عام من الحرب ولا تزال النهاية مفتوحة

مي صلاح

 

أكملت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الأول الذي شهد الكثير من المفارقات المتوقعة أحيانًا والأخرى التي لم تخطر على قلب بشر. صراع غربي روسي طيلة عام منقضٍ رأينا خلاله انهيارات اقتصادية وأرواحًا تُزهق وعائلات تتفكك، فبات نزاعًا مفتوحًا على مصراعيه غير محسومة نهايته، ولا حتى أي توقعات حوله. بما يجعلنا أمام حرب دموية لا يبدو أن أيًا من طرفيها على استعداد لوقفها دون تحقيق النصر أو أقصى مكاسب منها.

قبل اجتياح القوات الروسية للأراضي الأوكرانية، حذر المسؤولون الأمريكيون والغربيون من أن بدء هذه الحرب سيكون سهلًا للغاية، لكن الصعوبة ستكمن في إنهائها بنجاح. ولكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يستمع، وأخطأ تقديره حول ما يسميه الاستراتيجيون العسكريون “ترتيب المعركة”، وبالغ في تقدير قوة بلاده، وقلل من تقدير العزيمة الأوكرانية، ومن قبلها الأمريكية.

ومنذ اليوم الأول للحرب، اتفق الخبراء وكثير من قادة العالم أن هذه الحرب لا يُقصد بها أوكرانيا تحديدًا، بل كانت هي مجرد كبش فداء للحرب الحقيقية بين الغرب وروسيا، أو بمعنى آخر بين الولايات المتحدة وروسيا كأكبر قوتين تتحديان بعضهما من أجل فرض سيطرة البقاء. فالحرب وضعت الولايات المتحدة تحت الاختبار، كما وضعت الناتو أيضًا، بل وصل الأمر إلى اختبار جميع الديمقراطيات. وكان السؤال، هل سيكون هناك رد على روسيا؟ أم سينظر العالم الغربي إلى الاتجاه الآخر؟، وهو ما حدث بالفعل.

حاولت الولايات المتحدة كقوة عظمى عبر تجميع معلوماتها الاستخباراتية والتأكد من نية روسيا شن الحرب لا محالة أن “تضمن إنفاذ النظام الدولي القائم على القواعد ضد دولة ذات قدرة نووية استثنائية دون الانجراف إلى الحرب العالمية الثالثة”، متبعة إجراءات مختصرة وبسيطة تتمحور حول: تجنب النزاع الحركي بين الجيش الأمريكي أو الناتو مع روسيا، واحتواء الحرب داخل الحدود الجغرافية لأوكرانيا، وتعزيز حلف شمال الأطلسي وتقويته، وأخيرًا تمكين أوكرانيا من الفوز وإمدادها بكل ما تحتاجه من وسائل لضمان ذلك، وعدم تمكين روسيا من تحقيق أي مكاسب من الحرب. وكل هذه الإجراءات تعاملت معها إدارة بايدن على أنها “خطوط حمراء” تم الدفع بها إلى أقصى الحدود.

حاول البيت الأبيض بهذه الإجراءات تصوير الصراع المتعمق على أنه معركة شديدة الخطورة لن تحدد مصير أوكرانيا فحسب بل ستحدد أيضًا مصير الديمقراطيات وسيادة القانون في كل مكان، بحجة أنه إذا سُمح لبوتين بالاستيلاء على أجزاء من دولة أخرى بالقوة سيكون ضوءًا أخضر للحكام المستبدين الآخرين.

وبالفعل، بعد عام من المعركة لا تزال الحرب محددة جغرافيًا، ولا يزال الناتو متحدًا بشكل كبير -رغم الصراعات والتصدعات الداخلية لبعض دول الأعضاء بداخله حول مساعدة أوكرانيا وإطالة أمد الحرب-، وفشل الرهان الروسي بسقوط كييف، وأصبح الجيش الأوكراني بالدعم الغربي غير المحدود أفضل تجهيزًا من بعض جيوش أعضاء الناتو، وكل ذلك من أجل هدف واحد وهو “استنزاف” قدرات روسيا اقتصاديًا وعسكريًا، وعزلها دبلوماسيًا، دون أن يزج الناتو بجنوده ويتكبد خسائر بشرية ومالية.

وعلينا الاعتراف بأن الولايات المتحدة –دون شك- استفادت بعد عام من الحرب من الوضع الحالي بالرغم من عدم انتصار أي طرف؛ فواشنطن لا تحتاج انتصارًا عسكريًا أوكرانيًا لتحقيق مكاسب، بل يكفي أن يظل الوضع معلقًا، ويكفيها العزل الدولي لروسيا ومحاولات إضعاف النظام الروسي وعزله أوروبيًا، وتحجيم تدخله في الأقاليم المهمة للولايات المتحدة استراتيجيًا، وبالتالي إضعاف دور روسيا الدولي والتقليل من مقوماتها كدولة كبرى، تمهيدًا لتفكيكها بعد إسقاط نظام الحُكم فيها، هذا بجانب تقوية “الناتو” والرد على الأسئلة التي دارت من قبل حول أهمية وجوده، وبالطبع تحجيم دور الصين وجعلها تفقد حليفها الروسي الذي كان يدعمها دوليًا.

بعد عام: لا تزال الآراء منقسمة حول الحرب

بالرغم من الاتفاق الغربي على حتمية النصر الأوكراني ولا شيء غيره، إلا أنه لا تزال هناك آراء مختلفة في بعض الدول الأوربية التي ترى أنه لا فائدة من إطالة أمد الحرب، ويكفي ما تكبدته أوروبا جراء هذه الحرب من استنزاف مواردها، وما نتج عنها من تداعيات اقتصادية أرهقت المواطن الأوروبي وساهمت في زعزعة استقرار معيشته، وعلى رأس هذه الدول المجر والنمسا وكرواتيا؛ إذ لا تزال تعارض بشدة إرسال المزيد من المعدات العسكرية، وترى أن التفكير في سيناريو النصر هو أمر ساذج ووهمي، وأن الغرب لا يقدر القوة الحقيقية التي عليها روسيا في الواقع.

ليس هذا وفقط، فقد شهدت أوروبا ظاهرة صعود اليمين الراديكالي في عدة دول، وبالتالي فإن سياسات هذه الحكومات بالرغم من أنها في العلن تؤيد دعم أوكرانيا فإنها ضد التوجه الغربي، وبالطبع تريد حدوث أي شيء من شأنه إنهاء هذه الحرب، ولنا في إيطاليا نموذجًا، فاليمين الإيطالي بقيادة “جورجيا ميلوني” منقسم بشدة حول مساعدات أوكرانيا، ويماطل في الموافقة على تسليحها معللًا أن ذلك من شأنه أن يستنفد المعدات الإيطالية التي قد تحتاجها يومًا ما. هذا فضلًا عن الصراعات الداخلية الشعبوية التي تنادي بالتوقف عن مساعدة أوكرانيا والتركيز في الشؤون الداخلية التي انهارت جراء الحرب، فشاهدنا مظاهرات متفرقة مناهضة للحرب في ألمانيا وجمهورية التشيك.

بل إن الأمر امتد ووصل إلى صراعات في الداخل الأمريكي الداعم الأول للحرب، فقد صرح أحد أعضاء الحزب الجمهوري أنه في ظل الجمهوريين ووصولهم للسلطة، وهو أمر محتمل عقب ما حدث في الانتخابات النصفية، فلن يذهب قرش آخر لأوكرانيا، وأن الجمهوريين سيضعون الولايات المتحدة قبل أي شيء أخر.

فضلًا عن أن هناك استطلاعات للرأي داخل الولايات المتحدة أشارت إلى تغير في الرأي العام الأمريكي تجاه الأزمة الأوكرانية، فبعد أن كانت نسبة دعم أوكرانيا مرتفعة، تراجعت تلك النسب بسبب اعتقادهم أن واشنطن قدمت بالفعل الكثير من المساعدات من أموال دافعي الضرائب إلى أوكرانيا، والتي وصلت إلى 30 مليار دولار، وهو ما يراه البعض رقمًا ضخمًا لا يمكن أن يستمر تقديمه على الوتيرة نفسها. وبعد عام، تظهر تحديات قد تحول دون استمرار دعم بعض الدول الغربية لكييف، ويمكن تلخيصها في:

تضارب المصالح بين مختلف الأطراف: فهناك صعوبة واضحة أمام تخلي الدول الأوروبية عن الطاقة الروسية؛ إذ يعتمد عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا، على الغاز الطبيعي الروسي، وغيرها من موارد الطاقة، وهو أمر لا يمكن إيجاد يدل له على المدى القصير، ولذلك سيكون الأمر بالغ الصعوبة على بعض الدول الأوروبية الاستمرار في تقديم الدعم العسكري لأوروبا على حساب مصالحها، خاصة مع ارتفاع فواتير الطاقة، ما قد يؤدي في النهاية إلى انقلاب الرأي العام ضد الحكومات في هذه الدول.

استنزاف الموارد في ظل تضخم اقتصادي غير مسبوق: لا سيما أن دول الاتحاد الأوروبي تتحمل أعباءً كبيرة لسد فجوات الغذاء والطاقة في ظل ميزانيات أصبحت نوعًا ما محدودة، وسيتعين على الدول ترتيب أولوياتها، وبالطبع الداخل الأوروبي سيكون له أولوية.

عدم القدرة على مجاراة القدرات الروسية العسكرية، والتعبئة المستمرة للمقاتلين: فقد أثبتت الحرب أن روسيا لديها قدر من المرونة في إنتاج الأسلحة بوتيرة سريعة بالرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وهو ما أسهم في قصف أوكرانيا بوتيرة ثابتة، مع الأخذ في الحسبان أنه قد يكون هناك دعم عسكري خفي لروسيا من كوريا الشمالية والصين، حليفي موسكو.

وما يجعل هناك صعوبة في حسم موقف الدول الغربية هو أنها إذا تخلت عن أوكرانيا كليًا فإنها ستكون عرضة لضربات اقتصادية وتهديد لأمنها القومي مستقبلًا، فضلًا عن ضعف صورتها أمام العالم؛ ولذلك ستظل الدول الغربية في حاجة إلى مساندة كييف، حتى لو كان رغمًا عنها.

بعد عام: العقوبات لم تردع روسيا

اعتقد الغرب أن فرضه عقوبات صارمة على روسيا قد يزلزل أقدامها ويجعلها تتراجع عن غزو أوكرانيا، حتى لو كانت هذه العقوبات ستؤثر على أوروبا قبل روسيا، ولكن حماسة الحرب والانتصار الحتمي ووحدة الرد القوي هو ما جعل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يصممان على فرض سلسلة لا تنتهي من العقوبات التي ظنوا أنها ستعرقل التقدم الروسي، وتضعف آلة الحرب في الكرملين، وتنهي الحرب سريعًا.

وبعد عام من العقوبات التي استهدفت عزل روسيا عن العالم، وجدت أوروبا نفسها في الطريق الخاطئ، فالحرب لم تنتهِ، ولم تحقق العقوبات الهدف المرجو منها. صحيح أن ميزانية روسيا قد تأثرت، وتم تجميد أصول البنك المركزي الروسي، وأن مبيعاتها من النفط انخفضت إلى النصف، وانكمش اقتصادها بنحو 4.5% حسب التقديرات الغربية و2.2% حسب التقديرات الروسية، وتم تقييد صادرات المنتجات عالية التقنية بهدف تقليص قدراتها العسكرية، لكنها بالرغم من ذلك، لم يصل اقتصادها إلى حد الانهيار.

ويرجع ذلك إلى تدخل البنك المركزي الروسي لإنقاذ الموقف برفع الفائدة إلى 20%، بالإضافة إلى التوجه بصادراتها من النفط إلى أسواق جديدة لتخفيف الضربات الأوروبية، وبالطبع لم تتوقف الحرب أو تجعل بوتين يتنازل عن سياساته.

ولكن على الصعيد الآخر، وخلف الأبواب المغلقة، تعقدت الأمور في أوروبا بسبب ما أسموه “إرهاق العقوبات”؛ إذ أثرت معاقبة النفط الخام الروسي على فواتير الطاقة الأوروبية، ما نشأ عنه صراع بين دول الاتحاد الأوروبي حول تضارب المصالح الشخصية، ولكن في النهاية اتفق الجميع على قرار معاقبة روسيا مع السماح لبعض الدول بإعفاءات لعدم قدرتها على إيجاد بديل، وهو ما عزز موقف روسيا ومنحها المزيد من الوقت لتغيير دفة صادراتها إلى أسواق أخرى، مما أدى إلى استدامة اقتصادها باختيار الاتحاد الأوروبي.

بعد عام: المفاوضات غير مطروحة على طاولة الحلول الغربية

في الأيام والأشهر الأولى للحرب، صاحب الموقف الحديث عن إمكانية التفاوض بين روسيا والغرب بشأن مصير الحرب في أوكرانيا، وذلك بشروط “تعجيزية” تصل إلى الاستفزازية من وجهة نظر كل طرف، وتجعل النصر حصريًا لطرف واحد. فكانت البداية عقب 4 أيام من بدء الحرب، بالقرب من الحدود البيلاروسية، وهدفت إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وسحب القوات الروسية من أوكرانيا، ولكنها انتهت بدون اتفاقات فورية.

وبرعاية تركية في مارس وأبريل الماضي، كانت هناك مفاوضات حاولت حلحلة الأزمة، وطالبت روسيا خلالها باعتراف أوكرانيا بشبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها روسيا، واستقلال إقليمي لوهانسك ودونيتسك الانفصاليين، ونزع السلاح. ولكن كانت النتيجة هو فشل هذه المفاوضات، بسبب “تعنت” زيلينسكي، من وجهة نظر الروس، والذي ألمح أن المفاوضات لن تتم إلا بحصول أوكرانيا على عضوية الناتو الكاملة، والتفاوض على شبه جزيرة القرم ودونباس، ولكن بوتين رفض هذا التفاوض. وفي ظل ذلك، حققت أوكرانيا انتصارات تكتيكية فاجأت الخبراء الذين رأوا أن بوتين لم يستغل صفقة التفاوض تلك، بينما رأت فرنسا أن روسيا تتظاهر بالتفاوض تماشيًا مع استراتيجية تستخدمها في أماكن أخرى.

ومن جانب الولايات المتحدة، تلافت إدارة بايدن الحديث عن دورها بدعم الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية عبر المفاوضات، وقد يرجع ذلك إلى انقسامات داخل الإدارة الأمريكية فيما يتعلق باعتقادات أن دفع أوكرانيا نحو التسوية هو أمر لا أخلاقي، ويعني خوف الغرب من روسيا والانصياع لأوامرها، ولكنها في النهاية وافقت على التدخل عقب تصعيد موسكو من حرب أوسع ضد حلف “الناتو” وإمكانية استخدام الأسلحة النووية، فضلًا عن زيادة تكلفة النزاع على الاقتصاد العالمي.

وقبل مرور عام على الحرب، وتحديدًا في ديسمبر الماضي، أعلنت واشنطن على لسان بايدن استعدادها للتفاوض مع روسيا حال إنهاء الحرب، ليرد الكرملين ويؤكد أن بوتين منفتح على المفاوضات، ولكن فقط وفقًا لشروط روسيا، وتدخل المستشار الألماني “أولاف شولتس” مطالبًا بوتين بسحب القوات الروسية من أوكرانيا، لكن بوتين حينها صمم أن الدعم الغربي المقدم لأوكرانيا هو ما يجعل كييف تعاند وترفض التفاوض، خاصة وأنها تشترط أن الطريقة الوحيدة للتسوية تكمن في الانسحاب الكامل وغير المشروط للقوات الروسية.

ومع دخول عام جديد ومع تمسك كل طرف بمواقفه دون تغيير، ابتعد التوجه العربي عن تبني نظرية التفاوض، وتغيرت النبرة حول هذا الملف تحديدًا بشكل كبير، وتم التوجه إلى تكثيف التسليح الغربي الأوكراني، وهذا واضح للغاية من الأسابيع الأخيرة التي شهدت نقاشات حادة حول إمداد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة لمواجهة هجوم الربيع، وإعلان كبار القادة الأوروبيين في الناتو أنهم يتفقون مع الولايات المتحدة في قرار تزويد كييف بالأسلحة الهجومية الثقيلة، والذي انتهى بموافقة ألمانيا بإرسال دبابات Leopard 2 القتالية، وتتابعت موافقات باقي الدول الأوروبية كبولندا والسويد على إرسال هذا النوع من الدبابات، وتوصل مجلس وزراء بايدن إلى خطة للولايات المتحدة للإعلان عن توفير دبابات M1 أبرامز، والتي من شأنها إرضاء ألمانيا، وكل هذا يعني أنه “لا تفاوض” على المدى القريب.

بعد عام: رسائل أمريكية غربية روسية تحدد شكل الحرب

هذا الشهر، ومع اقتراب الذكرى الأولى للحرب، كانت هناك ثلاث فعاليات يمكن من خلال قراءة ما بهم من رسائل أن نفهم شكل الفترة المقبلة من الحرب، فشاهدنا بايدن يتجول في شوارع كييف في زيارة مفاجئة، وتنطلق من حوله صافرات الإنذار من الغارات الجوية، ومن قبلها مؤتمر ميونيخ للأمن، والذي تصدر جدول أعماله الصراع الروسي الأوكراني، وخرجت منه تصريحات مهمة وموجهة، وبالطبع خطاب بوتين للأمة الذي جاء ردًا على كل ما سبق.

شكلت زيارة بايدن إلى كييف حدثًا فارقًا بالرغم من زيارات كبار المسؤولين الغربيين إلى كييف طيلة عام من الحرب، فتم توصيل رسالة مهمة من هذه الزيارة وهي التأكيد على عمق الالتزام الأمريكي بدعم أوكرانيا في حربها، والإثبات لروسيا أن واشنطن لن تتراجع، برغم ضعف الدعم في أوساط الرأي العام الأمريكي، وعدم وجود ضمانات على موافقة الكونجرس على طلبات بايدن للدعم، وعدم وجود احتمالية قريبة المدى لمحادثات السلام.

أما عن مؤتمر ميونيخ للأمن، والذي عقدت فعاليات دورته التاسعة والعشرين ، فبالنظر إلى مخرجاته نجد أن أوروبا اتفقت خلاله على استمرار هذه الحرب وإطالة أمدها بالرغم من تداعياتها الاقتصادية عليها، وابتعدت تمامًا عن فرضية المفاوضات، وشددت على حتمية النصر الأوكراني دون تخيل أي سيناريو آخر.

أما خطاب بوتين الذي ألقاه أمام النخبة السياسية في بلاده، فقد كشف خلاله عن أولويات بلاده في لمرحلة المقبلة، وعن خططه في حرب أوكرانيا، لدرجة أن الغرب وصف هذا الخطاب بأنه الخطاب الحقيقي لحالة الحرب حتى الآن. وربما كان أبرز ما أعلن عنه بوتين خلال كلمته هو تعليق مشاركة روسيا في معاهدة “نيو ستارت” التي تضع قيودًا على الترسانات النووية الاستراتيجية لدى كل من واشنطن وموسكو. واعتبر الخبراء أن هذا القرار هو “ابتزاز نووي” رفع من خلاله بوتين مستوى التوتر والتصعيد.

ويبدو أن بوتين يلعب هو الآخر “حرب استنزاف” على الغرب، ويأمل أن يمل الغرب من دعم أوكرانيا عبر زيادة معاناتهم الاقتصادية، وتذكيرهم بأنهم “هم من بدأوا هذه الحرب”، وأن روسيا فعلت كل ما تقدر عليه لمنعها. ولكن يجب الإشارة إلى جزء مهم في الخطاب وهو تأكيده أن “استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا سيؤدّي حتمًا إلى الردّ الروسي، والذي قد يعني توسيع رقعة الاشتباك إلى ما هو أبعد من أوكرانيا”، وقد يكون الاشتباك القادم في بولندا كونها القاعدة العسكرية للدعم اللوجستي لأوكرانيا.

بعد عام: سيناريوهات قد تكتب نهاية الصراع

في كتابه “كيف تنتهي الحروب؟”، ذكر الكاتب الأمريكي “جايدون روز” أن كل حرب تم خوضها على مر الزمان مرت بثلاث مراحل: الهجوم الافتتاحي، والنضال من أجل المكاسب، ونهاية اللعبة. وبالنظر إلى الحرب الروسية الأوكرانية يمكن توقع نهايتين حتميتين لهذا الصراع، فإما أن ترجح كفة الحرب بشكل لا رجعة فيه إلى مصلحة أحد الطرفين، أو الانتهاء بنوع من السلام المتفق عليه بشكل متبادل، وتحقيق نظرية أن الحروب لا يُفترض أن تنتهي لصالح أي طرف فيها.

وبعد عام، لا تزال الحرب في مرحلتها الوسطى “النضال من أجل تحقيق المكاسب”، فليست روسيا أو أوكرانيا مهتمتين بالتفاوض، لأن كل طرف لا يزال إما يحاول الفوز بشكل مباشر، كمسألة حياة أو موت، أو على الأقل تعزيز موقفه في ميدان المعركة، وبالتالي يكون لأي منهما موقف أقوى يمكن من خلاله التوصل إلى شروط سلام في نهاية المطاف. ولكن بافتراض عدة سيناريوهات خلال العام الجديد، سنجد أننا أمام:

1 – سيناريو النصر الأوكراني: وسيتضمن طرد القوات الروسية من كل شبر من أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم وجمهوريات دونباس التي ضمتها روسيا، وهو السيناريو الذي يحارب من أجله الغرب وقادة كييف، والذي يرون أنه سينتهي بلا شك بإجبار روسيا على دفع تعويضات ووضع قادتها -بما فيهم بوتين- في قفص الاتهام لمحكمة جرائم الحرب الدولية.

ولكن هناك فجوة واضحة بين رؤية الناتو للنصر وبين رؤية أوكرانيا، فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي يصر على وجوب استعادة شبه جزيرة القرم لاستعادة وحدة أراضي أوكرانيا، ولكن كبار خبراء الغرب يرون أنه مما لا شك فيه أن نجاح الاستيلاء عليها سيكون حيويًا من الناحية الاستراتيجية للأمن العسكري المستقبلي لأوكرانيا ولأوروبا بشكل عام، ولكنه سوف يستلزم خوض حرب من نوع مختلف، وأسموها بحرب “الغزو” بدلًا من “التحرير”، ولن يحدث ذلك بدون أسلحة غربية موسعة مثل الصواريخ الدقيقة بعيدة المدى وزيادة القوة الجوية. هذا فضلًا عن أن ما يصل من ثلثي سكان المناطق التي تريد أوكرانيا استعادتها لا يرغبون أصلا بالعودة تحت اللواء الأوكراني، وبالطبع لن يرغب الغرب في إجبار الناس على الانضمام إلى دولة لا يرغبون في أن يكونوا جزءًا منها.

2 – سيناريو النصر الروسي وهزيمة الغرب: 

لا يزال لدى بوتين احتياطات هائلة من الأسلحة منخفضة التقنية غير المستغلة لإلقائها في الصراع حتى مع انخفاض ترسانته من الصواريخ عالية الدقة؛ إذ إن دولًا مؤثرة في أقاليم أخرى غير أوروبا كالصين وكوريا الشمالية قد تقفان خلف روسيا ويتحدان معها، وهما قوتان لا يمكن الاستهانة بهما إذا قررتا إمداد موسكو بما تحتاجه من الأسلحة. هذا فضلًا عن محاولات روسيا لاستنزاف موارد كييف في المناطق الشرقية، واستهداف محطات الطاقة، ومنشآت البنية التحتية. وكل هذا إذا استمر بنفس الوتيرة، فمن شأنه أن ينهك كييف، وقد يدفعها إلى لاستسلام طواعية، وتُحسم الحرب لصالح موسكو، لكن يبدو أن الغرب لن يسمح بذلك. وبالطبع هناك الخيار الأخير لروسيا، وهو تنفيذ التهديدات باستخدام الأسلحة الاستراتيجية، وتحديدًا النووية، ومن شأن ذلك حسم المعركة بشكل فوري، ولكن لا يمكن الرهان على ذلك، فقد تكتب حينها روسيا نهايتها بأيديها.

3 – التفاوض الغربي:

يمكن حينها أن يبدأ الغرب بمد اليد نحو السلام، خاصة مع استمرار زيادة تكاليف الطاقة في بعض الدول الأوربية، وانقلاب الرأي العام بشكل لا يمكن السيطرة عليه، فإن ذلك يمكن أن يجبر الدول على البدء في مفاوضات من أجل قبول شروط موسكو. ولكن إذا اتخذ الغرب هذا الخيار فلن يحدث بتلك السهولة، بل سيتعين على بايدن وحلفائه الغربيين التفكير أولًا بالوقت المناسب للدفع إلى التفاوض، وثانيًا تحديد أي مرحلة ستصبح فيها تكلفة استمرار الحرب أكثر من المكاسب المحققة على الأرض، وثالثًا هل ستتضمن المفاوضات مسألة تخفيف العقوبات الغربية على روسيا؟ مع الانتباه إلى أي عقوبات تستحق أن تخفف، وأخيرًا ضمان الاستفادة من النجاحات الأوكرانية بما لا يجعل مجالًا لأي نزاع مستقبلي.

4 – التفاوض الروسي:

يمكن أن يحدث هذا السيناريو بشرط أن تتأكد روسيا من تحقيقها مكاسب مرضية، ومرضية هنا سيترتب عليها توقيع اتفاق سلام يضمن خسارة أوكرانيا لأراضيها، بما يعني ضمّ إقليم دونباس والاعتِراف برُوسيّة شِبه جزيرة القِرم، وهذا سيترتب عليه فشل قاتل لأوكرانيا من الناحية السياسية، وسيؤدي إلى فشل غربي يصل إلى حد انقسام أعضاء الناتو بين تحقيق العدالة وبين السلام، وهنا سيختبر الوضع عزيمة أقوى حلفاء أوكرانيا.

وفي حالة التفاوضين الروسي أو الأوكراني، يجب الأخذ في الحسبان الوضع السياسي الداخلي في أوكرانيا وروسيا، لأن التأييد الشعبي الداخلي في كلا البلدين سيلعب دورًا حيويًا في استدامة أي اتفاق يتم التوصل إليه.

5  – تدخل الصين بخطة لإنهاء الحرب: وتصوير نفسها على أنها صانع سلام محايد في الحرب، فقد أعلنت بكين في مؤتمر ميونيخ للأمن عن نيتها التدخل، حال أراد الغرب ذلك، وتقديم خطة سلام لإنهاء ما أسمته بالـ “أزمة الأوكرانية” في الذكرى الأولى للحرب، والتي لاقت هجومًا غربيًا؛ إذ يرى المسؤولون الغربيون أن الصين التي تدعو إلى احترام سيادة الدول لم تعترف بالأصل بالغزو الروسي على أوكرانيا، وأنها تتخذ صف حليفتها ضمنيًا، وتريد تقديم نفسها علنًا على أنها محايدة، بينما تنتقد رد فعل الغرب على الحرب، وأنها تريد “تشتيت” الانتباه عن التهديد الوشيك بتزويد الصين بالأسلحة الفتاكة لروسيا.

وأخيرًا، مع تصميم طرفي الصراع على التمسك بموقفيهما –حتى الآن وتحديدًا بعد مبادرة الصين للسلام- وتحقيق أقصى استفادة سياسية وعسكرية ممكنة من الحرب، يبدو أننا أمام فترة أطول من الحرب تجعل من الصعب افتراض كيف يمكن حسم المعركة عسكريًا. ولكن بافتراض استمرار الحرب لأبعد من عام قادم، هناك سيناريو بعيد المدى؛ فقد تكتب الانتخابات الرئاسية الأمريكية نهاية الحرب حال فوز ترامب بها، إذ تشير الآراء إلى قدرته على التفاوض مع بوتين ووضع حل يقنع من خلاله موسكو بتوقف الصراع، وذلك برغم الصراعات داخل حزبه الجمهوري بين تأييد الموقف الأمريكي من الحرب ورفضه، خاصة وأن ترامب ينتقد دائمًا تعامل إدارة بايدن مع مجريات الحرب، وقد تكون لدى ترامب خطة سرية لا يتوقعها أحد، وتكون هذه الخطة هي السبب في “فوزه” بالانتخابات القادمة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75731/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M