تحديات الأمر الواقع: كيف تغيرت قواعد المباحثات النووية الإيرانية في غضون أشهر قليلة ؟

علي عاطف

 

على الرغم من مرور إيران خلال الأشهر الماضية بسلسلة من الاضطرابات المحلية، بدت طهران حينها في موقف غير قوي فيما يتعلق بعملية التفاوض النووي مع القوى الكبرى، إلا أن أحداث وتحولات تلك الأشهر وما تلاها سرعان ما عززت من الموقف التفاوضي الإيراني مرة أخرى. وكان لهذه المتغيرات أثر واضح على مسار التفاوض والمباحثات المتوقفة بالأساس منذ أغسطس الماضي ككل، بحيث أبعدتها بشكل جوهري عن مسار وأطروحات المفاوضات النووية خلال الفترة بين (أبريل 2021 – أغسطس 2022). ومع ذلك، فإن هذه التحولات تطرح في الوقت نفسه أمرًا واقعًا جديدًا أمام المفاوضات قد يمثل لاحقًا مكسبًا نوويًا تاريخيًا لإيران أو تهديدًا ضدها في الوقت نفسه. وفي ضوء ذلك، نتطرق فيما يلي إلى أبرز التحولات التي طالت معادلة التفاوض النووي الإيراني-الغربي، بالإضافة إلى انعكاساتها على مستقبل المفاوضات والبرنامج النووي الإيراني.

1- تأثير الصراعات الغربية مع روسيا والصين على البرنامج النووي الإيراني:

إلى وقت قريب، كان بإمكاننا القول إن الحرب الروسية الأوكرانية ووقوف طهران إلى جانب موسكو، قد تكون تهديدًا مباشرًا لإيران؛ نظرًا لحالة الغضب الشديدة التي سيطرت على العواصم الغربية في أعقاب إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، لأول مرة في يوليو الماضي عن استعداد طهران لإرسال مئات الطائرات المسيرة (الدرونز) إلى روسيا. ومع ذلك، فبعد أقل من عام بدا أن التركيز الأمريكي والغربي على دعم الحليف الأوكراني ضد روسيا، علاوة على الصراع المحتدم بين الصين والولايات المتحدة بشكل خاص، قد منح البرنامج النووي الإيراني دفعة قوية إلى الأمام.

ففي ظل هذا الانشغال الغربي وعدم وضع الملف النووي الإيراني أولوية أولى في واشنطن والعواصم الأوروبية خلال الأشهر الماضية، حققت إيران طفرة في برنامجها النووي وهو ما تم الإعلان عنه في فبراير 2023، إذ كشفت طهران عن رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 84% لتقترب بالتالي من النسبة اللازمة لصنع سلاح نووي.

وفي الواقع، فهي نسبة أيضًا ما كانت إيران أو علماؤها النوويون يعتقدون أن بإمكانهم التوصل إليها قبل عام 2030 على الأقل، وذلك وفق بنود الاتفاق النووي لعام 2015 والتي نصت على “موافقة إيران على عدم تأسيس منشآت لتخصيب اليورانيوم لمدة 15 عامًا” و”موافقة إيران على عدم البحث والتطوير في مجال تخصيب اليورانيوم لمدة 15 عامًا”، خاصة في موقع فوردو، هذا بالإضافة إلى التشديد بشكل رئيس على عدم السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 3.67%.

وعلى أي حال، فإن تجاهل “الحديث النووي” مع الإيرانيين خلال الأشهر الماضية التي أعقبت اندلاع الحرب بين موسكو وكييف، إلى جانب تصاعد الصراع مع بكين، أصبح بمثابة فرصة كبيرة أمام طهران لتطوير البرنامج النووي، حتى أضحت هذه التحولات النووية في طهران اليوم أمرًا واقعًا لا يستطيع الغربيون تجاهلها، وينوي الإيرانيون من جانبهم استئناف المفاوضات النووية لاحقًا، بناءً على أحدث خطوة تم اتخاذها في مضمارها.

ويتبين لنا من هذا أن مواصلة المحادثات النووية مع إيران تحت أية ظروف يُعد الخيار الأفضل، وأنه يجب الفصل بين الملف النووي الإيراني وطبيعة العلاقات الإيرانية مع الصين وروسيا، المنافسين البارزين للولايات المتحدة.

2- التقارب الإيراني العربي والحسابات الأخرى:

بعد حوالي شهر واحد من إعلان توصل إيران لتخصيب اليورانيوم بنسبة 84%، تم الإعلان في بكين يوم 10 مارس 2023 عن اتفاق تاريخي دبلوماسي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية برعاية صينية، يرمي لعودة العلاقات بين الرياض وطهران في غضون شهرين من ذلك التاريخ. وقد باشرت السفارة الإيرانية في الرياض بالفعل عملها مجددًا يوم 6 يونيو الماضي بعد انقطاع 7 أعوام، ومن المتوقع أن تستأنف نظيرتها السعودية في طهران نشاطها قريبًا.

وفي الوقت نفسه، عاد الدبلوماسي الإماراتي محمد عبيد الزعابي إلى طهران مؤخرًا ليستأنف نشاطه سفيرًا لدولة الإمارات العربية المتحدة، فيما تبادر طهران بالتزامن مع ذلك للتقارب مع دول عربية أخرى في الوقت الراهن، وهي مبادرات تؤكدها التصريحات الرسمية الإيرانية.

إن تقاربًا إيرانيًا سعوديًا وإماراتيًا على وجه الخصوص، وعربيًا بوجه عام، قد يعني أن طهران بات بمقدورها التفاهم بشكل ثنائي مع الدول العربية بشأن بعض الملفات التي كانت واشنطن بمختلف إداراتها السياسية تؤكد على ضرورة إدراجها في أي اتفاق نووي مع طهران، مثل اتفاق 2015 والمفاوضات الراهنة التي توقفت في أغسطس الماضي.

وتجيء أبرز هذه الملفات ممثلة في:

  • التحركات العسكرية والأمنية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وفي الخليج العربي بشكل خاص.
  • الدعم الإيراني لوكلاء مسلحين في الإقليم، في دول مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
  • بشكل جزئي، برنامجي الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانيين واللذان أكدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل وبعد الإعلان عن فوزه، على الأهمية البالغة لوضعهما على طاولة المفاوضات في العاصمة النمساوية فيينا.

هذا إلى جانب أن تقاربًا شرق أوسطي على هذا النحو بين إيران والدول العربية، يعني أنه بات بمقدور الإيرانيين سحب أو إلغاء بعض محاور المفاوضات مع الأمريكيين والأوروبيين، لتشتمل فقط على الملف النووي دون ملفات أخرى قد يمكن التطرق إليها جزئيًا، مثل الوكلاء المسلحون والأنشطة الإيرانية الإقليمية. وهي في الواقع نتيجة تشير إليها النقطة الأولى المذكورة آنفًا، والمتعلقة بتأثير تمدد الصراعات الغربية مع روسيا والصين على البرنامج النووي لطهران.

3- رفض الجبهة الداخلية في إيران لـ “اتفاق مؤقت” مع واشنطن:

تداولت العديد من التقارير المنشورة على وسائل إعلام دولية خلال الأسابيع الماضية أنباءً عن مفاوضات إيرانية أمريكية غير مباشرة في مسقط العمانية ودول أخرى؛ من أجل التوصل لـ “اتفاق مؤقت” مرحلي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية يتطرق فقط إلى قضية واحدة بعينها، وهي إيقاف التطور النووي المتسارع في إيران مقابل رفع جزئي للعقوبات عنها.

ويتجاهل هذا الاتفاق قضايا أخرى مثل الصواريخ والمسيرات الإيرانية، علاوة على الأنشطة الإقليمية لطهران، وهو ما يُعد انعكاسًا واضحًا ونتيجة مباشرة لتوقف المفاوضات النووية لأشهر في ظل تطور نووي إيراني محلي.

وعلى أي حال، أعلن أكثر من مسؤول إيراني خلال الأيام الماضية رفض فكرة “اتفاق مؤقت” أو مرحلي مع الولايات المتحدة بمفردها، مؤكدين على أن الهدف الإيراني يتمثل في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. فقد أعلنت ممثلية إيران في منظمة الأمم المتحدة يوم 10 يونيو الجاري عن رفض عقد اتفاق مرحلي مع واشنطن، مؤكدة على أنه “ليس هناك اتفاق مؤقت بدلًا عن الاتفاق النووي” وأن مثل هذا الاتفاق المؤقت “ليس على جدول الأعمال” الإيراني.

ونفى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، يوم 12 من الشهر نفسه إجراء محادثات مع واشنطن بشأن التوصل لاتفاق نووي “مؤقت” مقابل إلغاء بعض العقوبات على بلاده. وشدد كنعاني على أنه “لا صحة للتوصل إلى اتفاق نووي مؤقت أو ترتيبات جديدة لتحل محل الاتفاق النووي القديم، ولدينا وجهة نظر مبدئية وواضحة بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة وعملية التفاوض”.

يشير هذا الرفض الإيراني إلى رغبة طهران في التوصل إلى اتفاق “دولي” وليس “ثنائي” مع الولايات المتحدة فقط، ما يضمن لها، من وجهة نظرها، مزيدًا من الفعالية والتأثير والقوة لمثل هذا الاتفاق؛ حيث إن مثل هذا الاتفاق لن يُصبَغ بالصبغة الدولية إذا أُبرم مع دولة واحدة فقط. بالإضافة إلى أن طهران تخشى كثيرًا من احتمالية تكرار سيناريو مايو 2018 حينما أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عن خروج بلاده من الاتفاق النووي المبرم مع طهران في يوليو 2015. وتُضاف إلى أسباب الرفض الإيرانية، مسعى طهران لاكتساب برنامجها النووي بوضعه الحالي اعترافًا دوليًا، وهو ما لا يمكن له أن يتم إذا ما تم التوصل لاتفاق ثنائي.

4- إرجاء الإدارة الأمريكية الملف النووي الإيراني لما بعد انتخابات 2024:

تبدو إدارة الرئيس الأمريكي بايدن خلال الأشهر الأخيرة مترددة بشأن الإقدام على خطوة فيما يتعلق بإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران لعام 2015؛ وذلك تحسبًا لتأثير مثل هذه الخطوة على فرص فوز بايدن أو الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر 2024.

وتكمن مخاوف بايدن وإدارته في هذا الشأن من أن التوصل لاتفاق نووي مع إيران بشروط طهران الحالية، والتي تعني اعترافًا أمريكيًا رسميًا بالقدرات النووية القائمة حاليًا في إيران، وفي الوقت نفسه تجاهل التطرق لملفات حيوية لواشنطن مثل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والأنشطة العسكرية الإيرانية الإقليمية، قد يشكل تهديدًا أمام فرص الحزب الديمقراطي الأمريكي وعلى فرص جو بايدن أو نائبته كمالا هاريس في الفوز بانتخابات الرئاسة القادمة. فضلًا عن أن خيار مهاجمة منشآت نووية في إيران قد يلقى صدى غير إيجابي لدى الناخب الأمريكي.

لقد أكسب هذا التردد من قِبل بايدن إيران العديد من الفرص وأولها تحقيق المزيد من التقدم النووي، والمبادرة للدعوة إلى استئناف المفاوضات النووية، على الرغم من علمها بهذه المعادلات الأمريكية المحلية، وهو ما يعني مكسبًا دبلوماسيًا لإيران أمام الدول والمنظمات الأخرى.

وبالنظر إلى هذه الحقائق القائمة، ستشهد المباحثات النووية، حال استئنافها من جديد في فيينا، تحولات في أسس وقواعد التفاوض نفسه، ويُتوقع أن تكون على النحو التالي:

1- إجراء المفاوضات من دون المساس بأحدث ما توصلت إليه القدرات النووية في إيران:

منذ بدئها تخصيب اليورانيوم بنسبة 84%، وتعزيزها الأنشطة النووية في مواقع ومنشآت أخرى خلال الأشهر الأخيرة، تصر طهران على أن المفاوضات النووية المقبلة “يجب أن تنطلق من حيث انتهت أحدث الخطوات النووية” في البلاد، ما يعني بوضوح الاعتراف بالقدرات النووية الإيرانية القائمة.

وعلى الرغم من أن بعض السياسيين الإيرانيين قد أشاروا إلى هذا الأمر في أكثر من مناسبة، إلا أن تصريحات المرشد علي خامنئي بهذا الشأن يوم 11 يونيو 2023 كانت مفاجِئة لكثيرين. فقد شدد خامنئي في تصريحات له ذلك اليوم على أن “إيران لا تمانع توقيع اتفاق بشأن برنامجها النووي مع الغرب، بشرط عدم المساس بالبنية التحتية للأنشطة النووية”، وهو ما يُعد تحولًا كبيرًا في الواقع ويختلف عن اتفاق 2015 الذي كان يرمي بالأساس إلى تقييد القدرات النووية لطهران، خاصة في موقع “آراك” للماء الثقيل الواقع وسط البلاد.

وقد يزيد هذا الأمر من تعقيد المفاوضات لاحقًا، خاصة وأن الداخل الأمريكي وإسرائيل وكثيرًا من الساسة الأوروبيين سوف يختلفون بشكل كبير معه.

2- الإسراع في التوصل لاتفاق نووي مع إمكانية “استرضاء” إيران:

لم يكن خيار “الاتفاق المؤقت” سوى تدارك من إدارة بايدن لتسارع وتيرة التحولات النووية في إيران خلال الآونة الأخيرة. أما مع استمرار هذا التطور التكنولوجي النووي في إيران، فإن المفاوضين الأمريكيين والغربيين بوجه عام، قد يسارعوا في القريب العاجل للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران؛ لأنه في ظل هذه التحولات سيكون الاتفاق مكسبًا للغرب أكثر منه لإيران، التي تشير بعض التقارير الغربية والإسرائيلية أنها باتت “على العتبة النووية”.

ومن أجل تدارك الأمر، قد يرضى المفاوضون ببعض الشروط الإيرانية أو حتى أنهم قد يسعون إلى “استرضاء” طهران بشكل أو بآخر، من أجل منع توصلها لسلاح نووي بعد الإعلان عن تخصيبها لليورانيوم بنسبة 84%؛ ولإدراكهم أن إسرائيل لن تصمت أمام هذه التطورات وقد تشن ضربات استباقية ضدها، وهو تطور لا ترغبه واشنطن أو الدول الأوروبية على الأقل في الوقت الحاضر. ولكن هذا الأمر، ستواجهه من ناحية أخرى إشكالية الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي قد تؤجله لما بعد 2024، ما قد يضطر القوى الغربية لإبقاء الحديث مع إيران متواصلًا حتى ذلك الحين.

3- إحداث انفراجة تفاوضية “ديمقراطية” مع إيران بعد الانتخابات الأمريكية في 2024:

إذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية لا تسعى لإبرام اتفاق نووي مع إيران في الوقت الراهن، من أجل معادلات الداخل الأمريكي السياسية المُشار إليها سابقًا، فإنه من المرجح أن تُقْدِم إدارة بايدن المقبلة، إذا ما فاز في الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2024، على تسوية الملف النووي الإيراني عبر التوصل لاتفاق نووي جديد مع إيران، قد تقدم خلاله تنازلات لطهران من أجل ضمان عدم توصلها لسلاح نووي. وهو سيناريو يبدو غير ممكن في الوقت الحالي، كما سبق إيضاحه.

الاستنتاج

بناءً على ما سبق، يبدو أن المفاوضين الغربيين سيكونون مضطرين للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني على حالته الحالية وبالقدرات النووية القائمة، وليس على تلك الهيئة التي تركوه عليها في أغسطس الماضي، وهو ما سيمثل بدوره طرحًا مهمًا للغاية وصعبًا لدى المفاوضين الأجانب. وقد تُقدم جميع هذه الأطراف على إبرام الاتفاق النووي مع إيران في أسرع وقت خاصة بعد منح خامنئي منذ أيام الضوء الأخضر لذلك، إلا أن عدم الرضا الإسرائيلي من القدرات النووية الحالية لإيران، واحتمالية الحفاظ على هذا التقدم في الاتفاق النووي المحتمل، قد يدفع بالمحادثات إلى طريق آخر.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/77992/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M