فاطمة بنت رسول الله ودفاع المرأة عن حقوقها

محمد علي جواد تقي

 

سمع العالم لأول مرة بجمعيات ومؤسسات تعني بالدفاع عن حقوق المرأة بعد ان وصلت المرأة الى أدنى تسافل تشهده في التاريخ، وأعتى المظالم، وأقسى الضغوطات، لاسيما في مطلع القرن العشرين، حيث انطلاق عجلة التصنيع والانتاج بسرعة جنونية سحقت معها نظارة المرأة، ورقتها، وكرامتها، وما تزال، حتى تكاد اليوم تفقد خصوصيتها وحتى أنوثتها، وهي بين هذا وذاك، تسمع بمن يتحدث عن “حقوق المرأة”، و”المساواة مع الرجل” ويدفعها للمطالبة بها، ثم تسربت هذه المغالطة الى بلادنا الاسلامية لنسمع بمن ينادي بـ “حقوق المرأة المسلمة”! وهي مغالطة على مغالطة، فالمرأة عندنا كانت طيلة القرن الماضي، مصونة ومكرمة في بيتها، لم تسحبها مكائن المصانع، ولا دوام الشركات والمؤسسات ودوائر الدولة الى فترة طويلة من الزمن، ثم تسمع بمن يدعوها لأن تتساوى مع الرجل في كل شيء، في وقت اتضح كذب هذا المدعى في التمييز بين الاجور في الغرب حتى اليوم، مع سلسلة طويلة من الانتهاكات لحقوق وكرامة المرأة حول العالم.

مع ذلك؛ فاذا كان ما تراه المرأة “حقّاً” مشروعاً لها، مثل حق الردع أمام عنف بعض الرجال، او انتهاكهم لحقوقها المالية وغيرها، فهي ليس بأقل من الرجل في المطالبة بحقوقها؛ الصغيرة منها او الكبيرة، من أية قوة مهما كانت، وهذا ما فعلته الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، عندما فاجأت المجتمع العربي لأول مرة في تاريخه بامرأة تقف معترضة بوجههم على نقضهم بيعة الغدير، وانتزاعهم أرض فدك من يدها بحجج زائفة.

أيُّ حقٍ وأيّةُ معارضة؟

ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء التي عشناها طيلة الايام الماضية واليوم هو آخر تاريخ يرويه التاريخ لاستشهادها الأليم، غلب عليه الجانب العاطفي والمأساوي، و هو جزء من القضية الى جانب الجزء الآخر وهو الجانب الحقوقي، فهي، سلام الله عليها، لم تكن بصدد إثارة المشاعر الانسانية للتمكن ممن اغتصبوا الخلافة، وايضاً حقها في ملكية فدك، بقدر ما تظاهرت بخروجها من بيتها من اجل قضية كبرى أريد لها التغييب لتكون صياغة الأمة بغير ما اراد لها نبيها الأكرم، وما اراد لها الله –تعالى-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، بل أريد لها ان تكون العكس، كما حصل.

المأساة المروعة في بيت الزهراء لم تكن لتحصل لولا تصدّيها الشجاع والباسل لقضيتين أساس في الأمة:

القضية الاولى: سياسية، والقضية الثانية: قانونية.

بعد أن فرغ أمير المؤمنين من مراسيم دفن رسول الله، وجلس لحظات، كانت الزهراء تعلم جيداً أن هذه اللحظات لن تطول عليه فشيوخ الانقلاب والردّة سيتوجهون صوبه ويطالبونه بالبيعة لكسب الشرعية أمام الناس، وهو ما حصل عندما توجه نفرٌ من الانقلابيين صوب دارها وضربوا الباب بعنف داعين الإمام بالخروج والبيعة، فجاء الجواب من الصديقة الطاهرة من وراء الباب تدعوهم بالانصراف، ولكن سُكر السلطة أفقدهم انسانيتهم، فهددوا، وأحرقوا، وانتهكوا حرمة الصديقة الزهراء بالضرب وقتل جنينها، كل هذا قبل ان تصل ايديهم الى أمير المؤمنين، وتقول الروايات؛ أنها بعد أن افاقت من الضرب المبرح، وجدت أن القوم اقتادوه الى المسجد، فلم تبرح في مكانها إلا وانطلقت خلفه الى المسجد وهي تهدد بأن “خلوا ابن عمّي وإلا كشفت رأسي وشكوت الى الإله شجوني”.

وقد سبق وصولها الى المسجد، حواراً عاصفاً بين أمير المؤمنين والمرتدّين، أفحمهم بالدليل والبرهان بأنه الأحق بالخلافة منهم، ولكن منطق السيف كان السائد في مسجد رسول الله، بأن “إما تبايع وإما نضرب عنقك”، وعندما رأى الناس حال الزهراء وهي تتوعدهم بالويل والثبور، وقالت فيما قالت: “لست بأقل على الله من ناقة صالح، ولا ولداي بأقل من فصيل ناقة صالح”. فخافوا الغضب الألهي المنعكس لغضب فاطمة، كما اخبرهم النبي من قبل، فاضطر رؤوس الردة التراجع، فعادت الزهراء بصحبة أمير المؤمنين الى الدار المحترقة بابها، والمنتهكة سترها، ولعلي أصيب بالمقارنة بين دفاع الزهراء عن حياة أمير المؤمنين، والموقف المشابه لابنتها العقيلة زينب ودفاعها عن حياة الامام السجاد في مجلس ابن زياد، عندما أوشك على قتله لمجرد ان أفحمه في الجواب، وكان القتل أيسر ما يكون في مجالس كهذه، وأهل البيت، عليهم السلام، كانوا على دراية بما تكن به نفوس الغالبية العظمى من العرب آنذاك في حنينهم الشديد الى قيم الجاهلية كالعنف والقسوة وعبادة الذات، فان أهون ما عندهم أن يقطعوا رأس انسان ويرفعوه على الرمح اذا ما أزعجهم شخص ما.

أما القضية الثانية في إطار الحق، فكانت ذات طابع قانوني، فقد خرجت الزهراء من بيتها الى مسجد رسول الله لما تناهى الى سمعها قرار الانقلابيين الاستحواذ على أرض فدك وانتزاعها منها، وقصتها معروفة عندما وهبها لها رسول الله بعد معركة خيبر ومناصفة اليهود بان يبقوا يعملوا فيها بعد ان وضع يده عليها وتملكه إياها بنصّ الآية الكريمة: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، (سورة الممتحنة، الآية6)، وطالبت بهذا الحق الشرعي والمسلّم بكل شجاعة وبطولة، وواجهت السلطة المشحونة بالغطرسة والتجبّر في ظنهم أنها مانعتهم من الناس، ولسنا بوارد الخوض في تفاصيل المحاججة الطويلة والتي أعيتهم جميعاً، وجعلتهم يتشبثون بالزيف والدجل والكذب على الله وعلى رسوله، بأن “نحن معاشر الانبياء لا نورّث”! ثم يصمتون فجأة لدى سماعهم الآية الكريمة: {و وَرِثَ سُليمانُ دَاوود}، إنما المهم الاشارة الى تمسك الزهراء بحقها القانوني والشرعي حتى تتعلم الأمة أن حقاً من هذا النوع لا يجوز السكوت عليه مهما كانت الظروف.

وفي كتابه؛ فاطمة الزهراء من المهد ال اللحد، إشارة الى التساؤلات لدى البعض عن سبب تمسك السيدة بأرض فدك، وهم أهل بيت مثال الزهد والاقلاع عن مظاهر الدنيا وزينتها، يبين سماحة آية الله الخطيب السيد محمد كاظم القزويني –طاب ثراه- عدة اسباب منها: “أن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة –حسب المصطلح الحيدث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، وان يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، وارادوا ان يكون علياً فقيراً حتى لايلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وحسب “كشف المحجة” للشيخ المجلسي فان وارد فدك كان اربعة وعشرين ألف دينار ذهب سنوياً، وفي رواية اخرى سبعين ألف دينار”، والسبب الآخر يذكره المرحوم القزويني في كتابه: “بان الحق يُطلب ولا يُعطى، فلابد للانسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق”، كما يشير الى انه حتى “وإن لم يظفر بالمال فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس انه مظلوم، وأن امواله غصبت منه، خاصة اذا كان الغاصب ممن يدعي الصلاح والفلاح ويتظاهر بالديانة والتقوى، فان المظلوم يعرّفه للاجيال أنه غير صادق في دعواه”.

لم ينته الأمر في مسجد رسول الله بالخطبة الفدكية المدوية والمجلجلة، ولم يهدأ لاصحاب السلطة بال إذ كانت الصديقة الزهراء تطوف على بيوت المهاجرين والانصار بصحبة أمير المؤمنين يسوق دابتها، فتطرق ابوابهم وتذكرهم بالحق الإلهي في ولاية أمير المؤمنين، وتحذرهم من عواقب الخذلان، وكانت تقف على باب بيتها وتقول: “لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله جنازة بين ايدينا وقطعتم أمركم وبينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقاً”. (فاطمة الزهراء، قدوة وأسوة – المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، وبذلك تؤكد، عليها السلام، المنطلق الرسالي لمطالباتها بحقوقها الخارجة عن نطاق المادة والمصالح الضيقة الى رحاب المسؤولية عن مصير الأمة ومستقبلها.

وأجدني ملزماً الإشارة الى هذه الحقيقة التاريخية الغائبة بأن أرض فدك الغنية بالعائدات والارباح لم تغنِ الزهراء، ولا أمير المؤمنين بالطعام اللذيذ، والشراب الطيب، والمسكن الوفير، والخيل والجواري ومختلف مستلزمات الرفاهية آنذاك، والتي كانت لبعض الناس، فالروايات التاريخية تنقل لنا كيف أن الزهراء تطحن بالرحى الحجرية الثقيلة حتى تقرحت يداها، وكيف كان يخلو بيتها من الطعام ثلاثة ايام في بعض الاوقات، وكانوا يأكلون طعام الفقراء، لانهم كانوا ينفقون تلك الاموال على هذه الشريحة الضعيفة في المجتمع، او كانوا ينفقونها لتقوية الكيان العسكري والاداري للدولة الاسلامية الفتية.

المطالبة بالحق مشروع تربوي

أشرق نور الصديقة الزهراء في الحياة الدنيا قبل سنتين او خمس سنين –حسب الروايات- بعد البعثة النبوية، وبينما كانت تحبو وتترعرع في أحضان أبيها وأمها، كان الحنان ممزوجاً بروح التحدي لقوى الشرك والجاهلية، فقد كانت ثروة أمها توشك على النفاد بعد إنفاقها في سبيل الدعوة، “فلا يبقى لها ، ذلك الثراء العريض ، ولا تلك التجارة الواسعة ، بل اقتربت من الفقر، من جانب ، وتصلّب موقفها للدعوة ضد الأفكار الرجعيّة التي كانت نساء قريش قد تعودت عليها ، وتبنّت الدفاع عنها من جانب آخر، فقد تخلت عنها نساء قريش مرة واحدة، كما شاهدت ذلك اليوم الذي كانت أمها خديجة، سلام الله عليها، تضطرب على فراش الموت وتلفظ أنفاسها الأخيرة وهي لا تملك من مال الدنيا شيئاً، بعدما كانت تجارتها تملأ سهول الحجاز وبطاحها، حتى إذا استجابت دعوة ربها، لم تملك حتى ما تكفَّن به”. (فاطمة الزهراء قدوة وأسوة).

الدفاع عن الحق عند الصديقة الزهراء، مدرسة رسالية تعلمت فيه من أبيها وأمها فنون المعارضة، والرد، وتحشيد الرأي العام ضد الطغاة والظلمة حتى يعلم الجميع حقيقة ما يحكمهم ويتصرف بثرواتهم ومصيرهم، وهذه المعرفة كانت تعني الكثير لأهل البيت، لاسيما ما يتعلق بأرض فدك التي كان أمير المؤمنين ينظر اليها وهو الخليفة الحاكم ويغضّ طرفه عنها: “نعم كانت في أيدينا فدك مما أظلت السماء، وما أصنع بفدك…”، فأن يعرف الناس والاجيال حقيقة الغاصبين الدجالين من أهل السلطة، أولى بكثير من أن يضع أمير المؤمنين، ولا حتى أيٍ من الأئمة المعصومين، عليهم السلام، يدهم على هذه الارض، “والنفس مضانها في غد جدث” يقول أمير المؤمنين في تكملة خطبته الشهيرة، فالتملك يفقده صاحبه بالموت، بينما النماذج العملية للقيم والمفاهيم تبقى حيّة في نفوس الاجيال الى يوم القيامة.

وعندما نتعلم من الصديقة الزهراء أيّ حق نطالب به، سيهون علينا الدفاع عن حقوق أخرى في اطار العلاقات الزوجية، والاجتماعية، وحتى السياسية حيث يكون هذا الدفاع والمطالبة “حقانية” او حسب المصطلح الحديث: “استحقاق” على الطرف المقابل الوفاء به، فالمرأة والرجل ايضاً عندما يتعلم الدفاع عن الحقوق بمستوها الكبير في حدّ القيم الدينية والاخلاقية، فانه سيتعلم الدفاع عن حقه في الحرية، و العمل، والسفر، والتملك، والعيش الكريم، لأن فقدان هذه الحقوق البسيطة والطبيعية للإنسان، من فقدان حق الله –تعالى- في أحكامه ونظامه في الحياة.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M