لا ينبغي أن تقرأ قضية المرأة عندنا كتقرير تاريخي عن النسوية الغربية

الحوار مع :الشيخ محمد رضا زيبائي نجاد

تعريب: السيد حسن علي مطر الهاشمي

 

كيف ينظر الاستغراب النقدي الى قضية المرأة وتنظيم الأسرة كقضية مركزية في العلوم الإنسانية المعاصرة.. وما هي القواعد المفترضة لتطويره على هذا الصعيد؟

هذه المحاورة مع الباحث الإيراني الشيخ محمد رضا زيبائي نجاد سوف تركز على هذه القضية من جوانبها المختلفة وإشكالياتها.

نذكر ان الأستاذ زيبائي نجاد، يتولى الآن رئاسة مركز تحقيقات المرأة والأسرة. بالإضافة إلى اشتغاله بالتعليم والتدريس في مرحلة الماجستير والدكتوراه، وقد صدر له عدة مؤلفات دراسات منها: (الأسرة، والجنس والنظام التربوي الرسمي)، و(النظام الإسلامي ومسألة الدعارة)، و(الهوية والأدوار الجنسية)، و(آفات الأسرة)، و(تيارات الحركة النسوية في الغرب)، و(وضع المرأة من وجهة نظر الإسلام والحركة النسوية)، و(المرأة والأسرة في سيرة النبي الأكرم )، و(المرأة، الأسرة، وإصلاح النموذج الاستهلاكي)، وغيرها من المقالات الأخرى.

نسعى في هذا الحوار إلى البحث في بعض مسائل الاستغراب من زاوية مباحث المرأة والأسرة.

«المحرر»


* كيف ترون انطلاقة وطريقة تطوير مشروع باسم «الاستغراب الانتقادي»؟ وبعبارة أخرى: كيف ندير هذا المشروع لنقطع هذا المسار بشكل منطقي، ونصل إلى نتائج مطلوبة؟

ـ فيما يتعلق بمشروع الاستغراب الانتقادي، يجب أن نطرح الأبحاث في الطبقات السفلى؛ بمعنى طرح البحث في النظريات الهامة، والنماذج، والأصول الموضوعة، والأنظمة الغربية الجذرية، وما هي المواضع التي تصطدم فيها هذه الأبحاث الأساسية والعميقة بالأنظمة الإسلامية الجوهرية. إن علم الاجتماع، وعلم النفس، والحقوق، والكثير من فروع العلوم الإنسانية، قد حلّت بأجمعها محل التشريع. بمعنى أنها تعمل على شرح وبيان التوصيات والضرورات والمحظورات والأيديولوجيات، ولكن حيث أن أغلب المسلمين لا يمتلكون فهماً عميقاً عن مباني هذه العلوم، فإن بحث أسلمة العلوم يتواصل في أكثر الطبقات سطحية. من ذلك يُقال مثلاً: لنقرأ العلوم الإنسانية، ونأخذ منها ما يوافق الدين، ونذر منها الموارد التي تخالف الدين. في حين أن هذا يعتبر من أكثر أنواع التعاطي سطحية. إننا في الحقيقة لا نلتفت إلى أن مواجهة المسلمين مع هذه العلوم أعمق وأكثر تجذراً بكثير من هذا التعاطي. ومن هنا تواجه المجتمعات الإسلامية حالياً إسقاطية عميقة ولا إرادية. وحتى الجماعات العلمية قد تعرّضت إلى هذه الإسقاطية أيضاً؛ وعلى كل حال فإن المسلمين لا يمتلكون الكثير من العلوم الإنتاجية؛ وبالتالي لا مندوحة لديهم من التعامل مع هذه العلوم المستوردة، بيد أن أبناءنا إذا لم يتوصلوا إلى فهم عميق لهذا التقابل، وإذا لم يتوصلوا إلى معرفة وفهم مستوى النزاع، فإنهم سوف يُغلبون. وفي ضوء هذه المقدمة لا بد من القول بإن الاستغراب يجب عدم قراءته بوصفه علماً تاريخياً أو بوصفه حقلاً يعنى بدراسة التيارات الفكرية. بل يجب إخضاعه للتدقيق في مستوى عميق؛ بحيث يبدي لنا تبلور النموذج الجديد للتفكير الغربي والمدخل الرئيس. وما هي الرؤية العميقة التي يحملها الإنسان الغربي عن الله والإنسان والتاريخ والمجتمع وما إلى ذلك؟ وعلى أساس أي رؤية يتم إنتاج نظريات العلوم الإنسانية الغربية؟ والكثير من الأسئلة الأخرى. إن استغراب المسلمين يتخذ في الغالب شكل التقرير التاريخي. إننا نقرأ رينيه ديكارت على نحو تاريخي، في حين أن علينا أن نفهم ما هي التحولات الأساسية التي تركها فكر ديكارت في الغرب على المستوى النظري والعملي. إن تعاطينا مع أفكار تشارلز دارون، وألبرت أنشتاين ونيكولاس كوبرنيق وغيرهم، يجب أن يكون على هذه الشاكلة؛ وعليه فإن التعاطي السطحي يمثل آفة جوهرية. وفي المقابل فإن انطلاقتنا واتجاهنا العام في مباحث الاستغراب الانتقادي يجب أن يكون حول الالتفات إلى المسائل الجوهرية.

* في حقل الأعمال البحثية والتحقيقية، ما هي النصيحة العملية التي يمكن لكم تقديمها لمشروع «الاستغراب النقدي»؟

ـ يبدو في الخطوة الأولى وجوب تأسيس مراكز بحث خاصة بالاستغراب ذات توجه نقدي. وفي الخطوة الثانية يجب في المفاصل الأصلية في الحوزة العلمية والجامعة تدريس مواد تحت إشراف هذا المركز مع رعاية الثوابت والاتجاهات الدينية، والعمل على دعم هذه الحصص الدراسية والدورات، كي يتبلور فهم صحيح لدى النخبة من طلاب الجامعات. وفي الخطوة الثالثة يجب العمل على نشر الأفكار الناتجة عن التربية والتعليم في عموم مرافق الجامعة. لو تجاهلنا البحث الجوهري والنقدي في الاستغراب، واكتفينا ببضع حصص للاستغراب في جميع الحقول الجامعية، فإن نتيجة ذلك ـ إذا تم القيام بها على نحو صحيح ـ لن تكون سوى ما نحن عليه الآن من الاستغراب الضعيف الراهن. وتتحول كتب الاستغراب إلى كتب في موضوع تاريخ الفكر الغربي. ولكن إذا أردنا العمل في ضوء الاستغراب النقدي، يجب التركيز على تربية وإعداد طلاب من النخبة تتراوح أعدادهم ما بين عشرة إلى عشرين طالباً، كي يهتموا بعمق الاستغراب ضمن الاتجاه النقدي وفي فروع من قبيل: علم الاجتماع، وعلم النفس، والإدارة، والاقتصاد وغيرها من الحقول الأخرى، سوف نحصل على واقع مناسب وجديد يدعو إلى التفاؤل.

* ما هي التداعيات والتحديات التي أوجدتها الاتجاهات النسوية في العالم الإسلامي؟

ـ إن حضور وتأثير النسوية في البلدان الإسلامية متنوّع ومختلف للغاية. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن حضور واتساع الحركة النسوية في إيران والعراق مختلف جداً. بالإضافة إلى وجود التخلف العلمي من حيث التعريف بالتيارات النسوية في العالم الإسلامي، نشعر في بعض الموارد أن هناك تضخيماً للتيار النسوي. أنا أرى النسويين هم الأشخاص الذين أطلقوا السهم الأخير، في حين أن الذين أطلقوا السهم الأول هم الآخرون. قامت سيدة قبل بضعة عقود بكتابة مقالة صحفية مضمونها أن النسويين يتبنون الكثير من التحولات في الشأن النسوي. وفي الحقيقة فإن توفر الكثير من الأجهزة في المنازل من قبيل: غسالة الملابس، وغسالة الأواني، والمكنسة الكهربائية وما إلى ذلك، أدى إلى توفير الكثير من أوقات الفراغ للمرأة في بيتها. إن ما يقوله النسويون من أنهم قد حرروا المرأة من سجن البيت والأسرة، وأنهم قد عملوا على تحويلها إلى كائن اجتماعي، مجرّد هراء فارغ. إن الكثير من النساء لم يسمعن حتى باسم الحركة النسوية فضلاً عن التأثر بخطابها، إلا أن دخول التكنولوجيا إلى مسرح الحياة، منح النساء فرصة الخروج إلى الأزقة والشوارع. إن تضخيم الحركة النسوية وتربصها، يكمن في القول بأن الليبرالية قد مهدت الأرضية لتقبل الأفكار النسوية، والأفكار الافتراضية والأصلية والجوهرية. إن الحداثة تعمل على الترويج للنسوية والعلمانية، وتبعد الإنسان عن الدين. في العصور الوسطى كانت قيمة الرجل والمرأة تناط بقمم العبودية الإلهية. وفي الأجواء الدينية والإسلامية يتم التعريف بقيمة الناس من خلال نسبتهم إلى الله سبحانه وتعالى. في حين أن موقع الله قد تم حذفه في الحداثة والمجتمع الليبرالي، والآن يطرح هذا السؤال نفسه قائلاً: ما هو مكمن قيمة الإنسان؟ في السابق كان ذلك يتحدد بالارتباط مع الله، فبماذا يتم تحديده حالياً؟ في المجتمع الجديد وفي الفضاء الليبرالي، إنما يتم تحديد قيمة الإنسان بمنزلته الاجتماعية، ويتم تعريف هذه المنزلة الاجتماعية إما بالأموال أو بالشأن الاجتماعي من قبيل المهنة أو المرتبة وإدارة الأعمال وما إلى ذلك. عندما تحقق التحول المفهومي في الفضاء الليبرالي، تعرّضت المرأة إلى تأثير هذا التحوّل المفهومي، وسعت إلى بلوغ هذا الموقع. ولا زالت المرأة تعتقد أنها لم تتمكن على مرّ التاريخ من السيطرة على الأسواق المالية والميادين الاجتماعية أبداً. ومن هنا فإن النساء يستنتجن أنهن كن على مدى التاريخ في الطبقة الدنيا بالمقارنة إلى الرجل. وعليه لا بد من البحث عن حل للحطّ من شأن المرأة. ومن هنا فإننا نرى أن البذرة الأولى لتبلور الحركة النسوية وتداعياتها السلبية تكمن في تبلور واتساع رقعة الليبرالية. لقد تمكنت الحداثة وعناصرها ـ ولا سيما منها الليبرالية والنظام الرأسمالي ـ من إعادة صياغة النظام القيَمي، وتقديم قيَم جديدة. وبعبارة أخرى: إن الليبرالية قامت بحرث الأرض، وتمكنت الحركة النسوية من نثر البذور في هذه الأرض. والشاهد على هذا المدعى أن الدونية والفوقية بالنسبة إلى المرأة قبل خمسة قرون لم تكن لتعد مشكلة أبداً، بل لم تكون مفهومة أبداً.

* ما بتقديركم هي التحولات التي أدت في الغرب إلى تبلور الحركات النسوية؟ أليست المقابلة الصحيحة مع الحركة النسوية وكيف كانت تداعياتها في العالم الإسلامي؟ 

ـ إن هذه التغيّرات العميقة قد تحققت في الغرب على طول التاريخ وعبر الزمن. إن المرأة بمجرد أن تتزوج في المجتمع الغربي تجد جميع ممتلكاتها تحت تصرّف زوجها؛ لأن الرجل بإمكانه التصرّف في جميع ممتلكاتها. إن المرأة في مثل هذا المجتمع الصناعي فيما يتعلق بانخفاض الأجور في معامل النسيج والتصدير وما إلى ذلك، تكتفي بالحدّ الأدنى من الأجور. إن المصانع الكبرى في إطار التنافس وخفض النفقات كانت تسعى على الدوام إلى خفض الأجور، وكانت النساء على الدوام يكتفين بأقل الأجور. ومن هنا أخذت المرأة بمرور الزمن تعتبر بوصفها من أهم قوى العمل. وفيما يتعلق باجتذاب المرأة إلى العمل في المصانع، كان التحدّي الأكبر يتمثل في عدم رغبة المرأة بهذا العمل؛ وذلك لأن أجرها كان يعدّ من جملة ممتلكات زوجها، وعلى هذا الأساس فإن شعار ملكية المرأة قد صدر للمرّة الأولى من قبل الأنظمة الرأسمالية. وكانت إحدى المطالب الهامة للموجة الأولى من الحركة النسوية قد تمثلت بـ «الملكية الاقتصادية للمرأة»، وحضورها في التعاونيات العمالية، والحصول على الخدمات أثناء العمل، من قبيل: رياض الأطفال والأمور الأخرى. كما تم طرح بحث الانتخابات السياسية للمرأة في هذا الإطار؛ فإنه لو كان للمرأة حق في التصويت، سيكون لديها حافز أكبر إلى الحضور في المناصب الاجتماعية وأسواق العمل. يقول وول ديورانت: إن النساء حتى أواخر القرن التاسع عشر كنّ يعملنّ في المصانع حتى إلى 15 ساعة و17 ساعة في اليوم. إن الرؤية الرأسمالية أدّت إلى تغيير نمط حياة النساء. وفي بعض الشركات الخاصة في البلدان الإسلامية كذلك تعمل النساء بأدنى الأجور. لقد ترتبت على الحركة النسوية نتيجتان؛ الأولى: نتيجة علمية، وأرى ذلك أمراً مفيداً؛ لأنه يضعنا على الدوام أمام تحديات وتساؤلات، ويلزمنا بإعادة قراءة النص المقدس، ويؤدي إلى زيادة تدقيقنا وتتبعنا في المصادر؛ كما أدى ذلك في الوقت نفسه إلى تعرّضنا إلى التحدي في مجال الأسرة. بمعنى أن الحركة النسوية تنشئ النساء المسلمات ليتربّين على مخالفة التعاليم الإسلامية والتمرّد عليها. وبطبيعة الحال فإن هذا مسار عام، يتعرّض الرجل المسلم والمرأة المسلمة بتأثير منه إلى تحوّلات قيَميّة. كما تشتمل الحركة النسوية على تداعيات حقوقية. في أوائل القرن العشرين للميلاد حيث تسللت الأبحاث النسوية إلى المجتمع الإيراني والمجتمعات العربية، تم في الخطوة الأولى إثارة مسألة تعدد الزوجات والزواج المنقطع. وبعد ذلك تمّ طرح بحث عدم المساواة في الامتيازات والاختيارات. وأنه لماذا يحق للرجل أن يمارس السلطة على المرأة بوصفه ربّ الأسرة؟ ولماذا ترث المرأة أقل من المقدار الذي يرثه الرجل؟ ولماذا دية المرأة أقل من دية الرجل؟ وما إلى ذلك من التساؤلات الأخرى. وفي خطوة أعمق، يتمّ طرح بحث عدم العدالة التربوية؛ حيث تثار أسئلة من قبيل: لماذا تختلف ألعاب الفتيات عن ألعاب الفتيان؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. وفي الخطوة الثالثة تم طرح الأبحاث الأخلاقية. وتم تداول أسئلة من قبيل: لماذا يكون الزواج مقبولاً؟ ولا يكون التعايش بين الجنسين دون زواج مقبولاً؟ لماذا يجب أن يتقوّم الزواج بين جنسين مختلفين (رجل وامرأة)؟ ولا يتقوّم بين جنسين متماثلين (الزواج بين المثليين)؟ وما إلى ذلك من الأسئلة المشابهة. وبطبيعة الحال هناك أبنية ممانعة خاصة في بعض البلدان الإسلامية. من ذلك أن التركيبة العشائرية في العراق ـ على سبيل المثال ـ تقاوم هذا النوع من الأمواج والتيارات، وأما في إيران فلا وجود للتركيبة العشائرية إلا في المناطق الحدودية مثل خوزستان. إن نظام رئاسة العشيرة في العراق يحافظ على القيَم التقليدية. إن العشيرة تنقل ثقافتها إلى الأجيال وتعمل في الوقت نفسه على الإشراف عليها؛ ومن هنا يتعيّن على الحركة النسوية أن تعمل في العراق على مكافحة أنظمة من قبيل النظام العشائري، وأما في إيران حيث لا وجود للنظام العشائري، يمكن للحركة النسوية أن تمارس نشاطها بانسيابية أكبر. كما أن الحركة النسوية تشتمل على تحديات عملية أيضاً. بمعنى أنها من الناحية العملية لا تدخل بلداً إلا ويرتفع فيه منسوب الخلافات والنزاعات الأسرية، وتزيد حالات الطلاق، وتختل نماذج العلاقات بين الرجل والمرأة، وتقلب تركيبة السكان، وتحوّل الأسرة إلى أولوية ثانوية من وجهة نظر المرأة، وتجعل المناصب الاجتماعية هي الأولوية الأولى من وجهة نظرها. وفي الحقيقة فإن الحركة النسوية ترى أن القيَم الاجتماعية أهم من القيَم الأسرية.

* ما الذي يجب على المفكرين المسلمين فعله حيال مواجهة هذه التحديات.. وبالتالي، ما هي طرق الخروج من التحديات المعرفية والاجتماعية حيال الحركة النسوية في العالم الإسلامي؟

ـ جوابي عن هذا السؤال هو تكرار هذه العبارة التي قلت فيها: إن الحركة النسوية قد تمّ تضخيمها. وفي الحقيقة فإن الأحداث الجوهرية تحدث في طبقات أعمق. في حين أننا نفسّر تلك التحولات في طبقات سطحية. يذهب [عالم الاجتماع الباكستاني / الأسترالي] سهيل عناية الله ـ في تحليل الطبقات العليّة ـ إلى الاعتقاد بوجود أربع طبقات. الطبقة الفوقية التي هي من أبرز هذه الطبقات. عندما نقول في التوصيف العلمي حول المرأة والأسرة بارتفاع حالات الطلاق، إنما نشير إلى الطبقة الفوقية. وفي الطبقة الداخلية نتعرّض إلى بيان ماهية العلل والعوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في ارتفاع حالات الطلاق، ومن بينها الإدمان والمطالبة بالمساواة وما إلى ذلك. وفي هذه الطبقة يتم عرض الأبحاث العلمية. ولكن هناك طبقة أشد عمقاً، وهي مستوى العقائد والحوارات. وفي هذه الطبقة نتحدث عن حركة العالم نحو الحوار الليبرالي والرؤية الغربية. في هذا المستوى، تتوفر الأرضية لنشاط الحركة النسوية. وأما الطبقة الأعمق التي قلما يلتفت إليها أحد، فهي طبقة الأساطير والنماذج؛ وعلى هذا الأساس فإن دائرة مواجهتنا تكمن في الطبقات الأعمق، في حين أننا نروم حلّ المشكلة في حدود الحركة النسوية، وأن نقللها إلى حدّ كيفية حل مشكلتنا مع النسويين. وبعبارة أخرى: إن الأفكار النسوية تمثل تحدياً بالنسبة لنا، ولكن النسوية لا تمثل جميع التحديات، وإن التحدّي الأهم الذي يواجه الإنسان الحديث هو الحياة الإيمانية في العالم المعاصر. إن العالم المعاصر هو عالم ظهرت فيه ضرورات جديدة، وعلاقات جديدة، وأشباه ضرورات جديدة. في إطار مواجهة هذه التحديات يجب العمل على تأسيس لجان علمية كي نطلع النُخَب على ماهية هذا المسار، وإقحامهم في هذه الطبقات الأربعة. إن هذا الاتجاه من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف في المقياس العام وعلى المدى الطويل إلى نجاحنا في القيام بعمل إيجابي. في هذه الحالة فقط سوف نتمكن من تحقيق النجاح الكبير.

* انطلاقاً من اختباراتكم الشخصية، كيف ترون إلى المشاريع البحثية التي يمكن تصوّرها كاستراتيجية مواجهة فكرية ومعرفية على هذا الصعيد؟

ـ أرى أن هناك بعض المشاريع والنشاطات العلمية التي لم يتم الاهتمام بها حتى الآن بشكل جاد. الأول التعريف بمسألة المرأة في العالم المعاصر. بمعنى أنه ما هي المسائل القائمة والتي نحتاج إلى حلها بواسطة الأدبيات الدينية. وما هي ضرورات المرأة في العالم الحديث؟ وما هي قواعد الحياة الإيمانية بالنسبة إلى المرأة في العالم الحديث؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. هذه أسئلة هامة، ولم يتم أخذها بجدية ولم نشهد حدوث عمل هام بشأنها. الأمر الثاني البحث حول الفقه الحكومي، وفقه الولاية والفقه الاستراتيجي. إن هذا النوع من التفقه يجب أن يتطابق مع أبحاث المرأة والأسرة. من ذلك مثلاً أنه بالنظر إلى الرسالة العملية إذا تم طرح السؤال القائل: هل هناك إشكال في حضور المرأة في الأماكن والأندية المختلطة من قبيل: الجامعات والأندية الرياضية وما إلى ذلك؟ فإن غاية الحكم ستكون هي القول بالكراهة، ولكن عندما تكون هناك سلطة دينية، فإن نوع الجواب في الفقه الحكومي سيكون مختلفاً؛ وذلك لأن السلطة عند تأسيس الجامعة المختلطة ستقف على مفترق طريقين. من ذلك أنه قد يكون ذهاب الشخص إلى المدرسة المختلطة مباحاً، إلا أن إقامة الأماكن والأجواء المختلطة بالالتفات إلى التبعات والتداعيات المترتبة عليها بالنسبة إلى الحكم والسلطة، تعدّ حراماً. النموذج الآخر الناظر إلى الرسالة العملية لو سأل سائل: أنا لا أريد الزواج؛ فما هو حكم عدم زواجي؟ نجيب عن ذلك: إن الزواج مستحب، وإذا لم يسقط الشخص في المعصية بسبب امتناعه عن الزواج، فلا إشكال في عدم زواجه. والآن بالنظر إلى الفقه الحكومي يتغيّر هذا السؤال على النحو الآتي: لو كانت السياسات التنموية بحيث يتجه الشباب إلى العزوف عن الزواج، فهل هناك إشكال فقهي في ذلك؟ الجواب: نعم هناك إشكال في ذلك، وإن هذا الأمر حرام على الحكومة. وهناك الكثير من هذا النوع من النماذج. وعلى هذا الأساس قد يكون الجواب عن سؤال واحد على المستوى الفردي مختلفاً عن المستوى الحكومي بالنظر إلى التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية وما إلى ذلك. وأرى أن الأحكام التكليفية إذا كانت خمسة، فإنها في الفقه الحكومي سوف تكون ثلاثة فقط. بمعنى أنه لا معنى للمكروه والمستحب في الفقه الحكومي في واقع الأمر؛ إذ لو كانت هناك مصلحة ملزمة سوف يكون الحكم واجباً، ولو كانت المصلحة راجحة كان الحكم راجحاً، وإن لم تكن هناك مصلحة أبداً، كان الحكم حراماً. لا وجود للمباح في ممارسة السلطة للحكم؛ لأن الحكومة تتصرّف في أموال المسلمين، وإن تصرفاتها منوطة بالمصلحة. إذا لم يكن هناك مصلحة في التصرّف، لا يكون هناك حق في التدخّل. إن هذه المسألة قد تفتح عالماً جديداً أمام أنظارنا، وإن الاشتغال العلمي حول هذه المسألة في غاية الأهمية والحيوية. إن فقه الشيعة قبل عصر الشيخ الطوسي كان فقهاً منصوصاً، وكان يتم الاستناد إلى الروايات عند إصدار الأحكام، وأما الشيخ الطوسي فقد أدخل الفقه في منعطف جديد، يمكن تسميته بتفريع الفروع والفقه الاجتهادي. وبذلك تمّ تقسيم الفقه إلى ما قبل الشيخ الطوسي وما بعد الشيخ الطوسي. والآن نحن بحاجة إلى منعطف جديد، ونحتاج كما في عصر الشيخ الطوسي إلى تأسيس هذا المنعطف الفقهي الجديد.

* هل ترون في النسوية الإسلامية مصطلحاً صحيحاً؟ بمعنى هل بالإمكان رفع التعارض بين هاتين المفردتين عندما يتمّ التركيب بينهما؟ وإذا كان ذلك ممكناً، كيف تنظرون إلى الاتجاهات التي تحمل عنوان النسوية الإسلامية؟

ـ مصطلح النسوية الإسلامية يُشبه مصطلح الماركسية الإسلامية، بمعنى أنه مصطلح ينطوي على تناقض. يرى النسويون الإسلاميون أن بالإمكان تقديم قراءة نسوية عن الإسلام. ونحن نرى أن النسوية الإسلامية قراءة نسوية عن الإسلام؛ وهي قراءة لا يسعى الفرد من ورائها إلى البحث عن الحقيقة أو اكتشاف الواقع، وإنما يسعى إلى إحلال قيَمه الخاصة باسم الدين ومن خلال توظيف الأدبيات الدينية. وعلى هذا الأساس يتم استيراد قيمة أخلاقية من الغرب، مثل المساواة بين الرجل والمرأة، ثم يتم التلاعب بالتعاليم الدينية، وتكون نتيجة هذا التلاعب استنباط حكم المساواة بين الرجل والمرأة. إن هذا الحكم ليس حكماً دينياً، وإنما هو ـ على حدّ تعبير الشهيد الشيخ مرتضى المطهري ـ أنشودة دينية وليس معرفة دينية. إن هذا من قبيل الفهم الشعري أو العرفاني للدين. وفي المقابل فإن الاتجاه الديني هو ذلك الاتجاه الذي يسعى إلى بلوغ كُنه الدين والوصول إلى صُلب الدين والكشف عن الإرادة الإلهية. في هذا الاتجاه لا يكون هناك حكم مفترض مسبقاً. كما أنه لا يكون هناك سعي إلى إثبات حكم متعيّن على نحو سابق أيضاً. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن النسوية الإسلامية نتاج تيارين؛ أحدهما التيارات السياسية، بمعنى العمل على المواجهة السياسية ضد الحكومة. وأما التيار الثاني فليست له ماهية سياسية، وإنما يواجه السؤال القائل: ما هو تعامل الدين مع الاتجاهات ذات النزعة التطوّرية؟ وفي مقام الإجابة عن هذا السؤال هناك من تبنى النزعة التقليدية، بمعنى أنه قال بأن التطور والتغيير شيء خاطئ، ويجب الإصرار على الثوابت. بينما مال آخرون إلى الإلحاد وقالوا بضرورة التخلي عن الدين والتغيّر بتغيّر العالم. وهناك من أصبح من المجددين، وقال بأننا نطالب بالدين، ولكنه يقدم قراءة عن الدين تنسجم مع الإنسان المتطوّر والمتجدّد. وبذلك يصبح المتغيّر الأصلي في الحقيقة هو «التطوّر» والمتغير التبعي هو «الدين». وفي هذا الاتجاه يجب على الدين أن يواكب التطوّر خطوة خطوة، وأن لا يتخلف عنه أبداً. وعلى هذا الأساس فإن هؤلاء ينشدون قراءة عن الدين الذي يتقبل هذا التطوّر. ومن مصاديق هذا الاتجاه ما نجده في أبحاث كل من محمد مجتهد شبستري، وعبد الكريم سروش، ومحسن كديور.

* ما هي مداخل أو نماذج الحركة النسوية في العالم الإسلامي؟

ـ إن للحركة النسوية في العالم الإسلامي محورين؛ فبعضهم علمانيون وملحدون، من ذلك مثلاً أن الدكتورة نوال السعداوي في مصر لا تتبنى الهواجس الدينية، وإنما تتبنى التفكير الليبرالي. وأرى أن مشروع هؤلاء لن يكتب له النجاح في البلدان الإسلامية؛ إذ أن عامة الناس في هذه البلدان يحملون رواسب دينية أصيلة ومتجذّرة. وهناك من النسويين من يحمل هواجس دينية، ويطالبون بإعادة قراءة النصّ الديني؛ لغرض تماهي النص مع التحولات الجديدة. إن بعض الأشخاص من أمثال طاهر الحداد ونصر حامد أبو زيد، حيث يخوضون في النص، يفرضون عليه قراءاتهم، ويستنبطون منه مرادهم. إن من بين هذه الجماعة هناك أشخاص ينتهجون تكتيكاً سياسياً لكسب تأييد المجتمع المتديّن. وربما كانوا متدينين في الواقع، ولكنهم مستنيرون أيضاً. ومن هنا فإنهم على أساس الاتجاه التجديدي، يطالبون بإعادة قراءة النص، بحيث يُفهم منه ـ على سبيل المثال ـ المساواة بين الرجل والمرأة. إن هذه الجماعة تعرف في الغالب باسم «النسوية الإسلامية». إن النسويين الذين يحملون هاجس النص، ولكنهم يرومون استنباط المساواة من صلب هذا النص بشكل وآخر، إنما يعملون ـ بعبارة أخرى ـ على اقتباس القيَم من العالم الحديث، ولكنهم يطالبون باستخراجها من النص بشكل منهجي. ومن هنا أرى أن النسوية الإسلامية تنطوي على مفهوم متناقض؛ إذ أن الإسلام إنما يتقوّم بأصالة التعبّد لله سبحانه وتعالى. إن كل جهد الفرد في هذا الاتجاه يكمن في اكتشاف إرادة الله، وليس إثبات القيمة التي تتخذ من جهة أخرى وتصبح هي المبنى، ثم يتم السعي إلى إثباتها على أساس النص. لا شك في أن هذا الأسلوب ليس دينياً، وإن الأحكام الدينية لا تستنبط منه.

* هل المواجهة الانتقائية مع الغرب صحيحة وممكنة؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن» و«القبيح»؟

ـ إن هذه الاتجاهات ممكنة، بل ومتحققة في الواقع العملي. ومن هذه الزاوية هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن الكثير من الظواهر، من قبيل: السينما، إنما هي مجرّد وسيلة، وإن هذه الوسيلة إذا وقعت في أيدي الصالحين ستكون صالحة، وإن وقعت في أيدي السيّئين والفاسدين، ستكون سيّئة وفاسدة. مثل المُدية التي يتم استعمالها من قبل الإنسان الصالح بشكل جيد، ولكنها إن وقعت في يد شخص سكران، قد يبقر بها بطن شخص بريء. وعلى هذا الأساس تكون التكنولوجيا بمنزلة الأداة الحيادية، التي لا تستبطن في ذاتها أي اتجاه محدد. وفي المقابل هناك رأي آخر يقول بأن التكنولوجيا التي تنتج على أساس حاجة متراكمة، تحتوي على تبعات خاصة. من ذلك مثلاً أن الجهاز الخليوي يتم إنتاجه في المجتمع الذي يتجه نحو الفردانية. ففي البداية ظهرت صناعة السينما بوصفها منتج يحمل خصائص اجتماعية عالية. ثم اتجهت الأمور نحو التلفاز، وبعد ذلك إلى صناعة التلفزة الهوائية والقنوات والشبكات التلفزيونية، وبعد ذلك نحو الإنترنت الذي كان يُعد تقنية أكثر شخصانية، حتى وصلنا في اللحظة الراهنة إلى جهات اجتماعية جديدة وأجهزة الخليوي التي تعد من التكنولوجيا الفردانية بالكامل. إن التقنية تتيح لكم الوصول إلى ميولكم الفردية في كل زمان ومكان. إن التلفاز وسيلة أسرية، حيث تتم مشاهدته في كنف الأسرة. وفي هذه الأجواء تحدث بعض الخلافات حول متابعة القنوات المتعددة، ويضطر الطرفان إلى الاتفاق على قناة تلفزيونية واحدة، وأما الآن فيمكن لكل فرد أن يتجه إلى جهازه الخليوي الخاص به، ويلبي رغبته وميوله. وعلى كل حال كانت هناك حاجة وقد تمخض الجهاز الخليوي من صلبها. لقد تحدث نيل بوست حول اتجاهات وتبعات التكنولوجية بالتفصيل، وذهب إلى الاعتقاد بأن الوسيلة الإعلامية تحتوي في ذاتها على جهة. ومن هنا فإن التكنولوجيا لا بحسب خطابها، بل بحسب تركيبتها وبنيتها تشتمل على آثار وتداعيات مختلفة ومتنوّعة. وبذلك فإن التكنولوجيا تعمل في ذاتها على تنمية ونشر قيَم الحداثة والرأسمالية والليبرالية. إن وسائل الإعلام من باب المثال تعتبر في ذاتها ظاهرة حداثوية. إن الذي يمتلك وسيلة إعلان، يستحوذ عليه الضجر والسأم، ويصل الحسن والقبيح بالنسبة له إلى حدّ عدم التيقّن. عندما يعتاد الفرد على الوسيلة الإعلامية، فإنه على المدى الطويل لن يتخذ موقفاً تجاه الأحداث، ولا يخفى أن «طول مجالسة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار». وبذلك تنهار حدود الحسن والقبيح. إن هذا الفرد لن يفرّق بين الإنسان العارف والمتهتك، وعلى هذا الأساس لا يمكن الادعاء بأن الأطر والأساليب التكنولجية حيادية. عندما نعتقد بوجوب الاستفادة من المحاصيل والمنتجات الغربية الحسنة والجيدة، ونجتنب المحاصيل القبيحة والسيئة، لا نلتفت في الغالب إلى الحاضنة التي تبلورت هذه المحاصيل أو العقائد في صلبها. إن الكثير من هذه المنتجات تنتمي إلى الحاضنة والفضاء المفهومي للحداثة. عندما نستفيد من هذه المنتجات في فضائها المفهومي، علينا أن ندرك ونلتفت إلى ما إذا كنا قد فصلنا الفضاء المفهومي لذلك المنتج أم لا؟ أرى أن كل ما يأتي من الغرب، ما لم يتم تحليله بالكامل وتوطينه، سوف يمثل دعوة ودعاية للفضاء الذهني الغربي، ومن هنا يمكن له أن ينطوي على مخاطر للمجتمع الإسلامي، وعليه لا بد من الالتفات إلى هذه المسألة بشكل خاص.

* هل يمكن لكم أن تسمّوا لنا أهم المفكرين الناقدين للغرب ـ من الأشخاص الذين يقيمون في الغرب والعالم الإسلامي والشرق الأقصى ـ الأعم من الذين عملوا على بحث ودراسة المسائل الجنسية، والمرأة، والأسرة، والنسوية؟

ـ قبل ما يقرب من عقدين من الزمن كانت هناك في مصر مناظرات في هذا الشأن بين «هبة رؤوف عزت» وبين «نوال السعداوي». حيث رأيت في تلك الفترة مقالات سجالية فيما بينهما. كما صدر كتاب عن المعهد العالمي للفكر الديني، بعنوان: «المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية». وللأسف الشديد ليس لدى الشيعة نساء بارزات قدمن نشاطات بحثية مفيدة ونافعة. إن هذه الفئة من النساء ينهمكن عادة في النشاطات الاجتماعية، ولم يخضن في الأبحاث النظرية. وفي هذا الشأن نجد المرأة الشيعية الإيرانية في الطليعة. وعلى الرغم من ذلك صدر للسيدة فريبا علاسوند كتاب تحت عنوان «زن در اسلام»، وقد ترجم إلى اللغة العربية من قبل مركز الحدائق تحت عنوان «المرأة في الإسلام». إن لدى الدكتور بستان دراسات وتأملات حول المسائل الجنسية أيضاً. ولا أعرف أشخاصاً غير هؤلاء. وفي الواقع لو كان هناك غير هؤلاء لكنت قد عرفتهم؛ وذلك بحكم نشاطي وتخصصي في هذا الحقل. وبطبيعة الحال هناك الكثير من الأشخاص الذين تعرّضوا إلى هذه المسألة بشكل جزئي ومصداقي، من أمثال: محمد تقي سبحاني، حيث صدر عنه الجزء الأول من كتاب «الگوي جامع شخصيات زن مسلمان» (النموذج الجامع لشخصية المرأة المسلمة). إن هذا الكتاب قد ركز في الغالب على الأبحاث المبنائية، وقلما شكل بحث الجنس هاجساً له. يمكن لنا أن نذكر جيلاً جديداً في إيران تناول هذه المسائل والأبحاث بشكل جاد، ولكن لم تصدر لهذا الجيل أبحاث عميقة في هذا الشأن حتى الآن.

تعريب: السيد حسن علي مطر الهاشمي.

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M