تأملات قرآنية من الآية السادسة والأربعين من سورة سبأ

بهاء النجار

 

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

التأمل الأول :
إن الموعظة الحقيقية والأساسية التي ينبغي على القائد الرسالي السائر على خط سيد المرسلين صلى الله عليه وآله أن يركّز عليها هو وعظ الناس بأن يقوموا ويتحركوا ويُحرِّكوا من حولهم بشكل فردي وثُنائي – بل وجماعي – بحيث تكون حركتهم خالصة لله تعالى لا لغايات دنيوية شخصية كانت أم فئوية ، ولا لطلب السمعة والشهرة والحصول على المناصب والتسلط وغيرها ، وهذا القيام يمكن أن يكون سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو فكرياً ، فضلاً عن أن يكون دينياً .
وهذا لا يعني طبعاً أن هذه الموعظة هي الموعظة الوحيدة التي يتم التركيز عليها من قبل القيادة الرسالية ، وإنما من هذه الموعظة تتفرع باقي المواعظ ، فأي موعظة تعود بالناس الى هذا القيام المخلص بجناحيه الفردي والثُنائي – فضلاً عن الجماعي – فهي ضمن هذا المسار الرسالي .

التأمل الثاني :
يعتبر التفكر من علامات ومؤشرات الإخلاص في القيام الذي تعظنا به الرسالة المحمدية السمحاء ، فإن لم يتفكّر القائم لله فهذا يعني أن قيامه غير خالصٍ لله تعالى ، باعتبار التفكر يُرجِع الإنسان العامل القائم الى مبادئه الإسلامية الصحيحة عندما يجد نفسه قد انزلق انزلاقاً ولو بسيطاً .
والمراجعة والمحاسبة من مصاديق وأشكال التفكر ، لذا يمكن أن يكون التفكر سوراً حامياً من الوقوع في فخ وساوس الشياطين وسرقة الإخلاص منه ، بمعنى أن التفكر يمكن أن يكون سبباً للحركة المخلصة ونتيجة لها في الوقت نفسه ، وبالتالي فأي قيام لا يرافقه تفكُّرٌ فهو في خطر .

التأمل الثالث :
إن القيام الجماعي لنصرة دين الله وأوليائه وعباده من أبرز ما يعظ ويوصي به قادة الإسلام ، سواء كان ذلك على مستوى العبادات أو العلاقات الاجتماعية ، فتجد الشارع المقدس يفضّل العمل الجماعي على الفردي ، فيشجع على صلاة الجمعة والجماعة مثلاً ويعتبر فضلها يفوق فضل الصلاة الفرادى أضعافاً مضاعفة ، وكذلك في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ولتكن منكم أمة …. ) أي جماعة ، لأن صداها أوسع وأعمق وأبلغ وأنفع إذا ما قورنت بأداء هذه الفريضة بشكل فردي التي قد توأَدُ في مكانها ويوأَد صاحبها أيضاً .
إلا أن القيام الجماعي يبدأ بقيام فردي من قبل كل فرد من أفراد الجماعة ، وما عليهم إلا تعيين قائد وإمام لهم يضبط حركاتهم بشرط أن يكون حكيماً غير متهور أو مجنون عند إتخاذ قراراته .

التأمل الرابع :
لتطبيق الموعظة النبوية الوحيدة والأساسية … على المؤمن أن يضع في حساباته المستقبلية القيام الجماعي لنصرة دين الله تعالى ، وكبداية عليه البدء بنفسه وتهيئتها لذلك القيام ، ثم ينتقل الى الخطوة الثانية المتمثلة بالقيام الثنائي مع شخص يتقارب معه في الأهداف والوسائل ، فلو قام كل فرد بذلك لتمكنّا من قيام جماعي منظم ومنضبط من دون أي مشاكل تنظيمية ، وهذا يتطابق مع بعض النظريات الإدارية التي تذهب الى بناء المؤسسات الجماعية انطلاقاً من الفرد ، لا أن نأتي بالمجموع ثم ننتقل الى الأفراد .
وعلينا أن لا ننسى التفكر الذي ينبغي أن يتبع ويلحق كل خطوة متقدمة من الخطوات التنظيمية التي نسيرها نحو بناء قيام جماعي أكبر ، لأن هذا التفكر سيضمن لنا بدرجة كبيرة الحفاظ على العمل التنظيمي للقيام .

التأمل الخامس :
إن بعض الفعاليات الإصلاحية التي يعظنا بها قادة الإسلام ويقوم بها المؤمنون لا تؤدي غايتها بشكل تام – وربما لا تؤدي غايتها أصلاً – إلا بشكل ثنائي كخطوة أولى للعمل الجماعي كالجهاد في سبيل الله مثلاً باعتباره أحد ثمار فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بينما نجد فعاليات إصلاحية أخرى لا تؤدي غايتها إلا بشكل فردي كالخلوة المحافِظة على الإخلاص في العلاقة مع الله تعالى والتفكر في إخلاص هذه الفعاليات وإبعادها عن الرياء والسمعة والشهرة .
وبالتالي علينا أن نوازن بين العملين (الفردي والجماعي) وفقاً للثمار التي نجنيها من كل عمل ، مع ضرورة المحافظة على الإخلاص في هذين العملين لله تعالى وأن لا تؤثر بنا آراء الناس وأقوالهم ومواقفهم .

التأمل السادس :
تبرز أهمية التفكر عند التفكير بالقيام لنصرة دين الله بشكل جماعي في مسألتين :
1) الأولى : أن لا يكون الواعظ لهذا القيام والمحرّض عليه ( حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) به جِنة .
2) الثانية : أن لا يكون قائد هذا القيام به جِنة .
ومما لا شك فيه أن الجِنة المقصودة ليست فقدان العقل أو الجنون العقلي ، وإنما يمكن أن يشمل عدة مصاديق ، مثل فقدان الحكمة بحيث تكون قراراته جنونية وغير حكيمة لا تناسب ظروف القيام الذي حرّض عليه أو قاده ، أو ربما من قبيل جنون العظمة الذي يُصيب كثيراً من قادة الحركات والفتوحات والانقلابات عندما يتحقق النصر ، بل إن سلوك الواعظ والقائد يدل على أنه نذير للناس لينقذهم من العذاب الشديد .

التأمل السابع :
يُفترض أنّ من يعظ الآخرين بالقيام لله ولنصرة دين الله بِشّقيَّه الجماعي والفردي والتفكر أن يكون أول من يقوم بذلك أسوة بالرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله ، لأن الأَولى أن يعظ الإنسانُ نفسَه قبل وعظ الآخرين ، وهذه مسؤولية كبيرة يتحملها الوعاظ ، وإلا سيكونون من أكثر المغبونين يوم القيامة عندما يرون المنزلة العظيمة لمن اتعظ بوعظهم وهم – أي الوعاظ – أَولى بذلك .
ومما يميز القائد الحقيقي عن المتسلق للقيادة أنه أول من يتعظ بما يعظ ويطبّقه ، وهذا أحد أشكال تجسيد الدين في حياة القادة ، عندها نفهم حقيقة المقولة ( وكان خُلُقُه القرآن ) والتي كانت تشير الى النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ، ومقولة ( عليٌ القرآن الناطق ) .

التأمل الثامن :
إن وعاظ السلاطين يعظون الناس بالقيام من أجل السلطان وحُكمه لا من أجل الرحمن ودينه ، فضلاً عن ذلك فإنهم وسلاطينهم لا يقودون هذا القيام بل يكونوا في الخطوط الخلفية للحفاظ على دنياهم ويدفعون بالناس الى الخطوط الأمامية ليكونوا مشاريع تضحية لهم ولسلاطينهم .
كما أن هؤلاء الوعاظ لا يتفكرون ولا يعظون الناس بالتفكر ، لأنهم يعلمون أن التفكر سيمنع الناس من القيام من أجل السلطان ، بل سيدفعهم للقيام لله مثنى وفرادى مما يعني القيام بوجه السلطان ووعّاظه المنحرفين الذين لم يعظوا الناس لينذرونهم من عذاب الله الشديد ، لأنهم لا يؤمنون بهذا العذاب ولو آمنوا به لما أصبحوا للسلاطين وعّاظاً ، وإنما يعظون الناس لمصلحة السلطان لأن السلطان ينذرهم من عذابه الشديد .

التأمل التاسع :
إن الناس إن لم يستجيبوا لموعظة المنذر الواعظ الشفيق في أن يقوموا لله مثنى وفرادى من دون ترك التفكر في قيامهم وإخلاصهم فيه فسيقعون في عذاب شديد عاجلاً أم آجلاً ، هذا العذاب الشديد يمكن أن يكون دنيوياً (عاجلاً) وليس فقط أخروياً (آجلاً) ، وبالتالي فالقيام الذي وعظنا به المنذر يمكن استثماره في الدنيا قبل الآخرة ، لتخليص الناس من عذاب الظالمين الشديد ، سواء كان هذا العذاب ظاهراً جلياً أو خافياً مبطناً بعنواين جذابة .
فعلى الناس عدة مهام لتجنب العذاب الشديد ، وهي القيام ويجب أن يكون لله ، ويمكن أن يكون جماعياً وفردياً كذلك ، ولكُلٍ ميزاته ، ثم التفكر ، وأي مهمة من هذه المهام تتعرقل أو تتلكأ فسيؤدي ذلك الى الاقتراب من العذاب الشديد .

التأمل العاشر :
التعامل مع القائد المنذر الواعظ ( وأعظم مصاديقه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله )كشخص مجنون أو به جِنّة بدرجة من الدرجات يكون من خلال عدم الاهتمام بإنذاره من العذاب الشديد الذي يمكن أن يكون مصير كل من لم يهتم بإنذاره الذي كانت مقدمته موعظة تتلخص بالقيام الى الله تعالى بشكل جماعي وفردي مع التفكر .
والاهتمام العملي بموعظة القائد وإنذاره يتناسب عكسياً مع اعتباره مجنوناً وكذلك عكسياً مع شدة العذاب الذي يجازى به من يهمل تلك الموعظة والإنذار ، ومن هنا نعرف نظرتنا الحقيقية لقائدنا الأعظم صلى الله عليه وآله .

التعامل الحادي عشر :
عندما نصل الى نتيجة مأساوية مفادها أن من لا يقتنع بموعظة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله (المتمثلة بالقيام لله مثنى وفرادى ثم التفكر) فإنه ينظر الى هذا النبي العظيم أكرم وأعظم خلق الله تعالى وكأنه به جِنّة – والعياذ بالله – فليس من الصحيح أن نعتبر تلك النتيجة تضخيماً مُبالَغاً للإعراض عن الموعظة المحمدية ، إذ أن عدم الاقتناع بهذه الموعظة المقبولة عقلاً يشير إشارة مبطنة الى أن الواعظ يمكن أن يكون غير عاقل أو به جِنّة ، مع احتمالات أخرى كتفضيل طاعة هواه على طاعة مولاه ، وفي الحالتين فإنه سيكون مُعرَّضاً لعذاب شديد ، وبالتالي فعلينا إنذاره من هذه الحقيقة الخطرة ، ، تتناسب شدة هذا العذاب مع نسبة الإعراض عن الإلتزام بهذه الموعظة المحمدية الأساسية .

التأمل الثاني عشر :
الإنذار من العذاب الشديد أمر لا يتقاطع مع العقل بل يتقاطع مع الجنون ، فالمجنون لا ينذر الناس لأنه لا يعرف معنى الإنذار ، أو أنه ينذر من أمرٍ لا يستحق الإنذار أو وهمي لا حقيقة له ، فالعقل يميل الى إنذار أي إنسان يمكن أن يقع في عذاب .
وللإنذار أصول وآداب وسلوكيات ، باعتبار أن النفس الإنسانية لا تتقبل الإنذار عموماً فضلاً عن من لا تستسيغه ، وبالتالي فينبغي أن تكون هناك مقدمات للإنذار تبدأ بالموعظة الدالة على الرفق والعطف والمتضمنة لآليات عملية تُجنِّب الناسَ ما يُنذَرون منه ، وليست مواعظ شكلية شعاراتية يمكن أن يتفوّه بها أي شخص ويكتسب من ورائها سمعة الواعظين المنذرين ، وأن تكون الموعظة مقبولة عقلاً حتى وإن تطلب قبولها هذا مراحل من الإثباتات .

التأمل الثالث عشر :
هناك حديث مروي مضمونه ( أن التفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة ) ، وهناك عدة أشكال من الفهم لهذا الحديث الشريف ، ومن هذه الأشكال أن التفكر هو مكمّلٌ للموعظة الرئيسية والأساسية للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله المتمثلة بالقيام المخلص لله تعالى ولنصرة دينه وأوليائه وبمختلف المستويات ، جماعة وأفراداً , فبدون التفكر يكون تطبيق هذه الموعظة العظيمة ناقصة ، بل قد يكون تطبيقها سلبياً باعتبار أن التفكر يضمن الإخلاص في القيام لله سبحانه ، كما يضمن البصيرة للقائم ، فإن لم يكن على بصيرة فلن يزيده قيامه إلا بُعداً من الله جل جلاله ( العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق، فلا تزيده سرعة السير الا بعداً ) ، وعليه يكون التفكر هو الذي يجعل القائم مهتدياً الى الصراط المستقيم صراط الموعظة المحمدية .

التأمل الرابع عشر :
عندما تكون الموعظة المحمدية بهذه الأهمية بحيث تمثّل الحل الأوحد لمشاكل الفرد والمجتمع فإن من يستجيب لهذه الموعظة ويهتم لتطبيقها هم المؤمنون ، وكلما كان الإيمان أقوى كان الاهتمام والتطبيق لها أكبر .
وفق هذه المقدمة فإن حل مشاكل البشرية جمعاء يكون وفق هذه الموعظة العظيمة وعلى يد أعلى المؤمنين إيماناً والأحقُ بتطبيق موعظته ألا وهو خاتم أوصياء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسَميِّهِ ومهدي أمته والقائم بأمر الله تعالى وأخلص المخلصين وسيد المتفكرين وإمام المنذرين من العذاب الشديد ، إذ أن قيامه سيلحقه قيام المؤمنين بظهوره وخروجه وطلعته ، جماعات وفرادى ، لقيادة البشرية الى دين الله وإبعاد التشويهات التي ألحقها أعداؤه بدينه ليعيشوا عيشة هنيئة بعيدة عن أي عذاب في الدنيا والآخرة .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M