شتاء الغضب.. ماذا ينتظر الحكومة البريطانية؟

إيهاب عمر

 

تبدأ في الساعات المقبلة خطة النقابات العمالية البريطانية لتنفيذ أكبر سلسلة إضرابات في تاريخ الحركة العمالية البريطانية، وتستمر من منتصف ديسمبر 2022 إلى منتصف يناير 2023، حيث تهدف إلى إجبار الحكومة البريطانية على الموافقة على بعض الإعفاءات الضريبية ورفع الرواتب.

ورغم الأزمة الاقتصادية العالمية جراء جائحة كورونا والإغلاق الكبير عام 2020، ثم ارتفاع التضخم العالمي في أكتوبر 2021 وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 والعقوبات الغربية على روسيا، إلا أن الغضب الشعبي جراء خطة حكومة ريشى سوناك لفرض ضرائب جديدة شجع النقابات العمالية البريطانية على هذا التصعيد.

وتسعى النقابات العمالية إلى شل قطاعات الصحة والبريد والنقل البري والجوي والبحري، وقابلت حكومة سوناك تلك التحركات بالبدء في استدعاء الجيش والتدريب الفعلي لعناصر من القوات المسلحة على ملء الفراغ في المستشفيات وقيادة الأوتوبيسات العامة والقطارات، وصولًا إلى السيطرة وإدارة المطارات الجوية والموانئ البحرية.

عام غير مسبوق في بريطانيا

وكانت بريطانيا قد شهدت أحداثًا غير مسبوقة في تاريخها خلال أقل من عام، حيث توالت ثلاث حكومات في أقل من ستة أشهر على لندن، إذ استهلت العام بحكومة بوريس جونسون وخلفته ليز تراس التي سجلت رقمًا قياسيًا في سرعة الاستقالة والتنحي قبيل مجيء ريشى سوناك.

كما شهد القصر الملكي تغيير هو الأول من نوعه منذ خمسينيات القرن العشرين، برحيل الملكة إليزابيث الثانية وتنصيب ابنها تشارلز الثالث ملكًا للبلاد، وصولًا إلى تناوب أربعة وزراء على حقيبة الخزانة، التي تعد أهم وزارة في مجلس الوزراء البريطاني وكانت نموذجًا للاستقرار ودقة الإدارة.

تناوب ثلاثة زعماء دفعة واحدة على رأس حزب المحافظين ذو الأغلبية البرلمانية، صنع صراع أجنحة داخل الحزب، حيث تنادي أصوات من داخل الحزب ذاته بالذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، لتلتئم تلك الأصوات مع المعارضة التي تضم حزب العمال والليبراليين والخضر.

وسارع 20 % من المانحين لحزب المحافظين، بالتوقف عن الدعم المادي للحزب منذ استقالة بوريس جونسون، على ضوء ما يراه البعض مؤامرة دفعت أكثر من خمسين وزيرًا للاستقالة في بضعة أيام، من أجل شل وزارة جونسون وإجباره على الاستقالة رغم قيادته للحزب لانتصار تاريخي في الانتخابات المبكرة عام 2019.

ويفترض لحكومة سوناك أن تكمل الماراثون الوزاري حتى يناير 2025 موعد الانتخابات البرلمانية الجديدة، وحال استقالة سوناك فمن الصعب أن يتقدم سياسي محافظ سادس من الحزب – بعد ديفيد كاميرون وتريزا ماي، وجونسون وتراس وسوناك – لتشكيل الوزارة البريطانية، لذا يصبح الحل هو الذهاب إلى ثالث انتخابات بريطانية مبكرة على التوالي بعد انتخابات عامي 2017 و2019.

الجيش البريطاني في حالة تأهب

على عكس الجيش الأمريكي الذي يمتلك وحدات يطلق عليها الحرس الوطني مدربة للعمل داخل الولايات الأمريكية، فإن الجيش البريطاني لا يملك مثل هذه التخصصات، ولكن وزارة الدفاع البريطانية تملك هيكلًا وزاريًا متعددًا، إذ يعمل تحت وزير الدفاع كلًا من وزير الدولة للقوات المسلحة ووزير الدولة للدفاع ووزير الدولة للمشتريات الدفاعية (الحربية)، ويعمل تحت إمرة وزير الدفاع مباشرة رئيس هيئة الأركان العامة.

وتوكل مهمة نشر الجيش داخل الأراضي البريطانية إلى وزير الدولة للقوات المسلحة، وهو منصب يشغله جيمس هايبي منذ فبراير 2020، ما يجعله معاصرًا لحكومات جونسون وتراس وسوناك على التوالي، وهو عضو مجلس العموم منذ عام 2015 عقب انتهاء خدمته العسكرية عام 2012 برتبة ميجور (رائد)، حيث خدم في حربي أفغانستان والعراق.

ولعلها مفارقة قدرية، أن الضابط الذي خدم في صفوف الجيش البريطاني أثناء نشر قواته في أفغانستان والعراق، هو ذاته الذي سوف يشرف على نشر جيش بلاده داخل الأقاليم البريطانية وضواحي العاصمة لندن بدلًا من أطبائها وعمالها وسائقيها!

ما هي خطط المعارضة البريطانية؟

استثمرت المعارضة البريطانية في الأزمات الدولية، ونحت المصلحة العامة ونظريات الأمن القومي جانبًا، إذ عادة ما كانت المعارضة في أوروبا ترفض توظيف ظروف الحروب الدولية في الشأن الداخلي، وقد قبل حزب العمال في زمن كليمنت اتلي الدخول في حكومة ائتلافية مع ونستون تشرشل زعيم حزب المحافظين.

وعلى الرغم من أن النقابات العمالية في بريطانيا غير مسيسة، إلا أنها تتعاطف دائمًا مع حزب العمال ذو التوجه الاشتراكي، بالإضافة إلى أن أغلب أعضاء النقابات العمالية ينضمون إلى حزب العمال، ما جعل للنقابات العمالية صوت وقاعدة جماهيرية وتصويتية حاسمة داخل حزب العمال، لذا يمكن تعريف العلاقة بين الطرفين أن النقابات العمالية هي التي تصنع في بعض الأحيان قرارات وزعامات حزب العمال وليس العكس.

الزعيم الحالي لحزب العمال، السير كير ستارمر لا ينتمي إلى اليسار الاشتراكي ولكن اليسار الليبرالي أو يسار الوسط، ما يجعل فكرة ولائه إلى اليسار العمالي ليست بالمبدأ العقائدي الماركسي الذي يمكن أن يعول عليه الطرفان، النقابات العمالية وحزب العمال، ولكن ستارمر في إطار سعيه لإسقاط حكومة سوناك والذهاب لانتخابات مبكرة، قبل بكل براجماتية أن يعزز التعاون مع النقابات العمالية في طقس ظن حلفائه إنه لن يجنح إليه.

ولكن على الصعيد البرلماني والحكومي لم يقدم ستارمر أي رؤية تذكر لمعالجة الموقف الاقتصادي في بريطانيا، فهو لا يستثمر إلا في الغضب الشعبي والتململ الجماهيري من فكرة بقاء المحافظين في السلطة منذ انتخابات 2010 حتى اليوم، وتناوب خمسة رؤساء للحزب على مقعد رئاسة الوزارة.

لا يضم تشكيل حكومة الظل التي يشكلها زعيم المعارضة البريطانية، وعادة ما تصعد إلى المنصات الوزارية فور التكليف الملكي أي أسماء ثقيلة أو مفاجئة أو ذات خبرة، باستثناء ديفيد لامي وزير الثقافة في وزارة توني بلير ثم وزير التعليم العالي في حكومة جوردان براون، الذي يتولى وزارة الخارجية في حكومة الظل وكان يفترض إذا ما أصبح وزيرًا للخارجية أن يصبح أول أسود يتولى المنصب في بريطانيا، ولكن ليز تراس فوتت عليه الفرصة يوم عينت جيمس كليفرلي وهو الاختيار الذي حافظ عليه سوناك في وزارته، وينوي ستارمر تعيين شعبانة محمود وزيرة دولة للتجارة وهي من أصول كشميرية باكستانية، وكذا روزينا خان من أصول باكستانية في منصب وزيرة الصحة.

ولعل المفاجأة في تشكيلة حكومة الظل هو ايد ميلباند، زعيم الحزب الأسبق الذي خسر انتخابات 2015 أمام حكومة ديفيد كاميرون، وقد عمل وزيرًا للطاقة والتغير المناخي في حكومة جوردان براون ووزيرًا في حكومة سلفه توني بلير، واليوم هو يشغل منصب وزير التغير المناخي في حكومة الظل، ويعتبر ميلباند هو زعيم جناح تقدمي اشتراكي قوي داخل الحزب وزعيم تحويل الحزب من يسار الطريق الثالث أو نهج توني بلير إلى نهج اليسار التقدمي الكلاسيكي، يوم انتخب رئيسًا للحزب ما بين عامي 2010 و2015.

وبدلًا من أن يقدم رئيس المعارضة كير ستارمر خططًا واعدة للشعب البريطاني، اقترح أن يتم إلغاء مجلس اللوردات الذي تضخم ليضم أكثر من 800 عضو، مقابل إنشاء مجلس نيابي ثان وليكن مجلس الشيوخ، ويكون لأقاليم اسكتلندا وأيرلندا وويلز، العدد الأبرز من المقاعد طالما أن أقاليم إنجلترا هي التي تسيطر على تشكيلة مجلس العموم البريطاني.

الاقتراح العمالي الجديد حظي بدعم رئيس الوزراء الأسبق جوردان براون ذو الأصول الأسكتلندية، على أمل أن يصبح رئيس أول مجلس للشيوخ في تاريخ بريطانيا.

ولكن هذا الاقتراح في واقع الأمر ينسف ما تبقى من مبادئ فكرة الدولة الوطنية في بريطانيا، مقابل “كوته عرقية” بين الأقاليم البريطانية المختلفة، فيصبح مجلس العموم للإنجليز ومجلس الشيوخ لمن أتى من أسكتلندا وأيرلندا وويلز، شريطة أن يكون رئيس مجلس العموم إنجليزيًا ورئيس مجلس الشيوخ أسكتلندي، هذه المحاصصة العرقية سوف تنسف فكرة الدولة الوطنية البريطانية.

وتنظر الأحزاب التقليدية في الغرب اليوم إلى أفكار الدولة الوطنية والتيار القومي باعتباره الخطر الأكبر على منظومة الغرب والعولمة النيوليبرالية الرأسمالية، وعلى ضوء تصويت أنصار الدولة الوطنية إلى اليمين القومي، فإن الأحزاب المتضررة بدلًا من إصلاح خطابها السياسي ليصبح خطابًا وطنيًا يلائم الحركة الوطنية، فإنها تسعى إلى تفكيك الروح القومية والخطاب الوطني، وبث أجندة الصوابية السياسية الجناح الفكري للعولمة الأمريكية.

التصويت للعرق وبناء على المناطقية واللغة والطائفة، هو طقس قاتل للروح القومية والدولة الوطنية، وللمفارقة فإن هذا الاقتراح الذي صدح به كير ستارمر رئيس حزب العمال البريطاني يتزامن مع اقتراح الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن إلى دوائر الحزب الديموقراطي بأن يصبح للأمريكان السود – من أصول أفريقية – الحق الدائم في اختيار مرشح الحزب لمنصب نائب الرئيس الأمريكي، ما يكرس أيضًا لفكرة الكوتة أو المحاصصة العرقية داخل الحزب الديموقراطي الأمريكي، حيث ينتخب السكان ذوو البشرة البيضاء المرشح للرئاسة عن الحزب بينما ينتخب السكان ذوو البشرة السوداء مرشح الحزب لمنصب نائب الرئيس، في طقوس لن تفيد إلا أعداء الدولة الوطنية وتكريس العرقية والمذهبية باعتبارهم أهم بنود قواميس الصوابية السياسية في أمريكا.

مستقبل الأزمة البريطانية

لا يوجد مخرج على ضوء أسوأ حالة ركود منذ عام 1981، إلا بتطبيق الإصلاح الاقتصادي المنشود الخاص بزيادة الضرائب على المواطن البريطاني حتى لو قدمت الحكومة البريطانية تسهيلات أو مقابلًا في هذا الملف، أو حتى لو كان الثمن هو استقالة ريشى سوناك والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة.

وعلى ما يبدو أن بريطانيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من إفلاس الحزبين الكبيرين، فيما يتعلق بأجيال جديدة ووجوه سياسية لا تحمل فواتير الماضي وتبعاته الأيدولوجية، فما يأتي من معسكر المعارضة البريطانية ينبئ بأن أزمة حزب المحافظين في الحكم سوف تستمر في ثوب حزب العمال، متى أجريت الانتخابات البرلمانية ودقت ساعة السقوط الحتمي للمحافظين وعودتهم إلى مقاعد المعارضة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74544/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M