تركيا واللعب في حديقة إيران القوقازية

 حسن فحص

لم يمر على الذكرى السنوية لحرب قره باغ بين ارمينيا واذربيجان سوى ايام، حتى عاد التوتر الى هذه المنطقة، وهذه المرة بين آذربيجان ومعها تركيا من جهة وايران من جهة اخرى، وهو توتر بدأت غيومه بالتجمع في سماء هذه المنطقة مع تصاعد المخاوف الايرانية من التحديات الاستراتيجية الناتجة عن التغييرات التي افرزتها نتائج المعركة والتقدم الجغرافي الذي حققته باكو على حساب ايران وما يحمله من مخاطر في تعديل الموازين والمعادلات الجيوسياسية والجيواقتصادية لصالح الطموحات التاريخية للعامل التركي على حساب الدور والموقع الايراني ونفوذها في جغرافيا القوقاز الجنوبي وطرق المواصلات باتجاه البحر الاسود واوروبا عبر أذربيجان وارمينيا.

يمكن القول ان حرب ايلول سبتمبر 2020 بين باكو وايروان حركت او كشفت عمق الخلافات الجيوسراتيجية والجيوسياسية بين ايران وتركيا بوصفهما قطبين مؤثرين او طامحين للعب دور مفصلي في منطقة القوقاز وامتدادا باتجاه آسيا الوسطى وما تشكل من فرصة لتكريس كل منهما كلاعب مؤثر وفاعل في المعادلات الاستراتيجية الدولية انطلاقا من هذه المنطقة.

ففي الوقت الذي كانت انقره تتحفز لاستثمار ما يمكن ان تحدثه او تفرزه معركة قره باغ من حقائق جديدة، كانت طهران تسعى لاستيعاب تداعيات هذه المعركة، ولملمة الاثار السلبية الناتجة عنها، سواء على الصعيد الداخلي وما اثارته من مشاعر قومية عند المكون الاذري الايراني ومطالبته بموقف واضح وصريح من النظام الى جانب باكو، لمنع تصاعد الاحتقان القومي لدى هذه القومية او المكون وامكانية استغلاله من الحركات الانفصالية او المطالبة بالوحدة بين طرفي اذربيجان الكبرى، او على صعيد علاقاتها مع عمقها القوقازي، وتحديد علاقاتها مع ارمينيا لتخفيف الاثار السلبية لهذه الحرب.

نتائج الحرب بين باكو وإيران، لم تقف تداعياتها عند هزيمة ارمينيا واستعادة اذربيجان لأجزاء من المناطق المتنازع عليها في محيط قره باغ، انما ساهم في اعادة انتاج الدور التركي بشكل أكثر فاعلية على الحدود الشمالية الغربية لإيران، وما يحمله من تهديد للمصالح الاستراتيجية لطهران في منطقة القوقاز الجنوبي. الا ان الاخطر من صعود الدور التركي، يأتي اعادة تمركز النفوذ الاسرائيلي على الخاصرة الشمالية لإيران، وظهور تأثير هذا النفوذ على العلاقة مع الدولة الاذربيجانية. وذلك بعد جهود كبيرة بذلتها طهران للتعايش مع هذا الوجود والنفوذ خلال العقود الثالثة الماضية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتولي حيدر علييف مقاليد السلطة في هذا البلد. وسعت الى محاصرته وعدم السماح له بالتأثير على علاقتها ما باكو او التحول الى مصدر تهديد لاستقرارها او مصالحها في هذا الاقليم، مستفيدة ايضا من حاجة تل ابيب ايضا لنوع من الاستقرار في هذه المنطقة والتوازن في علاقتها مع إيران بالتزامن مع باكو.

التصعيد الايراني ضد باكو والرئيس الاذربيجاني الهام علييف ومحاولة تثبيت الخطوط الحمراء الايرانية في هذه المنطقة لا يمكن حصر دوافعه في الاجراءات التي قامت بها باكو بتوقيف الشاحنات الايرانية وفرض رسوم جمركية عليها وهي تعبر المناطق المشتركة التي أنشئت بعد حرب قره باغ داخل الاراضي الارمنية، وهي اجراءات لا تستدعي حشد الوية مدرعة وسلاح ثقيل وصاروخي ووحدات خاصة من الجيش وحرس الثورة واجراء مناورات عسكرية في النقطة صفر من الحدود المشتركة مع أرمينيا وامتدادا مع منطقة نخجوان الاذربيجانية.

بل تتجاوزها الى مخاوف مصدرها المتغيرات الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي تقف خلف الاجراءات التي قامت بها باكو، والجهات التي تدعمها. من هنا جاء التصويب الايراني مباشراً باتجاه انقرة وتل ابيب، وعبر عنه المتحدث باسم الخارجية نيابة عن المجلس الاعلى للأمن القومي سعيد خطيب زاده الذي اكد ان ايران لا يمكن ان تسمح من ناحية بأي نفوذ اسرائيلي على حدودها الشمالية الغربية، ومن ناحية اخرى، لا يمكن ان تسكت على المساعي التركية للسيطرة وفتح معبر بري يربط بين نخجوان واذربيجان داخل الاراضي الارمنية وبالتالي تغيير الحدود الجغرافية بينها وبين ارمينيا، ما يسمح لانقرة بإحداث معبر بري مباشر مع اذربيجان عبر نخجوان من دون المرور بالاراضي الايرانية. وهذا التغيير في الحدود الجغرافية يقطع خطي الاتصال البري بين ايران وجورجيا والبحر الاسود واوروبا عبر أذربيجان وارمينيا. وقد يؤدي تصاعد التوتر الى قطع خط الاتصال الثالث الذي يمر عبر الاراضي التركية.

لا تنظر طهران بارتياح الى التحشيد العسكري الذي قامت به تركيا في نخجوان واذربيجان، وكذلك الى المناورة العسكرية المشتركة التي أجرتها مع اذربيجان وباكستان قبل ايام، لان الرسائل التي حملتها ابعد من تأمين الدعم والحماية لمصالح باكو في تأمين خط ارتباط مباشر بينها وبين تركيا مرورا بنخجوان. بل تفتح الافق على الاهداف الاستراتيجية الأبعد لتركيا التي لا تقف عند حدود منطقة القوقاز، بل تتعداها الى مناطق ودول اسيا الوسطى التي تشكل عمقاً قومياً تركياً تنظر له أنقرة كرافعة لمستقبل دورها ونفوذها في اكثر مناطق العالم حساسية وتأثيراً في رسم مستقبل العلاقات والتوازنات الدولية.

بالاضافة الى ذلك، فان التقارب مع باكستان يلتقي مع الطموحات التركية في الدخول الى الساحة الافغانية ما بعد الانسحاب الامريكي، مستفيدة من الدور والنفوذ الذي تتمتع به إسلام أباد على قيادة حركة طالبان وما يمكن ان تساهم به من فتح الطريق امام لعب دور على هذه الساحة.

هذه الطموحات التركية، وما يتبعها من وجود اسرائيلي مباشر على خاصرة إيران القوقازية، يضع طهران في دائرة الحصار اذا ما اضيف للطموحات التركية امكانية توظيف تحالفها شبه الاستراتيجي مع قطر ومسار التقارب والانفتاح الذي بدأته باتجاه المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، بالإضافة الى ما تحاول انقرة القيام به على الساحة العراقية ومناطق اقليم شمال العراق الكردي، وصولا الى مساعيها لتكريس دورها وحصتها على الساحة السورية مع تصاعد الحديث عن وضع محافظة ادلب على نار حامية والضغوط الروسية لإقناعها بالانسحاب من هذه المنطقة مقابل ضمانات تتعلق بمستقبل الوضع الكردي السوري، وكل ذلك على حساب الدور الايراني.

يبدو ان طهران تواجه وضعاً معقداً على حدودها الشمالية الغربية، مصدره الطموحات التركية لتثبيت موقعها على خريطة النفوذ في هذه المنطقة، ومساعي تل ابيب للاقتراب من الحدود والدوائر الاستراتيجية لإيران ووضعها في حالة دفاعية لإجبارها على تقديم تنازلات في مناطق نفوذها في المحيط الجغرافي لإسرائيل في لبنان وسوريا والعراق.

وفي هذا الاطار فان طهران وبعد الاعتداء الذي تعرضت له سفارتها في العاصمة الأذربيجانية، تعتقد بوجود محاولات اسرائيلية لجرها الى مواجهة عسكرية، لذلك قد تلجأ الى ممارسة مستوى عالٍ من ضبط الاعصاب ومحاولة التوصل الى حلول دبلوماسية وسياسية لكي لا تنزلق الامور والاوضاع الى الخيار العسكري.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/iraqipress/28659

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M