تداعيات خطرة: مستقبل مكافحة الإرهاب بعد الانسحاب الفرنسي من مالي

نسرين الصباحي

 

انسحبت فرنسا وشركاؤها (قوة برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية) بشكل كامل من مالي بخروج آخر كتيبة من قواتها في الخامس عشر من أغسطس 2022، بعد ما يقرب من عقد من الزمان، في ظل تدهور العلاقات بين مالي وفرنسا. وفي اتجاه موازٍ بدأت قوات “فاجنر” الروسية في ترسيخ وجودها في البلاد، مع محاولات روسيا لإيجاد موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي، مما يُشكل تهديدًا لمصالح الغرب. ويفاقم هذا المشهد من قضايا الإرهاب والظواهر المرتبطة به في دول المنطقة. وفي هذا السياق، دخلت الأزمة الأمنية والإنسانية في منطقة الساحل عامها العاشر، حيث تحوّل الصراع الذي بدأ مع الجماعات الانفصالية والجماعات الإرهابية المتحالفة معها عام 2012 بشمال مالي إلى كارثة معقدة عابرة للحدود تجتاح منطقة غرب أفريقيا.

صدام الاتهامات… توتر العلاقات بين باماكو وباريس

أدت سلسلة من الاشتباكات الكلامية المتصاعدة بين باريس وباماكو إلى فقدان الثقة المتبادل؛ إذ تجاوز المجلس العسكري في مالي جميع الخطوط الحمراء التي رسمتها الحكومة الفرنسية بشأن التعاقد مع قوات فاجنر الروسية، في ظل تنامي المشاعر الشعبية المناهضة للوجود الفرنسي. في مايو 2022، أعلن المجلس العسكري في مالي تعليق اتفاقية التعاون الموقعة عام 2014 مع فرنسا، وكذلك اتفاقيات 2013 و2020 التي تحدد الإطار القانوني لوجود قوة برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية. وقامت الحكومة الانتقالية بطرد السفير الفرنسي، والصحفيين الفرنسيين، وحظر قنوات الإذاعة والتلفزيون الفرنسية (فرانس 24). ونتيجة لذلك تدهورت العلاقة بين البلدين بشكل حاد.

وعليه، قدمت مالي إلى مجلس الأمن الدولي في 16 أغسطس 2022 أدلة موثقة على الدعم المؤكد من باريس للجماعات الإرهابية في وسط وشمال مالي، وطلبت عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لوضع حد لهذه الأعمال العدوانية من قبل فرنسا ضد سيادتها؛ إذ اتهمت فرنسا بارتكاب العديد من الانتهاكات لمجالها الجوي والقيام بأعمال التجسس.

ووفقًا لوزير الخارجية المالي “عبد الله ديوب”، منذ بداية عام 2022، هناك أكثر من 50 حالة انتهاك للمجال الجوي المالي من قبل طائرات القوات الفرنسية، وعدم الامتثال لتعليمات خدمات مراقبة الحركة الجوية، وحالات التلاعب بوثائق الرحلات الجوية، وحالات هبوط الطائرات الاستخبارية والطائرات بدون طيار خارج نطاق المطارات دون إذن مسبق من الحكومة المالية.

وارتباطًا بالسابق، منذ إعلان انسحاب قوة برخان في 21 إبريل 2022، حلقت طائرة من طراز ميراج 2000 فوق قافلة تابعة للقوات المسلحة المالية في طريقها لتعزيز قاعدة جوسي العسكرية دون تنسيق مسبق، وكانت هذه المناورة جزءًا من مؤامرة لإرباك القوات المالية وزعزعة الاستقرار. وفي 15 يونيو 2022، تعرضت طائرة النقل التكتيكية كاسا 295 التابعة لسلاح الجو المالي لمضايقات من قبل طائرة مقاتلة تابعة لقوة برخان. وأكدت قوة برخان في 6 أغسطس 2022 في بيان رسمي أنها نفذت عمليات جوية ضد الجماعات الإرهابية. ومع ذلك، لم يتم تنسيق هذه العمليات أحادية الجانب مع القوات المسلحة المالية.

فيما أدانت فرنسا التلاعب المتزايد بالمعلومات بشأن انسحابها العسكري من مالي ودعم الجماعات الإرهابية، ودعت إلى تسليط الضوء على تدهور الوضع الأمني ​​والإنساني في مالي. وستحتفظ فرنسا بأكثر من 1000 جندي في النيجر كجبهة جديدة وبديلة لمالي، حيث ستواصل القيام بمجموعة من العمليات التكتيكية بالشراكة مع قوات النيجر التي تعد في خط المواجهة للقتال ضد الجماعات الإرهابية.

تحديات قادمة 

تشهد مالي حالة من عدم اليقين السياسي والفوضى، مما يُغذي مناخًا من انعدام الأمن وعدم الاستقرار، بتصدرها مسرح الهجمات الإرهابية المتكررة في دول المنطقة. ويُفاقم الانسحاب الفرنسي مجموعة من التحديات والعواقب، تأتي في مقدمتها السيولة الأمنية ومخاطر قوات فاجنر الروسية، وإعاقة تقدم مهام بعثات السلام الدولية، وتعزيز الحوار مع الجماعات الإرهابية، وعسكرة التنافس بين روسيا والغرب في المنطقة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

• خطر قوات “فاجنر”: يُثير انتشار هذه القوات مجموعة من المخاطر في ضوء سلسلة من التقارير بشأن تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان في مالي، من عمليات القتل العشوائي والعنف ضد المدنيين، كما حدث في مذبحة منطقة مورا؛ إذ استهدفت الهجمات مجتمعات الفولاني في المقام الأول، على غرار مجتمع الفولاني في جمهورية أفريقيا الوسطى، وهذا الاستهداف مدفوع بصلاتهم بالجماعات الإرهابية. وتحديدًا العلاقة بين الفولاني وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” الموالية لتنظيم القاعدة. بالإضافة إلى ذلك، هذه القوات ليست على مستوى القوات المنتشرة خلال عملية برخان الفرنسية، فهي تعمل بالأساس لخدمة مصالح روسيا في المنطقة، والوصول إلى الموارد المعدنية مثل الذهب والماس وغيرها.

• اضطراب مهام البعثات الدولية: تواجه بعثات الاتحاد الأوروبي التي تندرج ضمن سياسة الأمن والدفاع المشتركة؛ بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية في مالي (EUTM-Mali) وبعثة الاتحاد الأوروبي لبناء القدرات (EUCAP Sahel Mali)، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، تحديات تعيق مهام عملها بعد تجديد تفويضها في 29 يونيو 2022، بسبب موقف الحكومة الانتقالية المالية؛ مُنعت أعضاء بعثة مينوسما من دخول أجزاء معينة في البلاد، وعارضت طلب فرنسا دعمًا جويًا للبعثة، حتى لا تستخدمها فرنسا كذريعة لتنفيذ عمليات تخريبية. فضلاً عن، تداعيات ذلك على مشاريع الوظائف ذات العائد السريع التي تستهدف الشباب والفئات الضعيفة، لتجنب الانضمام للجماعات الإرهابية مقابل أجر. في بداية شهر أغسطس 2022، طالبت الحكومة المالية بسحب طائرات الهليكوبتر الإسبانية والألمانية التي تستخدمها البعثة. ونتيجة لذلك، اضطرت ألمانيا إلى تعليق مشاركتها مؤقتًا في 12 أغسطس 2022، ولكن تشعر بالقلق من تداعيات وجود قوات فاجنر على الاستقرار في مالي.

• تفاقم المعضلة الأمنية: تشعر حكومات الدول المجاورة بالقلق من أن الانسحاب الفرنسي من مالي قد يزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل، وهو ما يؤثر بدوره على الأمن الأوروبي من خلال موجات الهجرة الجماعية مع تصعيد الجماعات الإرهابية من هجماتها وخاصة التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش، وتنامي العلاقات بين هذه الجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية في المنطقة خلال الفترة الأخيرة، مما يُغذي النشاط الإجرامي من عمليات الخطف والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات.

ذلك بالإضافة إلى مخاطر تمدد نشاط الجماعات الإرهابية من منطقة “الحدود الثلاثة” بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى البلدان الساحلية بخليج غينيا في غرب أفريقيا، بعد توغلات متعددة بما في ذلك الهجمات في المناطق الشمالية من بنين وكوت ديفوار (ساحل العاج) وتوجو. وتعمل هذه الجماعات على تعزيز المشاعر المناهضة للحكومات والمظالم المحلية بين السكان لسهولة الاستقطاب والتجنيد. مما يُثير القلق بنشر واسع النطاق للأيديولوجية الجهادية بين السكان في المناطق الحدودية؛ إذ يتم تطوير أسر محلية تتكون من مجندين محليين وتتغذى على التوترات ونقاط الضعف بالأقاليم للوصول إلى الموارد الطبيعية، مع وجود شبكات إجرامية على استعداد للتحالف مع هذه الجماعات في أعمال التهريب والسرقة، مما يخلق ثغرات أمنية كبيرة في المنطقة.

• تعزيز الحوار مع الجماعات الإرهابية: قد يُشكّل الانسحاب الفرنسي حافزًا لبدء الحوار، فقد أعلنت حكومة مالي سابقًا، عبر وزير الشؤون الدينية في 19 أكتوبر 2021، أنها فوضت المجلس الإسلامي الأعلى لإجراء مفاوضات مع هذه الجماعات بقيادة إياد أغ غالي وأمادو كوفا، لوضع حد للإرهاب. في حين جعل بعض قادة الجماعات الإرهابية مثل “أمادو كوفا” مغادرة فرنسا والقوات الأجنبية للأراضي المالية شرطًا لبدء محادثات السلام، لكون الوجود الفرنسي لم يمنع خطر الإرهاب، بل كان عاملًا محفزًا لتصاعد عنف الجماعات الإرهابية.

• عسكرة التنافس الدولي في منطقة الساحل: تتحرك كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بقوة تجاه منطقة الساحل، حيث تستثمر الصين بدرجة كبيرة في مجالات البنية التحية وتعميق شراكاتها الاقتصادية من خلال مبادرة الحزام والطريق، وتنامي الحضور العسكري لروسيا في مالي عبر قوات فاجنر وتكثيف شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية من الطائرات القتالية وأنظمة الرادار المتقدمة، بهدف تقويض السيطرة الأوروبية على المجال الجوي في مالي، وتهديد حلف الناتو من الجنوب، مع إعادة التخطيط الاستراتيجي لفرنسا لمواجهة الجماعات الإرهابية في نطاق بحيرة تشاد وخليج غينيا، وهما نقطتان جديدتان خارج منطقة الحدود الثلاثة بين مالي والنيجر وبوركينافاسو.

وختامًا، تركت فرنسا حكومات منطقة الساحل الأفريقي تعاني من تحديات مركبة وتصاعد حدة الهجمات الإرهابية، وحالة اضطراب عام من الفوضى، مما يفاقم من موجات الهجرة. وهناك ضرورة تعزيز نهج -الترابط الثلاثي- من تنسيق التدخلات الإنسانية والإنمائية وبناء السلام، في ظل اقتصار المقاربة الفرنسية على البعد الأمني والعسكري فقط. ولابد أن تكون المقاربات شاملة لمكافحة الإرهاب، وإعطاء الأولوية لبناء الثقة مع المجتمعات المحلية وتطوير قدرات دفاعية أكثر قوة للحفاظ على الوجود الأمني ​​في المناطق المضطربة. وفي حين يتقلص النفوذ الفرنسي في مالي، يتصاعد النفوذ الروسي والتركي، ومدي خطورة ذلك على تدفقات الهجرة التي تُستخدم كأداة للضغط السياسي على الغرب. ويُمثل إشكالية لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M