الآثار الاقتصادية لسيناريوهات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة

يصنف البنك الدولي إسرائيل ضمن شريحة الدخل المرتفع، تحقق ذلك بفعل معدلات النمو الكبيرة التي شهدها الاحتلال في الفترة بين 1950 – 1970 والتي بلغت في المتوسط حوالي 10.5% وهو ما ضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لثلاث مرات، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لمواطن دولة الاحتلال في عام 1948 حوالي 400 إلى 500 دولار أمريكي، وقد تضاعف ذلك الدخل بمقدار 13 مرة تقريبًا ليصل إلى 6357 دولارًا في عام 1990، ثم وصل في عام 2000 إلى 21.6 ألف دولار أي ما يعادل 3.5 ضعف دخل الفرد في عام 1990، ثم وصل دخل الفرد إلى 31.3 ألف دولار في عام 2010، ثم إلى 44.3 ألف دولار في عام 2020 وهو ما منحها عضوية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

يعد قطاع التكنولوجيا الفائقة هو العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي، والذي أنفقت دولة الاحتلال على عمليات البحث والتطوير به لسنوات متواصلة لما يصل إلى 6% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو السبب الرئيس وراء ذلك النمو السريع؛ إذ حقق قطاع التكنولوجيا الفائقة أعلى معدل نمو من بين جميع الصناعات في العقد الماضي. ووفقًا لبيانات 2022، يشكل قطاع التكنولوجيا الفائقة 18.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي 50% من إجمالي الصادرات.

الماس هو الآخر لا يقل أهمية عن قطاع التكنولوجيا الفائقة؛ إذ إن دولة الاحتلال أصبحت مركزًا عالميًا لتجارة وتصنيع الماس، وتعد بورصة الماس بها واحدة من بين المراكز الأربعة لتجارة الماس عالميًا فهي تضم أكثر من 3200 عضو. ثم يأتي قطاع الكيماويات كقطاع بارز آخر في اقتصاد دولة الاحتلال، جنبًا إلى جنب مع قطاع الصناعات الدوائية والذي أسهمت المنح والحوافز الضريبية الحكومية والتمويل منخفض التكلفة على تحقيق طفرات به.

الصادرات الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة شهريًا (بالمليار دولار)

تمثل التجارة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية 33% حيث كانت دولة الاحتلال هي الأولى التي توقع معها الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية تجارة حرة (FTA)، وقد بلغ حجم التجارة في عام 2022 حوالي 50.6 مليار دولار. وتمثل التجارة مع الاتحاد الأوروبي حوالي 33% كذلك بحوالي 46.8 مليار يورو، ويتم تنظيم تلك التجارة من خلال عدد من الاتفاقيات الموقعة مع الاتحاد الأوروبي في عدد من القطاعات منها الزراعية (عام 2010)، وقطاع الأدوية (اتفاقية عام 2012)، والطيران (اتفاقية عام 2018).

بداية الهبوط

دخل اقتصاد دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 2023 بفائض في الحساب الجاري بحوالي 5 مليارات دولار، ونسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 61%، و بلغ احتياطي النقد الأجنبي حوالي 200.9 مليار دولار. وعلى الرغم من استمرار ازدهار النشاط الاقتصادي فإن تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي بفعل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والإضرابات داخليًا ضد خطة الإصلاح القضائي كان لها تأثير على الاستثمارات والنمو الاقتصادي.

فوفقًا لتقرير صادر عن (Start-Up Nation Policy Institute)، انخفضت الاستثمارات التي جذبتها الشركات الناشئة الإسرائيلية خلال عام 2022 بنسبة 68% عن النتائج التاريخية التي تحققت في عام 2021 والتي بلغت 27 مليار دولار أمريكي. وعلى الرغم من أن الانخفاض في قطاع التكنولوجيا الفائقة يعود جزئيًا إلى التراجع الكبير في الاتجاه العالمي فإن حرب غزة سيكون لها أثر كبير على تعميق تلك الانخفاضات.

شكل يوم 7 أكتوبر 2023 نقطة تحول في اقتصاد دولة الاحتلال بعد أن بدأت عدوانها على قطاع غزة ضمن عملية “السيوف الحديدية”، والتي استدعت على إثرها نحو 360 ألف جندي من قوات الاحتياط. وبالطبع فإن لتلك التعبئة آثار سلبية كبيرة على حجم القوة العاملة، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في النقص في العمال بقطاع الزراعة، والأضرار التي ضربت قطاع السياحة بإقدام العديد من شركات السياحة والطيران على إلغاء معظم رحلاتها لإسرائيل، وخلت المتاجر من العملاء، وتم تطبيق وقف جزئي للإمدادات الواردة من حقول غاز الطبيعي.

وكنتيجة حتمية لتلك التعبئة، فقد خفض البنك المركزي الإسرائيلي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.3% مقابل النسبة التي كان قد سبق توقعها سابقا بحوالي 3.0%. لكن خبراء اقتصاديين آخرين أشاروا إلى أن توقعات المركزي الإسرائيلي متفائلة للغاية، مشيرين إلى أن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض بنسبة 15% مقارنه بانخفاض بحوالي 0.4% فقط خلال الحرب السابقة على غزة عام 2014، وحوالي 0.5% خلال الحرب مع لبنان في عام 2006.

خسائر يومية

بنيت تلك التوقعات المتشائمة على خلفية التعبئة العامة لإسرائيل والتي ترتب عليها اختلال بسلاسل الإمداد بأسواق المواد الغذائية، وتراجع المعاملات النقدية بكروت الائتمان بنحو 12% على أساس سنوي خلال الأسبوع في أغلب القطاعات، فقد أوقف عدد من الشركات العالمية عملياتها بإسرائيل أو طلبت موظفيها العمل من المنازل، ومن بين تلك السلاسل المشهورة شركة “نستله” السويسرية التي أغلقت أحد مصانع الإنتاج الخاصة بها في إسرائيل كإجراء احترازي، وأغلقت مجموعه شركات “انديتكس” الإسبانية مؤقتًا 84 مركزًا تابعًا لها في إسرائيل، وأغلقت شركة “اتش اند ام” السويدية التي تمتلك 20 متجرًا في إسرائيل متاجرها جراء الأوضاع الأمنية بها، ونوهت عن تأخيرات محتملة في مواعيد التسليم لعملائها جراء الحرب.

من جانب آخر، استحوذ قطاع التكنولوجيا على نصيب الأسد من الأضرار؛ إذ توجد نحو 500 شركة من الشركات متعددة الجنسيات تسهم بنحو 18% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل وحوالي نصف الصادرات. ومن بين تلك الشركات شركة “إنتل” الأمريكية التي اتخذت من إسرائيل مقرًا لها منذ عام 1974 في مدن: حيفا، وبتاح تكفا، والقدس المحتلة، باستثمارات قدرها 25 مليار دولار، حيث باتت تلك الشركة في مرمى نيران الفصائل الفلسطينية ، وهو الأمر الذي يؤثر على حوالي 12.8 ألف عامل، وصادرات بحوالي 3.6 مليارات دولار. بل وتسهم منتجات تلك الشركة بشكل كبير في كل ما يخص تصنيع السيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي و نظام القبة الحديدية الإسرائيلي. ومن ضمن الشركات العالمية الأخرى المتأثرة من الحرب شركتا “إنفيديا” و”تاور” لتصنيع الرقائق الإلكترونية.

ومن جهة أخرى، فقد أدت الصواريخ التي تطلقها الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة إلى وقف قطاع التشييد والبناء عن العمل، واتباع إجراءات أمن وسلامة اكثر احترازية تتكلف ما يصل إلى نحو 37 مليون دولار يوميًا. وقد اتبعت الفنادق الإسرائيلية سياسة استقبال الإسرائيليين الفارين من المعارك واستضافتهم بتلك الفنادق مع انتظار الدعم الحكومي الذي تأخر، وهو الأمر الذي بات يهدد بإفلاس سلسلة من أكبر الفنادق بتل أبيب، ويحرم قطاع السياحة من إيرادات سنوية بحوالي 5.5 مليارات دولار، أي حوالي 15.3 مليون دولار يوميًا. وقطاع الطاقة والغاز الطبيعي هو الآخر تأثر سلبيًا من خفض الإمدادات من حقل تمار، وهو ما يكلف الاقتصاد الإسرائيلي حوالي 200 مليون دولار شهريًا أي ما يمثل حوالي 6.7 ملايين دولار يوميًا.

منذ اليوم الأول لبداية تلك الحرب، انخفضت العملة الإسرائيلية بنحو 5%، وهو ما دفع البنك المركزي الإسرائيلي إلى اتخاذ تدابير نقدية عاجلة وإعلانه عن ضخ مبلغ 30 مليار دولار من احتياطاته للسوق بهدف عودة الأوضاع الاقتصادية للتوازن مرة أخرى. وخسرت بورصة تل أبيب يوم 8 أكتوبر ما يقرب من 6.5% من رأسمالها السوقي، واستمر التراجع لتصل خسائرها إلى نحو 40 مليار دولار.

من جانب آخر، أشارت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني إلى أن ديون إسرائيل أصبحت قيد المراجعة في ضوء الخسائر التي بدأت تضرب الاقتصاد الإسرائيلي. فيما اتخذت وكالة “فيتش” قرارًا بمراجعة النظرة المستقبلية للاقتصاد الإسرائيلي إلى سلبية. وبينما أشار وزير المالية الإسرائيلي “بتسلئيل سموتريتش” إلى أن تكلفة الحرب المباشرة بإسرائيل تقدر بحوالي 250 مليون دولار يوميًا، فإن التقدير أن التكلفة (مباشرة وغير مباشرة) تتجاوز 300 مليون دولار أمريكي يوميًا على أقل تقدير. وعليه، فإن موازنة العام المالي 2023/2024 أضحت غير مناسبة لتحمل فاتورة الحرب المباشرة (تكاليف العملية العسكرية) وغير المباشرة (التكاليف المرتبطة بالتعويضات)، ودفعت تلك الأوضاع الاقتصادية بالسوق الحكومة الإسرائيلية إلى تخصيص حزمة بنحو 25 مليون دولار (نحو 100 مليون شيكل) لتقديم العون لشركات التكنولوجيا الناشئة المتأثرة بالتداعيات.

كل ما سبق ذكره هي تأثيرات ما قبل العمليات العسكرية البرية للاحتلال في قطاع غزة، والتي بدأت في 27 أكتوبر. وعلى الرغم من تأكيد عدد من المؤسسات الدولية أن هذه العمليات البرية ستظل محدودة النطاق جراء التخوف الإسرائيلي من الخسائر الناجمة عن المواجهات المباشرة، لكن هذه العمليات حتى تحقق أهدافها قد تستمر شهورًا وفقا لتحليل عدد من وكالات الائتمان العالمية أبرزها “فيتش”.

تطور الحرب وأسعار الطاقة

تطور أسعار البترول منذ 7 أكتوبر 2023

تشير مصفوفة التقديرات لتطورات الحرب في غزة وأثرها على السوق العالمية إلى وجود احتمالين رئيسين، وهو بقاء العمليات البرية بشكل محدود في غزة وهو احتمال قائم بنسبة 60 – 70% تقريبًا، وهو الأمر الذي يحد من الآثار السلبية لتلك الحرب على المنطقة، ويضع حدودًا سعرية لسعر برميل البترول بين 80 – 95 دولار أمريكي للبرميل. لكن الاحتمال الاخر وهو التوسع الإسرائيلي للعمليات البرية في غزة باحتمال بين 30 – 40% وهو ما يفتح الصراع لعدد آخر من الجبهات، ويضع سيناريويهن لذلك التطور: الأول هو التمكن من إبقاء المواجهات محدودة بين حزب الله وإسرائيل وحماس (احتمال بنسبة 25% تقريبًا) وهو ما يدفع أسعار البترول إلى مستويات 100 – 115 دولارًا أمريكيًا، أما السيناريو الثاني وهو الأكثر تشاؤمًا هو الانزلاق إلى حرب متعددة الجبهات ودخول الولايات المتحدة كطرف في الصراع (احتمال بنسبة 10%) ويضع سعر برميل البترول عند مستوى بين 135 – 150 دولارًا أمريكيًا، ويوجد احتمال بنسبة 5% أن ينجرف ذلك الصراع إلى مواجهات مباشرة مع ايران وهو ما يرفع أسعار البترول إلى مستوى 150 – 200 دولار أمريكي.

ووفقًا للتحليل السابق، فإن دخول أي أطراف تمثل إيران في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر هو أمر من شأنه أن يهدد سوق الطاقة العالمية ويدفع الاقتصاد العالمي إلى الانكماش؛ فوفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن كل 10 دولارات أمريكية ارتفاع في أسعار الطاقة تخفض نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.15% في المتوسط، ويرتفع تأثير ذلك الانكماش بشكل أكبر للدول المستوردة للطاقة وينخفض بالنسبة للدول التي لديها اكتفاء ذاتي من الطاقة.

تتأثر أسعار الفائدة هي الأخرى باحتمال الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران (احتمال بنسبة 5%)؛ إذ إن دخول إيران كطرف مباشر في الصراع يعني إقدام الفيدرالي الأمريكي على رفع آخر لسعر الفائدة، وهبوطًا بسوق الأوراق المالية الأمريكية بنسب تتراوح بين 30 – 50%، وارتفاعًا في سعر الذهب إلى مستويات بين 2100 – 2300 للأونصة، وانكماش نمو الاقتصاد العالمي في عام 2024 بنسبة 0.5%.

تستحوذ السيناريوهات الأخرى على احتمالات أكبر وتشكل أضرارًا أقل للاقتصاد العالمي، لكن دخول القوات الأمريكية في الصراع بشكل مباشر هو أمر من شانه أن يكبد الاقتصاد العالمي والإسرائيلي خسائر فادحة، وسيدفع بأسعار الفائدة والطاقة والذهب للارتفاع بشكل كبير؛ الأمر الذي سيضر الاقتصاد العالمي إجمالًا وقارة أوروبا بشكل خاص.

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/79849/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M