يكون مثل أخيه المؤمن ذي الهمة العالية يحاول أن يعرقله ويتمنى تقهقره ، وربما يسعى لإفشال أعماله كي يكون هو البارز في ساحة العاملين ، ومثل هذا المرض يجب أن يتخلص منه المؤمن العامل بمجاهدة نفسه ، وأن يطلب المغفرة من ربه جل وعلا ، كي يظفر بالأجر الكبير .

 

التأمل الثامن عشر :

لا بد للمؤمن عندما يريد أن يعمل الصالحات ( وخصوصاً العمل الاجتماعي ) فعليه أن يربي نفسه ويجاهدها بدرجة تناسب ذلك العمل كي يقيها الأمراض المعنوية ، فعندما يعمل العامل صالحاتٍ من دون مراقبة الإخلاص فيه لله سبحانه فسيتورط في الرياء الذي يعتبر من أخطر الأمراض المعنوية – حتى أنه يُسمى بالشرك الأصغر – يصيب كثيراً من العاملين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ، وبالتالي سيكون عملهم بلا ثمرة حتى وإن بدى عظيماً لأنه لم يكن خالصاً لله سبحانه ، لأن ثمرة العمل يقطفها المؤمن بإخلاصه ، بينما المرائي سينالُه عذاب شديد كما نال الكافرين .

لذا فعلى المؤمن العامل المخلص أن يراقب الإخلاص في عمله بشكل مستمر ويستغفر ربه عن كل عمل خالطه ما ليس لله تعالى عسى أن ينال الأجر الكبير .

 

التأمل التاسع عشر :

مما لا خلاف عليه أن أعمالنا الصالحة نعمة ، والنعمة تستحق الشكر ، وأن الشكر نفسه نعمة فإن شَكَرنا ربَنا على تلك النِعِم وجب علينا أن نشكر الله تعالى على نعمة الشكر ، وبهذا يكون من المحال أن نبلغ الشكر المطلوب كما ورد في مناجاة الشاكرين للإمام السجاد عليه السلام ( فَكَيْفَ لي بِتَحْصيلِ الشُّكْرِ وَشُكْري اِيّاكَ يَفْتَقِرُ اِلى شُكْر، فَكُلَّما قُلْتُ لَكَ الْحَمْدُ وَجَبَ لِذلِكَ اَنْ اَقُولَ لَكَ الْحَمْدُ ) ، ووفق ذلك فإننا مقصرون ولا نستحق الأجر على أعمالنا ، هذا في حالة معاملتنا بالعدل الإلهي ، ولكن إذا عوملنا بالفضل الإلهي فسننال المغفرة والأجر الكبير ، وهذا ما أشار إليه دعاء يوم الأحد ( الحمد لله الذي لا أرجو إلا فضله ) كي يغفر لنا تقصيرنا ويثيبنا من فضله بالأجر الكبير ، وأضاف ( ولا أخشى إلا عدله ) الذي يوكلنا الى أعمالنا فتضيع مقابل نِعِم الباري عز وجل .

 

التأمل العشرون :

لكون الإخلاص هو أساس العمل الصالح فإن المؤمن العامل الواعي المخلص يهتم به إهتماماً كبيراً لينال الأجر الكبير ويتجنب العذاب الشديد ، لذا يكون على المؤمن العامل المخلص تربية نفسه ومجاهدتها بحيث يضمن الإخلاص في جميع أعماله الصالحة ، وهو الأفضل ، وإلا فسيضطر الى التوقف عن القيام ببعض الأعمال الصالحة التي يمكن أن يتعرض الإخلاص فيها الى هزة بحيث تجعل لله سبحانه شريكاً في غايته . وفي هذه الحالة وإن كان قد ضمن بدرجة ما الإخلاص في عمله إلا أنه أضعف مجموع العمل الرسالي ، فلو أن كل مؤمن عامل فعل مثل فعله لتقهقرت الأعمال الصالحة ، مع إن حجم العمل الصالح المطلوب يحتاج الى جهود مضاعفة ، وهذا التقصير في تربية النفس يتطلب مغفرة عسى أن نظفر بالأجر الكبير .

 

التأمل الحادي العشرون :

لا بد أن يضع كل من يريد التخلق بأخلاق الله عز وجل منهاجاً لحياته في التعامل مع الآخرين ، خاصة مع من هم دونه أو من له سلطة عليهم ، فمن كان خارجاً عن الضوابط المتعارف عليها ( شرعية كانت أم أخلاقية أم عرفية أم رسمية ) فيجب أن توجّه له عقوبة تناسب الخروج عن تلك الضوابط وتناسب السلطة المتاحة والحكمة من تلك العقوبة والرأفة بالمحكوم عليه كإنسان .

وأن يثيب كل من يعمل أعمالاً صالحة وأن يتجاوز عن الأخطاء التي تبدر من ذلك العامل خاصة المرافقة للعمل ، وأن لا يكون الجميع بمستوى واحد من المكافأة إلا أن تنعدم القدرة على التمييز بين مستويات الأعمال الصالحة أو تنعدم القدرة على التمييز بين مستويات المكافأة .

 

التأمل الثاني العشرون :

النظرة الفردية للأمور تتغلب في أغلب الأحيان على النظرة الاجتماعية أو الجماعية ، وهذا ينعكس على فهمنا للآيات القرآنية ، فالقرآن الكريم يركّز على الجانب الاجتماعي بشكل واضح وشامل من خلال ( الذين كفروا ) أو ( الذين آمنوا ) أو ( الذين اتقوا ) أو ( الذين أشركوا ) وما شابه ، ومع هذا فإننا نركّز على كل فقرة بِبُعدها الفردي ، ونهمل بُعدها الاجتماعي ، فعلينا أن نفهم أن المراد من المخاطَب هو الأمة والمجتمع وليس الفرد وإن كان الفرد جزء من المجتمع ، بعبارة أخرى علينا النظر الى سيئات وحسنات المجتمع أكثر من نظرتنا الى سيئات وحسنات الفرد ، بمعنى أن نهتم بالظواهر الاجتماعية المنحرفة التي يكون تقويمها أصعب بكثير من تقويم إنحراف الفرد ، وبالظواهر الاجتماعية الصالحة باعتبارها النصر الحقيقي وليس صلاح الفرد كفرد .

 

التأمل الثالث العشرون :

بسبب ضعف ثقافة التعامل مع سلوكيات المجتمع الصالحة والفاسدة فيصعب على الكثيرين معرفة هذه السلوكيات ، فهناك مجتمعات سمتها الكفر ( سواء الكفر الإلحادي أو كفر النعمة أو كفر المعصية ) بحيث تشبّع أفرادها بالكفر ولا يتقبلون أي محاولة لإنقاذهم منه ، وفي الوقت نفسه هناك مجتمعات مؤمنة تشبّع أفرادها بالإيمان ولا يتقبلون أي محاولة لإفساد إيمانهم ولو بإطاره العام .

هذا يعني أن سلوك المجتمع يتضح بعد أن يتشبع ويتشرب أفراده بذلك السلوك بحيث يصبح ثقافة وعادة وظاهرة تسود المجتمع ، ومن الصعب تغيير هذه الثقافة وقد يصبح تغييرها شبه مستحيل ، لذلك ينبغي أن يكون الاهتمام بسلوكيات المجتمع أكبر ، وأن إهتمامنا بسلوكيات الفرد يجب أن يكون وسيلة لمعرفة سلوكيات المجتمع وليس غاية فنتوقف عندها .

 

التأمل الرابع العشرون :

عندما ترتقي ثقافتنا من الفردية الى الاجتماعية سنجد قيمة ومعنى البشرى بالمغفرة ، وسنجد حجم الأجر الكبير الذي سيناله العاملون للصالحات ، وسنعرف حقيقة العذاب الشديد الذي سيطال الكافرين . فهناك فرقٌ بين أن يصلح الإنسان نفسه وأن يصلح نفسه والمجتمع ، فالأول صالح والثاني مصلح ، كما أن هناك فرق بين أن يضل شخصٌ لوحده وبين أن يضل المجتمع ، فالأول ضال والثاني مضل ، والمجتمع إذا صَلُح فبجهود المصلحين وإذا ضل فبجهود المضلين ، ولو اهتم كل فرد في المجتمع بصلاح نفسه فقط فإن ذلك بن ينتج مجتمعاً صالحاً ، فلا بد أن يسعى كل فرد الى إصلاح الآخرين ، وكذلك بالنسبة لجانب الضلال . فالقانون مثلاً الذي يحكم الأفراد الصالحين إن كان قانوناً صالحاً فيمكن أن يكون المجتمع صالحاً من الناحية القانونية ، وكذلك عندما تكون الأعراف صالحة .

 

التأمل الخامس العشرون :

تُرى … ما الذي ينقل السمة الفردية الصالحة الى سمة تشمل المجتمع ؟ وما الذي يمنع السمة الفردية المنحرفة من أن تشمل المجتمع ؟ أي إذا كان أفراد المجتمع كافرين فكيف نمنع المجتمع من أن يكون كافراً مستحقاً للعذاب الشديد ؟ وإذا كان الأفراد مؤمنين عاملين فكيف يكون المجتمع مؤمناً عاملاً يستحق الأجر الكبير ؟

الجواب : هو فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمتى ما عمل أفراد المجتمع بهذه الفريضة – أي أصبحوا مصلحين – إبتعد المجتمع عن الكفر نحو الإيمان ومن مجتمع خامل الى مجتمع عامل ، هذه الفريضة المعطلة وصفت في الروايات الشريفة بأنها أسمى الفرائض ، فعمل الصالحات من دون هذه الفريضة يحتاج الى استغفار ومغفرة ، وعمل الصالحات بمعية هذه الفريضة توجب الأجر الكبير الذي يفوق أجر الأعمال الفردية جميعها .

 

التأمل السادس العشرون :

بعد استعراض مكانة المغفرة عند المؤمنين العاملين من زاوية قرآنية وإعطائها أولوية على الأجر حتى لو كان كبيراً علينا أن نعطي الاستغفار المكانة التي يستحقها في حياتنا ، خاصة وأن من أدبيات عِلية المؤمنين العاملين زعمائنا وقادتنا من المصلحين ( أنبياء وأوصياء ) كانت لا تنفك عن الاستغفار رغم أنهم معصومون ، وهذا قد يفسّر معنى الاستغفار عند المعصومين ، فإستغفارهم ليس عن ذنب حقيقي وإنما مصداق من المصاديق التي ذُكِرَت والتي لم نوفق لذكرها .

أما بعد توسعة فِهم الذنب من الفردي الى الاجتماعي الذي يحمل ضمناً كمّاً كبيراً من التقصير الذي لا يُدرَك بالفهم الفردي فإنه سيعطي زخماً مضاعفاً أضعافاً كثيرة للمؤمن العامل لوضع برنامج ولو مبسط للاستغفار وجعله في المقدمة كي يستأنس ببشرى المغفرة أكثر من إستئناسه ببشرى الأجر الكبير .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :

https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M