تأملات_قرآنية من الآية الرابعة و الاربعين من #سورة_فاطر

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)

التأمل الأول :
إن الدرس والموعظة من الأحداث التأريخية تتحقق عندما تكون الأقوام السابقة أشد قوة منا ، وإلا فالأقوام التي كانت ضعيفة أو على الأقل أضعف منا سوف لن تكون درساً مناسباً للعِبرة ، باعتبار أن ضعفها لا يجعلها رمزاً يجذب الأذهان والعقول ، وهنا لا بد أن ندرس المراد من القوة ، فليس بالضرورة أن تكون القوة هي القوة العسكرية فقد تكون اقتصادية أو ثقافية أو فكرية أو غيرها ، ولو أخذنا لوناً واحداً من القوة فهذا يعني أن هذا اللون من القوة إذا كان في تزايد فسوف تنتفي الحاجة الى دراسة تأريخ الأقوام السابقة كونها أضعف . أما لو أخذنا جميع أشكال ومصاديق القوة فما إن يقوى شكل منها فسيضعف آخر ، وما علينا إلا الاهتمام بالقوة التي نشعر بضعفنا إذا ما قارنا بقوة الأقوام السابقة ، عند ذلك تتحقق الموعظة .

التأمل الثاني:
ربما يتصور المعجَبون بقوة الغرب أنه لا توجد أقوام أشد قوة من قوة الغرب حتى تُدرَس عاقبتهم، باعتبار ما يمتلكه الغرب من قوة في عدة مجالات كقوة التكنلوجيا مثلاً التي استطاعوا بها غزو العالم بأجمعه وبث ثقافتهم والوصول الى الفضاء الذي لم يصله أحد من قبلهم، فضلاً عن القوة العسكرية التي يمكن أن تدمّر العالم بضغطة زر!
ومنشأ هذا التصور هو الاهتمام بمصاديق القوة التي يمتلكها الغرب، بينما تكون الفائدة عندما ندرس القوة التي يضعف فيها الغرب، فمثلاً قوة الأخلاق التي بدأت بالاضمحلال منذ أن امتلكوا الأشكال الأخرى للقوة ، بدليل أنهم قتلوا عشرات الملايين من أجل الهيمنة على العالم، وكذلك قوة العقيدة وقوة العلاقات الاجتماعية اللتان بدأتا تقتربان من الصفر، وغير ذلك.

التأمل الثالث:
يُعتبَر الإيمان من أشكال ومصاديق القوة ، فالمؤمن قوي ، ومن كان غير قوي لا يليق أن تُطلق عليه صفة (المؤمن) ، وقوته مستوحاة من إيمانه بالله القوي العليم بحاله والقدير على تخليصه مما يعاني منه ، فلا تهمّه قوة السلطان ولا قوة العسكر ولا قوة الضغوط النفسية الناشئة من السجن أو الحصار أو التجويع ، ولا غيرها من القوى .
ولننظر كيف كان عاقبة الذين من قبلنا ممن كانوا أشد منا إيماناً لا بد أن نسير في الأرض الى محال أنفاسهم وأرواحهم التي تأنس نفوس وأرواح المؤمنين لها ، ألا وهي قبور أولياء الله من الأنبياء والأوصياء والصلحاء ، فنرى عاقبتهم الحسنى فنتعظ ونقتدي بهم .

التأمل الرابع:
المدار في النظر في عاقبة الأقوام السابقة ليس في نفس العاقبة ( سيئة أم حسنة ) وليس في قوتهم أم ضعفهم فقد يكونوا أقوياء في جانب إلا أنهم ضعفاء في جانب آخر ، وإنما المدار هو أخذ العظة والعبرة من دراسة عاقبة هذه الأقوام .
فإن كانت الأقوام قوية وكانت عاقبتهم حسنة فعلينا الإقتداء بهم بكل التفاصيل، وإن كانت الأقوام ضعيفة وعاقبتها حسنة فينبغي أن لا يؤثر ضعفنا على الاهتمام بهدفنا ، وإن كانت الأقوام قوية وعاقبتهم سيئة فينبغي أن لا نغتر بالقوة التي نمتلكها فقد تلهينا عن حسن العاقبة ، وإن كانت الأقوام ضعيفة فينبغي أن نتجنب هذه الأقوام بكل تفاصيل حياتها .

التأمل الخامس:
السير والنظر أحدهما وسيلة والآخر غاية ، فأحياناً يكون النظر وسيلة للسير كسائق السيارة أو الدراجة أو حتى الذي يسير مشياً ، إذ أن السير يكون صعباً وربما مستحيلاً بالنسبة لمن كام نظره ضعيفاً أو أعمى ، وأحياناً أخرى يكون السير وسيلة للنظر .
هذا يعني أن السير والنظر عمليتان تكامليتان تكمّل إحداهما الأخرى ، فيبدأ الإنسان بالنظر ليسير لأن السير بلا نظر يوقع الإنسان في خطر ، وعندما يسير فعليه أن يضع أهدافاً تتحقق من سيره لينظر فيها ، فالسير لوحده ليس غاية مرموقة ، وعندما ينظر الى تلك الأهداف ( كالذي يريد دراسة التأريخ لمعرفة عاقبة الأقوام السابقة والاستفادة منها ) فعليه أن يستثمر ما توصل إليه ليكون وسيلة يسير وفقها ، وهكذا حتى يبلغ مقاماً عالياً .

التأمل السادس:
إن العلم والقدرة تجهلان الفرد القوية لا تُعجزه عن فعل أي شيء ، فالعلم قوة ولكن بشرط وجود قدرة على الاستفادو من هذا العلم ، وإلا فلا يمكننا أن نعتبر العلم قوة بلا قدرة ، فهاهُم الأنبياء وأوصياؤهم ومن سار على نهجهم علماء ولكن كم منهم استطاع أن يزيح القوى الظالمة ؟ القلة، والسبب عدم امتلاكهم للقدرة على التغيير ، بل إن بعضهم قُتِلوا ونُشِروا بالمناشير وقُطِعَت رؤوسهم كيحيى النبي والحسين السبط عليهما السلام ، ولو كان مهدي هذه الأمة عليه السلام موجوداً لفُعِل به ما فُعِل بأسلافه وأجداده، ولكي لا يعيد التأريخ نفسه فيفترض أن تُعدّ العُدّة وتُمهّد وتحضّر مقومات القدرة لتهيئة القوة القادرة على دحر قوة الأقوام الظالمة ، وهذه من أعظم ما يمكن أن ننظر فيه عند الإطلاع على تأريخ الأقوام السابقة .

التأمل السابع:
قد لا نحتاج الى مؤونة كبيرة لإثبات أن العلم والقدرة من مقومات القوة ، فهناك عدة أمثلة واقعية نراها يومياً تدل على دور العلم والقدرة في امتلاك القوة ، ومن يسير في الأرض سيجد اهتمام الدول القوية بشكل جلي على العلم والقدرة ، وسيرى عاقبة الاهتمام بالعلم والعلماء وإعطاءهم القدرة على تحويل العلم الى قوة ، لأن العلم النظري يكون مصدر قوة إذا تحوّل الى أشياء نافعة تخدم البشرية ، ولكن للأسف لم يُستخدَم العلم لتحويله الى قوة نافعة لخدمة البشر ، بل سُخِّر ليكون قوة للهيمنة عليهم ، وها هي الحرب العالمية الثانية دليل كافٍ على ذلك .
ولإبعاد تلك الهيمنة لا بد أن يكون اهتمامنا بالعلم نظرية وتطبيقاً لنتمكن من أن نُذيق الناس فوائد هذا العلم بدل السموم التي تقدمها تلك القوى .

التأمل الثامن:
إن حصر القوة بالعلوم الطبيعية أمر بعيد عن الواقع ، فلكل علم قوة بمقدار القدرة على تفعيله في الحياة ، فالعلوم الإنسانية تكاد أن تتفوق على العلوم الطبيعية في قوتها إذا ما تم إعطاؤها القدرة الكافية على خدمة المجتمع ، بل إن الأخيرة (الطبيعية) يعتمد نجاحها على الأولى (الإنسانية) ، ولو أردنا النظر في عاقبة بعض البلدان التي أعطت القدرة للعلوم الإنسانية كعلوم الإدارة والاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون وعلم النفس – بل حتى العلوم الدينية – فسنرى تقدّماً في باقي مجالات الحياة ومنها العلوم الطبيعية كالطب والهندسة والزراعة وما شابه وما نتج عنها من تكنلوجيا وعمران ، بينما الدول التي أعطت القدرة للعلوم الطبيعية وأهملت العلوم الإنسانية فسوف لن تكون بالقوة الكافية لمواجهة تلك الدول .

التأمل التاسع:
يميل الناس بحسب الواقع الى من يتمتع بالعلم والمقدرة على الوصول الى ما لم يتوصل إليه غيرهم، فمثلاً نرى الانبهار بالوصول الى القمر وبعض كواكب المجموعة الشمسية ، أو ما توصل إليه العقل البشري من تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها .
وهذا أمر طبيعي باعتبار أن الإنسان يسعى الى الكمال والتكامل، ولكن يصل الأمر الى الإتباع الفكري والتأثر بحضارة من ينجز هذا التقدم فهذا مرفوض، لأنه لا دخل للجانب الفكري بالتقدم العلمي ، خاصة وأن الإسلام لا يتقاطع مع التطور العلمي بل يحث عليه ، إلا أنه يشترط عدم تعارضه مع الثوابت الدينية كظلم الآخرين ، لأن هذه الثوابت وضعها العليم القدير الذي لا يعجزه من شيء في السماوات والأرض ، وهو الذي أعطى العلم والقدرة للإنسان الذي توصل الى هذا المستوى من التطور العلمي .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M