روسيا وإفريقيا: أصدقاء قدامى وأسواق جديدة

نشرت مجلة أوراق “Blätter”(1) الألمانية، في عددها الصادر في سبتمبر 2023م، تقريرًا مطولًا، بقلم سيمون شليندفاين -وهي مؤرّخة وباحثة سياسية مقيمة في أوغندا، ومراسلة الشؤون الإفريقية لصحيفة “تاجز تسايتونج” الألمانية- بعنوان: “روسيا وإفريقيا: أصدقاء قدامى وأسواق جديدة”؛ تَستعرض فيه الكاتبة القلق الذي يُشكِّله الحراك الروسي في دول القارة الإفريقية، خاصةً عقب انعقاد القمة “الإفريقية-الروسية” في سان بطرسبورج وبوادر توسُّع انتشار روسي ملحوظ في القارة السمراء.

رحَّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظرائه الأفارقة في مدينة سان بطرسبرج، مسقط رأسه، في نهاية شهر يوليو الماضي ترحيبًا حارًّا؛ حيث دعاهم إلى القمة الروسية الإفريقية الثانية التي استغرقت يومين، وأعقب ذلك بقدر كبير من عبارات التودد؛ حيث وردت عبارة ساحرة ضمن الفيلم القصير الذي جرى عرضه أثناء افتتاح فعاليات القمة، ألا وهي: “روسيا وإفريقيا لاعبان رئيسيان في النظام العالمي الجديد”. أعقبها لقطات أرشيفية تضمَّنت لقاءات تضمّ القادة الأفارقة والسوفييت، وكيف تربطهما علاقات تضامن تاريخية بعيدة.. لقد كانت تلك هي الرسالة.

وقبيل انعقاد القمة، كتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالفعل، مقالًا تمَّ نشره في العديد من وسائل الإعلام الإفريقية، والذي شدَّد فيه على متانة “العلاقات التاريخية” التي تربط روسيا بالقارة، مقدمًا وعودًا بمستقبل أفضل على صعيد الشراكات الثنائية، مشيرًا إلى أن حجم التجارة الروسية مع الدول الإفريقية بلغ ما يقرب من 18 مليار دولار في عام 2022م. علاوةً على ذلك، قدَّم عرضًا سخيًا للأفارقة، قائلًا: “الشركات الروسية مهتمَّة بتكثيف أنشطتها في القارة على عدة أصعدة، من بينها مجال التقنيات العالية والاستكشاف الجيولوجي في مجمع الوقود والطاقة، بما في ذلك قطاع الطاقة النووية في الصناعات الكيميائية والتعدين والنقل والزراعة وصيد الأسماك”.

وفي كلمته الافتتاحية؛ شكر بوتين رؤساء الدول والحكومات الإفريقية السبعة عشر الذين حضروا القمة بنفس عبارات الإطراء والحفاوة، قائلًا: “شكرًا لكم.. لقد أثبتم استقلالكم”، وذلك على خلفية توجيه روسيا، في الفترة التي سبقت القمة، اتهامات صريحة للغرب بممارسة الضغوط على الأفارقة للإحجام عن المشاركة في قمة سان بطرسبرج. ويبدو أن الغرب قد نجح في ذلك بالفعل؛ حيث حضر المنتدى الروسي الإفريقي الأول، في عام 2019م، أكثر من 40 رئيس دولة، بينما حضر أقل من نصفهم في هذا العام.

لقد سلَّط هذا الحضور المقتضَب مزيدًا من الضوء على هوية أصدقاء روسيا الحاليين في القارة من خلال ترتيبات الجلوس؛ حيث جلس الرؤساء والقادة العسكريون في الجزائر ومصر وبوركينا فاسو وإريتريا وأوغندا في الصف الأمامي، وكلها دُوَل تجمعها علاقات وطيدة بموسكو. وخلال الصورة الجماعية، وقف رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، بجوار بوتين مباشرة، مرتديًا زيًا عسكريًّا مُموّهًا وقبعة حمراء على رأسه. ويُذكَر أن الجنرال البالغ من العمر 35 عامًا استولى على السلطة عقب انقلاب، وقع في العام الماضي، وسط تكهنات بأنه بمساعدة روسيا.

وعلى هامش الجلسات العديدة، خصَّص بوتين وقتًا طويلًا مع كل من رؤساء الدول الحاضرين لإجراء مناقشات ثنائية وتوقيع اتفاقيات الشراكة. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك انتقادات؛ حيث أكد الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني، البالغ من العمر 76 عامًا، والمقرب من الرئيس بوتين، في محادثته المباشرة مع بوتين، قائلًا: “لا يمكنك الفوز في حرب غير مبرَّرة، وقد أثبت التاريخ ذلك”.

وفي البيان الختامي، أكَّد كلّ من بوتين والرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي ورئيس جزر القمر، غزالي عثماني، على أن الحاضرين ملتزمون بـ”العمل المشترك على تشكيل نظام عالمي عادل وديمقراطي متعدد الأقطاب، يحترم مبادئ القانون الدولي المُعترف بها وميثاق الأمم المتحدة”.

وفي النهاية، أعلن بوتين، بكل فخر، أن إفريقيا وروسيا سوف تتعاونان، بكثافة، في المستقبل في مجالات الأمن، ومكافحة الإرهاب والتطرف، وسلامة الغذاء، وتكنولوجيا المعلومات، وتكنولوجيا الفضاء، وتغيُّر المناخ، فيما تُظهِر هذه الحملة الرامية إلى دعم أواصر العلاقات مع إفريقيا أن الكرملين بحاجة إلى إفريقيا الأن، أكثر من أي وقت مضى، من أجل التحايل على العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب جراء حرب أوكرانيا، فضلًا عن رغبة روسيا في فتح أسواق جديدة لها. ومن ناحية أخرى، يُغازل العالم بأكمله القارة الآن. وبالنسبة للأفارقة، تُعدّ روسيا مجرد شريك تجاري واحد من بين العديد من الشركاء المتاحين؛ حيث يمكنهم أيضًا اختيار مَن يريدون التعامل معه. ولكن عندما يتعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا، ينقسم الأفارقة في مواقفهم تجاه روسيا؛ إذ يتردد البعض في إظهار تضامن وثيق مع الكرملين.

ظلال الحرب الأوكرانية:

ربما  كانت الأمور مختلفة وقت انعقاد القمة الروسية الإفريقية الأولى في عام 2019م؛ حيث دعا بوتين الأفارقة إلى مدينة “سوتشي” على ساحل البحر الأسود، وكان الحماس جارفًا: فمن بين 54 دولة في القارة، حضر رؤساء أكثر من 40 دولة، بمرافقة وفود كبيرة. لقد قدمت روسيا نفسها للأفارقة كبديل للغرب. وأشار بوتين في خطابه الافتتاحي عام 2019م إلى أنه يريد طرح صفقات تجارية “دون شروط سياسية أو غيرها”، قائلًا: إن “عددًا من الدول الغربية ستلجأ لممارسة الضغط والترهيب على الحكومات الإفريقية ذات السيادة”، بينما كانت روسيا “شريكًا مناسبًا” للمساعدة في دَحْض هذا السيناريو. ومنذ ذلك الحين، لم يَعُد تعاون روسيا والدول الإفريقية قاصرًا فقط على التعاون العسكري.

وفي فترة انعقاد القمة في سوتشي، وقَّعت موسكو اتفاقيات شراكة موسعة مع العديد من الحكومات الإفريقية. ربما كانت هذه الاتفاقيات سببًا يُفسِّر عدم رغبة العديد من الحكومات الإفريقية في الانفصال جذريًّا عن موسكو عقب الغزو الروسي لأوكرانيا. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الشراكة مع روسيا، إطارًا جديدًا واضحًا بصورة عملية، في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي؛ حيث أبقت وحدات فاجنر الروسية على الرؤساء الذين انفصلوا عن الغرب، لعدة سنوات في السلطة.

وعلى الرغم من ذلك،  تُخيّم ظلال الحرب الأوكرانية على العلاقات الروسية الإفريقية؛ لما لهذه الحرب من تداعيات سلبية على إفريقيا في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. وما يزال الكثيرون في إفريقيا يتذكرون كيف قصف بوتين مدينة كييف، في يونيو الماضي؛ حيث دوّت صافرات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا بعد وقت قصير من وصول ثلاثة زعماء أفارقة، جاءوا العاصمة الأوكرانية في مهمة سلام، بينما أطلقت موسكو 12 صاروخًا على “كييف” كبداية، ما اضطر الضيوف إلى الاحتماء في مخابئ من القنابل في العاصمة.

وقد ألحقت هذه الواقعة ضررًا بالغًا بالعلاقات بين إفريقيا وروسيا؛ الأمر الذي انعكس، بوضوح، في مسألة ما إذا كان بوتين قادرًا على حضور قمة مجموعة البريكس في جنوب إفريقيا في أغسطس أم لا. وبموجب إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة اعتقال بحق الرئيس بوتين؛ لاتهامه بارتكاب جرائم حرب، كان من المفترض نظريًّا أن تقوم جنوب إفريقيا باعتقال بوتين حال دخوله أراضيها، بصفتها عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية؛ حيث أكدت إحدى المحاكم في جنوب إفريقيا هذا الالتزام صراحةً. ولتجنّب هذه المعضلة، اتفق زعيم جنوب إفريقيا، سيريل رامافوسا -الذي قاد بعثة السلام الإفريقية إلى كييف وموسكو- مع الكرملين على أن يحضر الرئيس بوتين اجتماعات القمة “افتراضيًّا” عبر  تقنية “فيديو كونفرنس”.

الحبوب.. للأصدقاء فقط:

يُنظر إلى إنهاء روسيا اتفاقية الحبوب، قبل وقت قصير، من انعقاد القمة التي استضافتها سان بطرسبرج في إفريقيا باعتباره ردّ فِعل الكرملين على هذا الرفض. ويسمح الاتفاق، الذي أُبرِم في يوليو 2022م، وينتهي رسميًّا بعد عام، بتصدير الحبوب الأوكرانية، بأمان، عبر موانئ البحر الأسود. ووفقًا لوزارة الخارجية الأوكرانية، تم تصدير 33 مليون طن من الحبوب إلى 45 دولة خلال الأشهر الاثني عشر المنصوص عليها؛ 12 بالمائة منها كان مُوجَّهًا إلى إفريقيا. كما تم شراء 725 ألف طن مِن قِبَل برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، والتي جرى استخدامها من أجل تزويد مخيمات اللاجئين في شرق ووسط إفريقيا، إلا أن موسكو قصفت، بعد ذلك، صوامع الحبوب في ميناء أوديسا، وفرضت حصارًا بحريًّا، وجعلت الصادرات مستحيلة في الوقت الحالي؛ الأمر الذي أثار ضجَّة كبيرة في إفريقيا.

كذلك لا يمكن إنكار حقيقة أن احتياجات برنامج الأغذية العالمي للاجئين في إفريقيا هائلة؛ فوفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، اعتمد 5,4 مليون شخص في كينيا على المساعدات الغذائية، خلال الأشهر الأخيرة، بما في ذلك اللاجئون الصوماليون في المخيمات على طول الحدود في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وهناك أكثر من 24 مليون شخص، معظمهم من النازحين داخليًّا، وفي جنوب السودان ما يقرب من ثمانية ملايين، وفي أوغندا مليونان، وفي السودان، الذي أنهكته الحرب الأهلية، يوجد الآن ما يقرب من 20 مليونًا؛ كل هؤلاء الأشخاص على وشك التعرض لخطر المجاعات. وبحسب بيانات برنامج الأغذية العالمي، يحصل البرنامج على قرابة 80 بالمائة من احتياجاته من القمح من أوكرانيا وحدها. وفي ظل توقعات بشأن تعثُّر عمليات التسليم جراء موقف موسكو، حذّرت مديرة برنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، من تراجع حادّ في موارد البرنامج، فيما اتهم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، روسيا باستخدام “الطعام” كـ “سلاح سياسي”.

في الواقع، يحاول بوتين أن يمرر رسالة  للأفارقة ليُدْرِكوا مَن صاحب اليد العليا هنا. وفي الوقت نفسه، عرضت روسيا حلًّا لأزمة الغذاء التي تعاني منها القارة في قمة سانت بطرسبرج: فمن الواضح أن 60% من الأراضي الخصبة في إفريقيا “غير مُستغلَّة بالقدر الكافي”؛ وفقًا لموقع المنتدى الإلكتروني. ولهذا السبب، استقبل رؤساء البنوك الروسية وممثلو شركات الأغذية والزراعة الروسية الوفود الإفريقية لمناقشة “تطوير إنتاجية القارة”. وفي المقابل، وعدت روسيا إفريقيا بـتقديم “التكنولوجيا والمعدات الزراعية”. ثم وزَّع بوتين الهدايا على أصدقائه في القمة: لم يكن من قبيل الصدفة أن يختار بوتين خمس دول تتعاون مع الكرملين بشكل وثيق، بالإضافة إلى الصومال، الدولة الأكثر تضرُّرًا من نقص إمدادات الحبوب.

وقال بوتين في كلمته أمام الحضور: “سنكون مستعدين لدعم بوركينا فاسو وزيمبابوي”، وأضاف: “سنقوم بتزويد مالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا بما يتراوح من 25 ألف إلى 50 ألف طن من الحبوب مجّانًا  خلال الأشهر الأربعة المقبلة”. وتابع: “سنقدّم أيضًا للمستهلكين خدمة التوصيل المجاني لهذه المنتجات”.. ثم امتلأت القاعة بالهتاف.

 

فاجنر: ذراع الكرملين الطُولى

لقد تسبَّب التمرد الفاشل الذي شنَّه رئيس فاجنر في إشاعة حالة من عدم اليقين في إفريقيا. ورغم أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أكَّد، مباشرة، بعد انتفاضة المرتزقة أن العلاقات مع إفريقيا ستبقى جيدة، إلا أن هذا التمرد أثار تساؤلات كثيرة لدى الأفارقة حول مدى موثوقية العلاقات مع موسكو. ففي إفريقيا،  يجري الربط بين مجموعة فاجنر والدولة الروسية، فعلى سبيل المثال، ينتشر قرابة 2000 من مرتزقة فاجنر في أراضي جمهورية إفريقيا الوسطى؛ نتيجة للاتفاقية الأمنية التي أبرمها الرئيس فوستين أرشانج تواديرا مع موسكو في “سوتشي” عام 2019م. في البداية، كان يتمركز ضباط من وزارة الدفاع الروسية في الدولة الإفريقية، ولكن تم استبدالهم، تدريجيًّا، بـ”مقاتلي فاجنر”؛ حيث يجري “الاستعانة بعناصر خارجية” للأنشطة العسكرية الروسية في قلب القارة، الأمر الذي يُوفّر المال للكرملين، على أقل تقدير.

تقوم مجموعة فاجنر بتمويل مهماتها في إفريقيا اعتمادًا على نفسها، بقدر كبير؛ حيث أسَّس فريق فاجنر المتمركز في جمهورية إفريقيا الوسطى حاليًّا شركات محلية، وحصل على امتيازات لاستخراج الذهب والماس. يقول “جون ليشنر”، باحث متخصص في أنشطة مجموعة فاجنر: “إن فاجنر تتصرَّف، بشكل أساسي، كممثل للدولة الروسية هناك”. وأضاف ليشنر: “إنه عقب انتفاضة المرتزقة في روسيا، أدرك الكثيرون في إفريقيا أن فاجنر ليست مرادفًا للدولة الروسية”، فيما اشتبه المحللون، في بادئ الأمر، أن الكرملين سيستبدل ممثلي فاجنر في إفريقيا الوسطى أو مالي أو ليبيا أو السودان بضباط موالين من وزارة الدفاع.

بينما قال ليشنر، الذي يؤلف حاليًّا كتابًا عن فاجنر في إفريقيا: “لقد كان رئيس إفريقيا الوسطى، تواديرا، يتصبَّب عرقًا لفترة وجيزة عقب ما حدث في روسيا؛ في محاولة فهم ما يَعنيه ذلك بالنسبة له”. لكنّ الواقع يقول: إنه “لم يتغير شيء في التعاون مع فاجنر، على الأقل، في وسط إفريقيا”. ففي المساء الذي سبق بدء القمة في سان بطرسبرج، نظّمت المؤسسة العسكرية انقلابًا في النيجر. وتم عزل الرئيس الموالي للغرب، محمد بازوم، مِن قِبل جنرالات موالين لروسيا. والواقع يقول: إن فاجنر ستواصل نشاطها في المستقبل، وباعتبارها أداة للكرملين، ستواصل توسيع النفوذ الروسي في القارة الإفريقية.

المصدر: https://qiraatafrican.com/15645/%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d8%a3%d8%b5%d8%af%d9%82%d8%a7%d8%a1-%d9%82%d8%af%d8%a7%d9%85%d9%89-%d9%88%d8%a3%d8%b3%d9%88%d8%a7%d9%82-%d8%ac%d8%af/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M