تأملات_قرآنية من الآية الثالثة و الاربعين من #سورة_فاطر

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

التأمل الاول:
من مبررات دراسة التأريخ هو دراسة سنة الله في الأولين من الأقوام الذين سبقونا ، فالتجارب التي مروا بها لا بد أن تُدرَس وتُقيَّم وتُنقَل الى واقعنا للاستفادة منها ، وهذا ما يتفق عليه كل العقلاء من شرق الأرض وغربها ، من المسلمين وغير المسلمين ، هذا يعني أن العقل – بما هو عقل – يؤمن بأن سنة الله تعالى لا تُبدَّل ولا تُحوَّل .
ما نختلف فيه عند دراسة التأريخ هو مدى الاستفادة من التأريخ الذي ندرسه ، فهل ندرسه للتباهي والتفاخر كمن يتفاخر بحضارة وادي الرافدين والنيل حتى لو كانوا مستكبرين في الأرض يمكرون بالأنبياء والصالحين ؟ أم ندرسه كي لا نكون مستكبرين ماكرين فيحيق المكر السيء بنا كما حاق بالذين من قبلنا ؟ فعلينا أن نختار الفائدة من تلك الدراسات التأريخية .

التأمل الثاني:
إن المهم في دراسة التأريخ هو النظر في سنة الله في الأولين ، هذه السُنّة التي لا تُبَدَّل ولا تُحوَّل ، بحيث نستفيد من هذه السُنّة ، لأنها قد تشملنا إن توفرت ظروفها ومقدماتها ، أما إذا لم تتحقق الاستفادة – فضلاً عن تحقق الضرر من دراستها وإثارتها – فسوف تكون تلك الدراسة مضيعة للوقت ومجلبة للإثم .
فالاحتفال بالمناسبات الخاصة بالأولياء من الأنبياء والأوصياء ( وخصوصاً ذكرى وفياتهم واستشهادهم ) فيجب أن تبيّن لنا نتائج استكبار الظالمين ومكرهم بأولياء الله الصالحين وتعزيزها في نفوس المحتفلين كي تتربى الأمة على نبذ هذا الاستكبار ، أما إذا كانت مجرد (فلكلور) وإثارة للعواطف لتحقيق غايات رخيصة وضيقة فقط والاستكبار والمكر السيء متغلغل في النفوس فستكون مخالفة للنهج القرآني .

التأمل الثالث:
من المؤسف أن نرى بعض المسلمين وممن يقرأون القرآن الكريم أنهم يمتدحون بعض الحكام المستكبرين ( من المسلمين ) سواء من الأولين أو من المعاصرين ، ممن عُرِفوا بالمكر السيء والخداع والغدر والبطش ، بحجة أنهم – أي الحكام – مسلمون !!
إن المسلم المخالف لشرع الله بشكل كبير وواضح مرفوض بصورة أكبر من مَثيله من غير المسلم ، وعلينا كمسلمين أن نتبرأ منه كي لا يُحسَب على ديننا فَينفَر الآخرون ، أما من يمتدح المستكبرين الماكرين فيُعتَبَر من أهل المكر السيء وسيحيق به هذا المكر تطبيقاً لسُنّة الله التي لا تُبدَّل ولا تُحوَّل .

التأمل الرابع:
إن الأولين المشمولين بدعوة القرآن الكريم للنظر في سُنة الله فيهم ، ينقسمون الى قسمين :
1) الأول : السيئون ، ومن أمثلتهم المستكبرون في الأرض ، والماكرون مكراً سيئاً ، فعندما ندرس تأريخهم فلا بد أن نهتم ونركّز على سُنة الله فيهم ونبحث عن ما سيحيق بهم مكرهم السيء ، وإن لم نجد فهذا لا يعني أن مكرهم السيء لم يَحِق بهم ، فهذه سنة إلهية لا تبديل فيها ولا تحويل ، ولو لا هذه السُنّة لما كانت هناك حاجة مُلِحّة للاهتمام بالنظر في تأريخهم ، والأهم من ذلك الاتعاظ وعدم سلوك مسلكهم .
2) الثاني : الصالحون ، باعتبار أن الأشياء تُعرَف بأضدادها ، فليس من النافع أن ندرس تأريخ المستكبرين والماكرين وسنة الله فيهم ولا ندرس تأريخ الصالحين والمصلحين وما نتج عن صلاحهم وإصلاحهم ، فنستبدل الخيار السيء بالخيار الصالح .

التأمل الخامس:
هناك آثار وضعية لكثير من الأفعال السيئة قد نراها في الدنيا قبل أن نراها في الآخرة ، وهذا ما تعلمناه من دعاء كميل الذي علّمه أمير المؤمنين عليه السلام لصاحبه كميل ابن زياد ، إذ يبين الدعاء أن هناك ذنوباً تهتك العِصَم (التي تعصم الإنسان من المعصية ) وذنوباً تُغيّر النِعَم ، وذنوباً تُنزل النِقَم ، وذنوباً تحبس الدعاء ، وذنوباً تُنزل البلاء ، وهكذا باقي الذنوب ، فالمكر السيء مثلاً له أثر وضعي على الماكر ، إذ يحيق بأهله – لا بغيرهم – كسُنّة من السنن الإلهية التي لا تُبدَّل ولا تُحوَّل .
وهذه التربية تجعل المسلم في ترقبٍ دائم لما قد يحدث له بسبب أفعاله فيتجنب فعلها ، إضافة الى أنه يُحمِّل نفسه مسؤولية ما يمر به من بلاءات قبل أن يتهم غيره .

التأمل السادس:
إن السنن الإلهية التي لا تُبدل ولا تُحوّل هي القوانين العامة التي تحكم الوجود ، وهي بمثابة الدستور في العرف السياسي ، وهذه السنن تضبط ما دونها من قوانين فرعية التي تتغير وفق تغيرات الزمن بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية واللطف الإلهي بخلقه ، فليس من الحكمة أن تكون التشريعات في عهد آدم عليه السلام هي نفسها في عهد الخاتم صلى الله عليه وآله ، أما السنن فتبقى نفسها ثابتة .
ووفق ما تقدّم فمن الدلائل على وحدانية الله عز وجل أن سُنّته في خلقه لا تتبدل ولا تتحول ، بمعنى أنها واحدة مع اختلاف الأزمنة والدهور ، ولو كان هناك إلهاً آخراً لبدّل هذه السنن وحوّلها على الأقل ليُثبت وجوده وسلطانه وإلهيته ، ولكن لم يستطع أحدٌ أن يتلاعب بهذه السنن والقوانين الإلهية .

التأمل السابع:
القوانين الطبيعية كالقوانين الفيزيائية والكيميائية وقوانين الرياضيات وغيرها وما تفرّع عنها من علوم من مصاديق السنن الإلهية التي لا تُبدَّل ولا تُحوَّل ، فهذه القوانين ثابتة لم يغيّرها الزمان فضلاً عن المكان ، وهي من الدلائل على وحدانية الله عز وجل ، إذ لا يمكن أن تتوحد مثل هذه القوانين رغم اختلاف الأزمنة والظروف والمتغيرات وتطور الحضارات مع وجود أكثر من مسيطر عليها .
ومما يؤسف له أن تُستغَل هذه القوانين الإلهية للمكر السيء ببني البشر استكباراً في الأرض ، ومن المفروض أن تُستثمَر لمعونة البشر ورفع معاناتهم من دون إذلالهم ، وعلى هؤلاء الماكرين المستكبرين أن يعلموا أن هذه القوانين ثابتة ، وسيأتي يومٌ تُستثمَر فيه للقضاء عليهم وذلك يوم يقوم القائم المنتظر عليه السلام .

التأمل الثامن:
إن ما توصل إليه العلم الحديث من مراتب ومستويات متقدمة تعتمد بشكل كبير على القوانين الطبيعية التي أوجدها الله تعالى كقوانين الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها ، وبالتالي فعلى العلماء الذين تمكنّوا من الوصول الى تلك المراتب والمستويات أن لا يُسخّروا علمهم للاستكبار في الأرض ومكر السيء ، وإلا سيحيق بهم هذا المكر السيء .
فعلى سبيل المثال ، الذكاء الاصطناعي أحد أبرز ما توصل إليه العلماء مؤخراً في الجانب التقني ، ورغم الفوائد المرجوة من هذا الذكاء إلا أن مطوريه أنفسهم يخشون من أن تنقلب الأمور ويسيطر عليهم ، وهذه الخشية قد تتحقق إذا ما فكروا باستخدام هذا الذكاء في المكر والاستكبار ، وهذا من مصاديق ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

التأمل التاسع:
إن التخطيط للاستكبار في الأرض يجعل المستكبر يفكر في المكر بالآخرين مكراً سيئاً ويستخدم شتى الوسائل للحصول على ذلك الهدف ، فمثلاً يقوم بسنّ السُنن السيئة ويُتقن المسك بخيوطها وجميع مفاصلها ، وعندما يسير عليها الآخرون سيتمكن من السيطرة عليهم باعتبار أن المستنّون بهذه السنن يتابعون من سنّها كي يعرفون مدى صحة استنانهم .
وبالتالي فلا بد أن يسنّ المؤمنون سنناً حسنةً راسخة وثابتة لا تُبدّل ولا تُحوّل قدر الإمكان كي تُفشل خطط الاستكبار والمكر التي ستؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على المؤمنين ، فحتى لو كانت سيطرة المستكبرين على غير المؤمنين فإن هذا سيعطيهم قوة إضافية تفوق قوة المؤمنين ، أما إذا كانت السيطرة على المؤمنين والمكر بهم فستكون النتيجة أسوأ .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M