تفعيل الدور: قراءة في زيارة رئيس الاستخبارات التركي للعراق

 نرمين سعيد

 

تلعب دول الجوار العراقي دورًا على قدر من الأهمية في اتجاهات المسائل السياسية داخل البلاد، ومن هذا المنطلق يُنظر إلى تركيا باعتبارها فاعل مهم في سير العملية السياسية العراقية، ويتراوح دورها بين الصراع مع إيران في بعض الأوقات، والتنسيق معها في أوقات أخرى، على خلفية تشابك المصالح السياسية والاقتصادية، وتعقيدات الأوضاع الأمنية التي تلقي بتأثيراتها على البلدين.

وتشتبك مع تركيا وإيران مباشرة الولايات المتحدة، حيث أثر الغزو الأمريكي للعراق في 2003 على المقاربة التركية في تحليل الأزمة العراقية، والتي رأت أن مصالح أنقرة تقتضي الحفاظ على وحدة العراق، لأن تقسيمها على اعتبارات طائفية قد يشجع قيام دولة كردية مستقلة، ومن ناحية أخرى تستهدف المقاربة التركية تصفية حزب العمال الكردستاني لما يشكله من حركة متمردة تؤرق الأوضاع الأمنية في تركيا، بعد لجوئها إلى شمال العراق في عام 1999.

وعلى العكس من دور إيران الـ “مستتر” في التأزم السياسي الحالي في العراق، فإن لتركيا دور واضح نظرًا لتمتعها بمرونة التحرك التي تفتقدها إيران لاعتبارات عديدة، من ضمنها عدم رغبة طهران في الظهور في دور مُشعل الأمور في العراق، وإن كان الدور التركي يتسم بمحدودية التأثير إذا ما قورن بالدور الإيراني.

وقد انعكس التحرك التركي الحالي في الزيارة غير المعلنة لرئيس الاستخبارات التركية “هاكان فيدان” إلى العاصمة بغداد وحسب وكالة شفق نيوز، فقد أجرى “فيدان” لقاءات مع رئيس الوزراء العراقي ورئيس هيئة الحشد الشعبي وزعيم تحالف السيادة، حيث وصف اللقاء بأنه يرسم الخريطة السياسية التي سيتحرك على أساسها تحالف السيادة مستقبلًا، نظرًا للعلاقات القوية التي تربط خميس الخنجر بتركيا باعتباره ممثلًا للسنة في العراق.

وترجع العلاقات القوية بين الخنجر وتركيا إلى عام 2014، حينما مول الخنجر تدريب تركيا لحوالي 3 آلاف مسلح لمواجهة تنظيم داعش. وفي إطار الزيارة فإنه يمكن وصفها بأنها خرقت الأعراف الدبلوماسية لأنه ليس من المعتاد أن يلتقي رؤساء التيارات السياسية بأجهزة استخبارات في دول أخرى، خصوصًا في وقت تمر فيه البلاد باحتقان سياسي بلغ مداه، ويضاف إلى ذلك كون العلاقات التركية الوطيدة بالخنجر تمثل تحديًا للقرار الأمريكي بفرض عقوبات على رئيس تحالف السيادة في 2019.

وباعتبار تركيا من أهم دول الجوار العراقي فينبغي لنا فهم محركات علاقتها ببغداد على النحو التالي:

أولًا) محركات العلاقات التركية – العراقية:

تشكل الزاوية الأمنية محركًا أساسيًا في نظرة أنقرة لعلاقاتها مع بغداد وذلك لعدد من الأسباب، أهمها وجود حزب العمال الكردستاني الذي يؤرق الأوضاع الأمنية في تركيا داخل الشمال العراقي، ومن ناحية أخرى تهتم تركيا بدرجة لم تعد خافية بأمن الطاقة لديها، وهو ما يفسر تحركاتها الحثيثة في شرق المتوسط لحصد مصادر الغاز الطبيعي ويفسر أيضًا موقفها المتقارب من كردستان العراق وكذلك من  كركوك الغنية بمصادر الطاقة، في نفس الوقت  الذي تمتلك فيه موقفًا رافضًا لانفصال كردستان، باعتبار ذلك يمثل قاعدة يمكن البناء عليها مستقبلًا أو بمعنى آخر عدوى يمكن أن تنتقل لتركيا، ومن ناحية أخرى تنظر تركيا إلى مسألة المياه باعتبارها جوهرية في علاقاتها مع العراق.

أما الزاوية السياسية فلا تتراجع في أهميتها عن الزاوية الأمنية، ولذلك رأت تركيا في سياسات نوري المالكي تهميشَا للعرب السنة وطائفية منحدرة من طهران، وكانت تفضل إياد علاوي كرئيس للوزراء باعتباره سيلعب دورًا مهمًا في التكوين العراقي غير الطائفي وغير الخاضع للنفوذ الإيراني. وعلاوة على ذلك فقد أدت الانتفاضات العربية التي نجم عنها أوضاع فوضوية في الشرق الأوسط في 2011، إلى انتعاش مشروع الهلال الشيعي مما دفع بالسنة بعيدًا عن الحكم في العراق. وقد أدت سياسات نوري المالكي وعلى غير المأمول منها إلى التقارب بين تركيا وسنة العراق من ناحية، وبين تركيا وكردستان من ناحية أخرى، مما أدى بشكل كبير إلى موازنة النفوذ التركي مع نظيره الإيراني في بغداد.

وإلحاقًا بالزاوية السياسية، فإن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش” في 2014، أدى إلى تراجع نفوذ أنقرة السياسي داخل العراق، لأن الحكومة في بغداد قررت الاعتماد على إيران والولايات المتحدة ممثلة لقوات التحالف في قمع داعش، ومع تراجع أنقرة سياسيًا ظهرت المزيد من التحديات الأمنية لها، فأضيف إلى حزب العمال الكردستاني سطوة ميليشيا الحشد الشعبي التابعة لإيران، التي كان لها دور فعال في دحر داعش إضافة بالطبع للتهديد الأمني الناجم عن ظهور داعش.

ومن الناحية العسكرية، يشكل وجود قوات تركية في قاعدة بعشيقة عامل توتر آخر بين أنقرة وبغداد، حيث تستهدف تركيا من خلال قوتها الصلبة هناك إلى تعزيز وجودها العسكري في الشمال العراقي، ويؤكد ذلك على أقل تقدير أن تركيا غير قادرة على حماية مصالحها في العراق من خلال اللعب على الوتر الدبلوماسي فقط. خصوصًا بعد تقدم الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران خلال الحقبة التي شهدت الحرب على داعش باتجاه مناطق النفوذ التركي في الشمال، وما نجم عن ذلك من تنامي التهديد العسكري لتركيا ودفع بها إلى الإبقاء على قواتها التي شاركت في التحالف الدولي ضد داعش في مواضعها وهو ما أصبح نقطة توتر أساسية بين تركيا والعراق من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى. خصوصًا أن قاعدة بعشيقة هي إحدى انعكاسات الوجود العسكري التركي في العراق، ويضاف إليها وجود حوالي 18 قاعدة أخرى بإجمالي 19 قاعدة منها أربع قواعد استخباراتية والبقية قواعد عسكرية، وهو ما يخلق حالة من السعي التركي لتقنين هذا الوجود الصلب من خلال اتفاقيات ثنائية.

أما على صعيد التعاون الاقتصادي، فإن الأمر متشابك أيضًا مع مصالح الولايات المتحدة وتحركاتها، حيث أدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران إلى خلق فرصة للتقارب بين العراق وتركيا خصوصًا أن الدولة التركية ملتزمة بتطبيق العقوبات الاقتصادية على شركات الطاقة الإيرانية، وتشكل كردستان العراق بديلًا أساسيًا لطهران في هذا المجال.

ومن الناحية القومية، تسعى أنقرة أن تكون الصوت الناطق باسم التركمان في العراق، خصوصًا أن هذه الجماعة تعرضت لنوع من الظلم في التمثيل السياسي عقب الغزو الأمريكي، وهو ما أدى إلى أن الأحزاب السياسية التركمانية اتخذت من أنقرة عاصمة تدعم توجهاتها السياسية في العراق، والجدير بالذكر أن هذه الأحزاب السياسية استطاعت عن طريق طرق أبواب تركيا، حصد مقاعد في البرلمان العراقي كما أنها تحقق تقدمًا في كل انتخابات داخل الموصل وكركوك.

ثانيًا) قراءة في زيارة رئيس الاستخبارات التركية لبغداد: 

هدفت الزيارة التركية بشكل أساسي إلى توحيد موقف السنة من الأزمة السياسية في العراق، نظرًا لكون هذا المكون مختلف في الأساس فيما بينه نتيجة لنجاح طهران في استقطاب بعض عناصره، ولكن على الرغم من ذلك لا ينبغي فهم زيارة “فيدان” باعتبارها مناوئة للمقاربة الإيرانية في العراق، لأنها تأتي بالأساس ضمن التنسيق داخل ما يعرف بغرفة العمليات المشتركة بين تركيا وإيران والعراق والتي تم تشكيلها في 2017. وحسب المعلومات المتوفرة عن زيارة “فيدان” لبغداد، فقد جاءت في أعقاب لقاء جمع بين المخابرات التركية والحرس الثوري الإيراني، مما يشير إلى أن التحرك التركي الآني يأتي في إطار التنسيق مع طهران.

كما يمكن فهم اللقاء التركي مع رئيس تحالف السيادة في إطار مساعي أنقرة للتأثير إلى حد الانفراد بالقرار السني العراق، ولكن في غير ابتعاد عن الطموحات الإيرانية هناك، لأنه من مصلحة الأتراك في الوقت الحالي تأكيد معنى على الائتلاف السني، مفاده أن أي حل سياسي ينبغي أن يراعي اتجاهات الإطار التنسيقي وبالطبع فإن هذا المسار يأتي أيضًا بالتنسيق مع أربيل، بما يضمن أن تأثيرات أنقرة السياسية تشمل الائتلاف السني وكذلك الأكراد. وهو ما أكد عليه مسعود بارزاني حينما أشار إلى التمسك بالأساليب الدستورية، وهو ما لا يلقى تحفظًا من التنسيقي وإن كان يتعارض مع التيار الصدري في معضلة سياسية يصعب حلها، حتى إن تم إعادة تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة المقبلة.

ولا شك أن رغبة تركيا في التنسيق بين السنة والطرف الكردي من جهة، والإطار التنسيقي من جهة أخرى، يرجع إلى المقاربة التركية التي ترى أن وجود حكومة دستورية في العراق في القريب العاجل يعد ضامنًا أساسيًا لمصالحها الأمنية، خصوصًا بعد أن قامت ميليشيات عراقية مدعومة من إيران باستهداف القوات التركية داخل الأراضي العراقية بعد استهداف أنقرة لدهوك، وهو ما تفهمه أنقرة في إطار ضعف الأجهزة الأمنية في العراق في ظل عدم وجود حكومة دستورية، فضلًا عن أن التعجيل بتشكيل حكومة دستورية يضمن مصالح تركيا الاقتصادية.

استنتاج: 

تضمنت زيارة رئيس الاستخبارات التركية إلى بغداد، إشارة قوية إلى أن تركيا حاضرة في العراق، وأن تحركاتها تمتد إلى ما هو أبعد من دعم العرب السنة ليشمل حدود التأثير على الأكراد. وهو ما يحمل معانٍ عدة من ضمنها أن تركيا لم تعد مهتمة على الصعيد السياسي بالتأثير في المكون التركماني فقط، لأنه ليس ضامنًا لاستقرار الأمور السياسية في بغداد.

وقد امتد الدور التركي إلى حد إقناع محمد الحلبوسي وخميس الخنجر في أنقرة بتجنيب خلافاتهم والانضمام تحت لواء واحد، وهو ما انعكس بعد ذلك في تشكيل تحالف السيادة الذي جمع الطرفين اللذين تحالفا بدورهما مع التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني، قبل أن يقضي التنسيقي على طموحاتهم في تشكيل حكومة أغلبية، مربكًا الفاعل التركي الذي عاد مسرعًا على بغداد لضمان مصالحه.

وبطبيعة الحال، فإنه بعد انسحاب التيار الصدري من المشهد فإنه ليس أمام أنقرة سوى محاولة التقريب بين تحالف السيادة والأكراد من جهة، والإطار التنسيقي من جهة أخرى، وذلك دون استفزاز التيار الصدري مع المحافظة قدر الإمكان على التحالف بين الحلبوسي والخنجر، كممثلين للمكون السني في العراق.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72943/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M